الواسطة في معرفة أحوال مالطة ، كشف المخبّا عن فنون أوروبّة

المؤلف:

أحمد فارس الشدياق


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-589-X
الصفحات: ٥٧٩

تخالف الفصول شيئا فشيئا وليس من علامات الربيع شيء بمالطة سوى تكاثر البراغيث ، فهي آفة من الآفات. ولا من علامات الخريف سوى تناثر أوراق الشجر المعدودات ، ومع ذلك فإن كثيرا من الإنكليز يأتون إليها ليقضوا فيها الشتاء. أما عام المطر فيها في الصيف فسببه قلّة الشجر والغياض ، فإن السحب إذا مرّت فوقها لم تجد ما تجذب منه رطوبة.

ولعلّ الأدوية والعقاقير التي تبقى مدّة طويلة في مالطة تفسد بالكليّة ، ويزول ما بها من الخاصّة فإن التبغ والنشوق والخمر إذا بقيت فيها زمانا يزول طيبها رأسا لأن مبلّط الديار وحيطانها وسقوفها من حجر ند كما مرّ ، فإذا وضعت مثلا ملحا في خزانة لا يلبث أن يندى كأنّه خلط بالماء ، وكذلك تعفّن المأكولات والمشروبات إذا وضعت في مخدع من خشب مصبوغ ؛ فإن النداوة تسري إلى الصبغ ، ولذلك كان البدل وهو داء المفاصل شائعا في مالطة وقلّ من يسلم منه. وقد أصبت به أول سنة فكنت أقوم في الصباح موجع الأعضاء لا أنشط إلى شيء ، وما زال ذلك يتزايد بي حتى لزمت الفراش ، فلمّا عادني الطبيب ورأى مبلّط المنزل أخبرني بالسبب فعظم عليّ ذلك ، ثمّ لمّا سمعت بأن أكثر الناس ممنيّون به هان علي ما لاقيت وتأسّيت بهم. ودواء هذا الداء الإقامة في محلّ مواجه للشمس عند طلوعها. وقد كان يعلو كتبي من أثر النداوة عطن يلتصق به بعض الورق ببعض ، ومن جعل مرقده قرب حائط فلا يأمن غائلة صداع أو وجع أسنان ، ومن يكن ذا علّة في صدره فأعظم خطر عليه التعرّض للريح بعد أن يكون في محلّ دفيء مع أن الغالب على أهل مالطة الشدّة والقوة غير أنهم ولدوا على هذه الحال فلا تؤثّر فيهم رداءة المكان ولا الزمان ، وممّا توصي به الأطباء هنا اتخاذ غلائل الصوف المسمّاة فلانله صيفا وشتاء أمّا في الشتاء فللدفء ، وأمّا في الصيف فلتنشيف العرق ، ومنع ضرر الريح النافذة في المسام حتى إنّهم يخشون من الريح على الحيوانات فإنّهم إذا أوقفوا الحصان في سيره أداروا وجهه إلى غير جهة الريح وقس على ذلك.

أمّا أرض مالطة فإنها ملطة صخرة جرداء قليلة الثرى والشجر والنبات ، ودائرها كلّه صخر لا ينبت فيه شيء إلا أنه لشدّة اجتهاد أهلها ، وفرط كدحهم ينبت فيها أكثر أصناف البقول والفاكهة ، لكن غلتها لا تكفيهم أكثر من أربعة أشهر ، والباقي

٤١

يجلب إليهم من بلاده فيجلبون القمح والقطاني من مصر ، ومن بلاد الترك والروم ، ويجلبون الفاكهة والخمر من صقلية ، والبقر والضأن والزيت من إفريقية وهلم جرّا.

وزعم بعض أنّ ترابها مجلوب في الأصل من صقلّية ، وترى شجر الخرنوب والصبّار التي لا تتوقّف على كثير من الثرى أعزّ من شجر الجوز في الشام ، أما شجر الخرنوب فيكون لا صقا بالأرض كأنما هو أزرار (٢٥) ومكبسة ، وأمّا الصبّار فتراه محوطا بالجدران العالية كأنّما هو حديقة ، وينوطون بكلّ منّها ورقة من الثوم منعا لإصابة العين مع أنّها ممّا تنبو عنه العين ، وإذا سألت أحدهم عن قلّة الغياض عندهم قال : نحن معاشر الإفرنج لا نصرف همنا إلا إلى زرع الأرض. فما أقلّ ظلّهم وأكثر ظلمهم!.

وإذا ضحيت (٢٦) إلى الخلاء وجدت بين كل حقلين جدارا عاليا لحجز رؤية ما دونه ، فأين هذه من سهول فرنسا وإنكلترة البادية للعين على نضرتها وريعها ، وعلى كثرة ما فيها من أكاديس الغلال والعشب من دون ناطور يحفظها ، أو حائط يسترها.

ويوجد في مالطة أكثر أصناف الأشجار المثمرة والبقول المأكولة ، وفاكهتهم طيّبة في الجملة إلا الليمون الحلو ، وقصب السكر ، والخيار ، فأمّا الصبّار فأكثره نوى ، وكذا الرمّان. وأكثر الفاكهة يباع فجّا ، وقلّما يدعونها تنضج خوفا من اللصوص أن تسرقها. وجميع أصنافها أرخص منها بمصر ، والتين على أصناف متنوّعة والعنب لا يدوم أكثر من ثلاثة أشهر ، أما الاترنج فإنه يدوم نحو سبعة أشهر ويرسل منه إلى بلاد الإنكليز وغيرها كالطرفة. فإمّا ما يأتيها من الثمر من صقلّية فإنّما هو سداد من عوز.

وعندهم من الفاكهة أصناف لا توجد في بلادنا ، منها صنف يقال له الفراولي وهو حب أحمر صغير بقدر ثمر العليق حامض يصلحه السكر ، وأخر يقال له نصبلي وهو شبيه بالمشمش ، أو بعين البقر ونواه كبير ، وآخر اسمه زربي وهو أشبه بالزعرور شديد الفجيّة يجعلونه أعذاقا كأعذاق التمر ؛ فينضج منه كل يوم حبّات ، ويدوم العذق بجملته أشهرا ولا يعرفون حفظ الفاكهة إلى أوان الشتاء كما يفعل في بلاد

__________________

(٢٥) أزرار : لم أجد لها معنى ، وفي طبعة تونس : أرز أو مكبّبة. (م).

(٢٦) ضحيت إلى الخلاء : خرجت. (م).

