كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

الجهة الثالثة : [في كون الأمر حقيقة في الوجوب]

لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب (١) ، لانسباقه (٢) عنه عند إطلاقه (٣).

ويؤيّده قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (٤) ؛ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك» (٥) ؛ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريرة ـ بعد قولها : «أتأمرني يا رسول الله؟» ـ : «لا ، أنا شافع (٦)» (٧) ... إلى غير ذلك ؛ وصحّة الاحتجاج (٨) على العبد ومؤاخذته بمجرّد مخالفة أمره ، وتوبيخه على مجرّد

__________________

(١) أي : الطلب الوجوبيّ.

(٢) كلمة «الانسباق» لا تساعد عليها اللغة. بل الصحيح «لسبقه».

(٣) لا يخفى : أنّ في منشأ هذا التبادر أقوال :

الأوّل : أنّ منشؤه وضع لفظ «الأمر» للطلب الوجوبيّ ، فالوجوب مأخوذ قيدا في الموضوع له لفظ الأمر. وهذا يظهر من كلام المصنّف رحمه‌الله في المقام.

الثاني : أنّ منشؤه أخذ الوجوب قيدا للمستعمل فيه ، وإن لم يكن قيدا للموضوع له. وهذا يظهر من هداية المسترشدين : ١٣٩.

الثالث : أنّ منشؤه ليس إلّا حكم العقل بوجوب طاعة الآمر. وهذا ما أفاده المحقّق النائينيّ ، وتبعه تلميذه المحقّق الخوئيّ ، فراجع فوائد الاصول ١ : ١٣٦ ـ ١٣٦ ، والمحاضرات ٢ : ١٤ ـ ١٥ و ١٣١.

(٤) النور / ٦٣.

وجه التأييد أنّه (تعالى) حذّر مخالف الأمر ، والتحذير يناسب الوجوب لا الندب.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ٣٥٤ ، الباب ٣ من أبواب السواك ، الحديث ٣.

وجه التأييد أنّ المشقّة انّما تكون في الإلزام لا في الندب.

(٦) وإليك نصّ الرواية : «لا ، انّما أنا شفيع».

(٧) مستدرك الوسائل ١٥ : ٣٢ ، الباب ٣٦ من أبواب النكاح العبيد والإماء ، الحديث : ٣.

وجه التأييد أنّه لو لم يكن الأمر للوجوب ما معنى لاستفهام بريرة.

(٨) في قوله : «وصحّة الاحتجاج ...» وجهان :

الأوّل : أن يكون معطوفا على قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ ...) ، فيكون مؤيّدا.

الثاني : أن يكون معطوفا على قوله : «لانسباقه». وعليه يكون دليلا.

والأظهر هو الأوّل ، حيث يرد عليه ما يرد على سابقه من أنّ غاية ما يستفاد من هذه الامور هو استعمال الأمر في الوجوب ، وهو أعمّ من الوضع ؛ مضافا إلى أنّ دلالة بعضها ـ

١٢١

مخالفته ، كما في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ») (١).

وتقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب (٢) إنّما يكون قرينة على إرادة المعنى الأعمّ منه في مقام تقسيمه (٣) ، وصحّة الاستعمال في معنى أعمّ من كونه (٤) على نحو الحقيقة ، كما لا يخفى.

وأمّا ما افيد من أنّ الاستعمال فيهما ثابت ، فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز (٥) ؛ فهو غير مفيد ، لما مرّت الإشارة إليه في الجهة الاولى وفي تعارض الأحوال ، فراجع (٦).

والاستدلال بأنّ فعل المندوب طاعة ، وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به (٧). فيه

__________________

ـ على الوجوب بمعونة القرينة ، كقرينة المشقّة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن أشقّ ...» ، وقرينة مقابلة الأمر بالشفاعة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، انّما أنا شفيع».

(١) الأعراف / ١٢.

وجه التأييد أنّه لا تصحّ مؤاخذة العبد وتوبيخه على مجرّد مخالفة أمر المولى ، إلّا إذا كان الأمر وجوبيّا.

(٢) إشارة إلى دليل القائلين بوضع لفظ «الأمر» لمطلق الطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب.

وحاصله : أنّ تقسيم الأمر إلى الوجوب والاستحباب دليل على أنّ الموضوع له لفظ الأمر هو الجامع بينهما.

وهذا الدليل تعرّض له المحقّق القمّي وأورد عليه بما ذكر في المتن ، فراجع قوانين الاصول ١ : ٨١ ـ ٨٢.

(٣) فالتقسيم قرينة على استعمال ما وضع لمعنى خاصّ في الأعمّ منه.

(٤) أي : الاستعمال.

(٥) هذا دليل آخر لمن قال بوضع لفظ «الأمر» للطلب الوجوبيّ والطلب الندبيّ.

وتعرّض له صاحب الفصول ، ثمّ أراد توجيهه بحيث يرجع إلى ما رامه من أنّ «الأمر» حقيقة في طلب الفعل مطلقا ، ويتبادر منه الإلزام تبادرا إطلاقيّا. الفصول الغرويّة : ٦٥.

والمحقّق العراقيّ وافق صاحب الفصول فيما ذكر. نهاية الأفكار ١ : ١٦٠ ، ومقالات الاصول ١ : ٢٠٦.

(٦) راجع الأمر الثامن من الأمور المذكورة في المقدّمة : ٤٦. وراجع الصفحة : ١٢٠.

(٧) فالمندوب فعل المأمور به. وهذا الدليل أيضا تعرّض له المحقّق القمّي ثمّ أورد عليه بما ـ

١٢٢

ما لا يخفى من منع الكبرى لو اريد من المأمور به معناه الحقيقيّ ، وإلّا لا يفيد المدّعى.

الجهة الرابعة : [في أنّ الأمر موضوع للطلب الإنشائيّ]

الظاهر أنّ الطلب الّذي يكون هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقيّ (١) ـ الّذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعيّ (٢) ـ ، بل الطلب الإنشائيّ (٣) ـ الّذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا ، بل طلبا إنشائيّا (٤) ـ ، سواء انشئ بصيغة افعل ، أو بمادّة الطلب ، أو بمادّة الأمر ، أو بغيرها.

