الواسطة في معرفة أحوال مالطة ، كشف المخبّا عن فنون أوروبّة

المؤلف:

أحمد فارس الشدياق


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-589-X
الصفحات: ٥٧٩

من قبيل الإحصائيّات» المستجدّة في أوربا بعد صدور الطبعة الأولى.

وعلى الرغم ممّا ذكره المؤلّف عن هذه الطبعة الثانية من أنّه «بذل الوسع في ضبطها وتحريرها وتهذيبها ، فقد وجدت فيها العديد من الأخطاء المطبعيّة ، وسواها فصوّبتها ، وأشرت إلى بعضها في الهامش ، وأغفلت الإشارة إلى البعض الآخر للتّخفيف على القارئ ، والتخفيف من حواشي الكتاب. ثم قمت بوضع علامات الترقيم المناسبة في المتن ، وقسمت موضوعات الكتاب إلى فقر تسهّل على القارئ متابعة ما يقرأ ، وزوّدت كل فقرة أو أكثر بعنوان ، أو عبارة موجزة تلخّص الفكرة التي اشتملت عليها.

وللتمييز بين ما وضعته من الحواشي على الكتاب ، وما وضعه المؤلف ، كتبت كلمة المؤلف عقب كل حاشية وضعها. ولك ما نرجوه من وراء ذلك كلّه هو إحياء هذه التحفة ، وإخراجها في ثوب يليق بأهميتها ، ومكانة صاحبها ، ولوضعها في نهاية المطاف في متناول القارئ المعاصر ، والله الموفق للصواب.

قاسم محمد وهب

السويداء ـ سورية في ١٢ / ٥ / ٢٠٠٢

٢١
٢٢

ديباجة المؤلف

الحمد لله الذي أحصى كلّ شيء كتابا ، وأعدّ للمتقين جزاء حسابا ، وألهم ابن آدم أن يضرب في الأرض ويكدح لنفسه كدحا ، ويجوب مناكب البلاد ويسعى ليدرك نجحا ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد رسوله الذي بهرت آيات نبوته الناظرين ، وبزغت شمس دينه فأفل منها سها (١) الكافرين ، ونادى بالحق فزهق الباطل وأمحى طلله ، وأنذر فأرهب وبشّر فأرغب ، وطاب مقاله ومقوله ومقوله (٢) ، خير من دعا وأمر ، ونهى وزجر ، ووعد فأنجز ، وقال أطنب أو أوجز ، وأرشد فهدى ، وأجدى من اجتدى ، صلاة وسلاما دائمين ، متلازمين متلائمين ، وعلى آله وعترته ، وأصحابه وعشيرته ، ما سرى الساري ، وطلعت الدراري.

أما بعد فإن الأسفار طالما ذكرها الذاكرون ، وبالغ في وصفها الواصفون ، فمدحها من علت مروءته ، وسمت همّته ، وذمّها من قصر عنها ، ولم يجن منها. فمنهم من شبه صاحبها بدرّ إن لم ينقل لم يكن في التيجان منضودا ، وبهلال إن لم يسر لم يصر بدرا مشهودا ، ومنهم من زعم أنها الحاملة على الذل ، المضيّعة لحسب المرء والموقعة له في الضّلّ (٣) ، والخمول

__________________

(١) السها : نجم بعيد يمتحن الناس به أبصارهم. (م).

(٢) المقال : القول والمذهب ، والمقول : بكسر الميم وسكون القاف : اللسان ، والمقول : اللسن والفصاحة. (م).

(٣) الضّل : الضلال. (م).

