الواسطة في معرفة أحوال مالطة ، كشف المخبّا عن فنون أوروبّة

المؤلف:

أحمد فارس الشدياق


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-589-X
الصفحات: ٥٧٩

في الإنكليز وحكومتهم في مالطة

تساهل حكومة الإنكليز في مالطة

لما كانت هذه الصخرة البحرية عزيزة على الإنكليز لموقعها في بحر الروم كما لا يخفى كان لهم في حكومتهم بها من التساهل والتسامح ما لم يكن في بلادهم ، ويمكن أن يقال : إن الحكم هنا مالطي ، وان يكن الحاكم إنكليزيّا فإن القضاء وفقهاء الشرع وكتّاب الصكوك والمتوظفين في الدواوين وشرطة الديوان جميعهم مالطيّون ، وليس على الناس مكس ولا ضريبة ، ولا يدفع مكس في الكمرك إلا على الحنطة والمسكرات والبهائم وهو قليل جدّا.

ومن اقتنى مركبا أو خيلا أو استخدم خدمة فلا يؤدّي على ذلك شيئا ، وكذا الذين يبيعون بقول الأرض وثمرها ، وليس لخزنة الدولة من إيراد هذه الجزيرة ولا فلس واحد ، وإنّما يصرف جميعه في لوازمها وجملته تبلغ تقريبا ٢٠٠ ، ١٠٤ وتفصيلها من ديوان الكمرك نحو ٧٠٠ ، ٦٥ ، ومن الدكاكين ٦٠٠ ، ١ ، ومن المحاكم ٧٠٠ ، ٢ ، ومن بوسطة المكاتيب ١٨٠ ، ومن تقييد الصكوك ١٣٠ ، ومن خراج الأرض ٧٠٠ ، ٢٣ ومن المزاد ٢٠٠ ، ومن الكرنتينة ٣٥٠ ، ٣ ، ومن المراكب ٩٠٠ ، ٣ ، ومن مصالح أخر ٧٠٠ ، ١. يصرف منها مرتب وظائف وسنويات ٠٠٠ ، ٤٣ ، منها : ٠٠٠ ، ٥ للحاكم ولحديقته ٤٠٠ ، ولكاتب سرّه ، وهو من الإنكليز ٠٠٠ ، ١ ، وللكاتب الثاني ٥٠٠ ، ولناظر الخزنة ٣٥٠ ، ولمدير الحسابات ٦٠٠ ، ولمستوفي الأموال ٥٠٠ ، ولناظر الكمرك مثلها ، ولكبير القضاة ٦٠٠ ، ولكبير الشرطة ٤٥٠ ، ولناظر المرسى ٤٠٠ ولناظر الكرنتينة ٣٠٠ ، ولقسيس الحاكم ٥٠٠ ، ولأسقف مالطة ٠٠٠ ، ٢ ، وللمصروف على المستشفيات وغيرها من الأفعال الخيرية ٤٠٠ ، ٤ ، وعلى المدرسة الجامعة وقد تقدّم ذكرها ٧٠٠ ، ٢ ، وعلى المرتزقين والمتقاعدين ٢٥٠ ، ١٣ ، أمّا مصاريف عسكر الإنكليز وهم ثلاث كتائب ، فمن

٨١

خزنة الدولة وللعسكري في اليوم نحو شلين ، ويقال : إن إيراد مالطة منقسم إلى ثلاثة أثلاث: الثلث الأول للميري ، والثاني للكنائس من الوقف والتسبيل (٨٧) ، والثالث لأصحاب الأملاك.

فقد تبيّن لك رفق دولة الإنكليز بحال المالطيين جير (٨٨) ولو أن جزيرتهم كانت أكبر مما هي الآن بمائة مرّة لما كان إيرادها كلّه مكافئا لمكس صنف واحد في إنكلترة ، وحسبك أن مكس الملط (٨٩) وحده هناك ينيف على خمسة ملايين ليرة. ومن تساهلهم معهم أنّهم يرخصون لهم في التطواف بالقربان وتماثيل القديسين ، سواء كانت من خشب أو جص أو غير ذلك. مع أنه مغاير لعقائد كنيسة الإنكليز ، لا بل يطوف معهم جوقة من العسكر ، وهم عازفون بآلات الطرب ، أمام التمثال. ولا غرو فإن الدولة فرضت لصنم في بلاد الهند اسمه جوجرنوت ٠٠٠ ، ٥٦ روبية ، وهي عبارة عن ٠٠٠ ، ٢٦ ريال ولغيره أيضا من الأصنام مرتّب وافر ، ولكهّان الهنود وظائف يرتزقونها من الديوان في كل عام.

قيل ويوجد في الهند نحو ٨٥١ ، ١٤ محلا مخصّصا لعبادة الهنود ، يبلغ مصروفها من طرف الدولة نحو ٠٠٠ ، ٣٥ ليرة ، وقد صرف مرّة على إقامة عيد من أعيادهم ٠٠٠ ، ٤٠ روبية مع ما لزم لهيكل الصنم ، وفي هذه الأعياد الكبار تطلق المدافع من السفن والقلاع ويمشي أمام الصنم طائفة العازفين من الجيش.

وفي عيد إلقاء جوز الكوكو في نهر الهند ينزل ذوو الأمر والحكم من الدولة ويأخذونه من الكهنة بعد أن يصلّي عليه ، ثم يلقونه في النهر ، وحينئذ تنشر السفن راياتها المتلوّنة ، وتطلق المدافع منها ومن الأبراج. وكذلك يفعلون في الأهلة إظهارا لشعائر الإسلام ، وكل ذلك دليل على أن الدولة لا تبالي بمباينة المذاهب والاديان في ممالكها إذا كانت هذه الأديان غير مانعة من أداء ما يلزم أداؤه للخزنة من المال ، وللتاج من الطاعة. وقد حاول مرّة حاكم مالطة ، وكان على مذهب البروتستانط ، أن يبطل

__________________

(٨٧) التسبيل : سبل الشيء : أباحه وجعله في سبيل الله. (م).