ولو أبيت إلّا عن كونه موضوعا للطلب (٥) ، فلا أقلّ من كونه منصرفا إلى الإنشائيّ منه عند إطلاقه (٦) كما هو الحال في لفظ «الطلب» أيضا ، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائيّ. كما أنّ الأمر في لفظ «الإرادة» على عكس لفظ «الطلب» ، والمنصرف عنها (٧) عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة.

[اتّحاد الطلب والإرادة]

واختلافهما في ذلك (٨) ألجأ بعض أصحابنا (٩) إلى الميل إلى ما ذهب إليه

__________________

ـ ذكر هنا. راجع قوانين الاصول ١ : ٨٢.

(١) وهو الشوق الحاصل في النفس الّذي من الكيفيّات القائمة بالنفس ، وله وجود في الخارج.

(٢) لأنّ الشوق من مصاديق الطلب ، وهو موجود خارجيّ.

(٣) وهو مظهر الطلب الحقيقيّ.

(٤) فالفرق بين الطلب الحقيقيّ والإنشائيّ أنّ الطلب الحقيقيّ يحمل عليه الطلب المطلق بحمل الشائع الصناعيّ ، والطلب الإنشائيّ لا يحمل عليه الطلب بقول مطلق بالحمل الشائع ، بل يحمل عليه الطلب الإنشائيّ.

(٥) أي : مطلق الطلب الجامع بين الحقيقيّ والإنشائيّ.

(٦) أي : فلا أقلّ من كون لفظ «الأمر» منصرفا إلى الإنشائيّ من الطلب عند إطلاق لفظ «الأمر».

(٧) والأولى أن يقول : «إذ المنصرف عنها».

(٨) أي : اختلاف لفظي الطلب والإرادة في المعنى المنصرف عن كلّ منهما.

(٩) كالشيخ محمّد تقيّ الاصفهانيّ في هداية المسترشدين : ١٣٥ ، والمحقّق الخوانساريّ في رسالة في مقدّمة الواجب. ووافقهم المحقّق النائينيّ كما يأتي.

١٢٣

الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة (١) ، خلافا لقاطبة أهل الحقّ والمعتزلة من اتّحادهما(٢).

فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحقّ في المقام ، وإن حقّقناه في بعض فوائدنا (٣) إلّا أنّ الحوالة لمّا لم تكن عن المحذور خالية ، والإعادة بلا فائدة ولا إفادة (٤) ، كان المناسب هو التعرّض هاهنا أيضا.

فاعلم أنّ الحقّ كما عليه أهله ـ وفاقا للمعتزلة وخلافا للأشاعرة ـ هو اتّحاد الطلب والإرادة ، بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر (٥) ، والطلب المنشأ بلفظه (٦) أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة.

وبالجملة : هما متّحدان مفهوما وإنشاء وخارجا ، لا أنّ الطلب الإنشائيّ الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه ـ كما عرفت ـ متّحد مع الإرادة الحقيقيّة الّتي ينصرف إليها إطلاقها أيضا ، ضرورة أنّ المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس.

فإذا عرفت المراد من حديث العينيّة والاتّحاد ، ففي مراجعة الوجدان ـ عند طلب شيء والأمر به حقيقة ـ كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فإنّ الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة اخرى قائمة بها يكون هو الطلب

__________________

(١) راجع شرح المواقف ٨ : ٩٣ ، شرح التجريد (للقوشجيّ) : ٢٤٦ ، نقد المحصّل : ١٧٠.

(٢) راجع كشف المراد : ٢٢٣.

(٣) فوائد الاصول (للمصنّف) : ٢٣.

(٤) هكذا في النسخة الأصليّة والنسخة الاخرى الموجودة عندنا. وعليه يكون معنا العبارة : ولمّا لم تكن الإعادة بلا فائدة ولا إفادة.

وفي النسخة المطبوعة بالطبع الحجريّ المزيّنة بحاشية المحقّق المشكينيّ ١ : ٩٥ ، هكذا : «والإعادة ليس بلا فائدة ولا إفادة». وعليه يكون قوله : «الإعادة» معطوفا على نفس كلمة «الحوالة» ، فيكون معناها : إلّا أنّ الإعادة ليست بلا فائدة.

والأولى أن يقول : «الّا أنّه لمّا لم تكن الحوالة خالية عن المحذور ولم تكن الإعادة بلا فائدة ...».

(٥) فهما متّحدان مفهوما ومصداقا.

(٦) أي : بلفظ الطلب ، كأن يقال : أطلب منك كذا.

١٢٤

غيرها (١) سوى ما هو مقدّمة تحقّقها عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه والتصديق لفائدته (٢) ، وهو (٣) الجزم بدفع ما يوجب توقّفه عن طلبه لأجلها.

وبالجملة : لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والإرادة هناك صفة اخرى قائمة بها يكون هو الطلب (٤) ، فلا محيص عن اتّحاد الإرادة والطلب ، وأن يكون ذلك الشوق المؤكّد ـ المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده (٥) لا كذلك ـ مسمّى ب «الطلب والإرادة» ، كما يعبّر به تارة وبها اخرى ، كما لا يخفى (٦).

__________________

(١) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «تكون هي الطلب» ، فإنّ الضمير يرجع إلى الصفة ، وكلمة «غيرها» زائدة ، للاستغناء عنها بقوله : «غير الإرادة».

(٢) والأولى أن يقدّم تصديق الفائدة على الميل والهيجان.

(٣) أي : ما هو مقدّمة تحقّق الإرادة.

(٤) هكذا في النسخ. والاولى أن يقول : «تكون هي الطلب».

(٥) وفي النسخة الأصليّة : «أريده». والصحيح ما في المتن.

(٦) وقد خالفه المحقّق النائينيّ وادّعى وجود صفة اخرى بين الإرادة والفعل ، وذهب إلى تغاير الطلب والإرادة وفاقا للأشاعرة.

وحاصل كلامه : أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ هناك وراء الإرادة أمرا آخر يكون هو المستتبع لحركة العضلات ، ويكون ذلك من أفعال النفس ، وإن شئت فسمّه : «حملة النفس» أو «حركة النفس» أو «تصدّي النفس». وذلك لوضوح أنّ الانبعاث لا يكون إلّا بالبعث ، والبعث انّما هو من مقولة الفعل ، وقد عرفت أنّ الإرادة ليست من الأفعال النفسانيّة ، بل هي من الكيفيّات النفسانيّة ، فلو لم يكن هناك فعل نفسانيّ يقتضي الانبعاث يلزم منه أن يكون انبعاثا بلا بعث.

