كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

وأمّا الثاني : فكون شيء شرطا للمأمور به ليس إلّا ما يحصل لذات المأمور به بالإضافة إليه وجه وعنوان به يكون حسنا أو متعلّقا للغرض بحيث لولاها (١) لما كان كذلك. واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه. والإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخّر أو المتقدّم بلا تفاوت أصلا ، كما لا يخفى على المتأمّل. فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له موجبا لكونه معنونا بعنوان يكون بذلك العنوان حسنا ومتعلّقا للغرض ، كذلك إضافته إلى متأخّر أو متقدّم ، بداهة أنّ الإضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضا ، فلو لا حدوث المتأخّر في محلّه لما كانت للمتقدّم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به ، كما هو الحال في المقارن أيضا ، ولذلك اطلق عليه الشرط مثله (٢) بلا انخرام للقاعدة أصلا ، لأنّ المتقدّم أو المتأخّر كالمقارن ليس إلّا طرف الإضافة الموجبة للخصوصيّة الموجبة للحسن ، وقد حقّق في محلّه أنّه بالوجوه والاعتبارات (٣) ، ومن الواضح أنّها تكون بالإضافات. فمنشأ توهّم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخّر ؛ وقد عرفت أنّ إطلاقه عليه فيه كإطلاقه على المقارن إنّما يكون لأجل كونه طرفا للإضافة الموجبة للوجه الّذي يكون بذاك الوجه مرغوبا ومطلوبا ، كما

__________________

ـ ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ حاول تصحيح الشرط المتأخّر بالتصرّف في معنى الشرط. وحاصله : أنّ الشرط ليس جزءا دخيلا في الأثر ، بل الشرط هو طرف ما يحدّد المقتضي وتحصل به الخصوصيّة اللازمة لتأثير المقتضي. فهو طرف إضافة وتحديد بها تحصل الفاعليّة للفاعل. ولا يمتنع أن يكون طرف الإضافة من الامور المتأخّرة بعد ما كانت الإضافة مقارنة ولم يكن للأمر المتأخّر أيّ تأثير. نهاية الأفكار ١ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، بدائع الأفكار ١ : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

ولكن السيّد الإمام الخمينيّ ـ بعد ما تعرّض لما ذكره المحقّق العراقيّ تصحيحا للشرط المتأخّر ـ ناقش فيه من وجوه. ثمّ تصدّى لدفع الإشكال بوجهين آخرين ، ثانيهما أنّ موضوعات الأحكام وشرائطها كلّها تكون عرفيّة ، لا عقليّة ، والعرف يرى إمكان التقييد والإضافة بالأمر المتأخّر ، ولو كان العقل لا يساعد عليه ، كما هو الحال في سائر الموضوعات الشرعيّة. راجع تمام كلامه في مناهج الوصول ١ : ٢٣٨ ـ ٢٤٣.

(١) أي : لو لا الإضافة إليه.

(٢) أي : مثل المقارن.

(٣) راجع شرح تجريد الاعتقاد : ٣٠٢.

١٨١

كان في الحكم لأجل دخل تصوّره فيه كدخل تصوّر سائر الأطراف والحدود الّتي لو لا لحاظها لما حصل له الرغبة في التكليف ، أو لما صحّ عنده الوضع.

وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الإشكال في بعض فوائدنا (١) ، لم يسبقني إليه أحد فيما أعلم ، فافهم واغتنم.

ولا يخفى : أنّها بجميع أقسامها داخلة في محلّ النزاع ، وبناء على الملازمة يتّصف اللاحق بالوجوب كالمقارن والسابق ، إذ بدونه لا تكاد تحصل الموافقة ، ويكون سقوط الأمر بإتيان المشروط به مراعى بإتيانه ، فلو لا اغتسالها في الليل ـ على القول بالاشتراط ـ لما صحّ الصوم في اليوم.

الأمر الثالث

في تقسيمات الواجب

[١ ـ الواجب المطلق والواجب المشروط]

منها : تقسيمه إلى المطلق والمشروط.

وقد ذكر لكلّ منهما تعريفات وحدود تختلف بحسب ما اخذ فيها من القيود ، وربما اطيل الكلام بالنقض والإبرام في النقض على الطرد والعكس (٢) ، مع أنّها ـ كما لا يخفى ـ تعريفات لفظيّة لشرح الاسم ، وليست بالحدّ ولا بالرسم.

والظاهر أنّه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط ، بل يطلق كلّ منهما بما له من معناه العرفيّ. كما أنّ الظاهر أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان ، لا حقيقيّان ، وإلّا لم يكد يوجد واجب مطلق ، ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجب ببعض الامور ، لا أقلّ من الشرائط العامّة ، كالبلوغ والعقل.

فالحريّ أن يقال : إنّ الواجب مع كلّ شيء يلاحظ معه ، إن كان وجوبه غير

__________________

(١) راجع فوائد الاصول (للمصنّف) : ٥٧.

(٢) راجع مطارح الأنظار : ٤٣ ، بدائع الأفكار (للمحقّق الرشتيّ) : ٣٠٤.

١٨٢

مشروط به فهو مطلق بالإضافة إليه ، وإلّا فمشروط كذلك ، وإن كانا بالقياس إلى شيء آخر كانا بالعكس.

[الشرط من قيود الهيئة]

ثمّ الظاهر أنّ الواجب المشروط ـ كما أشرنا إليه ـ نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط ، بحيث لا وجوب حقيقة ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط ، كما هو ظاهر الخطاب التعليقيّ ، ضرورة أنّ ظاهر خطاب «إن جاءك زيد فأكرمه» كون الشرط من قيود الهيئة وأنّ طلب الإكرام وإيجابه معلّق على المجيء ؛ لا أنّ الواجب فيه يكون مقيّدا به ـ بحيث يكون الطلب والإيجاب في الخطاب فعليّا ومطلقا ، وإنّما الواجب يكون خاصّا ومقيّدا ـ ، وهو الإكرام على تقدير المجيء ، فيكون الشرط من قيود المادّة لا الهيئة ، كما نسب ذلك إلى شيخنا العلّامة رحمه‌الله مدّعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة واقعا ، ولزوم كونه من قيود المادّة لبّا ، مع الاعتراف بأنّ قضيّة القواعد العربيّة أنّه من قيود الهيئة ظاهرا.

أمّا امتناع كونه من قيود الهيئة : فلأنّه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلّق بالفعل المنشأ بالهيئة حتّى يصحّ القول بتقييده بشرط ونحوه ، فكلّ ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الّذي يدلّ عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادّة.