(٨٨) جير : يمين أو بمعنى نعم أو أجل. (م).

(٨٩) الملط : الخبيث من الرجال ، والمختلط النسب ، والسارق. (م).

٨٢

عادة المسخرة يوم الأحد في المرفع على ما تقدّم ذكره ، فإن الإنكليز يحترمون هذا اليوم غاية الاحترام كما ستعرفه ، وإذا بالمالطيين جميعهم تألّبوا عليه وماجوا يطوفون وهم يسبّونه ويقبّحون عليه بألقاب سمجة وإشارات منكرة ، حتى إن بعضهم حاكاه في زيّه وهيئته ، وجعل على رأسه قرونا ، ثم أحدقوا بكنيسة الإنكليز ، وهم عاكفون على العبادة ، وزاد ضجيجهم ولغطهم هناك ، حتى لم يسع الحاكم وحشمه غير الفرار إلى حديقته خارج المدينة ، وما زالوا مذ ذلك الحين يلحفون في طلب حاكم من مذهبهم حتى صدر أمر من الدولة بعزل الحاكم المذكور ؛ فجاءهم حاكم من أهل إرلاند أكثر تحمّسا منهم ، وهو الذي وقف شاهدا على معمودية الجرس.

من سنن الإنكليز وشرائعهم

ومن سنن الإنكليز في بلادهم أن تغلق جميع الحوانيت في يوم الأحد إلا دكاكين العقاقرية والحانات التي تباع فيه الجعة والشراب إلا أن هذه تغلق أيضا عند إقامة الصلاة ، فأمّا في مالطة فلا حرج على أحد منهم أن يبيع ويشتري فيه أي شيء كان ، ثم إنّي لست ممّن يتصدّون إلى تبديل القوانين والأحكام ولا ممّن يتحرّشون بالأحكام مخافة أن يعزلوني عن ولاية قلمي ، ولا يتأتّى لرجل مثلي أن يصلح شريعة دولة قديمة ولا سيّما شريعة الإنكليز ؛ فإنها عندهم لا تقبل التبديل والتحريف وكل عادة من عاداتهم تقوم مقام سنّة إلا أن بيداء أصولهم وأحكامهم تظهر لبصري الكليل القاصر في غاية البعد عن الإدراك ، أمّا أولا فلأن قصاص كثير من الإساءات والجنايات يفتدى عندهم بغرامة للميري ، فإذا افترى مثلا لئيم على كريم ولطمه بحضرة الناس ، أو هتر (٩٠) عرضه غرم شيئا من الدراهم للخزنة وخرج من بين يدي القاضي على أشر خلق مما كان عليه ، فتكون مصلحة الحكّام على هذا ازدياد الخصام والشر بين الناس لأن خيرهم إنّما هو من شر الطغام. فياليت شعري ما نفع الكريم بعد أن يسبّ ويفترى عليه أن يرى غريمه مؤدّيا للميري ثمن عرضه وشرفه؟ وكيف تصحّ

__________________

(٩٠) هتر عرضه : مزّق شرفه ، أي سبّه وأهانه. (م).

٨٣

التسوية بين العباد والله تعالى لم يسوّ بينهم ، بل فضّل بعضهم على بعض ، فجعل اللئام يبذلون ماء وجوههم ويمتهنون أنفسهم في تحصيل معيشتهم ، وجعل ذوي الأدب والعرض ينزّهون أنفسهم عن الشين والمنكر؟ فهل من العدل أن لا يجعل بينهما فرق في الأحكام والمعاملة؟ وإلا لزم أن نقول : إن من يساوي بينهما وهو الحاكم ينبغي أن يكون مساويا لمن فرض عليه الحكم ، فلو تعمّد رجل مثلا للطم الحاكم على وجهه وهو جالس على كرسي الحكم أفعساه كان يغرم دريهمات لخزنة الدلة؟ وهل من العدل أن ترى لئيما ينازع كريما على شيء هو أدنى من أن يخطر بباله؟ نعم تصحّ التسوية بين غريمين تجهل حالهما ، فأمّا الحاكم الشرعي الذي يعرف بلاده ، ويخبر فاضلهم من مفضولهم ، فلا ينبغي له أن يسوّي بين كل مدّع ومدّعى عليه ، كما أنّه لا ينبغي أن يوزن الذهب في ميزان الخشب وفضلا عن ذلك فإن من ضرب مثلا مرّة لا يصح أن يجري عليه حكم من دأبه وديدنه الضرب ، وإلا لزم أن نقول : إن أهل اللغة أعقل وأحكم من أهل الشرع حيث فرّقوا بين الضارب والضراب والضروب.

هذا ولمّا كان الظاهر من حكم الإنكليز أنّه مبني على التسوية كانت الأوباش من أهل مالطة مثل أهل الفضل منهم في أنه لا يقبل للفاضل كلام على المفضول ، ولا يفصل بين اللئيم والكريم منهم غير الشهود ، وإن كان اللئيم معروفا بلؤمه ورذائله ، وربّما طلبت باعة المأكولات في شيء قيمته درهم عشرة دراهم فلا يمكن للمشتري أن يعارضهم بشيء ، وإذا أبى أن يشتري لم يخل من تطاول البائع عليه ، وقس على ذلك أصحاب القوارب والحمّالين ، وغيرهم من السفلة. فأي إنصاف هنا أن يرخّص لهولاء في هذا التعدي والطغيان ، ثم يقال : إن ذلك تسوية؟ ثم أي إنصاف أن يرخّص للباعة في أن يخلطوا الموائع (٩١) ، وأن يضعوا السمك واللحم الذي نشم (٩٢) في الخموم (٩٣) في الثلج حتى يتطرّى ، وفي أن يبيعوا الفج من الأثمار ، وأن يجعلوا

__________________

(٩١) الموائع : السوائل. (م).

(٩٢) نشم اللحم : تغيّرت رائحته. (م).

(٩٣) خمّ اللحم : أنتن. (م).