والحاصل : أنّ وراء الإرادة والشوق المؤكّد أمرا آخر ، يسمّى بالطلب. وهو عبارة عن تصدّي النفس نحو المطلوب وحملتها إليه.

فظهر أنّ الحقّ مع القائلين بتغاير الطلب والإرادة وفاقا للأشاعرة. أجود التقريرات ١ : ٨٨ ـ ٩١ ، فوائد الاصول ١ : ١٣٠ ـ ١٣٣.

ولا يخفى : أنّ ما التزم به المحقّق النائينيّ من ثبوت صفة نفسانيّة اخرى هي التصدّي والاختيار غير ما التزم به الأشاعرة من ثبوت صفة نفسانيّة هي الكلام النفسيّ ، كما يأتي.

١٢٥

وكذا الحال في سائر الصيغ الإنشائيّة والجمل الخبريّة ، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس ـ من الترجّي والتمنّي والعلم إلى غير ذلك ـ صفة اخرى كانت قائمة بالنفس وقد دلّ اللفظ عليها ، كما قيل (١) :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا (٢)

وقد انقدح بما حقّقناه ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة ـ بالأمر مع عدم الإرادة ، كما في صورتي الاختبار والاعتذار ـ من الخلل (٣) ؛ فإنّه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين لا طلب كذلك فيهما ، والّذي يكون فيهما إنّما هو الطلب الإنشائيّ الإيقاعيّ الّذي هو مدلول الصيغة أو المادّة ، ولم يكن بيّنا ولا مبيّنا في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الإنشائيّة.

__________________

(١) والقائل هو الأخطل الشاعر على ما في شرح المقاصد ٤ : ١٥٠.

(٢) حاصل ما التزم به الأشاعرة هو ثبوت صفة نفسانيّة اخرى في النفس غير الإرادة ومقدّماتها.

ومنشأ التزامهم بثبوت هذه الصفة هو توجيه اتّصاف الواجب تعالى بصفة المتكلّم. فقالوا : لا ريب أنّ الله (عزوجل) يكون متكلّما كما يكون عالما وقادرا. وبما أنّ صفاته (تعالى) عين ذاته وجودا فصفاته (تعالى) قديمة كقدم ذاته ، فيلزم أن يكون كلامه قديما. ومعلوم أنّ الكلام اللفظيّ حادث ، فيمتنع أن يكون المراد من كلامه هو الكلام اللفظيّ ، بل لا بدّ أن يكون هناك صفة اخرى في نفس المولى ـ غير الإرادة ـ يكشف عنها الكلام اللفظيّ ، وهي الكلام النفسيّ ، كما قال الشاعر :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وانّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فالكلام اللفظيّ كاشف عن وجود صفة نفسانيّة ، سواء كان الكلام اللفظيّ إخباريّا أو إنشائيّا.

ومن هنا يظهر أنّ في مورد الإنشائيّات تكون في النفس صفة غير الإرادة يحكي عنها الكلام اللفظيّ الإنشائيّ ، وهي ما يعبّر عنه ب «الطلب» ، فيثبت أنّ الإرادة غير الطلب.

وأورد عليه المحقّق الاصفهانيّ بأنّ الالتزام بالكلام النفسيّ وأنّه صفة من صفات النفس غير الإرادة ، ممنوع ، لأنّ البرهان قائم في محلّه على حصر الكيفيّات النفسانيّة ، وليس منها الكلام النفسيّ. نهاية الدراية ١ : ١٨٢.

(٣) بيان ل «ما» الموصولة في قوله : «ما في استدلال الأشاعرة».

١٢٦

وبالجملة : الّذي يتكفّله الدليل ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقيّة والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما ، وهو (١) ممّا لا محيص عن الالتزام به ـ كما عرفت ـ ، ولكنّه لا يضرّ بدعوى الاتّحاد أصلا ، لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقيّ والإنشائيّ ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يمكن ممّا حقّقناه أن يقع الصلح بين الطرفين ، ولم يكن نزاع في البين ، بأن يكون المراد بحديث الاتّحاد ما عرفت من العينيّة مفهوما ووجودا ، حقيقيّا وإنشائيّا ، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينيّة هو اثنينيّة الإنشائيّ من الطلب ـ كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه ـ والحقيقيّ من الإرادة ـ كما هو المراد (٢) غالبا منها حين إطلاقها ـ ، فيرجع النزاع لفظيّا ، فافهم (٣).

دفع وهم (٤)

لا يخفى : أنّه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة ـ من نفي غير الصفات المشهورة وأنّه ليس صفة اخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيّا مدلولا للكلام اللفظيّ كما يقول به الأشاعرة ـ أنّ هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام (٥).

إن قلت : فما ذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟

__________________

(١) أي : الانفكاك بين الإرادة الحقيقيّة والطلب الإنشائيّ.

(٢) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «والحقيقيّة من الإرادة كما هي المرادة ...».

(٣) لعلّه إشارة إلى أنّ الأشاعرة التزموا بثبوت صفة نفسانيّة اخرى في النفس قبال الإرادة ، وصرّحوا بالمغايرة بين الطلب والإرادة الحقيقيّين ، فكيف يمكن أن يحمل كلامهم على المغايرة بين الطلب الإنشائيّ والإرادة الحقيقيّة؟!

(٤) حاصل الوهم : أنّه لا بدّ للكلام اللفظيّ من مدلول ، وإذا لم يكن مدلوله الكلام النفسيّ ـ كما يدّعيه الأشاعرة ـ فثبت أنّ مدلوله إحدى الصفات المشهورة من العلم والإرادة والترجّي وغيرها.

(٥) والوجه في ذلك أنّ مقصودهم في المقام نفي ما ادّعاه الأشاعرة من ثبوت صفة زائدة على الصفات المشهورة ، وهو يثبت من دون حاجة إلى إثبات مدلول الكلام اللفظيّ.

١٢٧

قلت : أمّا الجمل الخبريّة فهي دالّة على ثبوت النسبة بين طرفيها أو نفيها في نفس الأمر من ذهن أو خارج ، ك «الإنسان نوع» أو «كاتب».

