كفاية الأصول - ج ١

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]

كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد كاظم الخراساني [ الآخوند ]


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٦
ISBN: 978-964-470-184-9
الصفحات: ٢٩٦

لنفسه ضروريّ». (١) هذا ملخّص ما أفاده الشريف على ما لخّصه بعض الأعاظم (٢).

وقد أورد عليه في الفصول ب : «أنّه يمكن أن يختار الشقّ الأوّل (٣) ، ويدفع الإشكال بأنّ كون الناطق ـ مثلا ـ فصلا مبنيّ على عرف المنطقيّين حيث اعتبروه مجرّدا عن مفهوم الذات ، وذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك».

وفيه : أنّه من المقطوع أنّ مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرّف في معناه أصلا ، بل بما له من المعنى ، كما لا يخفى.

والتحقيق : أن يقال : إنّ مثل الناطق ليس بفصل حقيقيّ ، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصّه ، وإنّما يكون فصلا مشهوريّا منطقيّا يوضع مكانه (٤) إذا لم يعلم نفسه ، بل لا يكاد يعلم ، كما حقّق في محلّه (٥) ، ولذا ربما يجعل لا زمان مكانه إذا كانا متساوي النسبة إليه ، كالحسّاس والمتحرّك بالإرادة في الحيوان ؛ وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق ، فإنّه (٦) وإن كان عرضا عامّا ، لا فصلا مقوّما للإنسان ، إلّا أنّه بعد تقييده بالنطق واتّصافه به كان من أظهر خواصّه.

وبالجملة : لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتقّ إلّا دخول العرض

__________________

(١) هامش شرح المطالع : ١١.

(٢) مراده من بعض الأعاظم هو إمّا صاحب الفصول وإمّا صاحب البدائع أو كلاهما. فراجع الفصول الغرويّة : ٦١ ، وبدائع الأفكار (للمحقّق الرشتيّ) : ١٧٤.

وحاصل ما أفاده المحقّق الشريف : أنّه لا يصحّ القول بتركيب المشتقّ من الشيء والمبدأ ، لأنّه إن اخذ مفهوم «الشيء» في مفهوم المشتقّ يلزم دخول العرضيّ في الذاتيّ فيما إذا كان المشتقّ فصلا ، فالناطق ـ مثلا ـ لو كان معناه : «شيء ثبت له النطق» يلزم دخول العرض العامّ ـ أي شيء ـ في الفصل ، وهو محال. وإن اخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتقّ يلزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى القضيّة الضروريّة ، فإنّ المصداق الّذي يثبت له الضحك ـ مثلا ـ في قولنا : «الإنسان ضاحك» ليس إلّا الإنسان ، فيرجع الأمر في قضيّة «الإنسان ضاحك» إلى «الإنسان إنسان له الضحك» ، وثبوت الإنسان للإنسان من ثبوت الشيء لنفسه ، وهو ضروريّ ، فتنقلب القضيّة الممكنة إلى الضروريّة.

(٣) أي : أخذ مفهوم الشيء في المشتقّ.

(٤) أي : مكان الفصل الحقيقيّ.

(٥) راجع ما علّقنا على نهاية الحكمة ١ : ١٣٧.

(٦) أي : مفهوم الشيء.

١٠١

في الخاصّة الّتي هي من العرضيّ ، لا في الفصل الحقيقيّ الّذي هو من الذاتيّ ، فتدبّر جيّدا.

ثمّ قال (١) : «إنّه يمكن أن يختار الوجه الثاني (٢) أيضا ، ويجاب بأنّ المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا ، بل مقيّدا بالوصف ، وليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة ، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريّا» ، انتهى (٣).

ويمكن أن يقال : إنّ عدم كون ثبوت القيد ضروريّا لا يضرّ بدعوى الانقلاب ، فإنّ المحمول إن كان ذات المقيّد ، وكان القيد خارجا ـ وإن كان التقيّد داخلا بما هو معنى حرفيّ ـ فالقضيّة لا محالة تكون ضروريّة ، ضرورة ضروريّة ثبوت الإنسان الّذي يكون مقيّدا بالنطق للإنسان ، وإن كان [المحمول] (٤) المقيّد به بما هو مقيّد ـ على أن يكون القيد داخلا ـ فقضيّة «الإنسان ناطق» تنحلّ في الحقيقة إلى قضيّتين : إحداهما : قضيّة «الإنسان إنسان» ، وهي ضروريّة ، والاخرى : قضيّة «الإنسان له النطق» ، وهي ممكنة. وذلك لأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار ، كما أنّ الأخبار بعد العلم (٥) تكون أوصافا ، فعقد الحمل (٦) ينحلّ إلى القضيّة ، كما أنّ عقد الوضع (٧) ينحلّ إلى قضيّة مطلقة عامّة عند الشيخ وقضيّة ممكنة عامّة عند الفارابيّ (٨) ، فتأمّل (٩).

__________________

(١) أي : صاحب الفصول.

(٢) أي : أخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتقّ.

(٣) الفصول الغرويّة : ٦١.

(٤) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

(٥) هكذا في النسخ. والأولى أن يقول : «بعد العلم بها».

(٦) وهو اتّصاف ذات الموضوع بوصف المحمول.

(٧) وهو اتّصاف ذات الموضوع بوصفه الّذي هو عينه أو جزؤه أو خارجه.

(٨) راجع شرح المطالع : ١٢٨.