٤٢

الإفرنج ، فإن العنب والتفاح في فرنسا وإنكلترة لا ينقطعان أصلا. أما بقولهم فغير طيبة ، وذلك لكثرة مائيتها فإذا رأيتها في السوق سرّك نضارتها ولكن متى طبخت جاءت مسيخة(٢٧) ، حتى إن البصل والفجل وما أشبههما ممّا طبعه الحرافة لا طعم له عندهم ، لا بل إذا جلبت من بلاد أخرى يتغيّر طعمها ، وكذا الكرنب ، والباذنجان ونحوه. ولا يكاد يبدو نوع منها إلا ويغلط ويجسو. ومن الغريب أن نباتها مع كونه بهذه الصفة فعسلها في غاية الجودة ، ومما لا يوجد عندهم من الخضرة الكوسى والقتّاء ، والملوخية ومن غيرها اللبن والقشطة والسمن ، وإنّما يجلبون نفاية هذا أحيانا من طرابلس الغرب. وأهل مالطة جميعا يتقزّزون منه ، ويطبخون إدامهم بشحم الخنزير.

أما ماؤها فإنه ماء المطر مخزونا في الآبار غير سائغ فما شربه ذو تعب أو ظمأ إلا وأصابه سعال ، وكثيرا ما يحدث عن شربة واحدة نفث الدم ، فشتّان بينه وبين ماء النيل الذي يطيب شربه على التعب والظمأ ولا يزيد الشارب إلا صحة ونماء جسم ، فلا ينبغي لأحد أن يشرب من ماء مالطة إلا ترشّفا. ونقل عن أرسطو أن الماء الراكد الذي لا تقع عليه الشمس لا يكون إلا ثقيلا وتتولد في مادة طينيّة.

أمّا حدائقها فأشهرها حديقة صانت أنطونيو مقر الحاكم في الصيف ، وهي التي نزل بها الأمير بشير شهاب بأهله ، أخلاها له الحاكم إجلالا لشأنه وهي نضيرة حسنة الوضع إلا أنها في منخفض من الأرض ، وليس فيها مقاعد أو مواضع ليأكل فيها المتفرّج أو يشرب ، وليس للمالطيين عادة أن يأخذوا إلى مثل هذه المنتزّهات طعاما لا في الأعياد ولا في غيرها اتباعا لعادة الإنكليز إذ لا يمكن لهم الجلوس إلا على كرسي ، فغاية حظّهم من ذلك إنّما هو المشي أو أن يضع أحدهم ذراعه بذراع صاحبه ويمشيان الخيلاء أو أن يمشي وحده وهو يصفر ويمكو. وعلى تقدير وجود رصف (٢٨) عندهم أو روضة فلا يعرفون كيف ينبسطون عندهما سوى بالمشي ، وأعرف رصفا يسمّى البياتا أنيقا جدا ، ولكن ليس فيه محل للقهوة ، ولا مثلوج ولا مطعم ، ولا آلة

__________________

(٢٧) مسيخة : لا طعم لها. (م).

(٢٨) الرصف : المكان المعشوشب في ضواحي البلدة. (م).

٤٣

طرب ولا كرسي يجلس عليه. ولو كان مثله في باريس أو في مصر أو الشام لرأيته من أوله إلى أخره مرصوفا بالكراسي والمتّكآت ومشتملا على كل ما تطيب به النفس. وفي الجملة فإن الإنكليز والمالطيّة جميعا لا ذوق لهم في مثل هذه الأمور.

ثم البوسكيت ومعناه الغيضة (٢٩) وهو على بعد ثلاث ساعات من فالتية وهو سيء المنحدر قليل الجدوى ، فإنه عبارة عن شجرات معدودات وزهرات شعث لا صنعة في تنبيتها إلا أن فيه قبوة (٣٠) فيها عين نضّاحة ، وحولها مائدة ومقاعد من حجر يقعد عليها الآكلون ، فهذا الموضع أنزه موضع في الجزيرة ، وذاك الماء أعذب ماء بها ، وبقربه برج كان في القديم سجن (٣١) يعذّب فيه من يخالف الكنيسة كما كانت العادة أيضا في إسبانيا وغيرها.

ثم المطحلب وهو أنظر من البوسكيت وأبعد لكونه عند أقصى مالطة طولا ، وفيه بركة يعلو ماءها طحلب وكان الموضع سمّي به. ونواعيرهم نحو نواعير الشام ومصر. وأهل تونس وطرابلس يستعملون السانية وهي في اللغة الناقة يسقى عليها ويطلقونها على البستان.

والحاصل أنّ جزيرة مالطة لا تعجب من الإفرنج إلا القليل ، وذلك لأنّهم إذا جاؤوها لم يجدوا فيها شيئا غريبا لا يوجد في بلادهم ، فإن كل ما فيها إن هو إلا نفاية ما عندهم. هذا وليس منهم من يرغب في علم اللغة المالطية إذ كانوا يعلمون أنها عربية فاسدة ، وليس فيها من الصنائع والفنون ما يجهله أهل الرستاق منهم فضلا عن المتمدنين ، وانما هي مجاز يجوزون منها إلى الشرق. نعم إنّ بعضا من المظلومين في إيطاليا وخصوصا صقلية يأتون اليها للاستئمان ، وإنها لما كان موقعها بين عدّة برور شرقية وغربية حصلت على هذه الشهرة ولا سيّما الآن فإنه قد يتعذر السفر إلى بعض جهات الشرق من دون المرور بها.

فأمّا العرب فربّما لا تعجب منهم أحدا وذلك لأن أهل مالطة جميعا يكرهون

__________________

(٢٩) الغيضة : مجتمع الشجر. (م).

(٣٠) القبوة : بناء مقوّس يعقد بعضه إلى بعض. (م).

(٣١) كذا وردت في الطبعتين ، وصوابها : سجنا. (م).

٤٤

جنس العرب والمسلمين على الإطلاق ، ومنتهى الذم عندهم أن يقولوا عربي بسكون الراء على أنّها في جميع لغات الإفرنج بالفتح ، ولا يمكن أن يخطر ببالهم أن من العرب من هو ذو أدب وكياسة ، بل لا يكادون يظنون أن اللغة العربية يتكلّم بها غير المسلمين. وحيث كانوا يعلمون أن الإفرنج ينسبونهم إلى العرب زادت بغضتهم له ، فما أحد ممن ألف الحظ في الحمام والبساتين والغياض والمواسم والتأنق في المطاعم يترك بلاده ويأتي إلى هذه الصخرة الصمّاء.