وأمّا الصيغ الإنشائيّة فهي ـ على ما حقّقناه في بعض فوائدنا (١) ـ موجدة لمعانيها في نفس الأمر ـ أي قصد ثبوت معانيها وتحقّقها بها ـ ، وهذا نحو من الوجود ، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتّبة عليه ـ شرعا وعرفا ـ آثار ، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات.

نعم ، لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجّي والتمنّي بالدلالة الالتزاميّة على ثبوت هذه الصفات حقيقة ، إمّا لأجل وضعها لإيقاعها فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة ، فلو لم تكن هناك قرينة كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها لأجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس وضعا أو إطلاقا (٢).

إشكال ودفع

أمّا الإشكال : فهو أنّه يلزم ـ بناء على اتّحاد الطلب والإرادة ـ في تكليف الكفّار بالإيمان ، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالأركان إمّا أن لا يكون هناك تكليف جدّيّ إن لم يكن هناك إرادة ، حيث إنّه لا يكون حينئذ طلب حقيقيّ ، واعتباره (٣) في الطلب الجدّيّ ربما يكون من البديهيّ ، وإن كان هناك إرادة فكيف تتخلّف عن المراد؟ ولا تكاد تتخلّف ، إذا أراد الله شيئا يقول له كن فيكون (٤).

وأمّا الدفع : فهو أنّ استحالة التخلّف إنّما تكون في الإرادة التكوينيّة ـ وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التامّ ـ دون الإرادة التشريعيّة ـ وهي العلم

__________________

(١) فوائد الاصول (للمصنّف) : ١٧.

(٢) وفي بعض النسخ : «لأجل قيام الطلب والاستفهام وغيرهما بالنفس وضعا أو إطلاقا».

(٣) أي : اعتبار الطلب الحقيقيّ.

(٤) مقتبس من قوله تعالى في الآية (٨٢) من السورة يس.

١٢٨

بالمصلحة في فعل المكلّف ـ ، وما لا محيص عنه في التكليف إنّما هو هذه الإرادة التشريعيّة ، لا التكوينيّة. فإذا توافقتا فلا بدّ من الإطاعة والإيمان ، وإذا تخالفتا فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان.

إن قلت : إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته تعالى الّتي لا تكاد تتخلّف عن المراد ، فلا يصحّ أن يتعلّق بها التكليف ، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا.

قلت : إنّما تخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلّق الإرادة بها مسبوقة بمقدّماتها الاختياريّة (١) ، وإلّا فلا بدّ من صدورها بالاختيار ، وإلّا لزم تخلّف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا (٢).

إن قلت : إنّ الكفر والعصيان ـ من الكافر والعاصي ـ ولو كانا مسبوقين بإرادتهما ، إلّا أنّهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار ، كيف وقد سبقهما (٣) الإرادة الأزليّة والمشيئة الإلهيّة ، ومعه كيف تصحّ المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار؟!

قلت : العقاب إنّما بتبعة (٤) الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتيّة اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإنّ السعيد سعيد

__________________

(١) هكذا في جميع النسخ. والأولى أن يقول : «لو لم يكن تعلّق الإرادة مسبوقا بمقدّماتها الاختياريّة».

(٢) وتوضيحه : أنّ الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان إنّما تخرج بتعلّق الإرادة التكوينيّة الإلهيّة عن الاختيار لو لم يكن تعلّق الإرادة التكوينيّة بها مسبوقا بمقدّماتها الاختياريّة الّتي تكون في اختيار العبد. وأمّا لو كان تعلّق الإرادة التكوينيّة بهذه الامور مسبوقا بمباديها الاختياريّة فلا بدّ من صدورها بالاختيار ، فإنّ إرادته تعالى تعلّقت بفعل العبد لا مطلقا ، بل بما هو مراد للعبد. وحينئذ فإن لم تصدر الامور المذكورة عن اختيار ـ مع تعلّق إرادته تعالى بصدورها من العبد عن اختيار ـ لزم تخلّف إرادته تعالى عن مراده ، وهو محال.

(٣) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «وقد سبقتهما».

(٤) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «إنّما يتبع».

١٢٩

في بطن أمّه والشقيّ شقيّ في بطن أمّه (١) ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضّة (٢) ـ كما في الخبر ـ ، والذاتيّ لا يعلّل ، فانقطع سؤال أنّه لم جعل السعيد سعيدا والشقيّ شقيّا؟ فإنّ السعيد سعيد بنفسه والشقيّ شقيّ كذلك ، وإنّما أوجدهما الله تعالى «قلم اينجا رسيد سر بشكست». قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام ، ومن الله الرشد والهداية ، وبه الاعتصام (٣).

وهم ودفع

لعلّك تقول : إذا كانت الإرادة التشريعيّة منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل لزم ـ بناء على أن تكون عين الطلب ـ كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهيّة هو العلم ، وهو بمكان من البطلان.

لكنّك غفلت عن أنّ اتّحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنّما يكون خارجا ، لا مفهوما ، وقد عرفت أنّ المنشأ ليس إلّا المفهوم (٤) ، لا الطلب الخارجيّ ، ولا غرو أصلا في اتّحاد الإرادة والعلم عينا وخارجا ، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى ، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدّسة. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» (٥).

__________________

(١) التوحيد (للصدوق) : ٣٥٦ ، الحديث ٣ (باب السعادة والشقاوة).

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ٦٥.

(٣) لا يخفى : أنّ مسألة اتّحاد الطلب والإرادة بما هي عليه من المباحث العميقة مسألة عويصة ، تحتاج إلى وضع رسالة خاصّة والبحث عنها في الجهات المختلفة. وإن شئت فراجع نهاية الدراية ١ : ١٨٠ ـ ٢١٤ ، نهاية الأفكار ١ : ١٦٣ ـ ١٧٦ ، فوائد الاصول ١ : ١٣٠ ـ ١٣٤ ، رسالة في الطلب والإرادة (للإمام الخمينيّ) وغيرها من المطوّلات.

(٤) أي : مفهوم الطلب.

(٥) نهج البلاغة ، الخطبة الاولى.

١٣٠

الفصل الثاني

فيما يتعلّق بصيغة الأمر

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل

[معنى صيغة الأمر]

أنّه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها ، وقد عدّ منها الترجّي والتمنّي والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير (١) ... إلى غير ذلك (٢).