(٩) لعلّه إشارة إمّا إلى ما ذكره المحقّق الاصفهانيّ من أنّ عقد الحمل لم ينحل إلى قضيّة ضروريّة كي يكون نظيرا لعقد الوضع الّذي ينحلّ إلى قضيّة ممكنة أو فعليّة ، بل عقد الحمل منحلّ إلى خبرين : بأحدهما تكون القضيّة ضروريّة وبالآخر تكون ممكنة ، مع أنّ القضيّة بما له من المعنى ممكنة. وبالجملة : نتيجة ذلك انحلال القضيّة إلى قضيّتين كما هو لازم انحلال ـ

١٠٢

لكنّه قدس‌سره (١) تنظّر فيما أفاده (٢) بقوله : «وفيه نظر ، لأنّ الذات المأخوذة مقيّدة بالوصف ـ قوّة أو فعلا ـ إن كانت مقيّدة به واقعا صدق الإيجاب بالضرورة ، وإلّا صدق السلب بالضرورة ، مثلا لا يصدق : زيد كاتب بالضرورة ، لكن يصدق : زيد الكاتب بالفعل أو بالقوة بالضرورة» (٣) انتهى (٤).

ولا يذهب عليك أنّ صدق الإيجاب بالضرورة بشرط كونه مقيّدا به واقعا (٥) لا يصحّح دعوى الانقلاب إلى الضروريّة ، ضرورة صدق الإيجاب بالضرورة بشرط المحمول في كلّ قضيّة ولو كانت ممكنة ؛ كما لا يكاد يضرّ بها صدق السلب كذلك بشرط عدم كونه مقيّدا به واقعا ، لضرورة السلب بهذا الشرط. وذلك لوضوح أنّ المناط في الجهات وموادّ القضايا إنّما هو بملاحظة أنّ نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجّهة بأيّة جهة منها ، ومع أيّة منها في نفسها صادقة ؛ لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له كذلك (٦) ، وإلّا كانت الجهة منحصرة

__________________

ـ الخبر إلى الخبرين ، لا انحلال عقد الحمل إلى قضيّة.

ثمّ إنّه ذكر وجها آخر للانقلاب إلى الضروريّة. فراجع نهاية الدراية ١ : ١٤٥.

أو إشارة إلى ما ذكره المحقّق الخوئيّ في دفع دعوى الانحلال ، وحاصله : انّا لا نسلّم الانحلال ، لأنّه إن اريد بالانحلال انحلال عقد الوضع إلى قضيّة فعليّة أو ممكنة ، فهو جار في جميع القضايا ولا يختصّ ببعض دون بعض ، وإن اريد به أنّ عقد الوضع ينحلّ حقيقة إلى قضيّتين فلا نعقل له معنى محصّلا. المحاضرات ١ : ٢٧٤.

(١) أي : صاحب الفصول.

(٢) في اختيار الوجه الثاني.

(٣) وفي نسخ الكفاية : «لكن يصدق : زيد الكاتب بالقوّة أو بالفعل كاتب بالضرورة» ، وهو غلط ، لأنّ لازم تركّب المشتقّ هو تكرّر الموضوع ، لا تكرّر المحمول.

وقال المحقّق الاصفهانيّ : «النسخة المصحّحة بل المحكيّ عن النسخة الأصليّة هكذا : لكن يصدق زيد زيد الكاتب أو بالقوّة بالضرورة». نهاية الدراية ١ : ١٤٧.

وما أثبتناه موافق لما بأيدينا من مطبوع كتاب الفصول ، وهو صحيح. فلم يكرّر الموضوع ـ أي زيد ـ في المثال الثاني بلحاظ ذكره في المثال الأوّل. فمراده أنّه يصدق : «زيد زيد الكاتب بالفعل أو بالقوّة بالضرورة».

(٤) الفصول الغرويّة : ٦١.

(٥) أي : بشرط كون الموضوع مقيّدا بالمحمول واقعا.

(٦) هكذا في جميع النسخ. والأولى أن يقول : «لا بملاحظة ثبوته له واقعا أو عدم ثبوته له ـ

١٠٣

بالضرورة (١) ، ضرورة صيرورة الإيجاب أو السلب بلحاظ الثبوت وعدمه واقعا ضروريّا ، ويكون من باب الضرورة بشرط المحمول.

وبالجملة : الدعوى هي انقلاب مادّة الإمكان بالضرورة فيما ليست مادّته واقعا وفي نفسه (٢) وبلا شرط غير الإمكان.

وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده رحمه‌الله (٣) بإبطال الوجه الأوّل كما زعمه قدس‌سره ، فإنّ لحوق مفهوم الشيء والذات لمصاديقهما إنّما يكون ضروريّا مع إطلاقهما ، لا مطلقا ولو مع التقيّد (٤) ، إلّا بشرط تقيّد المصاديق به أيضا ، وقد عرفت حال الشرط ، فافهم.

ثمّ إنّه لو جعل التالي في الشرطيّة الثانية (٥) لزوم أخذ النوع في الفصل ـ ضرورة أنّ مصداق الشيء الّذي له النطق هو الإنسان ـ كان أليق بالشرطيّة الاولى (٦) ، بل كان أولى (٧) ، لفساده مطلقا ولو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقيّ ، ضرورة بطلان أخذ الشيء في لازمه وخاصّته ، فتأمّل جيّدا.

ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على البساطة بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل :

__________________

ـ كذلك» كي يرجع الضمير في قوله : «ثبوته» إلى المحمول. أو يقول : «لا بملاحظة ثبوتها بينهما واقعا أو عدم ثبوتها بينهما كذلك» حتّى يرجع الضمير في «ثبوتها» إلى النسبة ، ضرورة أنّ النسبة قائمة بالطرفين ، ولا معنى لثبوتها للموضوع فقط.

(١) كما ذهب إليه الشيخ الإشراقيّ. قال الحكيم السبزواريّ : «الشيخ الإشراقيّ ذو الفطانة قضيّة قصّر في البتّانة» ، شرح المنظومة (قسم المنطق) : ٥٨.

