كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

تعلّق الأمر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحّة الأمر إنّما هو في حال الامتثال لا حال الأمر (١) ـ واضح الفساد ، ضرورة أنّه وإن كان تصوّرها كذلك (٢) بمكان من الإمكان ، إلّا أنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها ، لعدم الأمر بها ، فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيّدة بداعي الأمر (٣) ، ولا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى ما تعلّق به ، لا إلى غيره.

إن قلت : نعم ، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورا بها بالأمر بها مقيّدة.

قلت : كلّا ، لأنّ ذات المقيّد لا تكون مأمورا بها ، فإنّ الجزء التحليليّ العقليّ لا يتّصف بالوجوب أصلا ، فإنّه ليس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النفسيّ ، كما ربّما يأتي في باب المقدّمة (٤).

إن قلت : نعم ، لكنّه إذا اخذ قصد الامتثال شرطا ، وأمّا إذا اخذ شطرا فلا محالة نفس الفعل الّذي تعلّق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلّقا للوجوب ، إذ المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر ، ويكون تعلّقه بكلّ بعين تعلّقه بالكلّ ، ويصحّ أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب ، ضرورة صحّة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه (٥).

قلت : مع امتناع اعتباره كذلك ، فإنّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير

__________________

(١) هذا دليل لقول المتوهّم : «وإمكان الإتيان بها بهذا الداعي» وجواب عن المحذور الثاني.

وحاصله : أنّ القدرة المعتبرة في التكليف هي القدرة على الفعل حين الامتثال ، والقدرة على قصد الأمر حاصلة في ظرف الامتثال ، لتحقّق الأمر ، فالقدرة على الفعل موجودة ويتمكّن المكلّف من إتيانه بداعي الأمر به.

(٢) أي : مقيّدة بداعي الأمر.

(٣) وهي غير مقدورة ، لتوقّفها على تعلّق الأمر بذات الصلاة حتّى يصحّ الإتيان بها بداعى أمرها.

(٤) يأتي في الصفحة : ١٩٦ من هذا الجزء ، حيث قال : «فلو نهض دليل على وجوبها فلا محالة يكون وجوبها نفسيّا ...».

(٥) فيقال : ذات الفعل جزء من الواجب ، وكلّ جزء من أجزائه يجوز إتيانه بداعي وجوب نفسه بالكلّ ، فذات الفعل يجوز إتيانها بداعي وجوب نفسه.

١٤١

اختياريّ (١) ، فإنّ الفعل وإن كان بالإرادة اختياريّا إلّا أنّ إرادته ـ حيث لا تكون بإرادة اخرى وإلّا لتسلسلت ـ ليست باختياريّة ، كما لا يخفى ؛ إنّما يصحّ الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي ، ولا يكاد يمكن الإتيان بالمركّب عن قصد الامتثال (٢) بداعي امتثال أمره (٣).

__________________

(١) وهو قصد القربة الّذي جزء آخر للمركّب الواجب ، فإنّ قصد الفعل تقرّبا هو إرادته كذلك ، والإرادة ليست بالاختيار ، وإلّا لزم التسلسل.

(٢) وهكذا في النسخ. والصحيح أن يقول «من قصد الامتثال».

(٣) توضيحه : أنّه لا يقدر المكلّف على الإتيان بالمأمور به ، فإنّ المركّب الارتباطيّ ـ كالصلاة ـ لا يمكن الإتيان بكلّ جزء منه على حدة ، بل انّما يصحّ الإتيان بكلّ جزء في ضمن الأجزاء الأخر ، فلا يمكن الإتيان بذات الفعل بداعي وجوب الكلّ ما لم ينضمّ إليه قصد الأمر ، وهو الجزء الآخر ، فيكون المأتي به هو الفعل بداعى الأمر المتعلّق بداعي الأمر ، وهو محال ، لأنّه يستلزم أن يكون الشيء علّة لنفسه. هذا ما أفاده المحقّق الاصفهانيّ توضيحا لكلام المصنّف.

ولكن أجاب عنه السيّدان العلمان ـ المحقّق الخوئيّ والإمام الخمينيّ ـ :

أمّا السيّد المحقّق الخوئيّ : فنسب المحذور إلى نفس المحقّق الاصفهانيّ ـ بعد حمل كلام المصنّف على معنى آخر ـ وأجاب عنه بما حاصله : أنّ الأمر بالمركّب من الفعل وقصد الامتثال ينحلّ إلى أمرين ضمنيّين : (أحدهما) يتعلّق بذات الصلاة ، و (الآخر) يتعلّق بقصد الامتثال ـ أي داعويّة هذا الأمر المتعلّق بذات الصلاة ـ. فيكون الأمر الضمنيّ المتعلّق بقصد الامتثال داعيا إلى الإتيان بالفعل بقصد أمره الضمنيّ المتعلّق بالفعل ، لا أنّه محرّك نحو محرّكيّة نفسه حتّى يلزم محذور علّيّة الشيء لعليّة نفسه. المحاضرات ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١.

ولا يخفى عليك : أنّ المحقّق الاصفهانيّ لا يلتزم بداعويّة الأمر الضمنيّ وإن التزم بانحلال الأمر ؛ والمحقّق الخراسانيّ لم يلتزم بانحلاله أصلا. فما ذكره المحقّق الخوئيّ لا يرفع المحذور على مبناهما ، سواء نسب المحذور إلى المحقّق الخراسانيّ أو إلى المحقّق الاصفهانيّ.

وأمّا السيّد الإمام الخمينيّ : فأجاب عنه بقوله : «أنّ الأوامر الصادرة من الموالي ليس لها شأن إلّا إيقاع البعث وإنشاءه ، وليس معنى محرّكيّة الأمر وباعثيّته إلّا المحرّكيّة الإيقاعيّة والإنشائيّة ، من غير أن يكون له تأثير في بعث المكلّف تكوينا ، فما يكون محرّكا له هو إرادته الناشئة عن إدراك لزوم إطاعة المولى ، الناشئ من الخوف أو الطمع أو شكر نعمائه أو المعرفة بمقامه إلى غير ذلك ، فالأمر محقّق موضوع الطاعة لا أنّه المحرّك تكوينا.

فحينئذ نقول : إن اريد من كون الأمر محرّكا إلى محرّكيّة نفسه أنّ الإنشاء على هذا الأمر المقيّد موجب لذلك ، فهو ممنوع ؛ ضرورة جواز الإيقاع عليه كما اعترف به المستشكل. ـ

١٤٢

إن قلت : نعم ، لكن هذا كلّه إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر واحد ، وأمّا إذا كان بأمرين تعلّق أحدهما بذات الفعل ، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره فلا محذور أصلا كما لا يخفى (١) ، فللآمر أن يتوسّل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده بلا شبهة (٢).