وهذا كما ترى ، ضرورة أنّ الصيغة ما استعملت في واحد منها ، بل لم يستعمل إلّا

__________________

(١) الترجّي والتمنّي كقول امرئ القيس الشاعر : «ألا أيّها الليل الطويل انجل». ديوان امرئ القيس : ٤٩.

والتهديد كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.) فصّلت / ٤٠.

والإنذار كقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً.) الزمر / ٨.

والإهانة كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.) الدخان / ٤٩.

والاحتقار كقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ.) المؤمنون / ١٠٨.

والتعجيز كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.) البقرة / ٢٣.

والتسخير كقوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.) البقرة / ٦٥.

(٢) كالاستعانة والتكذيب والمشورة والتسوية وغيرها.

١٣١

في إنشاء الطلب (١) ، إلّا أنّ الداعي إلى ذلك (٢) كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعيّ يكون اخرى أحد هذه الامور ، كما لا يخفى.

قصارى ما يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب (٣) فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك ، لا بداع آخر منها (٤) ، فيكون إنشاء الطلب بها (٥) بعثا (٦) حقيقة ، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا. وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره ، فلا تغفل(٧).

__________________

(١) والأولى أن يقول : «بل لم تستعمل إلّا في الطلب». والوجه في الأولويّة أنّ الظاهر من قوله : «إلّا في إنشاء الطلب» أنّ الصيغة تستعمل في إنشاء الطلب ، فالإنشائيّة داخلة في المستعمل فيه. وهذا ينافي ما ذكره في الأمر الثاني من الأمور المذكورة في المقدّمة من أنّ الإنشائيّة والإخباريّة من مقوّمات الاستعمال ، لا المستعمل فيه.

(٢) أي : إنشاء الطلب.

(٣) والأولى أن يقول : «أن تكون الصيغة موضوعة للطلب في مقام الإنشاء ...». وذلك لأنّه قد تقدّم منه أنّ الصيغ الإنشائيّة موجدة لمعانيها في نفس الأمر ، فالصيغة تتكفّل ايجاد المعنى بوجود انشائيّ. وعليه يصحّ أن يقال : «إنّ صيغة الأمر موضوعة للطلب في مقام الإنشاء ...» ، لأنّ الطلب قابل للإنشاء والإيجاد بالصيغة ، ولا يصحّ أن يقال : «إنّ صيغة الأمر موضوعة لإنشاء الطلب» ، لأنّ الصيغ الإنشائيّة موجدة لمعانيها ، فلا يكون معناها إلّا ما يقبل الوجود بها ، ولا شكّ أنّ انشاء الطلب غير قابل للإنشاء والإيجاد بالصيغة ، ضرورة أنّ الإنشاء لا يقبل الإنشاء والإيجاد مرّة اخرى ، فإذن لا يكون إنشاء الطلب معنى صيغة الأمر كي يصحّ أن يقال : «صيغة الأمر موضوعة لإنشاء الطلب».

اللهم إلّا أن يقال : إنّ اللام في قوله : «لإنشاء الطلب» ليست لام الإضافة ، بل هي لام الغاية. ومراده أنّ الصيغة موضوعة للطلب لأجل إنشائه بالصيغة. لكنّه خلاف ظاهر عبارته.

(٤) أي : من الدواعي.

(٥) أي : بالصيغة. ومرّ ما فيه.

(٦) أي : بداعي البعث.

(٧) والظاهر من المحقّق الاصفهانيّ أنّ الموضوع له صيغة الأمر هو النسبة الطلبيّة ، حيث قال : «مفاد الهيئة ـ كما هو ـ بمعنى البعث والطلب الملحوظ نسبة بين المادّة والمتكلّم والمخاطب». نهاية الدراية ١ : ٢١٤.

وذهب المحقّق النائينيّ إلى أنّ هيئة الأمر انّما تدلّ على النسبة الإيقاعيّة ، فالصيغة موضوعة لإيقاع النسبة بين المبدأ والفاعل ، من دون أن تكون مستعملة في الطلب أو في التهديد أو غيرهما. فوائد الاصول ١ : ١٢٩ ـ ١٣٠. ـ

١٣٢

إيقاظ : [جريان الكلام في سائر الصيغ الإنشائيّة]

لا يخفى : أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ الإنشائيّة ، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمنّي أو الترجّي أو الاستفهام بصيغها تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة يكون الداعي غيرها اخرى (١). فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى ـ لاستحالة (٢) مثل هذه المعاني في حقّه تبارك وتعالى ممّا لازمه العجز أو الجهل ـ ، وأنّه لا وجه له (٣) ، فإنّ المستحيل إنّما هو الحقيقيّ منها ، لا الإنشائيّ الإيقاعيّ الّذي يكون بمجرّد قصد حصوله بالصيغة ـ كما عرفت ـ. ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الإيقاعيّة الإنشائيّة أيضا ، لا لإظهار ثبوتها حقيقة ، بل لأمر آخر ـ حسبما تقتضيه الحال ـ من إظهار المحبّة (٤) أو الإنكار (٥) أو التقرير (٦) ... إلى غير ذلك.

ومنه ظهر أنّ ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا.

__________________

ـ وذهب المحقّق العراقيّ إلى أنّها موضوعة للنسبة الإرساليّة والمحرّكيّة بين المبدأ والفاعل.

نهاية الأفكار ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

واختار السيّد الإمام الخمينيّ أنّ الصيغة موضوعة للبعث والإغراء. مناهج الوصول ١ : ٢٤٣ ـ ٢٤٥.

وذهب السيّد المحقّق الخوئيّ إلى أنّها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباريّ النفسانيّ في الخارج ـ أي اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف في الخارج ـ. محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١٢٢ ـ ١٢٣.

(١) هكذا في النسخ. والأولى تذكير الضمير ، كي يرجع إلى «ثبوت».

(٢) تعليل للالتزام بالانسلاخ.

(٣) تأكيد لقوله : «فلا وجه للالتزام ...».

(٤) كقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) المائدة / ١٠٠. فاستعمل «لعلّ» في معناه الإيقاعيّ لإظهار محبّة فلاح المؤمنين.

(٥) كقوله تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ.) النمل / ٦٠ ـ ٦٤.

(٦) كقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ.) الشرح / ١.

١٣٣

المبحث الثاني

[الصيغة حقيقة في الوجوب]

في أنّ الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما (١) أو في المشترك بينهما (٢) وجوه ، بل أقوال (٣).