(٢) وفي بعض النسخ : «واقعا في نفسه». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) أي : صاحب الفصول.

(٤) أي : التقيّد بالضحك أو الكتابة أو غيرهما.

(٥) وهي قول السيّد الشريف : «ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشيء انقلبت مادّة الإمكان الخاصّ ضرورة».

(٦) وهي قوله : «لو اعتبر في المشتقّ مفهوم الشيء لكان العرض العامّ داخلا في الفصل».

(٧) أي : بل كان أولى من الشرطيّة الاولى. وهذا ما أفاده الحكيم السبزواريّ ، حيث قال في تعليقته على الأسفار ١ : ٤٢ : «وأيضا لزم دخول النوع في الفصل. وهذا أسدّ وأحكم ممّا جعله السيّد تاليا».

١٠٤

«زيد الكاتب» ، ولزومه من التركّب وأخذ الشيء مصداقا أو مفهوما في مفهومه (١).

إرشاد : [في معنى البساطة]

لا يخفى : أنّ معنى البساطة ـ بحسب المفهوم ـ وحدته إدراكا وتصوّرا ، بحيث لا يتصوّر عند تصوّره إلّا شيء واحد ، لا شيئان ، وإن انحلّ بتعمّل من العقل إلى شيئين ، كانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شيء له الحجريّة أو الشجريّة مع وضوح بساطة مفهومهما (٢).

__________________

(١) هذا ما استدلّ به الحكيم السبزواريّ على إثبات البساطة في تعليقته على الأسفار ١ : ٤٢.

واستدلّ المحقّق النائينيّ على إثبات البساطة بجهات أخر ، ذكرها السيّد المحقّق الخوئيّ وناقش فيها وذهب إلى القول بتركيب المشتقّ ـ زعما أنّ مراد المحقّق الاصفهانيّ من الأمر المبهم في قوله : «تحقيق الحقّ يقضي باعتبار أمر مبهم مقوّم لعنوانيّة العنوان ، واعتبار هذا الأمر المبهم لا ينافي البساطة العنوانيّة» هو مفهوم الذات والشيء ـ فراجع أجود التقريرات ١ : ٦٥ ـ ٦٦ ، والمحاضرات ١ : ٢٧٥ ـ ٢٨٢ ، ونهاية الدراية ١ : ١٥٢ ـ ١٥٣.

وذهب السيّد الإمام الخمينيّ إلى القول بالتركيب الانحلاليّ ، بمعنى أنّ المشتقّ موضوع لأمر وحدانيّ قابل للانحلال إلى معنون مبهم وعنوان دون النسبة. مناهج الوصول ١ : ٢٢١.

ثمرة البحث :

تظهر الثمرة في مفهوم الوصف إذا قلنا أنّ مورد النزاع في مفهوم الوصف هو الوصف المعتمد على الموصوف ـ كما في فوائد الاصول ٢ : ٥٠١ ـ ، فعلى القول بتركيب المشتقّ يكون الوصف معتمدا ويثبت له المفهوم ، وعلى القول ببساطته لا يكون الوصف معتمدا ولا يثبت له المفهوم.

(٢) حاصل ما رامه في معنى بساطة المشتقّ أنّ معناها البساطة في عالم التصوّر واللحاظ ، يعنى : لا يتحقّق في الذهن عند التعبير عن المشتقّ إلّا صورة واحدة ، لا أكثر ، سواء كان في الواقع والحقيقة بسيطا ـ كالبياض ـ أو كان مركّبا بالتركيب الحقيقيّ ـ كالإنسان ، فإنّه حقيقة ذو جزءين : الحيوان والناطق ، ولكنّه واحد صورة ولحاظا ـ أو كان مركّبا بالتركيب الاعتباريّ ـ كالدار ، فإنّه بحسب الاعتبار ذو أجزاء ، ولكن صورته الذهنيّة واحدة ـ. ويعبّر عن البساطة بهذا المعنى بالبساطة اللحاظيّة قبال البساطة الحقيقيّة.

وقد خالفه المحقّق الاصفهانيّ فذهب إلى أنّ ما يصلح لأن يكون مورد البحث والنزاع هو البساطة الحقيقيّة ـ أي البساطة بحسب الواقع والتحليل العقليّ ـ ، وأمّا البساطة بحسب ـ

١٠٥

وبالجملة : لا تنثلم بالانحلال إلى الاثنينيّة بالتعمّل العقليّ وحدة المعنى وبساطة المفهوم ، كما لا يخفى.

وإلى ذلك يرجع الإجمال والتفصيل الفارقان (١) بين المحدود والحدّ مع ما هما عليه من الاتّحاد ذاتا ، فالعقل بالتعمّل يحلّل النوع ويفصّله إلى جنس وفصل بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا ، وشيئا فاردا تصوّرا ، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق.

الثاني : [الفرق بين المشتقّ ومبدئه]

الفرق بين المشتقّ ومبدئه مفهوما أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبّس بالمبدإ ولا يعصي عن الجري عليه ، لما هما (٢) عليه ، من نحو من الاتّحاد. بخلاف المبدأ ، فإنّه بمعناه يأبى عن ذلك ، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره (٣) ، لا هو هو ، وملاك الحمل والجري إنّما هو نحو من الاتّحاد والهوهويّة.

وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من أنّ المشتقّ يكون لا بشرط ، والمبدأ يكون بشرط لا (٤) ، أي يكون مفهوم المشتقّ غير آب عن الحمل ، ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه (٥).