وأمّا لزوم كونه من قيود المادّة لبّا : فلأنّ العاقل إذا توجّه إلى شيء والتفت إليه فإمّا أن يتعلّق طلبه به ، أو لا يتعلّق به طلبه أصلا. لا كلام على الثاني. وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون ذاك الشيء موردا لطلبه وأمره مطلقا على اختلاف طوارئه أو على تقدير خاصّ ؛ وذلك التقدير تارة يكون من الامور الاختياريّة ، واخرى لا يكون كذلك ؛ وما كان من الامور الاختياريّة قد يكون مأخوذا فيه على نحو يكون موردا للتكليف ، وقد لا يكون كذلك على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به ، من غير فرق في ذلك بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد والقول بعدم التبعيّة ، كما لا يخفى.

١٨٣

هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل المقرّر لبحثه (١) بأدنى تفاوت (٢).

ولا يخفى ما فيه :

أمّا حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة : فقد حقّقناه سابقا (٣) أنّ كلّ واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عامّا كوضعها ، وإنّما الخصوصيّة من قبل الاستعمال كالأسماء ؛ وإنّما الفرق بينهما أنّها وضعت لتستعمل وقصد بها المعنى بما هو هو ، والحروف وضعت لتستعمل وقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلّقات ؛ فلحاظ الآليّة كلحاظ الاستقلاليّة ليس من طوارئ المعنى ، بل من مشخّصات الاستعمال ـ كما لا يخفى على اولي الدراية والنهى ـ ؛ فالطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لأنّ يقيّد.

مع أنّه لو سلّم أنّه (٤) فرد فإنّما يمنع عن التقييد لو انشئ أوّلا غير مقيّد ، لا ما إذا انشئ من الأوّل مقيّدا ، غاية الأمر قد دلّ عليه بدالّين ، وهو غير إنشائه أوّلا ثمّ تقييده ثانيا ، فافهم.

فإن قلت : على ذلك يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ حيث لا طلب قبل

__________________

(١) هو المحقّق الشيخ أبو القاسم النوريّ الكلانتريّ.

(٢) مطارح الأنظار : ٤٩.

وقد تنكر صحّة نسبة رجوع القيد إلى المادّة إلى الشيخ الأنصاريّ. وذلك لما ذكره في كتاب المكاسب : ١٠٠ (مبحث جواز التعليق في العقود) من أنّه لو لا الإجماع لكان مقتضى القواعد صحّة التعليق في العقد. وهذا ينافي عدم صحّة رجوع القيد إلى الهيئة ، لأنّ الإنشاء مدلول الهيئة ، فكيف يصحّ تعليقه ثبوتا؟

ويمكن دفع التنافي بأنّه لم يدّع صحّة تعليق نفس الإنشاء الّذي هو مدلول الهيئة ، بل ادّعى صحّة تعليق المنشأ الّذي هو مدلول المادّة ، فلا تنافي بين الالتزام بعدم صحّة رجوع القيد إلى الهيئة والالتزام بصحّة التعليق في العقود.

نعم ، يمكن تأييد عدم صحّة النسبة إليه بما يأتي من أنّه ذهب إلى تقييد المادّة عند الدوران بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة ، فراجع مطارح الأنظار : ٤٩.

(٣) في الأمر الثاني من الامور المذكورة في المقدّمة : ٢٨ ـ ٣١.

(٤) أي : الطلب المفاد من الهيئة.

١٨٤

حصول الشرط.

قلت : المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله فلا بدّ أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث ، وإلّا لتخلّف عن إنشائه ، وإنشاء أمر على تقدير كالإخبار به بمكان من الإمكان ، كما يشهد به الوجدان ، فتأمّل جيّدا (١).

وأمّا حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادّة لبّا : ففيه أنّ الشيء إذا توجّه إليه وكان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها فكما يمكن أن يبعث فعلا إليه ويطلبه حالا لعدم مانع عن طلبه ، كذلك يمكن أن يبعث إليه معلّقا ويطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقّع الحصول لأجل مانع عن الطلب والبعث فعلا قبل حصوله ، فلا يصحّ منه إلّا الطلب والبعث معلّقا بحصوله ، لا مطلقا ولو متعلّقا بذاك على التقدير (٢) ، فيصحّ منه طلب الإكرام بعد مجيء زيد ، ولا يصحّ منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيّد بالمجيء.

هذا (٣) بناء على تبعيّة الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.

وأمّا بناء على تبعيّتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها فكذلك ، ضرورة أنّ التبعيّة كذلك إنّما تكون في الأحكام الواقعيّة بما هي واقعيّة (٤) ، لا بما هي فعليّة ، فإنّ المنع عن فعليّة تلك الأحكام غير عزيز (٥) ، كما في موارد

__________________

(١) وأورد عليه السيّد المحقّق الخوئيّ بأنّ ما أفاده المصنّف في الجواب عن الإشكال مصادرة ظاهرة ، لأنّ الكلام هنا في إمكان كون الايجاد حاليّا والوجود استقباليّا وعدم إمكانه ، فكيف يمكن أن يستدلّ على إمكانه بنفس ذلك. محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٣٢٢.

ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ ـ بعد ما أنكر رجوع القيد إلى الهيئة وأنكر رجوعه إلى المادّة بالمعنى الّذي يظهر من تقريرات درس الشيخ من كون القيد قيدا للواجب مع كون الواجب فعليّا ـ التزم برجوع القيد إلى المادّة المنتسبة ، بمعنى أنّ القيد يطرأ على المادّة من حيث ورود النسبة عليها ، أي بما هي منتسبة إلى الفاعل. أجود التقريرات ١ : ١٣٠ ـ ١٣١.

(٢) أي : ولو متعلّقا بذاك الشيء الّذي توجّه إليه وكان موافقا للغرض على تقدير حصول الشرط.

(٣) أي : رجوع القيد إلى الطلب المفاد من الهيئة.

(٤) أي : الأحكام الإنشائيّة.

(٥) أي : المنع عن فعليّة الأحكام الواقعيّة الإنشائيّة غير عزيز. فلا تلازم بين الإنشائيّة والفعليّة.

١٨٥

الاصول والأمارات على خلافها ، وفي بعض الأحكام في أوّل البعثة ، بل إلى يوم قيام القائم عجّل الله فرجه ، مع أنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة (١). ومع ذلك ربما يكون المانع عن فعليّة بعض الأحكام باقيا مرّ الليالي والأيّام إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظلام ، كما يظهر من الأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام (٢).

فإن قلت : فما فائدة الإنشاء إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليّا وبعثا حاليّا.