__________________

(١) على نحو الاشتراك اللفظيّ.

(٢) على نحو الاشتراك المعنويّ.

(٣) لا يخفى : أنّ استفادة الوجوب من صيغة الأمر ممّا لا إشكال فيه ، وكأنّه من المتّفق عليه بين المصنّف وكثير ممّن تقدّم عليه أو تأخّر عنه. وإنّما الكلام في طريق استفادته من الصيغة.

وفيه وجوه :

الأوّل : ما ذهب إليه صاحبا القوانين والمعالم من أنّ الوجوب يستفاد من صيغة الأمر بالوضع ، لكونها موضوعة للطلب الوجوبيّ ، فتكون الصيغة حقيقة في الوجوب ومجازا في غيره. قوانين الاصول ١ : ٨٣ ، ومعالم الدين : ٤٦.

وهذا مختار المصنّف في المقام. واستدلّ عليه بأنّ المتبادر من الصيغة عند استعمالها بلا قرينة هو الوجوب ، والتبادر علامة الحقيقة. ثمّ أيّده بقيام السيرة العقلائيّة على ذمّ الموالى عبيدهم عند مخالفتهم لامتثال أوامرهم.

ولكن يرد عليه ما يأتي في التعليقات الآتية.

الثاني : ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ من أنّ الوجوب يستفاد من إطلاق الصيغة بمقدّمات الحكمة ، لا من نفس الصيغة بالوضع.

بيان ذلك : أنّ الإرادة المتعلّقة بفعل الغير تختلف شدّة وضعفا حسب اختلاف المصالح الداعية إلى ذلك ؛ فالإرادة قد تكون شديدة بحيث لم يرتض المولى إلّا بتحقّق المراد ، وقد تكون ضعيفة بحيث لا يمنع المولى عبده من التخلّف ، بل له أن يفعل وأن لا يفعل. والاولى تسمّى : «الإرادة الوجوبيّة» ، والثانية تسمّى : «الإرادة الاستحبابيّة».

ولا شكّ أنّ الإرادة الوجوبيّة هي الإرادة التامّة الّتي لا ضعف فيها ولا نقصان ، بخلاف الإرادة الاستحبابيّة ، فإنّها محدودة بحدّ النقص والضعف. ومعلوم أنّ صفة الشدّة في الإرادة ليست أمرا زائدا على الإرادة ، بل شدّة الإرادة إرادة بحيث كان ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز ؛ بخلاف صفة النقص فيها ، فإنّها حدّ عدميّ زائد على الإرادة ويحتاج بيانها إلى مئونة زائدة.

فإذا أمر المولى بشىء وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينة على الوجوب أو الندب أو الجامع فيحمل الأمر على الإرادة الشديدة الّتي لا يحتاج بيانها إلى مئونة زائدة ، وهي ـ

١٣٤

لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة (١).

ويؤيّده عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب مع الاعتراف بعدم دلالته (٢) عليه بحال أو مقال (٣).

وكثرة الاستعمال فيه (٤) في الكتاب والسنّة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه ، لكثرة استعماله في الوجوب أيضا ؛ مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه إلّا أنّه كان مع القرينة المصحوبة ، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازيّ لا يوجب صيرورته مشهورا فيه ليرجّح أو يتوقّف (٥) ـ على الخلاف في المجاز المشهور ـ. كيف! وقد كثر استعمال العامّ في الخاصّ حتّى قيل : «ما من عامّ إلّا

__________________

ـ الوجوب. بدائع الأفكار (المحقّق العراقيّ) ١ : ١٩٧.

ولكن أورد عليه المحقّق النائينيّ والسيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ـ من جهات. فراجع أجود التقريرات ١ : ٩٥ ، فوائد الاصول ١ : ١٣٥ ، مناهج الوصول ١ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ، المحاضرات ٢ : ١٢٧ ـ ١٣٠.

الثالث : ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ وتبعه السيّدان العلمان ـ الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ـ. وهو أنّ الوجوب لا يستفاد من صيغة الأمر ، لا بالوضع ولا بالإطلاق ، بل يستفاد من حكم العقل بالوجوب بمقتضى قانون العبوديّة والمولويّة ما لم يرخّص نفس المولى بالترك ، فالعقل يحكم بأنّ وظيفة العبوديّة والمولويّة تقتضي لزوم المبادرة على العبد نحو امتثال ما أمره به المولى. راجع أجود التقريرات ١ : ٩٥ ، مناهج الوصول ١ : ٢٥٦ ، المحاضرات ٢ : ١٣٠ ـ ١٣١.

(١) ويرد عليه : أنّ التبادر ليس علامة للحقيقة ، كما مرّ. ولو سلّم فهو يكون علامة للحقيقة إذا كان مستندا إلى حاقّ اللفظ ، وفيما نحن فيه لا نعلم استناده إلى حاقّ اللفظ ، بل يحتمل استناده إلى الإطلاق أو حكم العقل.

ولعلّه قال المصنّف : «لا يبعد تبادر الوجوب» ، ولم يقل : «لتبادر الوجوب».

(٢) هكذا في النسخ. ولكن الصحيح «بعدم دلالتها» ، فإنّ الضمير يرجع إلى الصيغة.

(٣) ويرد عليه : أنّه لا يدلّ على كون الوجوب مدلولا وضعيّا للصيغة ، بل لعلّه لحكم العقل بذلك أو للإطلاق. ولعلّه قال : «ويؤيّده» ، ولم يقل : «ويدلّ عليه».

(٤) أي : في الندب.

(٥) أي : ليرجّح المعنى المجازيّ أو يتوقّف حتّى ينهض دليل على المراد.

١٣٥

وقد خصّ» ، ولم ينثلم به ظهوره في العموم ، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص (١).

المبحث الثالث

[الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب]

هل الجمل الخبريّة الّتي تستعمل في مقام الطلب والبعث ـ مثل «يغتسل» و «يتوضّأ» و «يعيد» ـ ظاهرة في الوجوب ، أو لا ـ لتعدّد (٢) المجازات فيها ، وليس الوجوب بأقواها بعد تعذّر حملها على معناها من الإخبار بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها ـ؟

الظاهر الأوّل ، بل تكون أظهر من الصيغة ؛ ولكنّه لا يخفى أنّه ليست الجمل الخبريّة الواقعة في ذلك المقام ـ أي الطلب ـ مستعملة في غير معناها ، بل تكون مستعملة فيه (٣) ، إلّا أنّه ليس بداعي الإعلام ، بل بداعي البعث بنحو آكد ، حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهارا بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه ، فتكون آكد في البعث من الصيغة ، كما هو الحال في الصيغ الإنشائيّة ـ على ما عرفت من أنّها أبدا تستعمل في معانيها الإيقاعيّة لكن بدواع أخر ـ ، كما مرّ.