__________________

ـ التصوّر واللحاظ فهو ممّا لا اشكال فيه ولا يحتاج إثباتها إلى مئونة استدلال ، ضرورة أنّه إذا كان الموضوع له المشتقّ معنى واحدا لحاظا كان المتصوّر عند إطلاقه ذلك المعنى الواحد. نهاية الدراية ١ : ١٥٠ ـ ١٥١.

وعليه فلا يبعد القول بأنّ المصنّف من القائلين بنفي بساطة المشتقّ بمعنى البساطة الحقيقيّة لا البساطة اللحاظيّة.

(١) وفي بعض النسخ : «الفارقين». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) أي : المبدأ وما تلبّس به.

(٣) أي : إذا قيس المبدأ ونسب إلى ما تلبّس به كان غيره.

(٤) كما قال الحكيم السبزواريّ : «وعرضيّ الشيء غير العرض ، ذا كالبياض ـ إذ العرض مأخوذ بشرط لا ولا يحمل على موضوعه ـ ذاك مثل الأبيض ـ إذ العرضيّ يحمل على معروضه ، مأخوذ لا بشرط ـ». شرح المنظومة (قسم المنطق) : ٢٩ ـ ٣٠.

(٥) ظاهر عبارة المصنّف أنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه ذاتيّ ، لا اعتباريّ. فمفهوم المشتقّ ـ

١٠٦

وصاحب الفصول (١) ـ حيث توهّم أنّ مرادهم إنّما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجيّة مع حفظ مفهوم واحد (٢) ـ أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك ، لأجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات وإن اعتبرا لا بشرط. وغفل عن أنّ المراد ما ذكرنا ، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس والفصل وبين المادّة والصورة ، فراجع (٣).

الثالث : [ملاك الحمل]

ملاك الحمل ـ كما أشرنا إليه (٤) ـ هو الهوهويّة والاتّحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر ، كما يكون بين المشتقّات والذوات. ولا يعتبر معه (٥) ملاحظة

__________________

ـ سنخ مفهوم لا يأبى الحمل على الذات ولا بشرط في حدّ ذاته ؛ لا أنّ هنا مفهوما واحدا يلحظ تارة لا بشرط واخرى بشرط لا ، كي يكون تغايرهما تغايرا اعتباريّا.

ولكن أورد عليه المحقّق الاصفهانيّ بأنّ من يلاحظ كلام أهل المعقول يجده صريحا في دعوى وحدة مفهوم المشتقّ ومبدئه ، وأنّ الاختلاف بينهما باللابشرطيّة وبشرط لائيّة اعتباريّ.

نهاية الدراية ١ : ١٥٣ ـ ١٥٧.

وأورد عليه أيضا السيّد المحقّق الخوئيّ بأنّ هذا الفرق لا يختصّ بالمشتقّ ومبدئه ، بل هو فارق بين كلّ مفهوم آب عن الحمل وما لم يأب عن ذلك ، بل هذا من الضروريّات الأوليّة ، ومن الواضح أنّ الفلاسفة لم يريدوا بهاتين الكلمتين هذا المعنى الواضح الظاهر. فالصحيح أن يقال : إنّ مرادهم ـ كما هو صريح كلماتهم ـ أنّ ماهيّة العرض والعرضيّ واحدة بالذات ، والفرق بينهما بالاعتبار. المحاضرات ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

(٢) والحاصل : أنّ صاحب الفصول توهّم أنّ المراد من بشرط لا ولا بشرط في المقام هو بشرط لا ولا بشرط في باب المطلق والمقيّد.

(٣) راجع الأسفار ٢ : ١٦.

(٤) قبل أسطر.

(٥) أي : مع ما ذكر من ملاك الحمل. وهذا إشارة إلى دفع ما أفاده صاحب الفصول في المقام.

وحاصل ما أفاده : أنّ المتغايرين ـ حقيقة ـ المتّحدين ـ اعتبارا ـ لا يصحّ حمل أحدهما على الآخر إلّا بشروط ثلاثة : ١ ـ أخذ المجموع من حيث المجموع. ٢ ـ أخذ الأجزاء لا بشرط. ٣ ـ اعتبار الحمل بالنسبة إلى المجموع من حيث المجموع. الفصول الغرويّة : ٦٢. ـ

١٠٧

التركيب بين المتغايرين واعتبار كون مجموعهما بما هو واحدا ، بل يكون لحاظ ذلك مخلّا ، لاستلزامه المغايرة بالجزئيّة والكلّيّة ، ومن الواضح أنّ ملاك الحمل لحاظ نحو اتّحاد (١) بين الموضوع والمحمول ؛ مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات (٢) وسائر القضايا في طرف الموضوعات ، بل لا يلاحظ في طرفها إلّا نفس معانيها ، كما هو الحال في طرف المحمولات ، ولا يكون حملها عليها (٣) إلّا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتّحاد مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار.

فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول (٤) تحقيقا للمقام. وفي كلامه موارد للنظر تظهر بالتأمّل وإمعان النظر.

الرابع : [كيفيّة حمل صفات البارئ على ذاته المقدّسة]

لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتقّ عليه مفهوما (٥) ، وإن اتّحدا عينا وخارجا ، فصدق الصفات ـ مثل العالم والقادر والرحيم والكريم إلى

__________________

ـ وحاصل الدفع : أنّه لا يعتبر في صحّة الحمل إلّا الاتّحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر. وأمّا لحاظ المجموع أمرا واحدا فهو غير معتبر ، بل مخلّ بالحمل ، لاستلزامه مغايرة المحمول والموضوع في الكلّيّة والجزئيّة ، إذ الكلّ والجزء متغايران ، فإذا لوحظ المجموع أمرا واحدا كان كلّا ، فحمل أحدهما على المجموع من حمل الجزء على الكلّ ، وهو ممتنع. مضافا إلى أنّ ملاحظة المجموع من حيث المجموع لا يلاحظ في القضايا الحمليّة ، لا في طرف الموضوعات ولا في طرف المحمولات.