هذا ومن يكن من العرب ذا غيرة على لغته فلا يطيق أن يسمع الكلام المالطي على فساده. ومع كون هذه الجزيرة قريبة جدّا من تونس وطرابلس فما بها أحد منهما سوى عابر طريق قال الشاعر :

وأصعب ما يلقى الفتى في زمانه

إذا حلّ نجم السعد في برج نحسه

إقامته في أرض من لا يودّه

وصحبته مع غير أبناء جنسه

٤٥

في فالتة قاعدة جزيرة مالطة

هذه المدينة هي مقر الحاكم الإنكليزي وأعجب ما فيها حصانة أسوارها وحسن مرسييها. أما الأسوار فربّما كان نصف أحدها من صخر وتمامه مبني بناء.

وأما المرسى فقد مرّ ذكره ، والغالب عليها الرونق والبهجة حيث كان بناءها من الحجر كما مرّ ، وطيقانها مزجّجة ولا سيّما إذا عرضتها من بعد ، غير أنها خالية من المناير(٣٢) ونحوها فهي بدونها كالهامة القرعاء.

وصف دورها

وأحسن ما يستحبّ من ديارها كونها مبنية من الحجر على صفّ مستو فلا ترى فيها دارا خارجة عن الخط أصلا غير أنها متفاوتة الارتفاع وليست مرتّبة في وضع الغرف والمساكن ، فإن الدار الكبيرة تكون عبارة عن عليّة واسعة طويلة ثم صف حجرات متنافذة (٣٣) المدخل ، فلا يمكن للإنسان أن ينفرد بواحدة منها دون الأخرى. فأما الديار الصغيرة ، ولا سيّما القديمة ، فهي خالية عن الترتيب أصلا ومنجورها (٣٤) يصبغ غالبا في كل سنة ، وحيطانها ملبّسة بالورق المنقوش كما في بلاد أوروبا إلا أنّ طاقاتها لا تفي بالمراد ، فإن بين الأهلين حقوقا في المطالّ (٣٥) ، فلا يمكن فتح الطيقان

__________________

(٣٢) المناير : جمع منارة وهي ما يقام في الموانئ لهداية السفن. (م).

(٣٣) متنافذة : متّصلة. (م).

(٣٤) المنجور : خشب الأبواب والشبابيك. (م).

(٣٥) المطالّ : جمع مطل ، وهو النافذة يطل منها. (م).

٤٦

في جميع الحيطان ، وما عدا ذلك فإن لها رواشن (٣٦) خارجة من الحائط موضوعة بحيث تمنع النور والهواء ، وهي عالية لا يمكن لمن يكون في الحجر أن يرى منها شيئا إلا إذا كان واقفا فيها أو جالسا على كرسي وهي أشبه بما يسمّيه أهل الشام كشكا ، ويقال إن وجود هذه الرواشن بمالطة هو أحد الأدلّة على كونهم عربا إذ هي لا توجد في بلاد الإفرنج إلا في ما فتحته العرب منها ، وربّما كان في الدار الواحدة ثلاثة رواشن ، وقلّ أن تجد دارا ذات ثلاث طبقات صالحة للسكنى ، والأغلب اثنتان ، وإن وجد فالثالثة إنّما تكون للوازم الدار. وقلّ أن ترى فيها دارا مبلّطة بالرخام حتى إنّ قصر الحاكم ليس فيه ولا بلاطة منه ، وإنّما المستعمل في ديار كبرائهم البلاط المعروف ، ولكن يدهنونه بالزيت مرارا بعد أن يكشط وجهه فيصير له لون كالكهرباء ، وكذلك قلّ أن ترى في الديار التي تكرى خزائن أو مخادع أو رفوف ، وإنما يلزم شراء ذلك على حدته وليس فيها ولا في غيرها فوارات ولا ساحات فسبحة كديار دمشق ولا إسطبلات. ومن كان عنده فرس ربطه في الخارج ، وأقل من ذلك الممارات فإنّهم يشترون مؤنتهم يوما فيوما بل ربّما إذا ادّخروها فسدت كما تقدم ، ويرون ذلك تخفيفا للكلفة فإن صاحب العيلة إذا ربى في منزله الحيوان ، وخزن المونة واتّخذ الخبز كان له ولأهله شغل شاغل ، ولعل سبب ذلك في الأصل عدم انتقال الأسعار.

ومما يقبح ذكره هنا أن أكثر البيوت الصغيرة ليس فيها مراحيض ؛ فيرفع أهلها أقذارهم في وعاء ، ويقذفون بها في الطرق ليلا فيأتي الكنّاسون للطرق صباحا ويزيلونها. وقد كانت العادة من قبل أن المحبوسين لجرائرهم هم الذين ينظّفون الطرق بأن يخرج بهم شرطي وهم مقيّدون. والظاهر أنّ المالطيين قبل مجيء الإنكليز إلى جزيرتهم لم يكن عندهم مراحيض وإنّما كانوا يستغنون عنها بثقوب ينقبونها في أسفل الدار ، وكانوا غير محتاجين إليها أصلا كما قال الشاعر :

من يكن عيشه كعيشك هذا

فلتكن داره بغير كنيف

__________________

(٣٦) الرواشن : جمع روشن : الكوة في الجدار (فارسية). (م).

٤٧

من شروط الإيجار

وقلّ أن توجد دار بأثاثها وفرشها كما في مدن الإفرنج ومن شروط الإيجار أن يستأجر الإنسان الدار على ثلاثة أشهر فما فوق ذلك ويعطى الأجرة سلفا ، وقبل انقضاء المدّة بأيّام يؤذن المستأجر ربّها بأنه يريد أن ينتقل منها أو يجدد استئجارها ، فإذا انقضت المدّة ولم ينتقل لزمه إعطاء الأجرة ، غير أنّه لا يسوّغ للمالك أن يرمي بأمتعة المستأجر أو يخرجه كرها ، وإنّما عليه أن يضرب له أجلا ولو شهرا ، وإذا عرضت دار للكراء كتب صاحبها ورقة تؤذن بذلك ، وألصقها ببابها إذ ليس عندهم شيخ حارة تتجمّع عنده المفاتيح كما في مصر. ومن استأجر دارا فلا بدّ وأن يدخلها مبيّضة مصبوغة المنجور ، وصبغ الخشب عادة حميدة فإنه أبهى للنظر وأبقى للخشب ، وقد تظهر به الدار بهية في الخارج ، وربّما كان داخلها بخلاف ذلك ، وهي عكس العادة عندنا ، فإن خارج ديار مصر والشام مظنّة للهمجية مع أن داخلها منقوش مزخرف ، وسبب ذلك أنّ الحكّام في السابق كانت أيديهم ممتدّة لأخذ أموال الناس فلم يكن أحد من الرعيّة يتظاهر بالغنى لا في بناء ولا في لباس. أما صبغ الزجاج في مالطة فغير مستعمل. ثم ليس على عزب أراد أن يسكن بين المتزوجين من حرج ، ولا حرج عليه أيضا في الصعود إلى سطحه ، ولا يطلب منه ضامن من حيث أدبه وحسن تصرفه ولكن من حيث كونه قادرا على الأداء.