قلت : كفى فائدة له أنّه يصير بعثا فعليّا بعد حصول الشرط ، بلا حاجة إلى خطاب آخر ، بحيث لولاه لما كان فعلا متمكّنا من الخطاب. هذا مع شمول الخطاب كذلك (٣) للإيجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط ، فيكون بعثا فعليّا بالإضافة إليه ، وتقديريّا بالنسبة إلى الفاقد له ، فافهم وتأمّل جيّدا.

[دخول المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط في محلّ النزاع]

ثمّ الظاهر دخول المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط في محلّ النزاع أيضا ، فلا وجه لتخصيصه بمقدّمات الواجب المطلق ، غاية الأمر تكون في الإطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدّمة ، كأصل الوجوب ، بناء على وجوبها من باب الملازمة.

وأمّا الشرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب (٤) فخروجه ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب. أمّا على ما هو ظاهر المشهور والمنصور فلكونه مقدّمة وجوبيّة. وأمّا على المختار لشيخنا العلّامة رحمه‌الله فلأنّه وإن كان من المقدّمات الوجوديّة للواجب إلّا أنّه اخذ على نحو لا يكاد يترشّح عليه الوجوب منه ، فإنّه جعل الشيء

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧.

(٢) راجع بحار الأنوار ٥٢ : ٣٢٥.

(٣) أي : الخطاب المشروط بالشرط.

(٤) أي : المقدّمة الوجوبيّة.

١٨٦

واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط ، فمعه (١) كيف يترشّح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟

نعم ، على مختاره قدس‌سره لو كانت له مقدّمات وجوديّة غير معلّق عليها وجوبه لتعلّق بها الطلب في الحال على تقدير اتّفاق وجود الشرط في الاستقبال. وذلك لأنّ إيجاب ذي المقدّمة على ذلك حاليّ ، والواجب إنّما هو استقباليّ ـ كما يأتي في الواجب المعلّق ـ ، فإنّ الواجب المشروط على مختاره هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول رحمه‌الله من المعلّق ، فلا تغفل.

هذا في غير المعرفة والتعلّم من المقدّمات.

وأمّا المعرفة : فلا يبعد القول بوجوبها ـ حتّى في الواجب المشروط بالمعنى المختار ـ قبل حصول شرطه ، لكنّه لا بالملازمة ، بل من باب استقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنام بمجرّد قيام احتمالها إلّا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف ، فيستقلّ بعده بالبراءة ، وأنّ العقوبة على المخالفة بلا حجّة وبيان ، والمؤاخذة عليها بلا برهان ، فافهم.

تذنيب : [في كيفيّة إطلاق الواجب على الواجب المشروط]

لا يخفى : أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقا (٢).

وأمّا بلحاظ حال قبل حصوله : فكذلك ـ على الحقيقة ـ على مختاره قدس‌سره في الواجب المشروط ، لأنّ الواجب وإن كان أمرا استقباليّا عليه (٣) إلّا أنّ تلبّسه بالوجوب في الحال. ومجاز على المختار ، حيث لا تلبّس بالوجوب عليه قبله ، كما عن البهائيّ رحمه‌الله تصريحه بأنّ لفظ الواجب مجاز في المشروط بعلاقة الأول أو

__________________

(١) أي : مع حصول الشرط.

(٢) سواء كان الشرط قيدا للهيئة ـ كما هو مختار المصنّف ـ أم قيدا للمادّة ـ كما هو المنسوب إلى الشيخ ـ.

(٣) أي : على مختار الشيخ.

١٨٧

المشارفة (١).

وأمّا الصيغة مع الشرط : فهي حقيقة على كلّ حال ، لاستعمالها على مختاره قدس‌سره في الطلب المطلق ، وعلى المختار في الطلب المقيّد على نحو تعدّد الدالّ والمدلول.

كما هو الحال فيما إذا اريد منها (٢) المطلق المقابل للمقيّد ، لا المبهم المقسم ، فافهم.

[٢ ـ الواجب المعلّق والواجب المنجّز]

ومنها : تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز.

قال في الفصول : إنّه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة ، وليسمّ : «منجّزا». وإلى ما يتعلّق وجوبه به ، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له ، وليسمّ : «معلّقا» ، كالحجّ ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ، ويتوقّف فعله على مجيء وقته ، وهو غير مقدور له. والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب وهنا للفعل. (٣) انتهى كلامه ، رفع مقامه.

لا يخفى : أنّ شيخنا العلّامة رحمه‌الله ـ حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى ، وجعل الشرط لزوما من قيود المادّة ثبوتا وإثباتا ، حيث ادّعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك ، أي إثباتا وثبوتا ، على خلاف القواعد العربيّة وظاهر المشهور ، كما يشهد به (٤) ما تقدّم آنفا عن البهائيّ (٥) ـ أنكر على الفصول هذا التقسيم (٦) ، ضرورة أنّ المعلّق بما فسّره (٧) يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك (٨) ، كما هو واضح ، حيث لا يكون حينئذ هناك معنى آخر معقول كان هو المعلّق المقابل للمشروط.

__________________

(١) راجع زبدة الاصول : ٤٦ ، ومطارح الأنظار : ٤٥.

(٢) أي : من الصيغة.

(٣) الفصول الغرويّة : ٧٩.

(٤) أي : بكون رجوع القيد إلى المادّة خلاف ظاهر المشهور.

(٥) تقدّم في الصفحة السابقة.

(٦) راجع مطارح الأنظار : ٥١.

(٧) أي : بما فسّره صاحب الفصول من رجوع القيد إلى المادّة.

(٨) أي : بما اختار الشيخ للمشروط من المعنى على التقدير المتقدّم في كلامه.

١٨٨

ومن هنا انقدح أنّه في الحقيقة إنّما أنكر الواجب المشروط بالمعنى الّذي يكون هو ظاهر المشهور والقواعد العربيّة ، لا الواجب المعلّق بالتفسير المذكور. وحيث قد عرفت بما لا مزيد عليه إمكان رجوع الشرط إلى الهيئة ، كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد ، فلا يكون مجال لإنكاره عليه (١).

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه لا وقع لهذا التقسيم ، لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط ، وخصوصيّة كونه حاليّا أو استقباليّا لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهمّ (٢) ، وإلّا لكثر (٣) تقسيماته لكثرة الخصوصيّات ، ولا اختلاف فيه ، فإنّ ما رتّبه عليه من وجوب المقدّمة فعلا ـ كما يأتي ـ إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليّته ، لا من استقباليّة الواجب (٤) ، فافهم (٥).