قلت : ـ مضافا إلى القطع بأنّه ليس في العبادات إلّا أمر واحد ، كغيرها من الواجبات والمستحبّات ، غاية الأمر يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها المثوبات والعقوبات. بخلاف ما عداها ، فيدور فيه خصوص المثوبات ، وأمّا العقوبة فمترتّبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة ـ إنّ الأمر الأوّل إن كان يسقط بمجرّد موافقته ولو لم يقصد به الامتثال ـ كما هو قضيّة الأمر الثاني ـ فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله ، فلا يتوسّل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة ؛ وإن لم يكد يسقط بذلك ، فلا يكاد يكون له وجه إلّا عدم حصول غرضه بذلك من أمره ، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله ، وإلّا لما كان موجبا لحدوثه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدّد الأمر ، لاستقلال العقل ـ مع عدم حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر ـ بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه فيسقط أمره (٣).

__________________

ـ وإن اريد منه أنّه يلزم أن يكون الأمر المحرّك للمكلّف تكوينا محرّكا إلى محرّكيّة نفسه كذلك ، فهو ممنوع أيضا ؛ لأنّ الأمر لا يكون محرّكا أصلا ، بل ليس له شأن إلّا إنشاء البعث على موضوع خاصّ ، فإن كان العبد مطيعا للمولى لحصول أحد المبادئ المتقدّمة في نفسه ورأى أنّ إطاعته لا تتحقّق إلّا بإتيان الصلاة المتقيّدة ، فلا محالة يأتي بها كذلك ، وهو أمر ممكن». مناهج الوصول ١ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

(١) هكذا أفاد المحقّق الرشتيّ في بدائع الأفكار : ٣٣٥. زعما أنّه مراد الشيخ الأنصاريّ في التفصّي عن إشكال عباديّة الطهارات الثلاث. ولكن يأتي في مبحث مقدّمة الواجب أنّ الشيخ لم يلتزم بوجود الأمرين أصلا ، بل صرّح بأنّ الأمر بذات العمل مغن عن أمر آخر.

(٢) وفي بعض النسخ : «بلا منعة».

(٣) وقد استشكل فيه الأعلام الثلاثة :

أمّا المحقّق الاصفهانيّ : فأورد على كلا شقّي الترديد وادّعى امكان الالتزام بالشقّين من دون محذور : ـ

١٤٣

هذا كلّه إذا كان التقرّب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.

وأمّا إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة ، فاعتباره في متعلّق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان (١) إلّا أنّه غير معتبر فيه قطعا ، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال الّذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بداهة (٢).

__________________

ـ أمّا الشقّ الأوّل : فلأنّ ذات الصلاة ـ مثلا ـ لها مصلحة ملزمة ، وللصلاة المأتي بها بداعي أمرها مصلحة ملزمة اخرى ، فبموافقة الأمر الأوّل تحصل المصلحة القائمة بذات الصلاة ويسقط ، ولكن حيث أنّ المصلحة القائمة بالمأتي به بداعي الامتثال الأمر الأوّل لازمة الاستيفاء فيبدّل الامتثال بامتثال آخر ويجب إعادة المأتيّ به بداعي الأمر الأوّل.

وأمّا الشقّ الثاني : فلأنّ الأمر الأوّل لا يسقط بمجرّد موافقته ، ولا يلزم لغويّة الأمر الثاني ، فإنّ لزوم الإتيان بقصد القربة إمّا من باب حكم العقل بلزوم الإتيان به بعنوانه ، وهو ممنوع ؛ أو من باب حكم العقل بلزوم الإتيان بما يحتمل دخله في الغرض ، وهو ممنوع أيضا ، لأنّه انّما يحكم بذلك فيما إذا لا يتمكّن الآمر من بيانه ولو بأمر آخر ، والمفروض أنّه يتمكّن من بيانه بالأمر الثاني. نهاية الدراية ١ : ٢٣٤ ـ ٢٣٧.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فأورد على الشقّ الثاني بأنّ انتفاء قابليّة الأمر للداعويّة لا يستلزم امتناع ثبوته بعد تصوّر غرض آخر له ، كايضاح المأمور به للمكلّف ، فلا يكون الأمر الثاني لغوا. بدائع الأفكار ١ : ٢٣٢.

وأمّا المحقّق النائينيّ : فأورد على الشقّ الثاني بأنّ وظيفة العقل هي إدراك تعلّق إرادة الشارع بشيء وعدمه. وأمّا الآمريّة فليست من شئونه حتّى يكون شارعا في قبال الشارع ، فلا بدّ في حصول الغرض من تعدّد الأمر وكون الأمر الثاني داعيا إلى ما لا يدعو إليه الأمر الأوّل. وليس هذان الأمران عن ملاك يختصّ بكلّ واحد منهما حتّى يكون من قبيل الواجب في الواجب ، بل هناك ملاك واحد لا يمكن استيفاؤه بأمر واحد. ومن هنا اصطلحنا على الأمر الثاني ب «متمّم الجعل» ، ومعناه : تتميم الجعل الأوّلي الّذي لم يستوف تمام غرض المولى. أجود التقريرات ١ : ١١٦ ، وفوائد الاصول ١ : ١٦٢.

وبالجملة : فالأعلام ذهبوا إلى عدم الإشكال في أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر الثاني لو قلنا بتعدّد الأمر ، كما قال به الشيخ الأعظم الأنصاريّ.

(١) وخالفه المحقّق النائينيّ ، فذهب إلى امتناع أخذ سائر الدواعي القربيّة أيضا في متعلّق الأمر. راجع فوائد الاصول ١ : ٢٥١ ، أجود التقريرات ١ : ١٠٩.

(٢) وقد خالفه تلميذه المحقّق العراقيّ حيث ذهب في بدو الأمر إلى الامتناع ثمّ تفرّد بتحرير يفيد ـ بزعمه ـ إمكان أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر. بدائع الأفكار ١ : ٢٣٢ ـ ٢٣٤. ـ

١٤٤

تأمّل فيما ذكرناه في المقام تعرف حقيقة المرام ، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الأعلام.

ثالثها (١) : [في عدم صحّة الاستدلال بإطلاق الأمر على عدم اعتبار قصد القربة]

إنّه إذا عرفت بما لا مزيد عليه عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا ، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه (٢) ـ ولو كان مسوقا في مقام البيان ـ على عدم اعتباره ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا يكاد يصحّ التمسّك به إلّا فيما يمكن اعتباره فيه.

فانقدح بذلك أنّه لا وجه لاستظهار التوصّليّة من إطلاق الصيغة بمادّتها (٣) ، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه ممّا هو ناشئ من قبل الأمر من إطلاق المادّة في العبادة لو شكّ في اعتباره فيها.