مرافق الدور

وللديار آبار يجتمع فيها الماء من المطر ، فإذا نفذ التمس صاحب الدار من ناظر الأقنية فأمده بماء من عين جارية ، وسواء في ذلك القريب والغريب ، ومن لا بئر له استسقى من العين المشاعة. وكثيرا ما تجعل المطابخ تحت الأرض ، ولها خروق في سطح الطريق ليدخل منها الضوء فتكون سقوفها مساوية لسطح الطريق وكذا هي مطابخ لندرة غالبا. ولا تخلو كلّ دار من فسحة صغيرة لقوارير الزهور ومن هذه الزهور مالا رائحة له ولا وجود له في بلادنا. وفي الديار الكبيرة ولا سيّما التي

٤٨

يتبوّؤها (٣٧) الإنكليز أجراس صغيرة مدلاة بأسلاك حديد نافذة في الغرف ، ويتّصل بها شرائط من حرير ، فإذا أراد المخدوم إحضار الخادم جبذ الشريطة فسمع الخدم صوت الجرس من كل جهات الدار ، وهذا أوفق من التصفيق باليدين وربّما كتبوا على صفحة الباب : اقرع الباب ، أو أطنّ الجرس وكذا العادة في بلاد الإنكليز ، ولكن ليس في الأبواب هنا خروق لوضع المكاتيب كما في ديار لندرة.

طرق المدينة

أما طريق المدينة فإن الماشي فيها أبدا يصعد ويهبط كحيزوم السفينة في الأمواج غير أنّ لها درجا يهوّن من صعبها ويمكن المشي على حافّاتها تحت المطر ، ولكل طريق حافّتان عن اليمين والشمال لممر الناس ، ومرور الخيل والعجلات في الوسط ، وقد كانت جميعها سابقا مبلّطة ، فكانت كرقعة العجلات عليها لا تطاق ، فاقتلعت الإنكليز بلاطها من الوسط وجعلوا بدله ترابا وحصى فقال أهل مالطة : إن الإنكليز دأبهم أن يحربوا (٣٨) بلادهم كما حربوهم من قبل في أخذهم مدافع النحاس ووضعهم مكانها أخرى من حديد. والحقّ يقال إن فرش الطرق بالتراب والحصى يجعلها في الصيف مثارا للنقع ، وفي الشتاء مناقع للوحل. وإنما فعلت الإنكليز ذلك مراعاة لرضى بعض الأعيان الذين لهم عواجل ، فلنفع هؤلاء وحدهم أغمضوا عن نفع العامّة وهذا دأبهم من أنهم يراعون خاطر العلية دون الجمهور ، والباقي من الحجر على الحافتين متى تصبه الشمس في الصيف يصر مسدرا (٣٩).

هذا ولما كان أهل مالطة أحرص الناس على ملابسهم وأحذيتهم كان خروجهم في الطرق ولا سيّما في الشتاء قليلا فتبقى الطرق دائما نظيفة ، فأما في لندرة فإن النساء يخرجن صيفا وشتاء ويلبسن نحو قباقيب تقيهم من الوحل ؛ فلهذا تكون طرقها

__________________

(٣٧) يتبوّؤها : يسكنها. (م).

(٣٨) حربه : سلبه كل ما يملك. (م).

(٣٩) مسدر : محيّر للبصر. (م).

٤٩

وسخة جدّا. وقد رأيت كثيرا من الإفرنج يعجبون بنظافة طرق مالطة ويفضّلونها على كثير من طرق المدن العظيمة بأوروبا غير أن زوايا كل منها ممتلئة قذرا ونجاسة ومنها ما لا يمكن لاثنين أن يمشيا فيه معا وفي كل زاوية فانوس مركوز على دعائم من حديد يوقد الليل كلّه ومثل هذه الفوانيس لا يوجد في لندرة وباريس إلا في أضيق الطرق وأرداها وقد بلغني بعد تحرير هذا الكتاب أن أنوار فالتة تستعمل الآن من الغاز.

ملاحظات ومآخذ

ثم لا يخفى أن الإفرنج دأبهم أن يشنعوا على العرب والترك أن بلادهم غير نظيفة الطرق ولا مرتبة الأسواق ، وقد ملأوا الكتب بذلك ، ولم أر منهم من مدح مدينة ما إلا أنهم قد أفرطوا في ذلك فإن أكثر هولاء يذهب إلى بلادنا مستوفزا ويرقد في الخانات ، فلا تمكن له مشاهدة ما فيها من الديار الرحيبة والمنازه الفسيحة النيّرة ، فيتأذّى ممّا عانى ، ويحمل ذلك على مناكب البلاد جزافا ، ويغضّ النظر عن سيّئات بلاده. فإن حوانيت أهل الحرف والصنائع في فالتة وغيرها أيضا متفرّقة في جميع أطراف المدينة ، فربّما كان دكان الحدّاد تحت دار قاض أو مطران ، ولا تزال أصوات المطارق بالغة مسامعه ، وكذا الزواني ، ففي كل طريق هنا ترى منهن جملة حتى قدّام قصري الحاكم والمطران ، وكثيرا ما يتّفق أن صاحب العيلة يستأجر دارا بجانب زانية تكون إذ ذاك غائبة فلا يدري بها حتى إذا تبوأ محله أقبلت تجرّ ذيول عهرها ، فمتى قدمت البحرية سمعت لهم ولهن ضجيجا منكرا ، ولا تزال تسمع سفلة أهل البلد هنا يغنّون في الليالي ويزأطون (٤٠) ولا وازع لهم. فهل هذا يعدّ من الترتيب؟ أما أصوات الأجراس من الكنائس فبلية كبرى ، وبالجملة فإنه قلّما يتهنأ الإنسان هنا في سكنى دار.

ثم إنه ليس في فالتة حمّام منظور يتطهّرون به من نجاستهم ، فإذا اضطروا إلى كشط الوسخ عن أبدانهم استحمّوا في البحر. نعم إنه يوجد محل أطلق عليه لفظ

__________________

(٤٠) زأط يزأط : ضجّ وأكثر اللغط. (م).

٥٠

الحمّام ولكنّه ليس في صفة الحمّامات التي في بلاد المسلمين ؛ إذ هو عبارة عن مغطس فقط من دون تكييس ولا تكبيس ولا عرق ، على أنه غال جدّا ونحوه حمّامات سائر بلاد الإفرنج من حيث الكيفيّة لا من حيث الغلاء. والمتنكلزون من المالطيين يقلّدون مواليهم في اتخاذهم مغاطس من قصدير أو خشب في ديارهم ، ويدّعون أن ذلك أسلم للجسم وأنظف ، ولعمري ليس السبب في عدم الحمّامات هنا إلا رداءة الهواء ، فإن من كان في محل دفيء وخرج منه مقابلا للريح لا يأمن أن يمنى بداء.