٨٤

سعر الشيء الواحد متفاوتا على قدر تفاوت الساعات ، وأن تطوف السكارى في الأسواق ضاجّين زائطين بالغناء واللغط ، ثم يقال : إن ذلك حريّة؟ لعمري إن المحتسب في بلادنا خير من هذه الحريّة لأن الحريّة إنّما تكون حميدة مفيدة ما إذا روعي فيها مصلحة عمومية على أخرى خصوصية لا بالعكس ، فتبّا لحرية تفضي إلى تسويد اللئيم على الكريم.

وهذا الفساد الحاصل في البيع والشراء في مالطة هو بعينه في لندرة كما سنذكره في محلّه ، وسببه أنّه لّما كان ذووا الأحكام هنا وهناك لا يأكلون سوى أطيب المأكول ولا يشربون سوى أفخر المشروب غفلوا عن مصلحة الجمهور وظنّوا أنّ سمنهم موجب لصحة جميع عباد الله. ومن فساد الأحكام هنا أيضا أنّه إذا كان لأحد حقّ على آخر وأراد سجنه لزمه أن يقوم بمؤنته ، وإن يكن المديون لصّا أو متعدّيا ، وكان المحق عادلا فاضلا. ولا يخفى أن في ذلك حظرا للثقة والائتمان لأنّ حبس الغريم لا ينفع الدائن شيئا ، وأن السجن لكثير من الأشقياء المناحيس خير لهم من خصاصهم (٩٤). ولّما كان هولاء السفلة مفرطين في القبائح والشرور على ما ذكرنا كان من أهم الأشياء على الحرّ أن يتجنّبهم ما أمكن ، وليس عليه أن يحترز من الأعيان وذوي الأمر والنهي فإنهم لا يتطاولون على أحد لما يعلمون من قضية التسوية ، بخلاف العادة في البلاد الشرقية ، فإن أصحاب المناصب هم الذين يخشى بأسهم وشرّهم.

ومن فساد الأحكام أيضا أن القضاة تقبل شهادة أي شاهد كان سواء كان سكيرا أو شريرا ، وكذا شهادة النساء والأولاد مقبولة فمتى قبّل الشاهد الصليب مضت شهادته ، والإنكليز يحلفون على الإنجيل ، ومتى أقيمت دعوى حشد الناس لاستماعها وإن تكن من الأمور التي كتمها أولى من إذاعتها ، وهنا أيضا أنكر التسوية لأنه إذا حدث مثلا أمر مرّة بين والد وولده ، أو رجل وامرأته وكانوا من ذوي الفضل وأفضى ذلك إلى التحاكم لا ينبغي أن يجعل بمنزلة دعوى رجل على آخر بأنه سرقه أو شتمه. ثم إن من الأصول المقرّرة عند الإنكليز أن كل من يدخل أرضا تحت حكومتهم يصير حرّا وتجري عليه أحكامهم ، وقد جاء مالطة كثير ممّن كان لهم عبيد

__________________

(٩٤) خصاص : جمع خصّ بضم الخاء : بيت من شجر أو قصب. (م).

٨٥

وإماء فأجبروا على تحرير رقيقهم. ومن يقم خمس عشرة سنة ويعلم أنّه كان في خلال ذلك حسن التصرف والسلوك حقّ له أن يطلب الحماية الجنسية ، ولكن يلزمه أداء نحو عشرين ليرة ، وهذه الحماية هي أنفع من حماية الإنكليز التي تعطى من بلادهم كما سنبيّن ذلك.

وللحاكم عشرة مشيرين من أعيان الأهلين يشاورهم في المصالح العائدة إلى بلادهم ، وفي كل خمس سنين يعزل ، وربّما أقام أكثر إذا طلبت الرعيّة ذلك. وفي قصره ستة عشر ألف بندقية ، وعشرون ألف مزراق (٩٥) ، وأربعة آلاف درع ، وألفا طبنجة.

أخلاق الإنكليز في مالطة

أما أخلاق الإنكليز هنا فهي مغايرة لأخلاق جنسهم في بلادهم فلا يصح لمن رآهم أن يحكم بأن جميع الإنكليز مثلهم ، فإن هولاء متكبّرون صلفون مع البخل والشح ـ وبئس الكبر والشح إذا اجتمعا ـ وما أحد منهم إلا ويظنّ بأنّه هو فاتح هذه الجزيرة ببأسه وسيفه ولا سيّما ضبّاط العسكر ، فإنهم على قنة الصّلف والبتذّخ. وإذا دخلت على أحد من هولاء الفاتحين وهو يأكل فلا يتكلّف أن يدعوك إلى طعامه ، بل ربّما غضب على جميع أهل داره على عدم منعهم إيّاك من الدخول كما قلت :

إذا زرت أرحبهم دارة

توهّم غولا قد اغتالها

يغلّق أبوابه إن نوى

فطورا ويحكم إقفالها

ومن كان فيهم له خادم

يظن المعالي قد طالها

__________________

(٩٥) المزراق : الرمح القصير. (م).

٨٦

إذا تتبوأ كرسيّه

وبثّك من زوجه حالها

يرى أنه محسن مفضل

وأنّ الماثر قد نالها

وإذا زرته وأقمت عنده إلى وقت غدائه وأردت الذهاب فلا يدعوك إلى الطعام معه ، ومن طبعهم حب الانفراد والعزلة ، فإن أحدهم ربّما أقام شهرا تامّا من دون مشاهدة الناس استغناء عنهم برؤية ما عنده من فاخر المتاع ، وبقراءة صحف الأخبار ، أمّا عندنا فالأخبار لا تعرف إلا بالنقل والرواية ، فلم يكن لنا بدّ من الاجتماع ليلا ، ومن سوء أدب بعضهم هنا أنّهم يجعلون في أعناقهم شريطة فيها زجاجة ، فكلّما لمحوا امرأة فزعوا إلى الزجاجة ليستثبتوها بها.