نعم ، إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه وإن لم يكن له دخل في متعلّق أمره ، ومعه سكت في المقام ، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله ، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه (٤) ، وإلّا لكان سكوته نقضا له وخلاف الحكمة.

__________________

ـ وخالفه أيضا السيّدان العلمان : الإمام الخمينيّ والسيّد الخوئيّ ، فذهبا إلى جواز أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ولو لم نقل بتعدّد الأمر. فراجع مناهج الوصول ١ : ٢٦٠ ، والمحاضرات ٢ : ١٧٢.

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «ثالثتها».

(٢) أي : إطلاق الأمر.

(٣) لعلّه تعريض بالشيخ الأعظم الأنصاريّ ، حيث قال ـ على ما في تقريرات بحثه ـ : «فالحقّ الحقيق بالتصديق هو أنّ ظاهر الأمر يقتضى التوصّليّة ...». مطارح الأنظار : ٦١.

ولكن لا يخفى : أنّه لا بدّ من حمل كلام الشيخ على الإطلاق المقامي ، ضرورة أنّه أنكر التمسّك بالإطلاق اللفظيّ لإثبات التوصّليّة ، فاستظهاره في المقام أجنبيّ عن مورد البحث.

نعم ، ذهب السيّد المحقّق الخوئيّ والسيّد الإمام الخمينيّ إلى أصالة التوصليّة تمسّكا بإطلاق الصيغة. راجع المحاضرات ٢ : ١٧٢ ، ومناهج الوصول ١ : ٢٧٤.

(٤) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «في حصول غرضه».

١٤٥

[مقتضى الاصول العمليّة]

فلا بدّ عند الشكّ (١) وعدم إحراز هذا المقام (٢) من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ، ويستقلّ به العقل.

فاعلم : أنّه لا مجال هاهنا إلّا لأصالة الاشتغال ـ ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ـ. وذلك لأن الشّك هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا يكون العقاب مع الشكّ وعدم إحراز الخروج عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان (٣) ، ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف تصحّ المؤاخذة على المخالفة وعدم الخروج عن العهدة لو اتّفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة بلا قصد القربة. وهكذا الحال في كلّ ما شكّ دخله في الطاعة والخروج به عن العهدة ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به ، كالوجه والتمييز (٤).

__________________

(١) أي : الشكّ في دخل شيء في متعلّق الأمر ، كقصد القربة ، حيث يمتنع أخذه في متعلّق الأمر ، فلا إطلاق حتّى يتمسّك به في اثبات عدم دخله.

(٢) أي : كون الآمر بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه.

(٣) أي : ولا تكون المؤاخذة عليه مؤاخذة بلا برهان.

(٤) لا يخفى : أنّ دعوى المصنّف في المبحث الخامس مركّب من دعاو خمسة :

الاولى : امتناع أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر لو كان الأمر واحدا.

الثانية : امتناع أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر ولو كان الأمر متعدّدا.

الثالثة : أنّ الأصل هو التوصليّة فيما إذا احرز أنّ الآمر يكون في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه.

الرابعة : أنّ المجرى فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين هو البراءة الشرعيّة.

الخامسة : أنّه لو شكّ في دخل شيء في متعلّق الأمر ممّا يمتنع أخذه فيه ، ولم يحرز كون الآمر بصدد بيان تمام ما له دخل في غرضه ، فليس في كلامه إطلاق ، لا الإطلاق المقاليّ ولا المقاميّ ، فلا بدّ من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل العمليّ ، وهو أصالة الاشتغال.

ولكن خالفه في هذه الدعاوي أكثر من تأخّر عنه.

أمّا الدعوى الاولى : فخالفه السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ـ.

مناهج الوصول ١ : ٢٧٤ ، المحاضرات ٢ : ١٧٧. ـ

١٤٦

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ كلّ ما يحتمل بدوا دخله في امتثال أمر وكان (١) ممّا تغفل عنه غالبا العامّة ، كان على الآمر بيانه ونصب قرينة على دخله واقعا ، وإلّا لأخلّ بما هو همّه وغرضه. أمّا إذا لم ينصب دلالة على دخله كشف عن عدم دخله. وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتميّز (٢) في الطاعة بالعبادة ، حيث ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار والآثار ، وكانا ممّا تغفل عنه العامّة ، وإن احتمل اعتباره (٣) بعض الخاصّة (٤) ، فتدبّر جيّدا.

ثمّ إنّه لا أظنّك أن تتوهّم وتقول : «إنّ أدلّة البراءة الشرعيّة (٥) مقتضية لعدم الاعتبار ، وإن كان قضيّة الاشتغال عقلا هو الاعتبار (٦)» ؛ لوضوح أنّه لا بدّ في عمومها من شيء قابل للرفع والوضع شرعا ، وليس هاهنا ، فإنّ دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعيّ ، بل واقعيّ. ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان

__________________

ـ وأمّا الثانية : فخالفه الأعلام الثلاثة ، فراجع نهاية الدراية ١ : ٢٣٤ ـ ٢٣٧ ، بدائع الأفكار (للمحقّق العراقيّ) ١ : ٢٣٢ ، فوائد الاصول ١ : ١٦٢.

وأمّا الرابعة : فهي الموافق للمشهور. وخالفه فيها المحقّق الاصفهانيّ ، فقال : «يمكن القول بالبراءة هنا ، وإن قلنا بالاحتياط في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين». نهاية الدراية ١ : ٢٤٤.

وأمّا الخامسة : فهي توافق ما رامه الشيخ الأعظم الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٦١. ولكن خالفه المحقّق الحائريّ والأعلام الثلاثة والسيّدان العلمان. فراجع درر الفوائد ١ : ٦٨ نهاية الدراية ١ : ٢٤٤ ، فوائد الاصول ١ : ١٦٨ ، نهاية الأفكار ١ : ٢٠٢ ، المحاضرات ٢ : ١٩٣ ، مناهج الوصول ١ : ٢٧٨.

وعلى المتتبّع أن يرجع كلماتهم حتّى يظهر اختلافهم في هذا المقال تفصيلا وإطلاقا.

(١) هكذا في النسخة المطبوعة ـ بالطبع الحجريّ ـ المذيّلة بحاشية العلّامة المشكينيّ ، وهو الصحيح.

وفي بعض النسخ المخطوطة : «كلّ ما ربّما يحتمل بدوا دخله في الامتثال أمرا كان ...» ، وهو غلط.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «التمييز».

(٣) أي : اعتبار الوجه والتمييز. والإفراد باعتبار رجوعه إلى «ما».

(٤) وهو بعض المتكلّمين والفقهاء. لاحظ جواهر الكلام ٩ : ١٦٠ ـ ١٦٣.

(٥) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع ما لا يعلمون» و «الناس في سعة ما لا يعلمون».