وكنت قد ذكرت يوما لبعض الأطبّاء عاداتنا على الحمام وتنغّصت لفقده ، فقال لي : لو أن عندنا حمّامات لما كان من يستحم فيها. وقوله هذا يحتمل معنيين فإما أن يكون قد أراد أن المالطيين لا يستعملون ذلك أو أن الحمّام يميت الناس حتى لا يعود أحد يدخله ، وهذا دأب هولاء في الاعتذار عمّا لا يوجد في بلادهم فإنهم يقولون إنه غير نافع أو غير موافق كجواب آخر ، وقد سألته عن وجود رفائين للجوخ (٤١) والشال الكشميري ، فقال : نحن الإفرنج لا نعنى بمثل هذه الصنائع مع أنّهم أعظم الناس اقتصادا وتوفيرا وأكبرهم هنا يرقع سراويله من دبر ويمشي كذلك من دون رداء يستر رقعته.

وليس في هذه المدينة كلّها مصطبة يقعد عليها ، فلا يمكن للإنسان الجلوس إلا في بيته أو في محل قهوة ، نعم إنه يوجد مصطبة عند قصر الحاكم ولكن لا يقعد عليها إلا الأوباش ، فإن القعود عند الإنكليز على هذه الصفة عيب ، وتابعهم المالطيون على هذا. ويقال : إنّه كان في المدينة سابقا عدّة مصاطب فأزالها الإنكليز إلحاقا لها بلندرة.

فأمّا محال القهوة في فالتة فإنها عبارة عن مخازن مظلمة ليس فيها شبّاك يطل على البحر أو على حديقة ، وإذا أطلت الجلوس جاءك الساقي ومسح المائدة قدّامك إشارة إلى أنه ينتظر غيرك ، أو كأنه يقول بلسان الحال لقد أبرمت بي فمتى تفارق.

ولا يمكن لأحد أن يقعد ناحية البحر ساعة واحدة لأنها جميعها قذرة ، ولا يمكن

__________________

(٤١) الرفّاء : من يصلح خروق الثياب ، ويلأم ما بلي منها. (م).

٥١

له في المطالّ المرتفعة الكاشفة على البحر أن يأكل أو يشرب أو يدخّن احتراما لنساء الإنكليز وفي شواطي البحر حيث يعوم الناس مدّة خمسة أشهر لن ترى كنّا (٤٢) أو عرشا (٤٣) أو خيمة وإنما ينصب السابح حرّ وجهه للشمس فيحترق قبل طلوعه من الماء. وفي الحقيقة فإن الإنكليز جعلوا مالطة خالية عن المنازه والمثابات السارّة أصلا.

ومن أعظم أسباب الحظ (٤٤) عند المالطيين الذهاب في القوارب ليالي الصيف ليغتسلوا في البحر ، فتذهب الرجال والنساء معا ويقضون هزيعا من الليل بالسباحة والغناء.

والقوارب في مرسى فالتة كثيرة جدّا وكلّها مصبوغ ظريف ولكن ليس فيها مقاعد كقنج مصر ، ولا زرابي أو زخرفة كقوارب الأستانة (٤٥) إلا أن هذه خطر على راكبها ؛ فإنها لخفّتها تميد من أدنى شيء. ولقائل أن يقول إن المالطيين هم مثل الإنكليز في كونهم لا يلاحظون في لوازمهم سوى مجرد المصلحة بقطع النظر عن الترفه والطلاوة ، فإن متكآتهم ورواشينهم وكراسيهم وقواربهم وسروج خيلهم ليست مجعولة إلا لقضاء الحاجة فقط. وأغرب من ذلك حوانيتهم فإن التاجر لا يزال واقفا من الصباح إلى المساء وقلّ من كان عنده كرسي له أو للمشتري ، وفي هذا الأخير خالفوا الإنكليز.

ويقولون للقارب «دعيصة» وكأنه تصغير دعصة الرمل ، شبهوه بها لاستدارته وصغره ، وهذا دأب العرب في أنّهم يسمّون الأشياء الغريبة عنهم بما ألفوه في بلادهم ، فإن قلت إذا كان هذا دأب العرب فمن أين للمالطيين ذلك؟ قلت لا ينكر أحد أن اللغة المالطية هي عربية وأن المسلمين حين استولوا عليها (أي الجزيرة) كما مرّ هم الذين سمّوا هذه الأشياء وإنّما لم يقولوا قاربا مع كونها عربية فصيحة ، لأن في اللغة المالطية أشياء كثيرة عدل بها عن استعمالها الأصلي ، واستعير لها اسماء مشابهة لها ، أو مجاورة ، فيقولون مثلا للقليل : «فتيت» ، بسكون الفاء وكسر التاء

__________________

(٤٢) الكن : ما يستر من الحر والبرد. (م).

(٤٣) العرش : المظلّة من قصب ونحوه. (م).

(٤٤) الحظ : السعادة والانبساط. (م).

(٤٥) وردت في الطبعة الأولى إسلامبول. (م).

٥٢

الأولى وسكون الياء والتاء لثانية) ، وللكثير «وسق» (بكسر الواو وسكون السين والقاف) ، وللحصان «زامل» بالإمالة وهو ما كأنه يظلع من الدواب لنشاطه ، وللقرية «رحل» (بل حل بفتح الحاء وسكون اللام) وهو في اللغة مسكن الرجل ، وما يستصحبه من الأثاث وغير ذلك.

وسائل الترفيه والتسلية

ومن ذلك أي الحظ عندهم التماشي أمام قصر الحاكم حين يعزف بآلات الطرب العسكرية فيذهب إلى هناك جميع المتشبعين المتكيّسين فترنو الرجال إلى النساء وتدلّ النساء على الرجال ومن ذلك الأعياد الكنائسية وهي كثيرة جدّا ، فإنّ لكلّ قدّيس عيدا مختصّا به في زمن مخصوص ومكان معلوم ، فيرحل إليه عند اقترابه المتلهّون ، ويقضون ما تيسّر لهم من اللذّات وسماع الموسيقى ورؤية لعب النار وما أشبه ذلك ولا بدّ للأوباش في هذه الأعياد أن يسكروا ويفحشوا ما أمكن.