(١) وفي بعض النسخ : «لحاظ نحو الاتّحاد» ، وفي المطبوع المحشّى بحاشية المشكينيّ : «لحاظ بنحو الاتّحاد». والصحيح أن يقول : «أنّ ملاك الحمل نحو اتّحاد» ، إذ المناط في صحّة الحمل هو نفس الاتّحاد بينهما ، لا لحاظه.

(٢) أي : التعريفات.

(٣) أي : حمل المحمولات على الموضوعات.

(٤) الفصول الغرويّة : ٦٢.

(٥) بل يكفي مغايرة المشتقّ ـ أي المحمول ـ وما يجري عليه المشتقّ ـ أي الموضوع ـ ، وإن كان مبدأ المشتقّ متّحدا مع ما يجري عليه المشتقّ مفهوما. كذا أفاده المحقّق الاصفهانيّ في نهاية الدراية ١ : ١٦٦.

١٠٨

غير ذلك من صفات الكمال والجلال (١) ـ عليه تعالى ـ على ما ذهب إليه أهل الحقّ من عينيّة صفاته (٢) ـ يكون على الحقيقة ، فإنّ المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجا إلّا أنّه غير ذاته تعالى مفهوما.

ومنه قد انقدح [فساد] ما في الفصول (٣) من الالتزام بالنقل أو التجوّز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى ـ بناء على الحقّ من العينيّة ـ ، لعدم المغايرة المعتبرة بالاتّفاق(٤).

وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما ، ولا اتّفاق على اعتبار غيرها إن لم نقل بحصول الاتّفاق على عدم اعتباره ، كما لا يخفى ؛ وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلك (٥) بين الذات ومبادئ الصفات.

الخامس : [كيفيّة قيام المبادئ بالذات]

انّه وقع الخلاف ـ بعد الاتّفاق على اعتبار المغايرة كما عرفت بين المبدأ وما يجري عليه المشتقّ ـ في اعتبار قيام المبدأ به (٦) في صدقه على نحو الحقيقة.

وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار (٧) بصدق الضارب والمؤلم [على الفاعل] مع قيام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم ـ بالفتح ـ.

__________________

(١) قال العلّامة المحشّي المشكينيّ : «لا يخفى أنّ صفات الجلال هي الصفات السلبيّة ، وهي ليست عين الذات ، فالظاهر أنّه تفسير للكمال ، وليس المراد منه ما هو المصطلح». كفاية الاصول ـ الطبع الحجريّ ـ المحشّاة بحاشية المشكينيّ ١ : ٨٥.

ولكن يرد عليه : أنّ الصفات السلبيّة ترجع بالحقيقة إلى الصفات الثبوتيّة ، لأنّها ليست إلّا سلب سلب الكمال ، وهو يرجع إلى إيجاب الكمال ، لأنّ نفي النفي إثبات. فقولنا : «الله تعالى ليس بجاهل» يرجع إلى «الله تعالى عالم». وعليه فالصفات السلبيّة أيضا عين الذات.

(٢) والأولى أن يقول : «عينيّة ذاته وصفاته».

(٣) وما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

(٤) الفصول الغرويّة : ٦٢.

(٥) أي : مفهوما.

(٦) أي : بما يجري عليه المشتقّ.

(٧) ولعلّ القائل به هو المعتزلة ، فإنّهم ذهبوا إلى عدم اعتبار القيام الحلوليّ.

١٠٩

والتحقيق : أنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان من اولي الألباب في أنّه يعتبر في صدق المشتقّ على الذات وجريه عليها من التلبّس (١) بالمبدإ بنحو خاصّ ، على اختلاف أنحائه ـ الناشئة من اختلاف الموادّ تارة (٢) ، واختلاف الهيئات اخرى (٣) ـ من القيام صدورا ، أو حلولا ، أو وقوعا عليه أو فيه (٤) ، أو انتزاعه عنه مفهوما مع اتّحاده معه خارجا ، كما في صفاته تعالى ـ على ما أشرنا إليه آنفا ـ ، أو مع (٥) عدم تحقّق إلّا للمنتزع عنه ، كما في الإضافات والاعتبارات الّتي لا تحقّق لها ، ولا يكون بحذائها (٦) في الخارج شيء ، وتكون من الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة (٧).

__________________

(١) هكذا في النسخ. والصحيح أن يحذف «من» ، فإنّ قوله : «التلبّس» فاعل «يعتبر».

(٢) بأنّ المبدأ قد يكون بمعنى القوّة ، وقد يكون بمعنى الملكة ، وقد يكون بمعنى الفعليّة ، وهكذا.

(٣) فالهيئة قد تكون اسم فاعل ، وقد تكون اسم مفعول ، وقد تكون صفة مشبّهة ، وهكذا.

(٤) القيام الصدوريّ كالضرب بالنسبة إلى الفاعل ، والقيام الحلوليّ كالمرض القائم بالمريض ، والقيام وقوعا عليه كالضرب بالنسبة إلى المفعول ، والقيام وقوعا فيه كالجلوس القائم بالمجلس.

(٥) معطوف على قوله : «مع اتّحاده».

(٦) الضمير يرجع إلى صفات الواجب والاضافات والاعتبارات. والمراد أنّ صفات الواجب والاضافات والاعتبارات غير موجودة بالوجود في نفسه لنفسه ، بل الصفات موجودة بالوجود في نفسه لغيره ، والاضافات والاعتبارات موجودة بالوجود في غيره ـ أي بالوجود الرابط الّذي لا تحقّق له خارجا من وجود طرفيه ، بل ليس ما بإزائه في الخارج شيء ، وانّما يوجب نحوا من الاتّحاد الوجوديّ بين طرفيه ـ.