(٦) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «وإن كانت قضيّة الاشتغال عقلا هي الاعتبار».

١٤٧

كذلك (١) إلّا أنّهما قابلان للوضع والرفع شرعا. فبدليل الرفع ـ ولو كان أصلا ـ يكشف أنّه ليس هناك أمر فعليّ بما يعتبر فيه المشكوك يجب الخروج عن عهدته عقلا ، بخلاف المقام ، فإنّه علم بثبوت الأمر الفعليّ (٢) ، كما عرفت (٣) ، فافهم.

المبحث السادس

[مقتضى إطلاق الصيغة هو الوجوب النفسيّ التعيينيّ العينيّ]

قضيّة إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيّا تعيينيّا عينيّا (٤) ، لكون كلّ واحد ممّا يقابلها يكون فيه تقيّد الوجوب وتضيّق دائرته (٥). فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه ، فالحكمة تقتضي كونه مطلقا (٦) ، وجب هناك شيء آخر أو لا ،

__________________

(١) أي : واقعيّا.

(٢) وهو حكم العقل بلزوم تحصيل العلم بالفراغ.

(٣) قبل أسطر ، حيث قال : «فاعلم أنّه لا مجال هاهنا ...».

(٤) الواجب النفسيّ هو الواجب لنفسه لا لأجل واجب آخر ، كالصلاة اليوميّة. ويقابله الواجب الغيريّ ، كالوضوء.

والواجب التعيينيّ هو الواجب بلا واجب آخر يكون بديلا عنه في عرضه ، كالصلاة اليوميّة. ويقابله الواجب التخييريّ ، كخصال كفّارة الإفطار العمديّ في شهر رمضان.

والواجب العينيّ ما يتعلّق بالمكلّف بشخصه ولا يسقط بفعل الغير ، كالصوم. ويقابله الواجب الكفائيّ ، كصلاة الميّت.

وسيأتي توضيح بعض الأقسام إن شاء الله.

(٥) والأولى أن يقول : «لما في كلّ واحد من مقابلاتها من تقيّد الوجوب وتضيّق دائرته». بيان ذلك : أنّ كلّ واحد من الوجوب الغيريّ والتخييريّ والكفائيّ مقيّد بقيد وجوديّ. فالأوّل مقيّد بكونه منبعثا عن وجوب آخر ، والثاني مقيّد بكونه ذا عدل ، والثالث مقيّد بسقوطه بفعل الغير.

فالنفسيّة ليست إلّا عدم كون الوجوب منبعثا عن وجوب آخر ، والتعيينيّة هي عدم كون الوجوب ذا عدل ، والعينيّة ليست إلّا عدم سقوطه بفعل الغير. وعدم القرينة على القيود الوجوديّة دليل على عدمها.

(٦) وأورد عليه السيّد الإمام الخمينيّ بما حاصله : أنّ مقدّمات الحكمة لا تقتضي النفسيّة أو التعيينيّة أو العينيّة ، كما لا تقتضي مقابلاتها ، فإنّ النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة مباينة مع مقابلاتها ، وكلّ منها يمتاز عن مقابله بقيد وجوديّ أو عدميّ ، فهي ومقابلاتها خصوصيّات ـ

١٤٨

أتى بشيء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا ، كما هو واضح لا يخفى.

المبحث السابع

[الأمر عقيب الحظر أو توهّمه]

انّه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب ـ وضعا أو إطلاقا ـ فيما إذا وقع (١) عقيب الحظر أو في مقام توهّمه على أقوال.

نسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة (٢) ، وإلى بعض العامّة ظهورها في الوجوب (٣) ، وإلى بعض تبعيّته (٤) لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علّة النهي (٥) ... إلى غير ذلك(٦).

والتحقيق : أنّه لا مجال للتشبّث بموارد الاستعمال ، فإنّه قلّ مورد منها يكون

__________________

ـ في الوجوب ، لا أنّ الوجوب التعيينيّ النفسيّ العينيّ نفس طبيعة الوجوب ومقابلاتها طبيعته مع قيد تطرأ عليها ، بل كلّها خصوصيّات زائدة على الطبيعة وتحتاج إلى بيان زائد.

ثمّ ذهب إلى أنّه يحمل الوجوب على النفسيّ والتعيينيّ والعينيّ ، لا لدلالة الهيئة على شيء منها ، بل لأنّ صدور الأمر عن المولى تمام الموضوع ـ عند العقلاء ـ لوجوب الطاعة ، ومعه لا مجال لإعذار المكلّف من نفسه باحتمال التخييريّة فيما إذا عدل إلى غيره ، أو باحتمال الكفائيّة فيما إذا تركه وأتى به غيره ، أو باحتمال الغيريّة فيما إذا تركه مع سقوط الوجوب عن الغير. مناهج الوصول ١ : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «وقعت».

(٢) أي : الإباحة بالمعنى الأعمّ ـ أعنى : رفع الحجر والحظر ـ. كما ذهب إليه الآمديّ في الإحكام ٢ : ٣٩٨ ، والمحقّق القميّ في القوانين ١ : ٨٩.

وأمّا الاباحة بالمعنى الأخصّ فلم أعثر على من قال بظهورها فيها.

(٣) ذهب إليه بعض المخالفين ، كالحنفيّة ، والمعتزلة ، والقاضي الباقلانيّ والفخر الرازيّ ، والبيضاويّ. فراجع فواتح الرحموت (المطبوع بذيل المستصفى ١ : ٣٧٩) ، ونهاية السئول ٢ : ٢٧٢ ، والإحكام (للآمديّ) ٢ : ١٧٨.

(٤) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «تبعيّتها».

(٥) ذهب إلى هذا التفصيل العضديّ.

(٦) كقول الشيخ الطوسيّ والسيّد المرتضى من الرجوع إلى ما كان عليه سابقا قبل المنع مطلقا.

راجع العدّة ١ : ١٨٣ ، والذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٧٣.

١٤٩

خاليا عن قرينة على الوجوب أو الإباحة أو التبعيّة. ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه ، غاية الأمر يكون موجبا لإجمالها ، غير ظاهرة في واحد منها إلّا بقرينة اخرى كما أشرنا (١).

المبحث الثامن

[عدم دلالة الصيغة على المرّة والتكرار]

الحقّ أنّ الصيغة (٢) مطلقا لا دلالة لها على المرّة ولا التكرار ، فإنّ المنصرف عنها ليس إلّا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها ، فلا دلالة لها على أحدهما ، لا بهيئتها ولا بمادّتها.

والاكتفاء بالمرّة فإنّما هو لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة ، كما لا يخفى (٣).