[إشكال المحقّق النهاونديّ على الواجب المطلق ، وجوابه]

ثمّ إنّه ربما حكي عن بعض أهل النظر من أهل العصر (٦) إشكال في الواجب المعلّق(٧) ، وهو : أنّ الطلب والإيجاب إنّما يكون بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات

__________________

(١) فالشيخ لم ينكر واقع الواجب المطلق الّذي فرضه صاحب الفصول ، بل إنّما أنكر تسميته بالمعلّق وأطلق عليه المشروط.

(٢) وهو وجوب المقدّمة.

(٣) هكذا في النسخ : «لكثر». والصحيح أن يقول : «لكثرت».

(٤) والحاصل : أنّ هذا التقسيم لا يترتّب عليه الثمرة. وبذلك صرّح السيّد الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ١ : ٣٥٨.

(٥) لعلّه إشارة إلى ما ذكره المحقّق الاصفهانيّ ايرادا على نفى الثمرة ، فقال : «لا يخفى عليك : أنّ انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب هو المصحّح لوجوب المقدّمة قبل زمان ذيها ، لا مجرّد فعليّة الوجوب ولو مع اتّحاد زمانه وزمان الواجب. فيصحّ تقسيم الواجب إلى ما يتّحد زمانه مع زمان وجوبه فلا تكون مقدّمته واجبة قبل زمانه ، وإلى ما يتأخّر زمانه عن زمان وجوبه فيمكن وجوب مقدّمته قبله». نهاية الدراية ١ : ٣٤٤.

(٦) وهو المحقّق النهاونديّ في تشريح الاصول : ١٩١.

(٧) حاصله : أنّ الإرادة التشريعيّة لا يمكن أن تتعلّق بأمر متأخّر ، كما أنّ الإرادة التكوينيّة لا يمكن أن تتعلّق به ، إذ لا فرق بين الإرادتين في الخصوصيّات والآثار ، غير أنّ الاولى تتعلّق بفعل الغير ، والثانية تتعلّق بفعل نفس الشخص المريد. فكما أنّ الإرادة التكوينيّة لا تنفكّ عن ـ

١٨٩

نحو المراد. فكما لا تكاد تكون الإرادة منفكّة عن المراد فليكن الإيجاب غير منفكّ عمّا يتعلّق به ، فكيف يتعلّق بأمر استقباليّ؟! فلا يكاد يصحّ الطلب والبعث فعلا نحو أمر متأخّر.

قلت : فيه أنّ الإرادة تتعلّق بأمر متأخّر استقباليّ ، كما تتعلّق بأمر حاليّ ، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل ، فضلا عن فاضل ، ضرورة أنّ تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المئونة ليس إلّا لأجل تعلّق إرادته به ، وكونه مريدا له قاصدا إيّاه ، لا يكاد يحمله على التحمّل إلّا ذلك (١).

ولعلّ الّذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد (٢) ، وتوهّم أنّ تحريكها نحو المتأخّر ممّا لا يكاد. وقد غفل عن أنّ كونه محرّكا نحوه يختلف حسب اختلافه (٣) في كونه (٤) ممّا لا مئونة

__________________

ـ المراد زمانا ـ لأنّها الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات ـ كذلك الإرادة التشريعيّة يستحيل أن تنفكّ عن المراد ، لأنّها لا تنفكّ عن الإيجاب المستتبع لتحريك العبد في الخارج.

وعليه فيمتنع تعلّق الإيجاب بأمر استقباليّ ، لاستلزامه انفكاك الإيجاب عن التحريك ، وهو مستلزم لانفكاك المراد عن الإرادة ، وهو ممتنع.

وبيان الإشكال على الشكل المنطقيّ أنّه مركّب من ثلاثة قياسات مرتّبة :

١ ـ الإرادة التشريعيّة يشترك الإرادة التكوينيّة في الخصوصيّات والآثار ، وكلّ إرادة تكوينيّة يمتنع انفكاكها عن المراد ، فالإرادة التشريعيّة يشترك التكوينيّة في امتناع انفكاكها عن المراد.

٢ ـ الإرادة التشريعيّة يمتنع انفكاكها عن المراد ، وتعلّق الايجاب بأمر استقباليّ يستلزم انفكاك الإرادة التشريعيّة عن المراد ، فتعلّق الايجاب بأمر استقباليّ يستلزم أمرا ممتنعا هو انفكاكها عن المراد.

٣ ـ تعلّق الايجاب بأمر استقباليّ يستلزم الممتنع ، وكلّ ما يستلزم الممتنع ممتنع ، فتعلّق الايجاب بأمر استقباليّ ممتنع.

(١) أي : تعلّق الإرادة.

(٢) هكذا عرّفها الحكيم السبزواريّ ، راجع شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٨٤ ، وتعليقته على الأسفار ٦ : ٣٢٣ ، الرقم (١).

(٣) أي : قد غفل عن أنّ كون الشوق المؤكّد محرّكا للعضلات نحو المراد يختلف حسب اختلاف المراد.

(٤) أي : كون ما تعلّق به الشوق ، وهو المراد.

١٩٠

له كحركة نفس العضلات ، أو ممّا له مئونة ومقدّمات قليلة أو كثيرة. فحركة العضلات تكون أعمّ من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدّمة له ، والجامع أن يكون نحو المقصود (١).

بل مرادهم من هذا الوصف في تعريف الإرادة بيان مرتبة الشوق الّذي يكون هو الإرادة ، وإن لم يكن هناك فعلا تحريك ، لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمرا استقباليّا غير محتاج إلى تهيئة مئونة أو تمهيد مقدّمة ، ضرورة أنّ شوقه إليه ربما يكون أشدّ من الشوق المحرّك فعلا نحو أمر حاليّ أو استقباليّ محتاج إلى ذلك (٢) ، هذا.

__________________

(١) هذا هو الوجه الأوّل من الوجوه الّتي ذكرها المصنّف في التفصّي عن إشكال المحقّق النهاونديّ.

وحاصله : منع الكبرى في القياس الأوّل ، فيقال : انفكاك المراد عن الإرادة التكوينيّة أمر ممكن ، فتعلّقها بالأمر الاستقباليّ أيضا ممكن. وذلك لأنّ المراد قد يكون ممّا يحتاج إلى مقدّمات كثيرة ، ومعلوم أنّه لم تتعلّق بفعلها إرادة استقلاليّة ، بل يفعلها تبعا لإرادة المراد ـ وهو ذو المقدّمة بالنسبة إلى تلك المقدّمات ـ ، فتنفكّ الإرادة ـ بتوسيط فعل المقدّمات ـ عن المراد.