ومن ذلك حلبة السباق وقد تكون في الخيل والحمير والقوارب والسابق يفوز بالخطر(٤٦). ومن ذلك زحلوقة لهم يحضرها ألوف من الناس وهي أنّهم يربطون خشبة طويلة كصاري المركب إلى سفينة ، ويدهنونها بما تزلّ عنه القدم ، وينصبون أمامها غرضا ثم يمشون إليه على تلك الخشبة ، فمن زلّ عنها وقع في البحر.

ومن ذلك ثلاثة أيّام في المرفع (أي الكرنيفال) وهي الأحد والاثنين والثلاثاء يلبس فيها الرجل كالمرأة والمرأة كالرجل ويتزيّنون بهيئات متنوّعة وأشكال مختلفة ، ويغطّون وجوههم بجلود على هيئة الوجه (أو الحيوان) ، ويطوفون في المدينة حيارى سكارى ، ويسمّون هذا التشكّل مسكرة وكأنه محرف عن المسخرة ، ولا يتحاشون في هذه المدّة شيئا من الخلاعة والقصف والمنكرات. ويومئذ تغصّ الطرق بالناس والمواكب فإذا أصبح يوم الأربعاء ذهبوا إلى الكنائس ونثروا الرماد على رؤوسهم إشعارا بالإنابة ، ومن ثم يقال لهذا اليوم أربعاء الرماد ، وهذا الاسم باق عند الإنكليز مع

__________________

(٤٦) الخطر : ما يراهن عليه في السباق. (م).

٥٣

إلغاء هذه العادة عندهم ، ومعنى الكرنيفال رفع اللحم أي إزالته.

وممّا جرت به العادة في هذه الأيام أن الحاكم يولم وليمة فاخرة ويدعو إليها وجوه أهل البلد بتذاكر يرسم فيها بقدومهم بملابس مسخرية ، فيلبّونه ويستأجرون هذه الثياب من الحوانيت ، فيقف لهم في غرفة في قصره ، وكلّما قدمت عليه عيلة انحنت له ، فاحتفل بها ، فإذا انقضى السلام شرعوا في الرقص ، وكلّما رقصت النساء قيلا أخذهن الرجال إلى المائدة ليأكلن أو يشربن ما شئن ، ثم يعدن إلى الرقص حتى مطلع الفجر ، فتتفرق الأصحاب ، وربّما اتّخذ بعض جشعي المالطيين من تلك المائدة خبنة وهي ما يحمل من الطعام في الكم ، وكنت أذهب إلى تلك الدعوى بزييّ المألوف ، فيخالونني من الساخرين ، وكانوا يسألونني : هل في بلادكم مثل ذلك؟ فأجيب مغالطا : إن لم يكن هذا فخير منه. ولعمري قبيح بالرجل الفاضل أن يرى راقصا كالولد.

مسرح فالتة

ومن أعظم مواضع الحظ واللذات الملهى وهو المسمّى عندهم بلفظة الثياطر أو الثياطرو (٤٧) ، وليس في فالتة كلّها سوى ملهى واحد ، وجلّ اللاعبين (٤٨) فيه من إيطاليا ولكن ليسوا من الطراز الأول ، وسيأتي الكلام بالتفصيل على ذلك ، إن شاء الله تعالى ، فإني التزمت إيجاز الكلام على هذه الأمور في مالطة ليكون مناسبا لأحوالها إذ جميع ما فيها إن هو إلا مختصر من بلدان أوروبا.

والظاهر أن المسلمين كانوا يطلقون على هذا الموضع اسم الملهى ، فقد كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب ما نصّه : إني فتحت مدينة المغرب ولا أقدر أن أصف ما فيها ، غير أن فيها أربعة آلاف حمّام ، واثني عشر ألف بقّال ، يبيعون البقل الأخضر ، وأربعة آلاف يهودي يؤدّون الجزية ، وأربعمائة ملهى. غير أنّ هذا القدر كثير

__________________

(٤٧) الثياطرو : المسرح. (م).

(٤٨) اللاعبون : الممثلون. (م).

٥٤

على أيّ مدينة كانت ، فإن باريس ، وما أدراك ما باريس ، لا تحوي إلا ثلاثين ملهى ، ويحتمل أن المراد بالملهى هنا كل موضع يكون للهو ، فيدخل فيه موضع الحكايات ، والمشي ، والاجتماع ، ونحو ذلك. وأمّا قوله : بقّال. ففي القاموس في ب ق ل والبقال لبياع الأطعمة عامية ، والصحيح البدّال ونحوه قوله في ب د ل غير أنّه فسّر القربق في باب القاف بأنه دكّان البقال فليحرر.

ومن الغريب أن أحد المشعوذين الطليانيين أبدى في ملهى فالتة من التمثيل والتخييل أمورا غريبة ، ثم أراهم أيضا منشورا من البابا بالرخصة له في هذه الحرفة فصدّقه كلّ من رآه ، فهلا كان هذا المنشور أيضا من جملة شعوذاته.

كنانس فالتة

ومن المباني العظيمة في هذه المدينة الكنائس ، وهي حسنة البناء متقنة مزخرفة بالنقوش والدمى والتماثيل والصور مزيّنة بالأرجوان والاستبرق وأدوات الفضّة والذهب ، وفيها عشرون كنيسة على هذا النسق ، وأعظمها كنيسة صان جوان ، وهي مبلّطة كلّها بالرخام المنقش المصور عليه صور أعيان مالطة الأقدمين المدفونين فيها ، وفي صدر الكنيسة تمثالان للمسيح ولصان جوان رافعا يده فوق رأسه (أي رأس المسيح) يعمّده ، وهما من الحجر ، يراهما الداخل من الباب أكبر من الرجل الجسيم ، وبخارج الكنيسة صفحة ساعة يعلم منها الساعات والأيام والشهور والسنون وإذا هرب جرسها سمع صوته كل من في المدينة فيضبطون ساعاتهم عليها ، وفي هذه الكنائس من الذهب والفضّة والتحف ما يغني جميع صعاليك مالطة ، ولكل يوم من الأسبوع بدلة للقسّيس خصوصية ، وقس على ذلك أيام الآحاد والأعياد والأحوال الطارئة ، كالزواج والمعمودية والموت ، وفي الحقيقة فإن كثرة الكنائس الحسنة في جزيرة مالطة على نحسها لمما يعجب منه.

وفي كل قرية ترى ثلاث كنائس ، فأكثر وأوّل افتخار المالطيين إنّما هو بكثرة كنائسهم؛ إذ ليس عندهم شيء آخر يتباهى به ، والتفاخر صفة قائمة في النفوس. وإذا سرت إلى قرية ما متنزّها فلا تكاد تصل إلا وتحدق بك جماعة ليروك

٥٥

كنائسهم. وجملة ما يصرف على الكنائس والقسّيسين يبلغ ثلاثين ألف ليرة في العام ، ولا يعرفون ضرب الأجراس بالحبال كما يفعل الإنكليز ، وإنما يصعدون إلى قبّة الجرس ويحرّكون مطرقته باليد بما تنقبض منه النفس ويشمئزّ الطبع.