نساء الإنكليز في مالطة

وفي ليالي الرقص عندهم ترقص بنت الرجل منهم مع عدّة زيرة (٩٦) وهو ناظر إلى ذلك بعين شكرى من الابتهاج ولا سيّما حين يخاصرونها ، وكما أن الرجال هنا ليسوا براموز (٩٧) حسن على أهل إنكلترة كذلك كانت النساء مخالفات لمن في بلادهن ، فإنهن هنا بمعزل عن الحسن والمال وأكثرهن فقم وشوه (٩٨) ، ومن الغريب أنّه مع ترفههن وركوبهن الخيل في كل يوم غالبا فلن يرى فيهن بادنة ، ولا فضيلة لهن إلا في كونهن يحسنّ القرآة والكتابة ، ويؤسسن العلم في أولادهن على صغر ، فإن الولد لا يبلغ هنا خمس سنين إلا ويكون قادرا على القراءة. أمّا عندنا فيذهب سن الصبا باطلا ، فمتى أخذ بعد ذلك في التعلّم وجده بعيد المأخذ صع المرتقى ، وأشهد

__________________

(٩٦) زيرة : جمع زير ، وهو الذي يحب محادثة النساء. (م).

(٩٧) الراموز : النموذج. (م).

(٩٨) فقم : جمع فقماء ، يقال للمرأة إذا طال أحد فكّيها ، وقصر الآخر. وشوه : جمع شوهاء وهي القبيحة. (م).

٨٧

لو أن نساء بلادنا يترشّحن في المعارف على صغر لفضلن نساء جميع الإفرنج فضلا باهرا ، فإنّهنّ أرقّ أذهانا ، وأسرع فهما. والحاصل أن الإنكليز هنا رجالا ونساء ليسوا من خيرة بلادهم ، وأن كبرهم وعتوّهم وجشعهم جعلهم مبغضين عند جميع المالطيين ، فما من مالطي تسنح له فرصة لأذى إنكليزي إلا وينتهزها ، فأمّا المتوظفون منهم في خدمة الحكومة ، فإنّما هم راضون عن أصحاب السياسة لا عن أفراد الإنكليز المجاورين لهم.

٨٨

في موسيقى أهل مالطة وغيرهم

الموسيقى : تعريفها ، ضوابطها عند القدماء

قبل الدخول في هذا الباب الحرج ينبغي أن أستاذن أصحاب أهل الفن في التطفّل على هذا النحو ، وإن كنت لا أعدّ من جملتهم غير أني علمت منه ما يمكنني أن أعرف المستقيم منه من غير المستقيم ؛ فأقول قال بعض الفلاسفة : إن فن الموسيقى فضلة من المنطق أخرجها العقل بالصوت ؛ لما لم يمكن إخراجها بالقياس. فمن أول المنطق بالاصطلاحي قال : معناه أن أركان هذا الفن ذهنية بناء على أن المتقدّمين كانوا يتعاطونه بالسماع والذوق فيرسم السامع ما يسمعه من الأصوات في مخيّلته وذاكرته دون مشاهدته لدلائله ، وهكذا يتلقّاه التلميذ عن معلّمه بالترسّم عن ظهر القلب والاتباع مع الملكة التي ترسّخ في مخيلته تلك الترجيعات ، ولهذا كان المعوّل عليه في تحصيل هذا الفن ملكة الذوق.

موسيقى الإفرنج الآن

أمّا الإفرنج فقد جعلوا الآن ترجيع الصوت وإيقاعه داخلا تحت حسّ المشاهدة ؛ فدلّوا عليه بنقوش ورسوم معلومة كما دلّت الحروف على المعاني ، فلم يكن تحصيله متوقّفا على ذاكرة وعظيم معاناة كما في السابق ، فمن كان منهم عارفا بمخارج النغم ، ورأى تلك العلامات أمكن له أن يخرج عليها أي صوت كان من دون أن تتقدّم له سابقة فيه وإذا اجتمع منهم عشرون رجلا وكانت أمامهم تلك النقوش رأيت منهم متابعة واحدة.

٨٩

اختلاف الأذواق

ويرد على هذا التأويل أنّه لو كانت الموسيقى فضلة من المنطق لكانت واحدة الاستعمال كما أن المنطق واحد الضوابط ، على أن الناس متغايرون فيها تغايرا شديدا ، فإن ألحان العرب لا تطرب غيرهم بل هولاء أيضا مختلفون ، فإن أهل مصر لا يطربون لألحان أهل الشام ، وألحان الإفرنج لا تطرب أحدا من هؤلاء.

وعلى تأويل المنطق بالمعنى اللغوي ، وهو المراد هنا ، فقد جاء في شرح رسالة ابن زيدون لسلطان المتأدبين ابن نباتة ما نصّه : «النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على إخراجه ، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع ، فلمّا ظهر عشقته النفس ، وحنّ إليه القلب» والمراد بالترجيع لا التقطيع أن يكون الصوت ممتدّا ينحى(٩٩) به لا متقطّعا كأصوات الهجاء ، فإذا كان فن الموسيقى والحالة هذه فضلة من المنطق على هذا التأويل لزم أن نقول : إن لكل جيل من الناس محاسن في الغناء مقصورة عليهم فقط ، فإن لكل لغة محاسن وعبارة لا توجد في غيرها ، والواقع بخلاف ذلك فإن لغتي الصين والهند مثلا تشتملان على محسنات لا توجد في غيرهما إلا أن أنغامهم خالية من ذلك.

ألحان الإفرنج

أمّا ألحان الإفرنج فلا يطرب لها منّا إلا من ألفها ، وهي عندهم على أربعة أنواع : الأول : وهو أحسنها ، ما يتغنى به في الملاهي مثل الموشحات عندنا مع مدّ الصوت وترجيعه ، وخفضه ، ورفعه ، وترقيقه ، وتفخيمه ، وترجيفه ، وفيه تدخل حماسة وتحريض وتذمير.

والثاني : وهو يشبهه ما يرتّل به في الكنائس ولا يكاد يكون به ترجيف.