(٧) لا يخفى : أنّ «الخارج المحمول» و «المحمول بالضميمة» اصطلاحان معروفان. ولكن اختلفوا في المراد منها على أقوال :

الأوّل : أنّ المحمول بالضميمة ما يكون محتاجا في حمله على الشيء إلى الضميمة ، والخارج المحمول ما يكون خارجا عن ذات الشيء ومحمولا عليه ، أعمّ من أن يكون محتاجا فيه إليها أو غير محتاج إليها. وهذا هو المشهور بين أهل المعقول.

الثاني : أنّ المحمول بالضميمة ما يكون محتاجا في حمله على الشيء إلى الضميمة ، والخارج المحمول ما لا يحتاج في حمله إلى الضميمة.

الثالث : أنّ المحمول بالضميمة ما يكون له ما بإزاء في الخارج كالمقولات العرضيّة. ـ

١١٠

ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما (١) ، وقائما به عينا ، لكنّه بنحو من القيام ، لا بأنّ يكون هناك اثنينيّة ، وكان ما بحذائه غير الذات ، بل بنحو الاتّحاد والعينيّة ، وكان ما بحذائه عين الذات. وعدم اطّلاع العرف على مثل هذا التلبّس من الامور الخفيّة لا يضرّ بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه «تعالى» حقيقة ولو بتأمّل وتعمّل من العقل ، والعرف إنّما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم ، لا في تطبيقها على مصاديقها (٢).

وبالجملة : يكون مثل العالم والعادل وغيرهما من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد ، وإن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتّحاد وكيفية التلبّس بالمبدإ ، حيث إنّه بنحو العينيّة فيه تعالى وبنحو الحلول أو الصدور في غيره.

فلا وجه لما التزم به في الفصول (٣) من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عمّا هي عليها من المعنى ، كما لا يخفى. كيف! ولو كانت بغير معانيها العامّة جارية عليه

__________________

ـ والخارج المحمول ما لا يكون له ما بإزاء في الخارج كالاعتباريّات.

والظاهر من كلمات المصنّف في المقام ـ بل المنقول عنه في مجلس درسه* ـ أنّ مراده منهما هو المعنى الثالث ، فالمراد من الخارج المحمول هو العارض الاعتباريّ كالزوجيّة ، وبالمحمول بالضميمة هو العارض المتأصّل كالسواد والعلم والبياض.

* نقل عنه العلّامة المشكينيّ في حواشيه على كفاية الاصول ـ الطبع الحجريّ ـ ١ : ٨٦.

(١) أورد عليه السيّد الإمام الخمينيّ بقوله : «اختلاف المبادئ مع ذاته (تعالى) ليس في المفهوم ـ بناء على أنّه (تعالى) نفس العلم والقدرة ـ ، بل الاختلاف بينهما هو الاختلاف بين المفهوم ومصداقه الذاتيّ» ، مناهج الوصول ١ : ٢٣١.

(٢) أورد عليه السيّد الإمام الخمينيّ : أوّلا : بأنّ المدّعى أنّ العرف يحمل هذه الصفات عليه (تعالى) كما يحملها على غيره ، فكون المرجع هو العرف في المفاهيم لا في التطبيق أجنبيّ عن هذا. وثانيا : أنّ عدم مرجعيّة العرف في التطبيق محلّ منع. وثالثا : أنّ العقل يرى عينيّة الصفات مع الذات غير قيامها بها. مناهج الوصول ١ : ٢٣١.

(٣) الفصول الغرويّة : ٦٢.

١١١

تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى ، فإنّ غير تلك المفاهيم العامّة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلّا بما يقابلها ؛ ففي مثل ما إذا قلنا : «إنّه تعالى عالم» إمّا أن نعني أنّه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العامّ ، أو أنّه مصداق لما يقابل ذاك المعنى ، فتعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وإمّا أن لا نعني شيئا فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة وكونها بلا معنى ، كما لا يخفى.

والعجب أنّه (١) جعل ذلك علّة لعدم صدقها في حقّ غيره ، وهو كما ترى.

وبالتأمّل فيما ذكرنا ظهر الخلل فيما استدلّ من الجانبين والمحاكمة بين الطرفين ، فتأمّل.

السادس : [لا يعتبر في صدق المشتقّ التلبّس الحقيقيّ]

الظاهر أنّه لا يعتبر في صدق المشتقّ وجريه على الذات حقيقة التلبّس بالمبدإ حقيقة وبلا واسطة في العروض (٢) ، كما في الماء الجاري ، بل يكفي التلبّس به ولو مجازا ومع هذه الواسطة ، كما في الميزاب الجاري ، فإسناد الجريان إلى الميزاب وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز إلّا أنّه في الإسناد ، لا في الكلمة. فالمشتقّ في مثل المثال بما هو مشتقّ قد استعمل في معناه الحقيقيّ (٣) ، وإن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالإسناد المجازيّ ، ولا منافاة بينهما أصلا ، كما لا يخفى.

__________________

(١) أي : صاحب الفصول.

(٢) هكذا في جميع النسخ. ولكن كلمة «العروض» لا يساعد عليها اللغة ، بل الصحيح «العرض».

والمراد من الواسطة في العرض هو الواسطة في الحمل ، لا ما هو المصطلح عليه حتّى يقال بأنّ الجري لا يعرض الميزاب ولو بواسطة.

(٣) وهو السيلان.