وناقش فيه المحقّق الاصفهانيّ بما حاصله : أنّ الشوق إلى المقدّمات بما أنّها مقدّمات وإن كان تبعا للشوق المتعلّق بذيها ، إلّا أنّ الشوق المتعلّق بذيها لم يبلغ حدّ الإرادة ، لعدم وصوله حدّ التحريك ، فلم تتحقّق إرادة ذي المقدّمة حتّى يستشهد به على انفكاكها عن المراد. بخلاف الشوق إلى المقدّمة ، فإنّه بلغ حدّ الإرادة ، لوصوله إلى حدّ التحريك. فالتبعيّة في أصل تعلّق الشوق ، لا في وصوله إلى حدّ الإرادة. نهاية الدراية ١ : ٣٤٧.

(٢) وهذا هو الوجه الثاني من وجوه التفصّي عن الإشكال. وحاصله : منع الكبرى المذكورة ببيان آخر. وهو أنّ المراد من تعريف الإرادة بالشوق المؤكّد بيان مرتبة خاصّة من الشوق الّتي يكون من شأنها تحريك العضلات نحو المراد ، غاية الأمر إن كان المراد أمرا حاليّا فيوجب التحريك الفعليّ نحوه ؛ وإن كان أمرا استقباليّا محتاجا إلى مقدّمات خارجيّة فيوجب أيضا التحريك الفعليّ نحوه ؛ وإن كان أمرا استقباليّا غير محتاج إلى المقدّمات فلا يوجب التحريك الفعليّ نحوه ، بل يستتبع التحريك الشأنيّ ، فيتعلّق الشوق فعلا بأمر استقباليّ ، فإذا لا مانع من تعلّق الإرادة بأمر متأخّر وانفكاكها عن المراد.

وناقش فيه أيضا المحقّق الاصفهانيّ بأنّ المراد من تعريف الإرادة بالشوق المؤكّد ليس الشوق بأيّة مرتبة ، بل هو الشوق البالغ حدّ النصاب بحيث صارت القوّة الباعثة باعثة بالفعل. ولذا قالوا : «إنّ الإرادة هي الجزء الأخير من العلّة التامّة». وحينئذ فلا يتخلّف المراد عن الإرادة. نهاية الدراية ١ : ٣٤٥.

١٩١

مع أنّه لا يكاد يتعلّق البعث إلّا بأمر متأخّر عن زمان البعث ، ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعي للمكلّف إلى المكلّف به بأن يتصوّره بما يترتّب عليه من المثوبة (١) وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا إلّا بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخّر عنه بالزمان (٢) ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب (٣).

ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه ، والإطناب إنّما هو لأجل رفع المغالطة الموقعة في أذهان بعض الطّلاب.

وربما اشكل على المعلّق أيضا بعدم القدرة على المكلّف به في حال البعث ، مع أنّها من الشرائط العامّة.

وفيه : أنّ الشرط (٤) إنّما هو القدرة على الواجب في زمانه ، لا في زمان الإيجاب والتكليف ، غاية الأمر يكون من باب الشرط المتأخّر ،

__________________

(١) هكذا في جميع النسخ. والأولى أن يقول : «بما يترتّب على فعله من المثوبة».

(٢) والأولى أن يقول : «فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخّرا عنه بالزمان» كي يكون قوله : «متأخّرا عنه بالزمان» خبر كان التامّة ، أي : البعث إذا تعلّق بأمر فلا محالة يكون متأخّرا عنه.

(٣) وهذا هو الوجه الثالث الّذي تفصّى به المصنّف عن إشكال المحقّق النهاونديّ. وحاصله : منع صغرى القياس ـ أعني اشتراك الإرادتين في جميع الخصوصيّات والآثار ـ ، بل انفكاك المراد عن الإرادة التشريعيّة قهريّ ، لأنّ الطلب انّما يكون لإحداث الداعي في نفس المكلّف نحو المأمور به ، وحدوث الداعي يتوقّف على مقدّمات ـ كتصوّر العمل وتصوّر ما يترتّب عليه وغيرهما ـ ، وهذا يحتاج إلى زمان ولو قليلا ، فيكون البعث نحو العمل متأخّرا عنه دائما. وإذا جاز الانفكاك بينهما بفصل زمان قصير جاز الانفكاك بفصل زمان طويل.

وناقش فيه أيضا المحقّق الاصفهانيّ بما حاصله : أنّ الطلب انّما هو جعل ما يمكن أن يكون داعيا للمكلّف نحو الفعل عند انقياده. وعليه فلا يمكن تعلّق الطلب بالأمر الاستقباليّ ، إذ مع تماميّة جميع المقدّمات وانقياد المكلّف لأمر المولى لا يمكن انبعاثه نحو الفعل بهذا البعث ، فلا يتحقّق البعث بالأمر ولو بنحو الإمكان. نهاية الدراية ١ : ٣٤٨.

ولا يخفى : أنّ هذه المناقشة انّما تستقيم على مبناه.

(٤) أي : شرط التكليف.

١٩٢

وقد عرفت (١) بما لا مزيد عليه أنّه كالمقارن من غير انخرام للقاعدة العقليّة أصلا (٢) ، فراجع.

[تعميم الواجب المعلّق]

ثمّ لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور (٣) ، بل ينبغي تعميمه إلى [ما يتوقّف حصوله على] (٤) أمر مقدور متأخّر ، اخذ على نحو

__________________

(١) في مبحث الشرط المتأخّر : ١٨٠.

(٢) لا يخفى : أنّ هذا الجواب لا يدفع الإيراد على القول بامتناع الشرط المتأخّر ، بل انّما يدفعه بناء على القول بجوازه.

(٣) تعريض بدفع ما أورد المحقّق الرشتيّ على صاحب الفصول الغرويّة في تعميم الواجب المعلّق إلى ما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور.

بيان ذلك : أنّ صاحب الفصول قال أوّلا : «وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له ، كالمعرفة ، وليسمّ : منجّزا. وإلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور ، وليسمّ : معلّقا». وعبارته هذه توهم أنّه ذهب إلى تخصيص الواجب المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور. ولكنّه عمّم الواجب المعلّق بعد سطور ، فقال : «واعلم أنّه كما يصحّ أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول أمر غير مقدور ـ وقد عرفت بيانه ـ كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله ، وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله». الفصول الغرويّة : ٧٩ ـ ٨٠.

ثمّ أنّ المحقّق الرشتيّ أورد على التعميم الّذي ذكره صاحب الفصول ، وقال : «الظاهر أنّه اشتباه ، فكيف يكون ذلك من الواجب المعلّق مع عدم كون الوجوب معلّقا على تقدير وجودها ...». بدائع الأفكار : ٣٢١.