والثالث : ما يغنّى به في المحزنات والبثّ ، وفي هذا النوع يستعملون غناء رقيقا

__________________

(٩٩) ينحى به : يمال به. (م).

٩٠

أشبه بالنجوى ، فمن يسمعه يلحّن ما المراد به وإن يكن جاهلا باللغة ، كما إذا رأيت شخصا مجهشا للبكاء فإنك تعلم إجهاشه بالبديهة ، وإن لم تعرف سببه.

والرابع : ما يتغنى به في المضحكات والمحاورات وهذا يقل فيه الترجيع ، ويكثر فيه النبر ، وتطريبه إنّما هو من حيث أنهم يصلونه بأشياء كثيرة ، وحركات مضحكة فيضحكون فيه ويقهقهون ويبكون ، ويتثاءبون ويعطسون ويحاكون به قيق الدجاج وصداح العصافير وغيرها. وفي كلّ من هذه الأنواع يستعملون المساجلة ، وهي مطربة جدّا وأكثرها في النوع الأخير ، ويوفقون عليه ألفاظا مولّدة غريبة. وكما أن لهم غناء مضحكا كذلك لهم رقص يحمل الثكلى على القهقهة.

الفرق بين ألحان العرب والإفرنج

أمّا العرب فإنهم يقولون : إن الرصد يشجي ، والسيكاه يفرح ، والصّبا والبيات يحزنان، والحجازي ينعش وينغش وهلم جرّا. والفرق بين الفريقين من عدّة وجوه :

الأول : إن الإفرنج ليس لهم صوت مطلق للإنشاد من دون تقييد بتلك النقوش ، فلو اقترحت على أحدهم مثلا أن يغنّي بيتين ارتجالا كما يفعل عندنا في القصائد والمواليات لما قدر ، وهو غريب بالنسبة إلى براعتهم في هذا الفن لأن الإنشاد على هذا النوع طبيعي ، وقد كان عندهم من قبل أن تكون النقوش والعلامات ، فياليت شعري كيف كانوا ينشدون قبل أن نبغ غويدو داريتسو في إيطاليا.

الثاني : إنه إذا اجتمع منهم عشرة مغنيين وأرادوا إخراج موشّح أخذ بعضهم في بعض أركانه من مقام وبعض في البعض الآخر من مقام غيره ، فإن كانت الأغنية مثلا من الرصد غنّى واحد جزءا من هذا المقام بصوت جهير ، وآخر جزءا من النوى بصوت رقيق ، وآخر جزءا من الجواب بصوت عال ، فيسمعه السامع من عدّة مقامات ، ويسمّى ذلك عندهم هرموني ، أي أن الأصوات تتألف على الغناء ، وفي هذه الطريقة فوائد ومخاسر ، أمّا الفوائد فلأن السامع يسمع في وقت واحد موشحا واحدا من عدّة مقامات بأصوات

٩١

مختلفة ، فهو يصنع قصيدة واحدة من جميع بحور العروض. وأمّا المخاسر فلأن السمع لا يتمكّن كلّ التمكن من إدراك جميع مخارج تلك الأصوات المتغايرة. وهذه الطريقة عندي على الآلات أحسن منها على الأصوت.

الثالث : إن غناء الإفرنج هو مثل قراءتهم في أنه لا يخلو من حماسة وتهييج فضلا عن التشويق والتطريب والترقيص ، فغناء الحماسة والتهييج هو الذي يكون به ذكر القتال ، وأخذ الثأر ، والذب عن الحقيقة ، فإذا سمعه الجبان ولا سيّما من الآلات العسكرية هانت عليه روحه. أمّا الغناء العربي فكلّه تشويق وغرامي ، وأجدر به أن يكون جامعا لمعنى الطرب ، وهو خفّة تصيب الإنسان من فرح أو حزن ، فإذا سمع أحد منّا صوتا أو آلة شغف قلبه الغرام ، فبدت صبابته ، وحنّتنفسه كما يحنّ الإلف إلى إلفه حتى يصير عنده آخر الفرح ترحا. ولا غرو إن صعد منه الزفرات ، وأذرف العبرات فإن السرور إذا تفاقم أمره وتكامل بدره دبّ فيه محاق الشجن ، واختلط به الحزن حتى يستغرق صاحبه في بحر من الوجد ، ويشتعل بنار من الهيام ، وعلى ذلك ورد قولهم طربه وشجاه من الأضداد.

الرابع : إنّ الإفرنج لا قرار لأصواتهم إلا على الرصد ، نعم إن جميع الأنغام يوجد لها مقامات في آلاتهم ، بل توجد أنصافها وأرباعها ، إلا مقامين منها لا أنصاف لهما ، إلا إنهم لا يقرّون إلا على المقام الأول ، وقد سمعت منهم الرهاويّ والبوسليك والأصفهاني ، أمّا غيرها فلم اسمعه قط بل قد سمعت منهم بعض أغان من أغانينا أوقعوها على آلاتهم فكانت كلّها رصدا. وقد والله طالما وقفت السمع على أن أسمع منهم أنغامنا فخبت حتى اعترتني الحيرة ؛ فإنّي من جهة كنت أرى آلاتهم بديعة الصنعة على كثرتها وأفكر في أن العلوم انتهت إليهم ، والفنون قصرت عليهم ، وإن عندهم في هذا الفن بدائع كثيرة فاتتنا على ما سبق ذكره. ومن جهة أخرى أرى أن براعتهم كلّها إنّما هي من مقام الرصد ، نعم إنّ هذا المقام هو أول المقامات وإنه يغنّى منه في مصر وتونس أكثر ممّا يغنّى من غيره إلا أن فضل الصّبا