المدرسة الجامعة

ومن ذلك مدرسة جامعة يعلم فيها الفنون واللغات ، وفيها كنت أعلم اللغة العربية إلا أن المالطيين يتعلّمون كل شيء ما عدا لغتهم. وفي مدّة الصيف يعطّل المعلّمون نحو ثلاثة أشهر وأجرهم غير ممنون ، وعند انقضائها يعيّن يوم لاجتماع التلامذة ومشائخهم في حجرة في المدرسة ، وفي الصدر مائدة عليها كتب ، ثم يقوم أحد المشائخ وهو في الغال صاحب المعاني والبيان ، فيلقي على الحاضرين خطبة ، ثم تقرأ أسماء من نبغوا في العلم من الطلبة ويعطون من تلك الكتب ما يليق بهم. وربما حضر الحاكم بنفسه لهذا ، ولا بدّ من أن يعطى لكل معلّم دفتر يكتب فيه أسماء الطلبة وما يحصّلونه من الفنون ، ويشترط عليه أن لا يعلّم تعليما مغايرا للديانة الكاثوليكية الرومانية.

تعليم ومكتبات ومطابع ومرافق أخرى

ومن الغريب أنّ أهل مالطة مع كون لغتهم فرعا عن العربية فليس منهم من يحسن قراءتها والتكلّم بها ، وإذا شاء أحد أن يفتح مكتبا بمالطة تمتحنه علماء هذه المدرسة أوّلا فإذا رأوه أهلا لذلك أعطي رخصته من الديوان فيه ، وجملة ما يصرف على هذه المدرسة وعلى مكاتب أخرى في القرى في كل سنة نحو ثلاثة آلاف وثلاثمائة ليرة.

ومن ذلك دار كتب موقوفة باللغات الإفرنجية فمن شاء أن يطالع كتابا منها ذهب إلى هناك واستوعبه ، وإن كان من الوجوه يحضره إلى منزله. وعدّة ما فيها ثلاثة وثلاثون ألف سفر ، وليس فيها من الكتب العربية ما تحته طائل.

٥٦

وفي المدينة أيضا عدّة حوانيت مشحونة بأصناف الكتب ليس فيها خرم ولا نقصان ، ويمكن أن يقال إن الكتب بأوروبا أرخص ما يكون لا جرم أن المولع عندهم بالعلوم مع سعة ذات اليد لأسعد الناس ، لأنه إذا شاء أن يتعلّم أيّ فن كان وجد له فيه شيخا ، ولأن الكتب والأدوات اللازمة لذلك الفن حاضرة عتيدة يجدها بأهون سعي ، ولا يخشى في الكتاب خرما كما ذكرنا ولا تحريفا ، فكل كتبهم مصحّحة ، ولأن المدارس الوقفية تعلّم فيها العلوم مجانا أو يعطى في مقابلة ذلك شيء زهيد ، فطالب العلم في مالطة يعطى في الشهر شلينين ونصفا ، وطالب اللغة شلينا واحدا ، ولعمري إنّ طالب العلم في لغتنا لو لم يصدّه عن المطالعة إلا تعذّر وجود نسخة صحيحة لكفاه ذلك عذرا فضلا عن نصبه وحرمانه وخموله.

وفي فالتة سبع مطابع إحداها للميري (٤٩) تطبع فيها الأوامر والنواهي التي تصدر من ديوان الحكم ، والباقي للأهلين ، وفيها أيضا دار لصحف الأخبار الواردة من أوروبا ، وداران للصرف توضع فيها الأموال ، ومنارة فيها فانوس كبير لهداية السفن ، وعدة مكاتب للصبيان والبنات يعلم فيها القراءة والكتابة والحساب والتطريز والخياطة ، وغير ذلك. غير أنّ الأولاد تغلب عليهم لغتهم وتمنعهم عن التكلّم بغيرها إذ كانت هي اللغة الغالبة ، وإلى الآن لم يعلم من نساء مالطة من نبغت في المعارف والتأليف ، فغاية ما يتعلّمن إنّما هو أن يقرأن بعض كتب كنائسية. وقد كان في السابق دار معدّة لتلقي النغول (٥٠) ، وتربيتهم ، وقد بطلت الدار وبقيت عادة النغول وعادة التبني من اليتامى. وفيها ثلاثة مستشفيات أحدها للعسكر والثاني للرجال والثالث للنساء. ومن لم يكن لها مأوى تأوي إلى هذا المستشفى وتمكث فيه ما شاءت ، وبخارجها أيضا أربعة أخرى أحدها للمجانين ، وأكثر جنون أهل مالطة يكون عن وساوس في الدين ، وقد رأيت فيه عجوزا تهذي وتقول : اليوم عيد كما أمر بذلك القسيس ، والثاني للمرضى من العساكر البحرية ، والثالث للفقراء ، والرابع للطاعنين في السن العاجزين عن تحصيل معاشهم المادين لوداع الدنيا يدا والمغمضين عن

__________________

(٤٩) يستخدم الشدياق كلمة الميري للدلالة على ما نسميه اليوم : حكومي ، أو رسمي. (م).

(٥٠) النغول : جمع نغل : ولد الزنى. (م).

٥٧

درزها (٥١) ونعيمها عينا قد أصبحوا من هذه الحياة على شفا جرف هار يعتبر بهم اللبيب ، ويتّعظ بهم المستهتر في حب هذه الدنيا الغرور إذ تراهم كالأغرار من الأولاد قد انحنت منهم القدود لما استوى عندهم داعي الأجل ، وأظلمت منهم الأبصار بعد أن أضاء فيهم صبح المشيب وانحلّت منهم القوى بعد أن غلّت (٥٢) منهم الأفكار والنهى ، فثم يقضون ما بقي من ظمء (٥٣) حياتهم بكان وصار.

معلومات إحصائية

وفي فالتة عدّة فنادق للمسافرين بهيّة ذات حجرات مفروشة عتيدة أجرة كلّ منها في اليوم نصف شلين في الأقل. وفيها من الذكور أكثر من اثنى عشر ألفا وخمسمائة نفس ، ومن الإناث أكثر من أحد عشر ألفا وثمانمائة وسبعين ، جملة ذلك أربعة وعشرون ألفا وثلاثمائة وسبعون نفسا. ومن القناصل أربعة عشر ، ومن القسيسين نحو مائتين وخمسين ، وسبعة أديار للرهبان والراهبات.