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلّا على الماهيّة ـ على ما حكاه السكّاكيّ (٤) ـ لا يوجب كون النزاع هاهنا

__________________

(١) وتظهره الثمرة في مثل قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) المائدة / ٢ ، فإنّه أمر بالاصطياد ، وقع عقيب حرمة الاصطياد في حال الإحرام ، حيث قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) المائدة / ٩٥ ، فإذا قلنا بأنّ الأمر الواقع عقيب الحظر مجمل ولا ظهور له في شيء فلا يدلّ قوله تعالى : (فَاصْطادُوا) على الوجوب ولا على غيره ، ويرجع إلى الاصول العمليّة ، إلّا إذا قامت قرينة خاصّة على أحدها ، وإذا قلنا بأنّ الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر في الوجوب فيدلّ قوله تعالى : (فَاصْطادُوا) على الوجوب ، وهكذا.

(٢) وفي بعض النسخ : «صيغة الأمر».

(٣) هذا جواب عن اشكال مقدّر. وهو : أنّه لو لا دلالة الصيغة على المرّة لم يكتفى بالمرّة في مقام الامتثال؟ فالاكتفاء بالمرّة كاشف عن دلالتها على المرّة.

فأجاب عنه بأنّ الاكتفاء بالمرّة ليس لأجل دلالة الصيغة عليه ، بل هو لحكم العقل بحصول الامتثال بالمرّة فيما إذا امر بالطبيعة ، فإنّ الطبيعيّ يوجد بوجود فرده.

(٤) مفتاح العلوم (علم البيان) : ٩٣.

١٥٠

في الهيئة ـ كما في الفصول (١) ـ ، فإنّه غفلة وذهول عن كون المصدر (٢) كذلك لا يوجب الاتّفاق على أنّ مادّة الصيغة لا تدلّ إلّا على الماهيّة ، ضرورة أنّ المصدر ليست مادّة لسائر المشتقّات ، بل هو صيغة مثلها. كيف! وقد عرفت في باب المشتقّ (٣) مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى (٤) ، فكيف بمعناه يكون مادّة لها؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّتها ، كما لا يخفى.

إن قلت : فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام؟

قلت : ـ مع أنّه محلّ الخلاف (٥) ـ معناه أنّ الّذي وضع أوّلا بالوضع الشخصيّ ثمّ بملاحظته وضع نوعيّا أو شخصيّا سائر الصيغ الّتي تناسبه (٦) ـ ممّا جمعه معه مادّة لفظ متصوّرة في كلّ منها ومنه بصورة ، ومعنى كذلك (٧) ـ هو المصدر أو الفعل ، فافهم.

ثمّ المراد بالمرّة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد (٨)؟

التحقيق : أن يقعا بكلا المعنيين محلّ النزاع ، وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الأوّل.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٧١.

(٢) هكذا في النسخ. ولكن الصحيح أن يقول : «عن أنّ كون المصدر».

(٣) في الأمر الثاني من مبحث المشتقّ ، فراجع الصفحة : ١٠٦.

(٤) فإنّ المصدر بمعناه يأبى عن الحمل ، والمشتقّ غير آب عن الحمل.

(٥) حيث ذهب الكوفيّون إلى أنّ الأصل في الكلام هو الفعل.

(٦) أي : تناسب ما وضع أوّلا بالوضع الشخصيّ.

(٧) المراد من «ما» الموصول في قوله : «ممّا» هو الصيغ ؛ والضمير في قوله : «جمعه» راجع إلى «ما» الموصول ، كما أنّ الضمير في قوله : «معه» راجع إلى ما وضع أوّلا. ومعنى العبارة : من الصيغ الّتي جمع تلك الصيغ مع ما وضع أوّلا مادّة لفظ ومادّة معنى متصوّرتان في كلّ من الصيغ وما وضع أوّلا بصورة مخصوصة ، كمادّة (ض ر ب) الّتي قد تتصوّر بصورة «ضرب» ، وقد تتصوّر بصورة «يضرب» ، وهكذا.

(٨) ذهب إلى الأوّل صاحب الفصول. وإلى الثاني صاحب القوانين. راجع الفصول الغرويّة الغرويّة : ٧١ ، وقوانين الاصول ١ : ٩٢.

١٥١

وتوهّم أنّه لو اريد بالمرّة الفرد لكان الأنسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمّة للمبحث الآتي من أنّ الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك : «وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد ، أو لا يقتضي شيئا منهما؟». ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه ، وأمّا لو اريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (١) ؛ فاسد ، لعدم العلقة بينهما لو اريد بها الفرد أيضا ، فإنّ الطلب ـ على القول بالطبيعة ـ إنّما يتعلّق بها باعتبار وجودها في الخارج ، ضرورة أنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة. وبهذا الاعتبار كانت مردّدة بين المرّة والتكرار بكلا المعنيين. فيصحّ النزاع في دلالة الصيغة على المرّة والتكرار (٢) بالمعنيين وعدمها ؛ أمّا بالمعنى الأوّل فواضح ؛ وأمّا بالمعنى الثاني فلوضوح أنّ المراد من الفرد أو الأفراد (٣) وجود واحد أو وجودات ، وإنّما عبّر بالفرد لأنّ وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد ، غاية الأمر خصوصيّته وتشخّصه ـ على القول بتعلّق الأمر بالطبائع ـ يلازم المطلوب وخارج عنه ، بخلاف القول بتعلّقه بالأفراد ، فإنّه ممّا يقوّمه.

تنبيه : [الامتثال عقيب الامتثال]

لا إشكال بناء على القول بالمرّة في الامتثال ، وأنّه لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال ، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال.

وأمّا على المختار ـ من دلالتها على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرّة ولا على التكرار ـ فلا تخلو الحال : إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان ـ بل في مقام الإهمال أو الإجمال ـ فالمرجع هو الأصل ؛ وإمّا أن يكون إطلاقها في ذلك المقام فلا إشكال في الاكتفاء بالمرّة في الامتثال. وإنّما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها ، فإنّ لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها هو الإتيان بها

__________________

(١) هذا ما توهّمه صاحب الفصول ، فراجع الفصول الغرويّة : ٧١.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «أو التكرار».

(٣) في مبحث المرّة والتكرار.

١٥٢

مرّة أو مرارا ، لا لزوم الاقتصار على المرّة ، كما لا يخفى.

والتحقيق : أنّ قضيّة الإطلاق إنّما هو جواز الإتيان بها مرّة في ضمن فرد أو أفراد ، فيكون إيجادها (١) في ضمنها (٢) نحوا من الامتثال كإيجادها في ضمن الواحد ، لا جواز الإتيان بها مرّة ومرّات ، فإنّه مع الإتيان بها مرّة لا محالة يحصل الامتثال ، ويسقط به الأمر فيما إذا كان امتثال الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرّده ، فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر ، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا واحدا ، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها (٣) ، وسقوط الغرض معها (٤) ، وسقوط الأمر بسقوطه ، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا. وأمّا إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض ، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضّأ ، فاتي به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلا ، فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه ، بل مطلقا ، كما كان له ذلك (٥) قبله على ما يأتي بيانه في الإجزاء (٦).