ومن هنا يظهر أنّ كلام المصنّف : «ثمّ لا وجه لتخصيص المعلّق ...» ليس تعريضا بصاحب الفصول كما توهّمه بعض المحشّين على الكفاية ـ كالسيّد الحكيم في حقائق الاصول ١ : ٢٤٨ ، والعلّامة المشكينيّ في حاشية الكفاية ـ ، فإنّه بعيد من المصنّف أن لم يلاحظ آخر كلام صاحب الفصول. بل كلامه هذا تعريض بالمحقّق الرشتيّ حيث أورد على تعميم صاحب الفصول وذهب إلى تخصيص الواجب المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور.

(٤) وما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

١٩٣

يكون موردا للتكليف ويترشّح عليه الوجوب من الواجب أولا (١) ، لعدم (٢) تفاوت فيما يهمّه من وجوب تحصيل المقدّمات الّتي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب على المعلّق (٣) دون المشروط ، لثبوت الوجوب الحاليّ فيه (٤) ، فيترشّح منه الوجوب على المقدّمة ـ بناء على الملازمة ـ دونه (٥) ، لعدم ثبوته فيه إلّا بعد الشرط.

نعم ، لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخّر وفرض وجوده كان الوجوب المشروط به حاليّا أيضا ، فيكون وجوب سائر المقدّمات الوجوديّة للواجب أيضا حاليّا ؛ وليس الفرق بينه وبين المعلّق حينئذ إلّا كونه (٦) مرتبطا بالشرط ، بخلافه وإن ارتبط به الواجب (٧).

تنبيه : [في بيان المقدّمات القابلة لترشّح الوجوب عليها]

قد انقدح من مطاوي ما ذكرناه أنّ المناط في فعليّة وجوب المقدّمة الوجوديّة وكونه في الحال بحيث يجب على المكلّف تحصيلها هو فعليّة وجوب ذيها ولو كان أمرا استقباليّا ـ كالصوم في الغد ، والمناسك في الموسم ـ ، كان وجوبه مشروطا بشرط موجود اخذ فيه ولو متأخّرا ، أو مطلقا ـ منجّزا كان أو معلّقا ـ فيما إذا لم تكن مقدّمة للوجوب أيضا أو مأخوذة في الواجب (٨) على نحو يستحيل أن

__________________

(١) هكذا في النسخ الّتي بأيدينا. ومعنا العبارة : أنّه ينبغي تعميم الواجب المعلّق إلى أمر مقدور متأخّر ، سواء يكون موردا للتكليف وواقعا في حيّز الوجوب المترشّح من الواجب كالطهارة للصلاة ، أو لا يكون موردا للتكليف ، ولا واقعا في حيّز الوجوب ، بأن يكون ملحوظا بوجوده الاتّفاقيّ ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

وحكى المحشّي المشكينيّ عن المصنّف أنّ الصحيح ثبوت كلمة «لا» وعدم كلمة «أو لا».

(٢) تعليل قوله : «لا وجه لتخصيص ...».

(٣) أي : بناء على الواجب المعلّق. وفي بعض النسخ : «الواجب المعلّق» وهو أيضا صحيح ، كما لا يخفى.

(٤) أي : في الواجب المعلّق.

(٥) أي : دون الواجب المشروط.

(٦) أي : كون الوجوب في المشروط.

(٧) أي : بخلاف الوجوب في المعلّق ، فانّه لا يكون مرتبطا ومقيّدا بالشرط وإن ارتبط به الواجب.

(٨) أي : أو لم تكن المقدّمة مأخوذة في الواجب.

١٩٤

تكون موردا للتكليف ، كما إذا اخذ عنوانا للمكلّف ، كالمسافر والحاضر والمستطيع ... إلى غير ذلك ، أو جعل (١) الفعل المقيّد باتّفاق حصوله وتقدير وجوده ـ بلا اختيار أو باختياره ـ موردا للتكليف ، ضرورة أنّه لو كان مقدّمة الوجوب أيضا لا يكاد يكون هناك وجوب إلّا بعد حصوله ، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل ، كما أنّه إذا اخذ على أحد النحوين يكون كذلك ، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف ، ومع حصوله لا يكاد يصحّ تعلّقه به ، فافهم.

[المقدّمات المفوّتة وتصحيح وجوبها قبل زمان الواجب]

إذا عرفت ذلك فقد عرفت : أنّه لا إشكال أصلا في لزوم الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه بعد زمانه فيما كان وجوبه حاليّا مطلقا ، ولو كان مشروطا بشرط متأخّر كان معلوم الوجود فيما بعد كما لا يخفى ، ضرورة فعليّة وجوبه وتنجّزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدّمته ، فيترشّح منه الوجوب عليها ـ على الملازمة ـ. ولا يلزم منه (٢) محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها ، وإنّما اللازم الإتيان بها قبل الإتيان به ، بل لزوم الإتيان بها عقلا ـ ولو لم نقل بالملازمة ـ لا يحتاج إلى مزيد بيان ومئونة برهان ، كالإتيان بسائر المقدّمات في زمان الواجب قبل إتيانه.

فانقدح بذلك : أنّه لا ينحصر التفصّي عن هذه العويصة بالتعلّق بالتعليق (٣) أو بما يرجع إليه من جعل الشرط من قيود المادّة في المشروط (٤).

فانقدح بذلك : أنّه لا إشكال في الموارد الّتي يجب في الشريعة الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب (٥) ، كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره (٦) على

__________________

(١) عطف على قوله : «اخذ عنوانا ...».

(٢) أي : من وجوب المقدّمة.

(٣) أي : بالتشبّث بالوجوب التعليقيّ الّذي أفاده صاحب الفصول.

(٤) كما تفصّى به الشيخ الأعظم الأنصاريّ.

(٥) ويطلق على هذا المقدّمات : «المقدّمات المفوّتة» أي : المقدّمات الّتي يفوت الواجب بتركها.

(٦) أي : غير شهر رمضان. أو : غير الغسل من التيمّم.

١٩٥

من وجب (١) عليه الصوم في الغد ، إذ يكشف به بطريق الإنّ عن سبق وجوب الواجب ، وإنّما المتأخّر هو زمان إتيانه ولا محذور فيه أصلا.

ولو فرض العلم بعدم سبقه لاستحال اتّصاف مقدّمته بالوجوب الغيريّ. فلو نهض دليل على وجوبها فلا محالة يكون وجوبها نفسيّا ، ولو تهيّئيّا (٢) ، ليتهيّأ بإتيانها واستعدّ (٣) لإيجاب ذي المقدّمة عليه ، فلا محذور أيضا (٤).