٩٢

والبيات والحجازي لا ينكر أيضا ، ثم أعود فأقول : لا غرو (١٠٠) أن يكون قد فاتهم أيضا بدائع في هذا الفن ، كما فاتهم في غيره أشياء أخرى ، وذلك ككثرة بحور العروض عندنا ، وكبعض محسنات الكلام ، وكالسجع في الكلام المنثور إذ ليس عندهم سوى المنظوم وهو في الإنشاء كالصوت المطلق في الغناء ، فإن السجع مقدّم على النظم ، وكعجزهم أيضا عن لفظ الأحرف الحلقية. وقد سألت مرّة أحد أهل الفن منهم فقلت : إن المقامات موجودة عندكم وعندنا على حد سوى (١٠١) وكذا أنصافها ، فبقي الكلام على استعمالها ، فإنّا لو استعملنا مثلا نصفا من الأنصاف مع مقامه ، وأنتم تستعملونه مع مقام آخر ، بحيث يظهر لنا أنه خروج ، فمن أين تعلم الحقيقة؟. فما كان منه الا أن قال : إن هذا الفن قد وضع عندهم عليأصول هندسيّة لا يمكن خرمها ؛ فلا يصح أن يستعمل مقام إلا مع مقام آخر ، على أني كثيرا ما سمعت منهم خروجا فاحشا على شغفي بألحانهم. وقد شاقني يوما وصف المادحين إلى سماع قينة بلغ من صيتها أنّها غنّت في مجلس قيصر الروس ، فلمّا سمعتها طربت لرخامة صوتها ، وطول نفسها في الغناء إلا أني سمعت منها خروجا بحسب ما وصل إليه إدراكي. ولو تيقّن أن ألحان الروم التي يرتلون بها اليوم في كنائسهم هي كما كان يتغنّى به في أيام الفلاسفة اليونانيين لكان ذلك دليلا آخر على قصور ألحان الإفرنج ؛ فإن أنغام الروم مقاربة لأنغامنا.

الخامس : إن أكثر أصحاب الآلات عندهم لا يحسنون إخراج أنصاف النغم وأرباعها ما لم تكن مرسومة لهم ، إلا صاحب الكمنجة ، فأمّا الناي ففيه خروق شتّى غير السبعة ، لكل اثنين منهما طباقة ، إذا سدّ منها منخر جاش منخر ، غير ـ أن الصنعة في إحكام سدّها واستعمالها تقارب صنعة تغيير نقل الأصابع عندنا ، وهذه الأنصاف والأرباع في النغم

__________________

(١٠٠) لا غرو : لا عجب. (م).

(١٠١) السّواء ، والسّوى : المثل والنظير. (م).

٩٣

مثل الروم ، والإشمام (١٠٢) في النحو. وفي الجملة فإن للإفرنج حركات في هذا الفن خارجة عن ذوقنا وأخرى لا يمكن محاكاتهم بها ، وممّا مرّ تفصيله تعلم أن إنشادهم في الحماسة والفخريات غير معروف عندنا ، وإنّ مطلق الصوت عندنا غير معروف عندهم ، ومن الغريب أنه مع كثرة ما عندهم من الآلات والأدوات فقد فاتهم العود على محاسنه والناي من القصب ، فإن نايهم هو بمنزلة الزمر عندنا على أن أكثر العلماء قرّر أن أصل الموسيقى مأخوذ عن صوت الريح في القصب ، وقال بعض : إنه عن صداح الطير. وغيره : إنه عن خرير الماء. وآخرون : إنّه عن أصوات مطارق طوبال قين. وأول من ضبط أصول هذا الفن يوبال وذلك في سنة ٨٠٠ قبل الميلاد. وكان اختراع الناي في سنة ١٥٠٦ ونسب إلى هيجنيس.

استخراج علم العروض

وعلى ذكر مطارق القين فقد ورد في شرح مقامات الحريري في ترجمة الخليل أن أول من استخرج العروض وحصر أشعار العرب به الخليل بن أحمد أبو عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي. وكان سببه أنّه مرّ بالبصرة في سوق القصّارين فسمع الكدنيق أي المطرقة بأصوات مختلفة ، سمع من دار «دق» ، وسمع من أخرى «دق دق» ، وسمع من أخرى «دقق دقق» ، فأعجبه ذلك ، فقال : والله لأضعن على هذا المعنى علما غامضا ، فوضع العروض على حدود الشعر الخ.

__________________

(١٠٢) الإشمام عند جمهور النحاة هو : صبغ الصوت اللغوي بمسحة من صوت آخر ، مثل نطق كثير من قيس وبني أسد لأمثال : قيل وبيع بإمالة نحو واو المدّ ، ومثل إشمام الصاد صوت الزاي في قراءة الكسائي. (م).

٩٤

آراء في الطرب

وأشجى آلة من آلالات الإفرنجية هي (الكنشرتينة) وهي فرع من فروع الأرغن ونحو من المنفخ يفتح ويطبق ، وهي من مخترعات وينسطون. ومن المعلوم أنّه كلّما رقّت طباع الناس ، ولطفت أخلاقهم كانوا إلى الحاضرة في مضمار الطرب أسبق ، ولشذا عبيره أنشق ، فإن المولع بغر المعاني ونكات الكلام لا يسمع الألحان إلا ويتصور معها من الحسن ما يهيم به وجدا قبل أن يشعر الغبي بمجرّد معرفة كونها غناء ، ولا سيّما إذا كان الإنشاد معربا والوقت معجبا. وقد جاء في شرح لامية العجم للعلامة الصفدي من لم يحركه العود وأوتاره ، والربيع وأزهاره فهو فاسد المزاج بعيد العلاج. وقال أفلاطون : من حزن فليسمع الأصوات الطيّبة فإن النفس إذا حزنت خمد نورها فإذا سمعت ما يطربها ويسرّها اشتعل منها ما خمد. وقال إسحق بن إبراهيم الموصلي شرّ الغناء والشعر الوسط لأن الأعلى منها يطرب والدنيء يضحك ويعجب ، والوسط فلا يطرب ولا يضحك. ومن الغلط البيّن أن يقول أحد : إني لم أطرب لهذه الألحان لجهلي باللغة فإن أصل الطرب إنّما يكون عن الصوت لا عن الكلام المتغنّى به.