المبحث التاسع

[عدم دلالة الصيغة على الفور أو التراخي]

الحقّ أنّه لا دلالة للصيغة لا على الفور ولا على التراخي (٧). نعم ، قضيّة

__________________

(١) أي : إيجاد الطبيعة.

(٢) أي : الأفراد.

(٣) أي : إتيان الطبيعة مرّة.

(٤) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «معه» ، فإنّ الضمير يرجع إلى إتيان الطبيعة مرّة.

(٥) أي : الإتيان بأيّ فرد آخر.

(٦) يأتي في الصفحة : ١٦٠ ، حيث قال : «نعم ، لا يبعد أن يقال ...».

وخالفه السيّدان العلمان : الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ. فذهبا إلى عدم جواز الامتثال بعد الامتثال مطلقا ، لعدم تعقّل بقاء الأمر مع الإتيان بمتعلّقه بجميع الخصوصيّات المعتبرة فيه. راجع مناهج الوصول ١ : ٣٠٤ ـ ٣٠٦ ، المحاضرات ٢ : ٢٠٩.

وقال المحقّق الاصفهانيّ ـ ردّا على المصنّف ـ : «التحقيق أنّ إتيان المأمور به بحدوده وقيوده علّة تامّة للغرض الباعث على البعث إليه. والغرض القائم باحضار الماء تمكّن المولى من رفع عطشه به ، لا نفس رفع العطش». نهاية الدراية ١ : ٢٥٤.

(٧) لا يخفى : أنّه لا بدّ من حمل كلامه على أن لا دلالة لصيغة الأمر بالدلالة الوضعيّة ـ لا بمادّتها ولا بهيئتها ـ على لزوم الفور ، ولا على جواز التراخي ، وإن كانت الصيغة ظاهرة بإطلاقها ـ

١٥٣

إطلاقها جواز التراخي.

والدليل عليه (١) تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقييدها بأحدهما. فلا بدّ في التقييد من دلالة اخرى ، كما ادّعي دلالة غير واحد من الآيات (٢) على الفوريّة (٣) ، وفيه منع ، ضرورة أنّ سياق آية (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٤) وكذا آية (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ») (٥) إنّما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشرّ ، ضرورة أنّ تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشرّ كان البعث بالتحذير عنهما (٦) أنسب ، كما لا يخفى ، فافهم.

__________________

ـ اللفظيّ في جواز التراخي. وذلك لأنّ مورد البحث في المسألة ليس دلالتها على لزوم الفوريّة أو لزوم التراخي وعدمها ، ضرورة أنّه لم يقل أحد بدلالتها على لزوم التراخي ، فلا يكون لزوم التراخي أحد طرفي الترديد ، بل انّما يبحث فيها عن دلالة الصيغة على لزوم الفوريّة أو جواز التراخي وعدمها. فما يظهر من كلامه ـ من أنّ الصيغة لا تدلّ على لزوم الفور ولا على لزوم التراخي ـ في غير محلّه.

إن قلت : لو حملنا كلامه على عدم دلالة الصيغة ـ لا على لزوم الفور ولا على جواز التراخي ـ فلا معنى لكلامه ثانيا من دعوى دلالة إطلاق الأمر على جواز التراخي.

قلت : لا تنافي ما ذكره أوّلا مع ما ذكره ثانيا ، فإنّ ما ذكره ـ من عدم دلالة الصيغة على جواز التراخي ـ يحمل على عدم دلالته بالوضع ، وما ذكره ثانيا ـ من دلالة إطلاقها على جواز التراخي ـ يحمل على ظهورها فيه بإطلاقها اللفظيّ.

(١) أي : على عدم دلالة الصيغة على أحدهما.

(٢) كقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) آل عمران / ١٣٣ ، وقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) البقرة / ١٤٨.

(٣) هذا ما ادّعاه القائلون بدلالة الصيغة على الفور من الحنفيّة والحنابلة ـ على ما في الإحكام (للآمديّ) ٢ : ١٦٥ ـ ، بل كثير من المتكلّمين والفقهاء ـ على ما في العدّة ١ : ٢٢٥ ـ ٢٢٧ ـ.

وأمّا الشيخ الطوسيّ ـ وإن ذهب إلى القول بالفور ـ فناقش في دلالة الآيات على الفور ، راجع العدّة ١ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٤) آل عمران / ١٣٣.

(٥) البقرة / ١٤٨.

(٦) بأن يقول : «فليحذر الذين لا يسارعون إلى المغفرة ولا يستبقون في الخيرات».

١٥٤

مع لزوم كثرة تخصيصه (١) في المستحبّات وكثير من الواجبات بل أكثرها (٢) ، فلا بدّ من حمل الصيغة فيهما (٣) على خصوص الندب (٤) أو مطلق الطلب (٥).

ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق ، وكان ما ورد من الآيات (٦) والروايات (٧) في مقام البعث نحوه (٨) إرشادا إلى ذلك ـ كالآيات (٩) والروايات (١٠) الواردة في الحثّ على أصل الإطاعة ـ ، فيكون الأمر فيها لما يترتّب على المادّة بنفسها ولو لم يكن هناك أمر بها ، كما هو الشأن في الأوامر الإرشاديّة (١١) ، فافهم.

تتمّة : [في عدم دلالة الأمر على الفور فالفور]

بناء على القول بالفور ، فهل قضيّة الأمر الإتيان فورا ففورا ـ بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فورا أيضا في الزمان الثاني ـ أو لا؟ وجهان مبنيّان على أنّ مفاد الصيغة ـ على هذا القول ـ هو وحدة المطلوب (١٢) أو تعدّده (١٣).

ولا يخفى : أنّه لو قيل بدلالتها على الفوريّة لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) أي : وجوب الفور.

(٢) فإنّ أكثر الواجبات واجبات موسّعة ، فيلزم تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن.

(٣) أي : في المستحبّات وأكثر الواجبات.

(٤) في المستحبّات.

(٥) في المستحبّات والواجبات الموسّعة.

(٦) آل عمران / ١٣٣ ، والبقرة / ١٤٨.

(٧) وسائل الشيعة ١ : ٨٤ ، الباب ٢٧ من أبواب مقدّمة العبادات.

(٨) أي : نحو ما ذكر من المسارعة والاستباق.

(٩) كقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.) النساء / ٥٩.

(١٠) راجع الكافي ١ : ١٨٥ ، كتاب الحجّة ، باب فرض طاعة الأئمّة عليهم‌السلام.