١١٢

ولكن ظاهر الفصول (١) بل صريحه اعتبار الإسناد الحقيقيّ في صدق المشتقّ حقيقة ، وكأنّه من باب الخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة ؛ وهذا ـ هاهنا ـ محلّ الكلام بين الأعلام. والحمد لله ، وهو خير ختام (٢).

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

(٢) وما يهمّ التعرّض له في المقام قبل الختام ـ وقد غفل عنه المصنّف هاهنا ، بل في كثير من المباحث كما يأتي ـ هو ذكر ثمرة البحث. فنقول : إنّ البحث عن المشتقّ ذو آثار عمليّة في الفقه ومقام الفتوى.

منها : أنّه ورد النهي عن البول تحت الشجرة المثمرة. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث المناهي : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبول تحت شجرة مثمرة».

أمّا الشجرة المثمرة بالفعل فلا شكّ أنّه يدلّ على كراهة البول تحتها. وأمّا الشجرة الّتي لا ثمرة لها فعلا مع كونها ذات ثمرة قبل ذلك ، فإنّه بناء على وضع المشتقّ للأعمّ يصدق عليه المثمرة حقيقة ويحكم بكراهة البول تحتها ؛ وعلى القول بوضعه للأخصّ لا يصدق عليه المثمرة حقيقة ، فلا يشمله الحديث ، ويحكم بعدم كراهة البول تحتها. هذا بناء على عدم ظهور الروايات في الشجرة المثمرة فعلا.

ومنها : أنّه ورد كراهة غسل الميّت بالماء المسخن. أمّا الماء المسخن فعلا فلا شكّ في كراهة غسل الميّت به. وأمّا الماء بعد ارتفاع السخونة فهو أيضا محكوم بالكراهة على القول بوضع المشتقّ للأعمّ ، ومحكوم بعدم الكراهة على القول بوضعه للأخصّ.

١١٣
١١٤

المقصد الأوّل

في الأوامر

وفيه فصول :

١١٥
١١٦

[الفصل] الأوّل

فيما يتعلّق بمادّة الأمر من الجهات

وهي عديدة :

الجهة الاولى : [في معنى لفظ الأمر]

انّه قد ذكر للفظ «الأمر» معان متعدّدة :

منها : الطلب ، كما يقال : «أمره بكذا».

ومنها : الشأن ، كما يقال : «شغله أمر كذا».

ومنها : الفعل ، كما في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (١).

ومنها : الفعل العجيب ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) (٢).

ومنها : الشيء ، كما تقول : «رأيت اليوم أمرا عجيبا».

ومنها : الحادثة (٣).

ومنها : الغرض ، كما تقول : «جاء زيد لأمر كذا».

ولا يخفى : أنّ عدّ بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم (٤) ، ضرورة

__________________

(١) هود / ٩٧.

(٢) هود / ٦٦ و ٨٢.

(٣) كما تقول : «وقع في البلد أمر» أي : حادثة.

(٤) بيان ذلك : أنّ لفظ «الأمر» في هذه الموارد لم يستعمل في المفهوم ، بل استعمل في مصداق المفهوم ، مثلا في قوله : «جاء زيد لأمر» لم يستعمل لفظ «الأمر» في مفهوم الغرض ، بل انّما استعمل في مفهوم آخر كان هذا المفهوم بدلالة اللام ـ الدالّة على الغرض ـ مصداقا للغرض.

١١٧

أنّ الأمر في «جاء زيد لأمر» ما استعمل في معنى الغرض ، بل اللام قد دلّ على الغرض ؛ نعم يكون مدخوله مصداقه (١) ، فافهم (٢). وهكذا الحال في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) ، [فإنّ الأمر] (٣) يكون مصداقا للتعجّب ، لا مستعملا في مفهومه. وكذا في الحادثة والشأن.

وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول (٤) من كون لفظ «الأمر» حقيقة في المعنيين الأوّلين (٥).

ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب ـ في الجملة (٦) ـ والشيء (٧).

__________________

(١) أي : يكون مدخول اللام ـ وهو الأمر الّذي استعمل في مفهوم غير مفهوم الغرض ـ مصداق الغرض بدلالة اللام.

(٢) لعلّه إشارة إلى ما ذكره المحقّق الاصفهانيّ من أنّ اشتباه المفهوم بالمصداق انّما يكون فيما إذا كان اللفظ موضوعا للمصداق من حيث أنّه مصداق ويدّعى وضعه للمفهوم ، كما لو وضع اللفظ للغرض ـ مثلا ـ بالحمل الشائع فيدّعى وضعه للغرض بالحمل الأوّلى. وأمّا إذا لم يوضع اللفظ للمصداق وكان معنى من المعانى مصداقا لمعنى آخر ـ كما هو كذلك في هذه المعاني المنقولة في المتن ـ فلا يكون ادّعاء وضعه لذلك المعنى من الاشتباه بين المفهوم والمصداق. نهاية الدراية ١ : ١٧٣.

(٣) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

(٤) الفصول الغرويّة : ٦٢.

(٥) أي : الطلب والشأن.

(٦) أي : بلا تعيين الخصوصيّات الّتي يبحث عن أخذها فيه من كونه بالصيغة وكونه صادرا من العالي وكونه وجوبيّا أو الأعمّ وغيرها.

(٧) فالأمر عند المصنّف رحمه‌الله مشترك لفظيّ بين الطلب والشيء.

وقد خالفه الأعلام الثلاثة :

أمّا المحقّق الاصفهانيّ : فأورد على المصنّف بأنّ وضع لفظ «الأمر» للشيء يقتضي ترادفهما الموجب لصحّة استعمال كلّ منهما مكان الآخر ، والأمر ليس كذلك ، فإنّه لا يقال : «رأيت أمرا» إذا رأينا فرسا ـ مثلا ـ ، ولكن يصحّ أن يقال : «رأيت شيئا».