لا يقال : كيف ويلزم الكذب كثيرا ، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوّا كبيرا.

__________________

(١) والحاصل : أنّ العامّ ـ الّذي حقيقة في العموم ـ كثيرا ما يستعمل في الخاصّ مجازا ، ولكن كثرة استعماله في المجاز لا يوجب ظهور العامّ في الخاصّ.

ولا يخفى عليك : أنّ ذلك ينافي ما يأتي منه في مبحث العامّ والخاصّ من أنّ اشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز ، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازيّة ، لأنّه لا يلزم من التخصيص كون العامّ مجازا ، بل هو دائما استعمل في معناه العامّ ، سواء أورد عليه التخصيص أم لا.

(٢) تعليل لقوله : «أو لا».

(٣) أي : في معناه الموضوع له ، وهو ثبوت النسبة.

١٣٦

فإنّه يقال : إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام ، لا بداعي (١) البعث. كيف! وإلّا يلزم الكذب في غالب الكنايات ، فمثل «زيد كثير الرماد ، أو مهزول الفصيل» لا يكون كذبا إذا قيل كناية عن جوده ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا ، وإنّما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد ، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ ، فإنّه مقال بمقتضى الحال.

هذا مع أنّه إذا أتى بها في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب ، فإنّ تلك النكتة (٢) إن لم تكن موجبة لظهورها فيه (٣) فلا أقلّ من كونها موجبة لتعيّنه من بين محتملات ما هو بصدده ، فإنّ شدّة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب موجبة لتعيّن إرادته إذا كان بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصّة على غيره ، فافهم (٤).

المبحث الرابع

[ظهور صيغة الأمر في الوجوب]

إنّه إذا سلّم أنّ الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا ، أو تكون؟

قيل بظهورها فيه ، إمّا لغلبة الاستعمال فيه ، أو لغلبة وجوده ، أو أكمليّته (٥).

والكلّ كما ترى ، ضرورة أنّ الاستعمال في الندب وكذا وجوده ليس بأقلّ

__________________

(١) وفي بعض النسخ : «لداعي». ولكن الصحيح ما أثبتناه ، بل هو الظاهر من النسخة الأصليّة.

(٢) وهي دلالة الجملة الخبريّة على وقوع المطلوب في الخارج في مقام الطلب.

(٣) أي : في الوجوب.

(٤) لعلّه إشارة إلى أنّ ما ذكره مجرّد استحسان. وذلك لا يكفي في إثبات الوجوب ، بل يمكن أن يقال : أنّ النكتة المذكورة ـ أي الإخبار بالوقوع ـ انّما تكشف عن إرادة وقوع الفعل ، لا عن إرادته بنحو لا يرضى بتركه.

(٥) هذا ما ذهب إليه الشيخ محمّد تقيّ الاصفهانيّ في هداية المسترشدين : ١٣٩.

١٣٧

لو لم يكن بأكثر (١) ؛ وأمّا الأكمليّة فغير موجبة للظهور ، إذ الظهور لا يكاد يكون إلّا لشدّة انس اللفظ بالمعنى بحيث يصير وجها له ، ومجرّد الأكمليّة لا يوجبه ، كما لا يخفى.

نعم ، فيما كان الآمر بصدد البيان فقضيّة مقدّمات الحكمة هو الحمل على الوجوب ، فإنّ الندب كأنّه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب ، فإنّه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد ، فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان كاف في بيانه (٢) ، فافهم (٣).

المبحث الخامس

[ما تقتضيه الصيغة من التوصّليّة أو التعبّديّة]

إنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّليّا ـ فيجزئ إتيانه مطلقا ولو بدون قصد القربة ـ أو لا ـ فلا بدّ من الرجوع فيما شكّ في تعبّديّته وتوصّليّته إلى الأصل ـ؟ (٤)

__________________

(١) أي : ليس بأقلّ من استعمالها في الوجوب ، وليس بأقلّ من وجود الوجوب لو لم يكن بأكثر.

(٢) مرّ توضيحه في التعليقة (٣) من الصفحة : ١٣٤

(٣) لعلّه إشارة إلى ما أورد عليه المحقّق النائينيّ والسيّدان العلمان ـ الخوئيّ والخمينيّ ـ ، كما مرّت الإشارة إليه في التعليقة (٣) من الصفحة : ١٣٤.

وقال المحقّق الاصفهانيّ ـ بعد توضيح كلام المصنّف ـ : «هذا التقريب دقيق ، ومثله غير قابل للاتّكال عليه عند التحقيق ، فهو نظير إطلاق الوجود وإرادة الواجب نظرا إلى أنّه صرف الوجود الّذي لا يشوبه العدم ، فكما لا يمكن الاتّكال عليه في المحاورات العرفيّة فكذلك فيما نحن فيه ، ولعلّه قدس‌سره أشار عليه بقوله : (فافهم).». نهاية الدراية ١ : ٢٢٤.

(٤) وقع الكلام في أنّ التعبّديّة والتوصليّة هل هما من صفات الوجوب أو من صفات الواجب؟

وهل يكون مورد البحث إطلاق الصيغة أو إطلاق المادّة؟

ذهب المصنّف إلى الأوّل.

ولكن أورد عليه تلميذه المحقّق الاصفهانيّ بأنّ الفرق بين التعبّديّ والتوصّلي في الغرض من الواجب ، لا الغرض من الوجوب ، إذ الوجوب ـ ولو في التوصّلي ـ لا يكون إلّا لأن يكون داعيا للمكلّف إلى ما تعلّق به. فالوجوب التوصّلي لا يغاير الوجوب التعبّدي أصلا ، ـ

١٣٨

لا بدّ في تحقيق ذلك من تمهيد مقدّمات :

إحداها : [في بيان الوجوب التوصّليّ والتعبّديّ]

الوجوب التوصّليّ هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب ، ويسقط بمجرّد وجوده ؛ بخلاف التعبّديّ ، فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لا بدّ في سقوطه وحصول غرضه من الإتيان به متقرّبا به منه تعالى (١).