وجملة ما في الجزيرة كلّها من الكنائس الكبار سبع وسبعون ، ومن الصغار مائتان وأربع وأربعون ، ومن الأديار واحد وعشرون ، ومن الأطبّاء مائة وتسعة وعشرون ، ومن الدوائية والعقاقيرية تسعة وأربعون ، ومن كتّاب الصكوك والعقود مائة وأربعون ، ومن أصحاب الموسيقى مائة وثلاثة وستّون ، ومن المعلّمين في المكاتب مائة واثنان وأربعون ، ومن المصوّرين مائة وثلاثة وتسعون ، ومن المتوظفين في خدمة الميري خمسمائة وواحد وثلاثون ، ومن المرتب لهم عمريات ولا شغل لهم ثلاثمائة وستّون ، ومن التجار ستّمائة وستّة وثلاثون ، ومن السماسرة مائة واثنان وسبعون ، ومن اصحاب الحوانيت ألفان وستمائة وأربعون ، ومن المزارعين ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستّة وعشرون ، ومن الفلاحين ثمانية آلاف وسبعمائة وستّون ، ومن صاغة الفضّة والذهب

__________________

(٥١) الدرز : النعيم والسعادة. (م).

(٥٢) غلّت منهم الأفكار : اضطربت ، وحادت عن الصواب. (م).

(٥٣) ظمء حياتهم : القليل الباقي منها. (م).

٥٨

مائتان واثنان وثلاثون ، ومن النجّارين ألف ومائتان وثلاثة وثمانون ، ومن الأساكفة ألفان وأربعمائة ، ومن الغزّالين والغزّلات ثمانمائة وأربعون ، ومن النسّاجين والنسّاجات ثلاثة عشر ألفا وستّون ، ومن الخيّاطين تسعمائة واثنان وثمانون ، ومن لفّافي ورق التبغ تسعمائة وثلاثون ، ومن الخدّام ثلاثة آلاف ومائة وعشرون ، ومن أصحاب القوارب ستّمائة واثنان وأربعون ، ومن الساعاتيّة ستّة وعشرون ، ومن المتعلّمين في المدرسة الجامعة وفي غيرها ثلاثة آلاف وثمانمائة وثلاثة وثلاثون ، ومن الديار الكبار إحدى وعشرون ألفا ومائتان واثنتان وستّون ، ومن البيوت الصغار ألفان ومائتان وواحد وسبعون ، ومن الحجرات على حدتها ثمانية آلاف وثلاث وأربعون ، ومن الدكاكين ثلاثة آلاف وخمسمائة وعشرون ، ومن المخازن خمسمائة وستّون ، ومن الشون للقمح خاصّة مائة وسبع وعشرون ، ومن الذين لا عمل لهم من الأعيان ستّة آلاف ومائتان وتسعة وستّون ، ومن العامّة نحو أربعين ألفا ، وجملة من يزيد عمرهم على الثمانين سنة سبعمائة وثلاثة وسبعون ، وجملة ما يولد فيها في السنة أربعة آلاف وأربعمائة ، وجملة أهل الجزيرة نحو مائة ألف نفس منهم أحد عشر ألفا وخمسون من الإنكليز ، وسبعمائة وسبعون من الغرباء.

كثيرون إن عدّوا قليلون إن رجوا ،

فهم دون عدّ العشر إن تنو خيرا

وأقسم أنّي صرت للمال كارها

لأن صار لي ام المالطيين مذكرا

وجملة ما يرد إليها في السنة من المسافرين ثمانية آلاف ومائتان وستّة عشر ، وما يصدر عنها تسعة آلاف وخمسمائة وثلاثون.

سوق المأكول

وفي فالتة سوق تباع فيها سائر أصناف المأكول ، فتجد فيها جميع أنواع السمك واللحم كالبقر والضأن والعجل والدجاج والطير ، أمّا السمك فإنه لذيذ جدّا ، وأمّا اللحم فأطيب أنواعه الخروف الصغير يذبحونه وهو دون ثلاثة أشهر فيكون ألذ من لحم

٥٩

الطير ، وهذه الطرفة النفيسة لا وجود لها في لندرة ولا في باريس. أما الطير فإنه قليل جدّا ولا عيب على من يشتري نصف دجاجة بل ربعها أو جناحيها أو رأسها بل مصارينها ، كلّ ذلك من اقتصادهم ، فإنهم أعظم الخلق خبرة به ، ولا عيب أيضا على من يذهب بنفسه ويشتري مؤنة يومه وإن يكن قاضيا بل النساء السيدات يفعلن ذلك أيضا ، ومتى اشترت شيئا تحمّله أحد الأولاد الذين مهنتهم الحمل ، وهم كثيرون ، وكذلك لا عيب على من يشتري من البقول والحليب ما قيمته فلس واحد فقط. وليس في المدينة حمير فارهة للركوب كحمير مصر ، وإنما يذهب الناس في عواجل (٥٤) وهي ليست كعواجل الإفرنج وليس لسائقها مقعد فيها ، وإنّما يمشي بجانبها على رجليه الحافيتين ، ومتى رأى أصحابها أحدا مقبلا ازدحموا عليه ولا ازدحام حمّارة مصر.

أشهر الصنائع في مالطة

وليس في مالطة كلّها مصانع للساعات أو الزجاج أو الأدوات الحربية والأقمشة وغيرها ، فأشهر الصنائع عندهم النجارة والخياطة والسكافة والحدادة والنساجة والصياغة ، وأخص أعمال النجارين الكراسي والمتكآت والموائد والخزائن والصناديق والأصونة ونحو ذلك ، وقد يحسنون أيضا انشاء المراكب وعمل الحدادة مقصور على سرر النوم ، وما يلزم للبناء وعمل الصياغة من الذهب إنّما هو الشنوف (٥٥) والخواتم والسلاسل والأسورة وأشكال طيور وزهور ، والأبازيم والإبر ونحوها. ومن الفضة الملاعق والمغارف وأباريق القهوة والشاي والأقداح والأطباق والمسارج وأوعية السكر ونحوه. فأما النساجة فلا تتعدّى شقق الفوط وأغطية الفرش وقلوع المراكب ، ومن هذا الأخير يبعث إلى بلاد المسلمين مقدار جزيل.

وليس من أهل هذه الصنائع من يصل إلى درجة الإنكليز والفرنسيس في الجودة

__________________

(٥٤) العواجل : مفردها عاجلة ، وهي عربة تجرها الدواب. (م).

(٥٥) الشنوف : واحدها شنف ، وهو القرط الذي يعلّق في الأذن. (م).

٦٠