ثمّ ذهب إلى أنّ لفظ «الأمر» في جميع استعمالاته بمعنى واحد ، وهو الإرادة والطلب ، لكنّه يستعمل في متعلّق الإرادة بمعنى المفعول. نهاية الدراية ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥.

وأمّا المحقّق النائينيّ : فذهب إلى أنّ للأمر معنى واحد يندرج في كلّ المعاني ، وهو «الواقعة ذات الأهميّة» ، فإنّه ينطبق تارة على الطلب ، واخرى على الغرض ، وثالثة على الحادثة ، وهكذا. فلفظ الأمر مشترك معنويّ. أجود التقريرات ١ : ٨٦ ، فوائد الاصول ١ : ١٢٨. ـ

١١٨

هذا بحسب العرف واللغة.

وأمّا بحسب الاصطلاح فقد نقل الاتّفاق على أنّه حقيقة في القول المخصوص (١) ، ومجاز في غيره (٢).

ولا يخفى : أنّه عليه لا يمكن منه الاشتقاق ، فإنّ معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيّا ، مع أنّ الاشتقاقات منه ظاهرا تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم ، لا بالمعنى الآخر ، فتدبّر.

ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول ، لا نفسه ـ تعبيرا عنه بما يدلّ عليه ـ. نعم ، القول المخصوص ـ أي صيغة الأمر ـ إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الأمر ، لكنّه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

وكيف كان فالأمر سهل لو ثبت النقل (٣) ، ولا مشاحّة في الاصطلاح ، وإنّما المهمّ بيان ما هو معناه عرفا ولغة ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة.

وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنّة ، ولا حجّة على أنّه

__________________

ـ وأمّا المحقّق العراقيّ : فذهب إلى أنّ لفظ «الأمر» مشترك لفظيّ بين معنيين : (أحدهما) : الطلب المبرز بالقول أو بغيره من كتابة أو إشارة. وهو بهذا المعنى من المشتقّات ، فيصلح الاشتقاق منه اسما وفعلا ، ويجمع ب «أوامر». (ثانيهما) : مفهوم عرضيّ عامّ مساوق لمفهوم الشيء حاك عن الطلب الحقيقيّ الخارجيّ. وهو بهذا المعنى من الجوامد. ويجمع ب «امور». نهاية الأفكار ١ : ١٥٦ ـ ١٥٨.

وخالفه أيضا السيّدان العلمان : الإمام الخمينيّ والمحقّق الخوئيّ ، فأوردا على كون الأمر مشتركا لفظيّا أو معنويّا ، وذهب كلّ منهما إلى قول.

فذهب الأوّل إلى أنّ مادّة «الأمر» موضوعة لمفهوم اسميّ مشترك بين الهيئات بما لها من المعانى ، لا بمعنى دخول المعاني في الموضوع له ، بل بمعنى أنّ الموضوع له جامع الهيئات الدالّة على معانيها. مناهج الوصول ١ : ٢٣٨.

وذهب الثاني إلى أنّها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباريّ النفسانيّ ـ أي : اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلّف ـ. محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٩ ـ ١٠ و ١٣١.

(١) أي : صيغة «افعل».

(٢) راجع الفصول الغرويّة : ٦٣.

(٣) أي : لو ثبت نقل لفظ «الأمر» عن معناه اللغويّ إلى القول المخصوص.

١١٩

على نحو الاشتراك اللفظيّ أو المعنويّ أو الحقيقة والمجاز.

وما ذكر في الترجيح عند تعارض هذه الأحوال (١) ـ لو سلّم ، ولم يعارض بمثله ـ فلا دليل على الترجيح به ، فلا بدّ مع التعارض من الرجوع إلى الأصل في مقام العمل. نعم ، لو علم ظهوره في أحد معانيه ـ ولو احتمل أنّه كان للسبق من الإطلاق ـ فليحمل عليه وإن لم يعلم أنّه حقيقة فيه بالخصوص أو فيما يعمّه ، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأوّل (٢).

الجهة الثانية : [في اعتبار العلوّ في معنى الأمر]

الظاهر اعتبار العلوّ في معنى الأمر (٣) ، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا ، ولو اطلق عليه كان بنحو من العناية ، كما أنّ الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء (٤) ، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه.

وأمّا احتمال اعتبار أحدهما (٥) فضعيف ، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه وتوبيخه بمثل : «أنّك لم تأمره؟!» إنّما هو على استعلائه ، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه ، وإنّما يكون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضيّة استعلائه. وكيف كان ففي صحّة سلب «الأمر» عن طلب السافل ولو كان مستعليا كفاية.

__________________

(١) مثل : غلبة المجاز على الاشتراك.

(٢) أي : لا يبعد ظهور لفظ «الأمر» في الطلب.

(٣) أي : يعتبر في الطالب العلوّ ، كي يصدق على طلبه الأمر.

ولا يخفى عليك : أنّه لا يصدق الأمر على مطلق الطلب من العالي ، بل انّما يصدق عليه الأمر فيما إذا طلب الشيء بحسب علوّه وفي مقام مولويّته ، وأمّا لو طلبه من غير هذه الجهة فلا يصدق عليه الأمر ، كما هو واضح.

(٤) خلافا لما يظهر من صاحب القوانين ، فإنّه اعتبر الاستعلاء والعلوّ في الآمر. وتبعه على ذلك السيّد الإمام الخمينيّ. فراجع قوانين الاصول ١ : ٨١ ، ومناهج الوصول ١ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٥) كما في إشارات الاصول : ٨٠.

١٢٠