ثانيها (٢) : [في امتناع أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر]

إنّ التقرّب المعتبر في التعبّديّ إن كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره ، كان ممّا يعتبر في الطاعة عقلا ، لا ممّا اخذ في نفس العبادة شرعا. وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلّا من قبل الأمر بشيء في متعلّق

__________________

ـ حتّى بلحاظ الغرض الباعث للإيجاب. والإطلاق المدّعى في المقام هو إطلاق المادّة دون إطلاق الوجوب والصيغة. فلا وجه لجعل هذا البحث من مباحث الصيغة. نهاية الدراية ١ : ٢٢٤.

ويمكن أن يقال : أنّ الوجوب وإن كان داعيا للمكلّف إلى ما تعلّق به ، لكنّه ليس الغرض من الوجوب ، بل الغرض منه هو حصول المصلحة الموجودة في ما تعلّق به ، كما أنّ الغرض من التحريم هو عدم حصول المفسدة الموجودة في ما تعلّق به النهي ـ بناء على ما عليه مشهور العدليّة من قيام المصالح والمفاسد بمتعلّقات التكاليف ـ. فيبحث عن أنّ المصلحة هل تحصل بمجرّد وجود ما تعلّق به الوجوب أو لا يكاد يحصل إلّا بالإتيان به متقرّبا إلى الله؟ فيرجع البحث إلى أنّ الغرض من الوجوب هل يحصل بمجرّد فعل الواجب ولو بدون قصد القربة أو لا يحصل إلّا بإتيانه متقرّبا إلى الله؟ فالتعبّديّة والتوصليّة وإن كانتا وصفان للواجب حقيقة ـ لأنّ التوصّليّة عبارة عن كون ما تعلّق به الوجوب محصّلا للغرض من الوجوب بمجرّد وجوده ، والتعبّدية عبارة عن كون ما تعلّق به الوجوب محصّلا للغرض فيما إذا اتي به متقرّبا إلى الله ـ إلّا أنّه غير أجنبيّ عن الوجوب. ولعلّه ذكره المصنّف في المقام. وإن كان الأولى أن يقال : «إنّ إطلاق الواجب هل يقتضي كونه توصّليّا أو لا؟».

(١) ولا يخفى : أنّ لهم في تفسير التعبّديّ والتوصليّ عبارات مختلفة ، لا يهمّنا التعرّض لها في المقام. وإن شئت فراجع فوائد الاصول ١ : ١٣٧ ـ ١٣٨ ، نهاية الأفكار ١ : ١٣٨ ، المحاضرات ٢ : ١٣٩ ـ ١٤٠ ، مناهج الوصول ١ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٢) هكذا في النسخ. والصحيح أن يقول : «ثانيتها».

١٣٩

ذاك الأمر مطلقا ـ شرطا أو شطرا ـ (١). فما لم تكن نفس الصّلاة متعلّقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها (٢).

وتوهّم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر ، وإمكان الإتيان بها بهذا الداعي ـ ضرورة إمكان تصوّر الآمر لها (٣) مقيّدة (٤) ، والتمكّن من إتيانها كذلك بعد

__________________

(١) أوّل من قال باستحالة أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر هو الشيخ الأنصاريّ في مطارح الأنظار : ٦٠. وتبعه في ذلك أكثر من تأخّر عنه.

(٢) والحاصل : أنّ أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر مستلزم لمحذورين :

الأوّل : ما أشار إليه المصنّف بقوله : «لاستحالة أخذ ما ...». وحاصله : أنّ متعلّق الأمر سابق على نفس الأمر رتبة ، لأنّه معروض الأمر ، والمعروض مقدّم على عارضه رتبة. فالأمر متأخّر عن المتعلّق ، وقصد الأمر متأخّر عن نفس الأمر ـ ضرورة أنّه ما لم يتحقّق أمر لا يمكن قصد ذلك الأمر ـ ، فلا يمكن أن يكون قصد الأمر مأخوذا في المتعلّق الّذي هو متقدّم على الأمر ، والّا لزم الخلف أو الدور.

وببيان آخر : إنّ قصد الأمر متوقّف على الأمر قبله ، فلو كان الأمر متوقّفا على قصد الأمر ـ لكونه دخيلا في المتعلّق الّذي يتوقّف عليه الأمر ـ يلزم الدور ، وهو محال. فإذا قصد القربة محال في مقام التشريع.

الثاني : ما أشار اليه بقوله : «فما لم تكن نفس الصلاة ...». وحاصله : أنّ الأمر انّما يتعلّق بما كان مقدورا للمكلّف ، وليس المقدور له إلّا الإتيان بنفس متعلّق الأمر ـ أي الصلاة نفسها مثلا ـ. وأمّا الإتيان بمتعلّق الأمر بداعي أمره فلا يقدر عليه المكلّف إلّا إذا صدر أمرا آخر تعلّق بما تعلّق به الأمر الأوّل ، والمفروض فقدانه ، فالإتيان بمتعلّق الأمر بداعي أمره غير مقدور. فإذا أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر محال في مقام الامتثال ، كما كان محالا في مقام التشريع.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه كان الأولى أن يقول : «ولأنّه ما لم تكن ...».

(٣) أي : للصلاة. وفي بعض النسخ : «تصوّر الأمر بها». وهذا أيضا صحيح.

(٤) أي : مقيّدة بداعي طبيعة الأمر.

وهذا دليل لقول المتوهّم : «إمكان تعلّق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر» وجواب عن المحذور الأوّل. وحاصله : أنّ الأمر بالصلاة لا يتوقّف على وجود الصلاة في الخارج ، بل يكفي وجودها تصوّرا ، فيتعلّق الأمر بالصلاة المقيّدة بداعي طبيعة الأمر بعد تصوّرها. وأمّا داعي الأمر فهو متوقّف على الأمر بوجوده الخارجيّ ، لا التصوّري ، إذ يمكن تصوّر الداعي ولو لم يكن أمرا أصلا. فالموقوف عليه الأمر غير الموقوف على الأمر ، لأنّ الّذي يتوقّف عليه الأمر هو قصد الأمر بوجوده التصوّري والّذي يتوقّف على الأمر هو قصد الأمر بوجوده الخارجيّ ، فلا دور.

١٤٠