إن قلت : لو كان وجوب المقدّمة في زمان كاشفا عن سبق وجوب ذي المقدّمة

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «ممّا وجب». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) هذا هو الصحيح ، والموافق للنسخة الأصليّة. بخلاف ما في بعض النسخ : «نفسيّا تهيّئيّا».

(٣) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «ويستعدّ».

(٤) وحاصل كلامه : أنّه يمكن التفصيّ عن إشكال وجوب المقدّمات المفوّتة بوجوه :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «بالتعلّق بالتعليق» ، وهو الالتزام بالوجوب التعليقيّ في هذه الموارد ، فيكون ذو المقدّمة واجبا فعليّا بالوجوب النفسيّ قبل وقته ، فيصحّ الحكم بوجوب المقدّمة المفوّتة ـ قبل الوقت ـ وجوبا غيريّا ترشّح عن الوجوب النفسيّ. وهذا ما أفاده صاحب الفصول.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «أو بما يرجع إليه ...» وهو جعل الشرط من قيود المادّة ، لا الهيئة. وهذا ما سلكه الشيخ الأعظم الأنصاريّ. ولكن المصنّف لم يلتزم به.

الثالث : ما أشار إليه بقوله : «فقد عرفت أنّه لا اشكال في لزوم الإتيان ...». وحاصله : الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخّر. فيقال : إنّ المقدّمات المفوّتة واجبة بنحو الشرط المتأخّر ، فإذا علمنا بحصول الواجب في شرطه نعلم بفعليّة الحكم فعلا قبل حصول المقدّمات ، فلا مانع من ترشّح الوجوب على المقدّمات لفعليّة الوجوب النفسيّ قبلها.

الرابع : ما أشار إليه بقوله : «ولو فرض العلم بعدم سبقه ...». وهو الالتزام بوجوب المقدّمات المفوّتة بالوجوب النفسيّ التهيّئي. وذلك فيما إذا علمنا بوجوب المقدّمة وعدم سبق وجوب ذي المقدّمة.

ولا يخفى : أنّ هذه الوجوه لا تخلو عن المناقشة عند من تأخّر عن المصنّف ، فتشبّثوا بوجوه أخر في التفصّي عن الإشكال ، فيها أيضا مناقشات وأبحاث طويلة لا يسعها هذا المختصر. وعلى المتتبّع أن يراجع نهاية الدراية ١ : ٣٥٧ ـ ٣٥٨ ، نهاية الأفكار ١ : ٢٩٢ ـ ٣١٩ ، فوائد الاصول ١ : ١٩٧ ـ ٢٠٣ ، مناهج الوصول ١ : ٣٥٦ ـ ٣٥٨ ، المحاضرات ٢ : ٣٦١ ، وغيرها.

١٩٦

لزم وجوب جميع مقدّماته ولو موسّعا ، وليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكّنه منها لو لم يبادر (١).

قلت : لا محيص عنه (٢) ، إلّا إذا اخذ في الواجب من قبل سائر المقدّمات قدرة خاصّة ، وهي : القدرة عليه بعد مجيء زمانه ، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه (٣) ، فتدبّر جيّدا.

تتمّة : [في مقتضى القاعدة في دوران الأمر بين رجوع القيد إلى المادّة أو الهيئة]

قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل وكونه (٤) موردا للتكليف وعدمه. فإن علم حال قيد فلا إشكال ، وإن دار أمره ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة نحو الشرط المتأخّر أو المقارن وأن يكون راجعا إلى المادّة ـ على نهج يجب تحصيله أو لا يجب (٥) ـ فإن كان في مقام الإثبات ما يعيّن حاله وأنّه راجع إلى أيّهما من القواعد العربيّة (٦) فهو ، وإلّا فالمرجع هو الاصول العمليّة.

__________________

(١) أي : لو لم يبادر إلى إتيانها قبل زمان الواجب.

(٢) أي : عن الالتزام بوجوب المقدّمات ولو موسّعا قبل وقت ذيها.

(٣) الضمائر ترجع إلى الواجب.

(٤) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «وكونها» ، فإنّ الضمير يرجع إلى القيود.

(٥) في قوله : «على نهج يجب تحصيله أو لا يجب» وجهان :

الأوّل : أن يكون بيانا لثمرة البحث ، فمعناه : أنّه لا يجب تحصيل القيد فيما إذا رجع إلى الهيئة لعدم فعليّة الوجوب قبل الواجب ، فلا يجب الإتيان بمقدّماته. ويجب تحصيله فيما إذا رجع إلى المادّة لفعليّة الوجوب قبل الواجب.

الثاني : أن يكون بيانا لحالات القيد فيما إذا رجع إلى المادّة ، بأنّ القيد قد يكون مأخوذا في الواجب على نحو لا يستحيل أن يكون موردا للتكليف فيجب تحصيله ، وقد يكون مأخوذا على نحو يستحيل أن يكون موردا للتكليف فلا يجب تحصيله كما إذا اخذ عنوانا للمكلّف أو اخذ قيدا إذا حصل من باب الصدفة والاتّفاق.

(٦) بيان لقوله : «ما يعيّن حاله ...».

١٩٧

وربّما قيل (١) في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادّة بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة وتقييد المادّة ، لوجهين :

أحدهما : أنّ إطلاق الهيئة يكون شموليّا ، كما في شمول العامّ لأفراده ، فإنّ وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير الّتي يمكن أن يكون تقديرا له ، وإطلاق المادّة يكون بدليّا غير شامل لفردين في حالة واحدة.

ثانيهما : أنّ تقييد الهيئة (٢) يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة ويرتفع به مورده (٣) ، بخلاف العكس (٤) ، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك كان التقييد الّذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.

أمّا الصغرى : فلأجل أنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ حاجة وبيان لإطلاق المادّة ، لأنّها (٥) لا محالة لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة ؛ بخلاف تقييد المادّة ، فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله ، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجوب القيد وعدمه.

وأمّا الكبرى : فلأنّ التقييد وإن لم يكن مجازا ، إلّا أنّه خلاف الأصل ، ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل به.

__________________

(١) والقائل هو الشيخ الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٤٩.

ولا يخفى : أنّه قد تقدّم من الشيخ إنكار إمكان رجوع القيد إلى الهيئة عقلا ، فلا يتصوّر الدوران بين تقييد الهيئة وتقييد المادّة حتّى يحكم برجوع القيد إلى المادّة من جهة الترجيح اللفظيّ. وهذا يؤيّد عدم صحّة نسبة امتناع تقييد الهيئة إلى الشيخ.

(٢) أي : تقييد إطلاق الهيئة.