(١١) وفي النسخة الأصليّة : «في الأمر الإرشاديّ». والاولى ما أثبتناه كما في النسخ الآخر.

(١٢) بمعنى أنّ الفوريّة مقوّمة لأصل المصلحة بحيث تفوت المصلحة بفوات الفوريّة.

(١٣) بمعنى أنّ هناك مصلحتين : (أحدهما) قائمة بذات الفعل في كلّ زمان. (وثانيتهما) قائمة بالفوريّة. فإن لم يأت به في الزمان الأوّل انّما تفوت المصلحة الثانية ، وأمّا المصلحة الاولى فهي باقية بحالها ، فيجب عليه الإتيان به في الزمان الثاني.

١٥٥

الفصل الثالث

[في الإجزاء]

الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء (١) في الجملة (٢) بلا شبهة. وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والإبرام ينبغي تقديم امور :

أحدها : [المراد من «وجهه»]

الظاهر أنّ المراد من «وجهه» في العنوان هو النهج الّذي ينبغي أن يؤتى به

__________________

) لا يخفى عليك : أنّ ظاهر العناوين في مسألة الإجزاء إلى زمان الشيخ الأعظم الأنصاريّ أنّ هذه المسألة مسألة لفظيّة ، لها صلة بما تعلّق بصيغة الأمر ، كما قال الشيخ ـ في العدّة ١ : ٢١٢ ـ : «إنّ الأمر هل يقتضي كون المأمور به مجزيا أم لا؟» ، وقال الشيخ محمّد حسين الاصفهانيّ ـ في الفصول الغرويّة : ١١٦ ـ : «إنّ الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء إذا اتي بالمأمور به على وجهه أم لا؟».

ولكن عدل عنه الشيخ الأنصاريّ وذهب إلى أنّ المسألة عقليّة ، فقال في عنوان المسألة : «اختلفوا في أنّ إتيان المأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا؟» ثمّ قال : «إنّ البحث هنا انّما هو في اقتضاء إتيان المأمور به عقلا». وتبعه المصنّف في المقام. واختاره أكثر من تأخّر عن المصنّف. فراجع مطارح الأنظار : ١٨ ، فوائد الاصول ١ : ٢٤٢ ، مقالات الاصول ١ : ٢٦٢ ، نهاية الدراية ١ : ٢٥٧ ، المحاضرات ٢ : ٢٢٠.

إن قلت : فلم جعلها المصنّف ذيل المسائل المتعلّقة بالأوامر؟

قلت : إنّ مجرّد ذكرها ذيل المسائل المتعلّقة بالأوامر ليس دليلا على كونها من المسائل اللفظيّة ، كما أنّه ذكر مسألة مقدّمة الواجب ذيل مباحث الأوامر مع أنّه صرّح بكونها مسألة عقليّة ، كما سيأتي.

(٢) ضرورة أنّ الإجزاء بالنسبة إلى أمره الواقعيّ مما لا ينكره أحد.

١٥٦

على ذلك النهج شرعا وعقلا (١) ، مثل أن يؤتى به بقصد التقرّب في العبادة. لا خصوص الكيفيّة المعتبرة في المأمور به شرعا ، فإنّه عليه يكون «على وجهه» قيدا توضيحيّا (٢) ، وهو بعيد (٣) ؛ مع أنّه يلزم خروج التعبّديّات عن حريم النزاع ، بناء على المختار ـ كما تقدّم (٤) ـ من أنّ قصد القربة من كيفيّات الإطاعة عقلا ، لا من قيود المأمور به شرعا. ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب (٥) ، فإنّه ـ مع عدم اعتباره عند المعظم ، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلّا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ـ لا وجه لاختصاصه به بالذكر (٦) على تقدير الاعتبار. فلا بدّ من إرادة ما يندرج فيه من المعنى ، وهو ما ذكرناه ، كما لا يخفى.

ثانيها : [المراد من «الاقتضاء»]

الظاهر أنّ المراد من «الاقتضاء» هاهنا الاقتضاء بنحو العلّيّة والتأثير ، لا بنحو الكشف والدلالة (٧) ، ولذا نسب إلى الإتيان ، لا إلى

__________________

(١) أمّا النهج الّذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا فهو مثل أن يؤتى بالصلاة المأمور بها مستقبلا إلى القبلة أو ساترا للعورة. وأمّا النهج الّذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج عقلا فهو مثل أن يؤتى بالمأمور به بقصد التقرّب.

فقوله : «مثل أن يؤتى ...» مثال لقوله : «عقلا». وكان الأولى أن يقول : «شرعا مثل أن يؤتى به مستقبلا ، أو عقلا مثل أن يؤتى به متقرّبا إلى الله».

(٢) لأنّ النهج الّذي يعتبر شرعا يدلّ عليه عنوان المأمور به.

(٣) لأنّ الأصل في القيود كونها احترازيّة.

(٤) تقدّم في الصفحة : ١٣٩.

(٥) وهو بعض الفقهاء والمتكلّمين. لاحظ جواهر الكلام ٩ : ١٦٠ ـ ١٦٣.

(٦) هكذا في النسخ. والصحيح أن يحذف قوله : «به».

(٧) والأولى أن يقول : «إنّ المراد من الاقتضاء هاهنا هو الاقتضاء بنحو الاستلزام». بيان ذلك : أنّ الاقتضاء قد يطلق ويراد منه التأثير في الامور التكوينيّة الخارجيّة ، فيقال ـ مثلا ـ : «النار تقتضي الحرارة» ، ويصطلح عليه بالعلّيّة أو الاقتضاء الثبوتيّ.

وقد يطلق ويراد به الكشف والدلالة ويعبّر عنه بالاقتضاء الإثباتيّ ، فيقال ـ مثلا ـ : «الأمر يقتضي الوجوب».

وقد يطلق ويراد منه الاستلزام بين الشيئين. وهذا هو المراد من الاقتضاء في المقام ، ـ

١٥٧

الصيغة (١).

إن قلت : هذا إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره (٢) ، وأمّا بالنسبة إلى أمر آخر ـ كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ ـ فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره (٣) بنحو يفيد الإجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (٤).

قلت : نعم ، لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما في الاقتضاء (٥) بالمعنى المتقدّم ،

__________________

ـ بل في كثير من المباحث الاصوليّة. فيقال ـ مثلا ـ : «هل يقتضي وجوب ذي المقدّمة وجوب المقدّمة؟».

وبالجملة : فالمراد من الاقتضاء في المقام هو الاستلزام ، فيكون معنى قوله : «الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء» أنّ الإتيان بالمأمور به يستلزم عقلا سقوط التكليف شرعا.

(١) وقد اشكل عليه : بأنّه كلمة «الاقتضاء» في كلام القوم منسوب إلى الأمر ـ كما في الفصول والقوانين ـ ، فلا يصحّ الاستشهاد على إرادة العلّيّة من الاقتضاء بأنّه ورد منسوبا إلى الإتيان.