غناء أهل مالطة

أمّا أهل مالطة فإنّهم في الغناء مذبذبون كما في غيره أيضا فلا هم كالإفرنج ولا كالعرب ، فأهل القرى منهم ليس لهم إلا أغاني قليلة ، وإذا غنّوا مطّوا أصواتهم مطّا فاحشا تنفر المسامع منه ، فمضاهاتهم للإفرنج هي في اقتصارهم على الرصد ، وللعرب في أنّهم إذا اجتمع منهم طائفة للغناء لم يخرجوا أصواتهم إلا من مقام واحد ، ويقوم أحدهم ينشد ، ويردّ عليه الباقي.

أمّا الأعيان منهم فإنّهم يتعلّمون الألحان الطليانية. وأكثر العميان بمالطة صنعتهم العزف بالآلات فمتى قدم أحد من سفر ، أو ولد له ولد ، أو تزوج ، أو عمّد ولده أو ترقّى إلى رتبة ، أو كسب مكسبا جزيلا بادروا إلى تهنئته ، ولا يخفى عنهم شيء ممّا حدث في بلدهم. ويقال : إن إحدى بنات الأعيان فجرت مرّة وكتمت حبلها عن

٩٥

أهلها ثم غابت أيّاما حتى وضعت ولدها ، فلمّا رجعت إلى بيتها أقبلت زمرة منهم يعزفون أمام الدار ، فسألهم أبوها ما سبب ذلك فأخبروه بوضع ابنته ففطن حينئذ لغيابها.

غناء المغاربة وأصل الحداء

والذي يظهر لي أن الأنغام التي كان يتغنّى بها في أيّام الخلفاء كانت أشبه بغناء المغاربة الآن منها بغناء المشارقة ، واللازمة التي تستعملها المغاربة في غنائهم هي (دي دي) كقول أهل مصر والشام (يا ليل) وكقول الترك أمان ، وفي القاموس : ما كان للناس حداء ، وضرب أعرابي غلامه وعضّ أصابعه فمشى وهو يقول دي دي أراد يا يدي ، فسارت الإبل على صوته ، فقال له : الزمه ، وخلع عليه فهذا أصل الحداء. وأسماء الأنغام عند المغاربة مخالفة لأسمائها عندنا ، وهم يزعمون أنهم نقلوا هذا الفن عن أهل الأندلس ، وأهل تونس أكثر ترسّلا منهم ، والظاهر أن الموالي من خصوصيات أهل مصر والشام وكذلك الناي والقانون. والغالب في من غنّى صوتا وأجاد أن يظن أن لم يبق ذو أذن واعية إلا وسمعه ، وإذا لم يجد الفتى لنفسه عذرا وذلك بأن يتنحنح أو يسعل فيحيل القصور على شيء طرأ عليه ، هذا إذا كان المغني غير متّخذ الغناء له صنعة ، فأمّا من درب فيه فقلّ أن يعرض له خروج لأن الصوت كالآلة كلّما زاد استعمالا زاد جلاء.

عودة إلى غناء الإفرنج

وكما أن غناء أهل مصر أطرب وأعلى من غناء جميع العرب كذلك كان غناء الطليانيين أعلى من غناء سائر الإفرنج ، وذلك لكثرة ما في لغتهم من الحركات ، فهي مثل لغتنا صالحة للغناء والعروض ، ولكون أصواتهم صادرة عن صدورهم. أمّا لغة الإنكليز فلكثرة السواكن فيها لا تطاوع على الغناء الذي فيه مد وترجيع إلا بتحويل الألفاظ عن وجهها ، وخرم قواعد النطق بها ، وإنّما يحسن بها الأغاني المضحكة ،

٩٦

وأصواتهم كلّها من أزوارهم ، وكأن المغنّي منهم يغنّي وقد غصّ بلقمة ، وجميع الإفرنج يقولون: إن غناء العرب من خياشيمهم. وعلى فرض تسليم ذلك فما يكون منافيا للإشجاء والتطريب ، فإن اللغة الفرنسيس لا يتكلّم بها إلا مع الغنة ، وهي مع ذلك أشجى لغات الإفرنج جميعا ، وربّما طرب لها من سمعها أول مرّة من عمره. وقد رأيت من الإفرنج من كان يطرب للأنغام المصرية ولكن غبّ طول مكث بمصر ، وكان في أول أمره يأنف منها ويقول : إنّها محزنة ، ولا يخفى أن للعادة تأثيرا في جميع الأحوال وخصوصا في المنطق والألحان ، وناهيك أن الأطفال عندنا وعند الإفرنج ترقد على الغناء ، فتعتاد عليه مذ الصبى ، فإذا امتزج بأمزجتها كان سماع غيره ضد المألوف ، وأهل مالطة يرقدون أطفالهم على ما هو أشبه بنواح الندّابات في بلادنا. ولو لا العادة لما عجزت الإفرنج مع حكمتها عن النطق بأحرف الحلق (١٠٣) ، وهي التي وفّت حقّ نسائهم جزافا وبخست نساءنا حقّهن.

__________________

(١٠٣) حروف الحلق هي : حروف الهجاء التي تخرج عند النطق من الحلق وهي : الهمزة والهاء ، والعين والحاء ، والغين والخاء. (م).