(٣) إذ يمتنع أخذ المادّة بدون قيد الوجوب ، ضرورة أنّ وجوب الحجّ ـ مثلا ـ إذا قيّد بالاستطاعة فلا يبقى للحجّ ـ وهو المادّة ـ إطلاق ، إذ الحجّ لا عن استطاعة ليس بواجب ، بداهة أنّه لا وجوب في ظرف عدم الاستطاعة كي يتّصف به الحجّ ويصير واجبا.

(٤) أي : تقييد إطلاق المادّة لا يستلزم تقييد إطلاق الهيئة.

(٥) أي : المادّة ، وهي الواجب.

١٩٨

وما ذكرناه من الوجهين موافق لما أفاده بعض مقرّري بحث الاستاذ العلّامة رحمه‌الله (١).

وأنت خبير بما فيهما :

أمّا في الأوّل : فلأنّ مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليّا بخلاف المادّة ، إلّا أنّه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها ، لأنّه أيضا كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، غاية الأمر أنّها تارة تقتضي العموم الشموليّ واخرى البدليّ ، كما ربّما تقتضي التعيين أحيانا ، كما لا يخفى.

وترجيح عموم العامّ على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون دلالته بالوضع ، لا لكونه شموليّا ؛ بخلاف المطلق فإنّه بالحكمة ، فيكون العامّ أظهر منه فيقدّم عليه.

فلو فرض أنّهما في ذلك على العكس ـ فكان عامّ بالوضع دلّ على العموم البدليّ ومطلق بإطلاقه دلّ على الشمول ـ لكان العامّ يقدّم بلا كلام (٢).

وأمّا في الثاني : فلأنّ التقييد وإن كان خلاف الأصل ، إلّا أنّ العمل الّذي يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة وانتفاء بعض مقدّماته لا يكون على خلاف أصل (٣) أصلا ، إذ معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة

__________________

(١) وهو الشيخ أبو القاسم الكلانتريّ في مطارح الأنظار : ٤٩.

(٢) لأنّ ظهور العامّ بالوضع وظهور المطلق بالإطلاق.

ولكن التحقيق : أنّ المناط في التقديم هو الأظهريّة ، سواء كان منشؤها الوضع أو الإطلاق.

وخالفه المحقّق النائينيّ ، واختار مقالة الشيخ الأنصاريّ من تقديم الإطلاق الشموليّ على الإطلاق البدليّ ، واستدلّ عليه بثلاثة امور ذكرها السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ـ ثمّ ناقشا فيها. فذهب الأوّل إلى إنكار أساس البحث إمّا من جهة عدم دلالة للّفظ كي تكون شموليّة أو بدليّة ، وإمّا من جهة عدم تصوّر المسألة بوجه معقول. وذهب الثاني إلى أنّ ترجيح الشموليّ على البدليّ في الإطلاق انّما يصحّ فيما إذا كانت المعاندة بين الدليلين بالذات ، والمعارضة في المقام ليست بالذات بل تعرض من العلم الاجماليّ بأنّ القيد إمّا راجع إلى الهيئة وإمّا راجع إلى المادّة. فراجع فوائد الاصول ١ : ٣٣٤ ـ ٣٣٨ ، ومناهج الوصول ١ : ٣٦٦ ـ ٣٦٨ ، والمحاضرات ٢ : ٣٣٤ ـ ٣٣٨.

(٣) وفي بعض النسخ : «الأصل».

١٩٩

مثل التقييد الّذي يكون على خلاف الأصل.

وبالجملة : لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلّا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة ، ومع انتفاء المقدّمات لا يكاد ينعقد له (١) هناك ظهور كان (٢) ذاك العمل ـ المشارك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل بإطلاق المطلق ـ مشاركا معه في خلاف الأصل أيضا (٣).

وكأنّه توهّم أنّ إطلاق المطلق (٤) كعموم العامّ (٥) ثابت ورفع اليد عن العمل به (٦) تارة لأجل التقييد واخرى بالعمل المبطل (٧) للعمل به.

__________________

(١) أي : للمطلق.

(٢) هكذا في جميع النسخ. ولكن الصحيح «ليكون».

(٣) والحاصل : أنّه إذا كان القيد متّصلا ورجع إلى الهيئة لم يتّجه هذا الوجه الثاني ، لأنّ تقييد الهيئة يكون مانعا من انعقاد الظهور الإطلاقيّ في المادّة ، فلا يثبت ظهور للمادّة في الإطلاق كي يرفع بتقييد الهيئة ويكون التصرّف فيه مخالفة للظاهر ويوجب ارتكاب خلاف الأصل ؛ فلا يدور الأمر بين تقييد وتقييدين ، بل بين تقييد وتقييد. وأمّا إذا كان القيد منفصلا فحيث أنّه انعقد الظهور للمادّة في الإطلاق فرجوع القيد إلى الهيئة يوجب رفع اليد عن هذا الظهور ، وهو خلاف الأصل ، هذا.

ولكن المحقّق النائينيّ خالف المصنّف في تفصيله ووافق الشيخ الأنصاريّ وذهب إلى رجوع القيد إلى المادّة مطلقا ، سواء كان القيد متّصلا أم منفصلا. أجود التقريرات ١ : ١٦٥ ـ ١٦٦ ، فوائد الاصول ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

والمحقّق الاصفهانيّ وافق المصنّف بدعوى عدم الملازمة بين تقييد الهيئة وتقييد المادّة من جهة أنّ رجوع القيد إلى المادّة إنّما يوجب تقييد المادّة من جهة مطلوبيّتها مع القيد ، وأمّا إطلاقها من جهة الوفاء بتمام مصلحتها بدون القيد باق على حاله ولا ينثلم بتقييد الهيئة. فراجع نهاية الدراية ١ : ٣٦٢ ـ ٣٦٦.

ووافقه أيضا السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ـ. فالأوّل وافقه بدعوى أنّ هذا النحو من الاستلزام ينعكس في جانب تقييد المادّة ، فتقييد كلّ منها يوجب نحو تضييق لصاحبتها وابطالا لمحلّ إطلاقها. والثاني وافقه بدعوى نفي الملازمة بين تقييد الهيئة وتقييد المادّة من جهة أنّ النسبة بين التقييدين عموم من وجه. فراجع تفصيل كلاميهما في مناهج الوصول ١ : ٣٦١ ـ ٣٧٠ ، والمحاضرات ٢ : ٣٤٢ ـ ٣٤٤.

(٤) أي : إطلاق المادّة.

(٥) أي : عموم الهيئة.

(٦) أي : بإطلاق المطلق ، أعني : المادّة.

(٧) وهو في المقام تقييد الهيئة.

٢٠٠