والجواب عنه : أنّ المصنّف لم يكن بصدد بيان المراد من الاقتضاء في كلام من ذهب إلى كون المسألة لفظيّة ، بل كان في مقام بيان المراد من الاقتضاء في كلام من ذهب إلى كون المسألة عقليّة ، كالشيخ الأنصاريّ ، فإنّه أسند الاقتضاء إلى الإتيان ، لا الأمر.

(٢) أي : الأمر المتعلّق بالمأتي به.

(٣) الضمير يرجع إلى المأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ.

(٤) وحاصل الإشكال : أنّ كلمة «الاقتضاء» في العنوان ليس بمعنى العلّيّة مطلقا ، بل يكون في بعض الموارد بمعنى العلّيّة وفي بعض آخر بمعنى الدلالة. بيان ذلك : أنّ النزاع في المسألة تارة يكون في إجزاء المأمور به عن أمره ـ كإجزاء المأمور به بالأمر الواقعيّ عن الأمر الواقعيّ ، وإجزاء المأمور به بالأمر الاضطراريّ عن الأمر الاضطراريّ ، وإجزاء المأمور به الظاهريّ عن الأمر الظاهريّ ـ حينئذ يكون الاقتضاء بمعنى العلّيّة ، إذ لا تلحظ دلالة الدليل. واخرى يكون في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ عن الأمر الواقعيّ ، فيبحث عن دلالة الدليل على اعتبار المأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ بنحو يفيد سقوط الأمر الواقعيّ أو بنحو آخر لا يفيد سقوط الأمر الواقعيّ؟

(٥) وفي بعض النسخ : «فيهما كان في الاقتضاء». ولكن الصحيح ما أثبتناه ، بل هو ما يستظهر من النسخة الأصليّة بعد الدقّة فيها.

١٥٨

غايته أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما (١) إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما ـ هل أنّه (٢) على نحو يستقلّ العقل بأنّ الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثّر فيه ـ وعدم دلالته ، ويكون النزاع فيه (٣) صغرويّا أيضا (٤). بخلافه في الإجزاء بالإضافة إلى أمره ، فإنّه لا يكون إلّا كبرويّا لو كان هناك نزاع ، كما نقل عن بعض (٥) ، فافهم (٦).

ثالثها : [المراد من الإجزاء]

الظاهر أنّ «الإجزاء» هاهنا بمعناه لغة ، وهو الكفاية ، وإن كان يختلف ما يكفي عنه ، فإنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعيّ يكفي فيسقط به التعبّد به ثانيا ، وبالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ يكفي فيسقط به القضاء ، لا أنّه يكون هاهنا اصطلاحا ـ بمعنى إسقاط التعبّد أو القضاء ـ ، فإنّه بعيد جدا.

__________________

(١) أي : في اقتضاء إتيان المأمور به الاضطراريّ والظاهريّ بمعنى العلّيّة والتأثير.

(٢) أي : دليلهما.

(٣) والأولى أن يقول : «فيهما» ، فإنّ الضمير يرجع إلى المأمور به الاضطراريّ والمأمور به الظاهريّ.

(٤) وحاصل الجواب : أنّ وقوع النزاع فيهما في الاقتضاء بمعنى الدلالة لا ينافي وقوعه فيهما في الاقتضاء بمعنى العلّيّة. بل يكون هناك نزاعان : أحدهما صغرويّ ، وهو النزاع في دلالة دليلهما على أنّ موضوعيهما وافيان بتمام مصلحة المأمور به الواقعيّ وعدم دلالته. وثانيهما كبرويّ ، وهو النزاع في أنّ نفس الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ هل يؤثّر في الإجزاء بلحاظ وفائه بتمام المصلحة أو لا يؤثّر فيه بلحاظ عدم وفائه بتمام المصلحة؟

فالنزاع الأوّل منشأ للنزاع الثاني ، ولا تنافي بينهما.

(٥) نقله العلّامة الحلّيّ عن أبي هاشم. ونقله السيّد الطباطبائيّ عن أبي هاشم وعبد الجبّار وأتباعهما. راجع مبادئ الوصول : ١١١ ، ومفاتيح الاصول : ١٢٦.

(٦) لعلّه إشارة إلى ما ذكره المحقّق الاصفهانيّ من أنّ فرض ابتناء وقوع النزاع في الكبرى على وقوع النزاع في الصغرى لا يناسب المسائل الاصوليّ ، إذ من شرائط المسائل الاصوليّة أن تكون نتيجتها كلّيّة جارية في جميع الموارد. مضافا إلى أنّه إذا كان النزاع الصغرويّ المذكور منشأ للنزاع الكبرويّ فالمناسب أن يحرّر النزاع في المنشأ ـ أي دلالة الدليل ـ ويفرّع النزاع الكبرويّ على كيفيّة دلالة دليلهما. نهاية الدراية ١ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

١٥٩

رابعها : [فارق المسألة عن مسألة المرّة والتكرار]

الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتكرار لا يكاد يخفى ، فإنّ البحث هاهنا في أنّ الإتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا؟ بخلافه في تلك المسألة ، فإنّه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى. نعم ، كان التكرار عملا موافقا لعدم الإجزاء ، لكنّه لا بملاكه.

وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء (١) ، فإنّ البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعيّة وعدمها. بخلاف هذه المسألة ، فإنّه ـ كما عرفت ـ في أنّ الإتيان بالمأمور به يجزئ عقلا عن إتيانه ثانيا ـ أداء أو قضاء ـ أو لا يجزئ؟ فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلا.

إذا عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين :

الموضع الأوّل

[في إجزاء الإتيان بالمأمور به عن التعبّد به ثانيا]

انّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعيّ ، بل أو (٢) بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ أيضا يجزئ عن التعبّد به ثانيا ، لاستقلال العقل بأنّه لا مجال مع موافقة الأمر بإتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبّد به ثانيا.

نعم ، لا يبعد أن يقال بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبّد به ثانيا بدلا عن التعبّد به أوّلا ، لا منضمّا إليه ـ كما أشرنا إليه في المسألة السابقة (٣) ـ. وذلك فيما

__________________

(١) لا يخفى عليك : أنّه لا وجه لتعرّض الفرق بينهما بعد عدم وجود أيّ تشابه بينهما يوجب توهّم رجوعهما إلى بحث واحد. كيف؟ والموضوع في هذه المسألة هو الإتيان بالمأمور به وأنّه يجزئ عن الواقع أم لا؟ والموضوع في تلك المسألة هو عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يحذف كلمة «أو».

(٣) راجع مبحث المرّة والتكرار ، الصفحة : ١٥٣.

١٦٠