٩٧

في لغة أهل مالطة

لغتهم فرع من العربية

اعلم صانك الله عن الزلل وسدّدك إلى صواب القول والعمل أن اللغة المالطية فرع من دوحة العربية ، وشيصة (١٠٤) من تمرها ، وهي يتكلّم بها في جزيرتي مالطة وغودش ، وسواء في ذلك العامّة والخاصّة ، غير أن هؤلاء يتعلّمون أيضا الطليانية والإنكليزية لاحتياجهم إلى الأولى في المعاملات ، والتجارات ، وكتب الشرع وغيرها ، ولتنافسهم في الثانية لكونها لغة أرباب الحكم ، وذلك لأن اللغة المالطية لم تدوّن فيها علوم ، ولم يشهر فيها كتب فهي عبارة عن الفاظ يتداولونها فيما هو من مقتضيات الأحوال الساقطة دون أن تفي بحاجتهم فيما يقصدونه من وصف أو نسيب أو وعظ ، فإذا أرادوا ذلك فزعوا إلى الطليانية وهو دليل على سفالة طبعهم حيث لم يحافظوا من اللغة إلا على المبتذل ، وإذا أخذوا من الطليانية ما مسّت الحاجة إليه ملطوه وألحقوه بتركيب لغتهم ، كقولهم مثلا : (ما يرنشيش) أي ما يوافق و (كونشيته) أي عرفته. ففي الأول ياء المضارعة والشين التي يزيدونها بعد النفي كما تزاد أيضا في اللغة المتداولة الآن في مصر والشام وهي مختصرة من لفظة شيء ، وفي الثانية ضمير المتكلم والغائب وكقولهم (عندي بياشير) أي سرور ، فيجعلون الظرف خبرا مقدّما والنكرة مبتدأ مؤخرا فهو جار على قواعد العربية ، وقد قلت فيها :

تبّا لها لغة بغير قراءة

وكتابة عين بلا إنسان

__________________

(١٠٤) الشيصة : التمرة لم يتم نضجها ؛ لسوء التأبير ، أو لفساد آخر. (م).

٩٨

تتبلبل الألباب في تركيبها

ويكلّ عنها كلّ حدّ لسان

أذنابها ورؤوسها عربية

فسدت وأوسطها من الطلياني

فإن قيل : إن الأذناب والرؤوس هنا كناية عن أوائل الألفاظ وأواخرها كأداة المضارعة وال التعريف ونون الوقاية ، وهذه باقية على الأصل ، فلم وصفتها بالفساد؟ قلت إن أداة المضارعة مكسورة عندهم على كلّ حال ، وكذا أداة التعريف ، والضمير غير ظاهر ، فإنهم يلفظون به كالواو ، ويحتمل أيضا أن يكون (فسدت) دعاء في المعنى. ومع كثرة ما بقي عندهم من مفردات العربية وجملها وتأليفها ولا سيّما في الأمور المتعارفة كما ذكر ، فقد ذهب عنهم مرادف الأب وإنّما يقولون (مسار) بالإمالة وكأنّها محرّفة عن (موسيو) بالفرنسيس ، فإن حقّ التلفظ بها أن يكون (مونسيور) ، وكذلك ذهبت عنهم كلمة التحية صباحا ومساء ، فيقولون : (بون جورنو عليك) ، ولعلّ سبب ذلك أن المسلمين لما افتتحوا جزيرتهم كانت التحية بينهم (السلام عليكم) وكان استعمالها مقصورا عليهم كما هو في بلادنا ، فلم تعرف بين الأهلين. وليس هذا بأعجب من ذهاب تحيات العرب العاربة عن المستعربين ، وقولهم الآن (صباح الخير) الظاهر أنّه مولّد.

ومن الغريب أن بعض أعيان المالطيين يحاكون الإفرنج في أطوارهم وهيئاتهم حتى إذا نطقوا بلغة أنفسهم زال عنهم ذلك الرواء ، وانجلى ذلك الإبهام ، وإذا تكلّموا خلطوا جملة إيطاليانية بأخرى من لغتهم لكن هذه هي الغالبة فإنّها لغتهم في الطفولة ، وقد أخبرني أحد فضلائهم أنه أقام مدّة طويلة في إيطالية فكان حينئذ يقدر خواطره وأفكاره بلغة أهلها ، ثم لما رجع إلى مالطة لم يلبث أن عاد إلى تقديرها بلغته ، فصدق عليه قول الشاعر :

كل امرئ راجع يوما لشيمته

وإن تخلّق أخلاقا إلى حين

٩٩

موقفهم من العربية

وأغرب منه أن المالطيين يأنفون من تعلّم العربية بسبب المثلية بينها وبين لغتهم وهو عين السبب الذي يوجبه عليهم لكونهم والحالة هذه لا يعانون في تعلّمها مشقّة وعناء ، ومع أن المالطيين الذين يعاملون أهل العربية كثير ، والقاطنين في بلادهم هم أكثر فما أحد منهم يهمه أن يتعلّم العربية قراءة وكتابة ، على أنك تجد في جميع بلدان أوروبا أفرادا يدرسونها حقّ دراستها.

مناقشات وردود

ثم إن آراء الناس لمّا كان من شأنها التفاوت والتباين في جلاء الحقائق ولا سيّما إذا كان محل البحث غير منتسق على وتيرة واحدة ، وكانت اللغة المالطية تشتمل على ألفاظ من لغات مختلفة اختلفت فيها الأقوال والأحكام ، فزعم بعضهم أنّها فينيقية لوجود كلمتين فيها منها وهما (البير ، والصيد) كما مرّ بك في أول هذا الكتاب ، وزعم آخرون أنّها حبشية لوجود لفظة واحدة فيها وهي (المنبر) ، فإنّ معناها عندهم الكرسي الذي تلد عليه المرأة كما هو في الحبشية ، وهو وهم على ما تحقّقته من أهل اللغة المذكورة.

وعلى فرض صحّة ذلك فلا ينكر أحد أنّ كثيرا من الكلام العربي الذي بقي في أهل مالطة مستعمل بطريقة المجاز إمّا بذكر اللازم وإرادة الملزوم ، وإمّا بتخصيص العام وتعميم الخاص كقولهم مثلا : وحلت للوقوع في الأمر الصعب ، وأصله الوقوع في الوحل خاصّة ، ونحو الطّلاب للمتكفّف (١٠٥) ، وهو اسم فاعل للمبالغة من طلب في كل أمر ونحو مغلوب للنحيف وهو اسم مفعول من غلب ، وهو لازم له غالبا ، وفتيت أي قليل ، وهو من فتّ الشيء إذا كسرته وصغّرت جرمه ، وأشباه ذلك ما لا يحوج

__________________

(١٠٥) تكفّف السائل : بسط كفّه في المسألة فهو متكفّف. (م).

١٠٠