٢٣

وعدم الشكل ، وإن الشيء إنّما يرزن إذا كان في مستقره ، حتّى عرفوا الظلم أنّه وضع الشيء في غير مقرّه ، ومعلوم أنّ محلّ العرب مباين لمحل العجم ، فكان أحد الفريقين إذا جاوز محلّه فقد ظلم ، الى غير ذلك من تناقض العبارات والاعتبارات ، كما جرت بذلك عادة البلغاء في المحاورات ، إذ كلّ حكم وقضية من القضايا الجارية أطالوا فيها المقال ، وجالوا فيها من حيث لا مجال ، كاعتزال الناس والانفراد عنهم ، والمخالطة لهم والأخذ منهم ، فبعضهم اثر الأول ، وودّ أن يقضي عمره على قنة جبل ، وبعضهم شبّه الزحام بمنهل عذب لذي الأوام(٤) ، وأمثال ذلك لا تحصى ، ولا تعدّ ولا تستقصى ، فكان الركون إلى ما قالوا ، والمعوّل على ما فيه جالوا وأطالوا ، غير هاد وحده سبيلا قويما ، ولا شاف كليما إلا إذا امتحن الناقد اللبيب بنفسه أيّ الفريقين أصدق قيلا ، وأهدى سبيلا ، وأطلع على ماذا حملهم على الذم والقدح ، والثناء والمدح ، وماز المعلم من المجهل (٥) ، والحالي (٦) من المعطّل ، فهو حينئذ خبير وأيّ خبير ، غير مفتقر إلى ناصح منهم ومشير ، والحاصل أنّ لكل امرىء شأنا يعنيه ومطلبا هو مقتفيه ، وأن ما قضى الله يكون ، سواء ذمّ الذامّون أو مدح المادحون ، هذا وقد كنت في عنفوان شبابي ، وجدّة جلبابي ، وإزهار سنّي ، وازدهار ذهني ، لهجا بالسفر والاغتراب ، والترحّل عن الوطن والأصحاب إلى بلد ينضر فيه غرسي ، وتطيب فيه نفسي ، واقتبس فيه من مصابيح العلم قبسا ، وألقى إذ الدهر لي موحش خليلا يصادقني مؤنسا ، حتى أدّتني أعمال حابطة (٧) ، إلى جزيرة مالطة ، فألفيتها لا كما أمّلت ، وكابدت منها ما لا يفي بما عنه ترحّلت ، فعنّ لي أن أظهر ما بطن منها ، وأكشف مخبّأها لمن رغب فيها أو عنها ، فألّفت فيها كتابا سمّيته «الواسطة إلى معرفة مالطة» ثم لمّا رأيت أن هذا الشرح لا يروي غليلا ، ولا يشفي عليلا لكونه مقصورا على وصف الجزيرة ، وهي من الصغر بحيث لا تمكّن الواصف من أن يطيل فيها من

__________________

(٤) الأوام : العطش. (م).

(٥) المعلم : ما كان فيه علامة أو إشارة ، والمجهل ضدّه. (م).

(٦) الحالي : المزين بالحلي ، وضده المعطل. (م).

(٧) حبط العمل بطل. (م).

٢٤

القول ماثورة ، أو يضيف إليه فوائد تاريخية خطيرة ، ظل خاطري حائما على مورد التأليف ، وقلبي هائما بسفر طريف ، إلى أن مكّنتني التقادير الممكنة ، بعد لبثي على تلك الصخرة الدرنة (٨) ، نحو أربع عشرة سنة ، من السفر إلى بلاد الإنكليز المتمدّنة ، فاغتنمت هذه الفرصة عجلا وظننت أني أدركت أملا ، وعوّلت على أن أشفع تأليف الواسطة برحلة يعظم وقعها ، ويعم نفعها ، فصرت أقيد ما عنّ لي من الخواطر في وصفهم ، وتارة أنقل من الكتب ما ليس فيه للفكر مسرح ، وللطرف إليه مطمح ، فإن شؤونهم متشعبة ، وأحوالهم مستغربة ، وأنحاءهم شتّى ، ومقاصدهم تستغرق وصفا ونعتا ، ويعلم الله أني مع كثرة ما شاهدت في تلك البلاد من الغرائب ، وأدركت فيها من الرغائب ، كنت أبدا منغّض العيش مكدّره ، كمن فقد وطره ، ولزمته معسرة ، لا يروقني نضار ولا نضرة ، ولا نعمة ولا مسرّة ، ولا طرب ولا لهو ، ولا حسن ولا زهو ، لما أني كنت دائم التفكر في خلوّ بلادنا عما عندهم من التمدن ، والبراعة والتفنن ، ثم تعرض لي عوارض من السلوان بأن أهل بلادنا قد اختصّوا بإخلاق حسان ، وكرم يغطّي العيوب ويستر ما شان ، ولا سيّما الغيرة على الحرم ، وصون العرض عمّا من هذا الصوب يذم ، ثم أعود إلى التفكر في المصالح المدنية ، والأسباب المعاشية ، وانتشار المعارف العمومية ، وإلى إتقان الصنائع ، وتعميم الفوائد والمنافع ، فيجفل ذلك السلوان ، وأعود إلى الأشجان ، وكذا كانت حالة السيّد الأكرم المونس ، أمير الأمراء حسين باشا من أمراء تونس ، فإنه لبث في باريس مدّة طويلة ، وخواطره ببلاده أبدا مشغولة ، فكان يلازمه الأرق ، والهم والقلق ، حتى مكّنه اليوم البري تعالى من تحسين تلك الحاضرة ، وإمدادها بالمرافق الوافرة ، فلله الحمد على بلوغ أربه ، وحصول مطلبه ، فإن تبهية الأمصار الإسلامية ، أشهى إليّ والله من كل أمنية ، كيف لا وعن المسلمين كان أخذ التمدن والفنون في الأعصر الغوابر ، وكانوا قدوة في جميع المناقب والمفاخر ، والمحامد والمآثر ، وهذا التفكّر والأسف ، والتفكّن (٩) المستأنف ، كثيرا ما حملني على الإضراب عن التأليف ، لعلمي أنّ كلامي فيه لا يكون إلا دون

__________________

(٨) الدرنة : الوسخة. (م).

(٩) التفكّن : التأسف. (م).

٢٥

التأريف (١٠) والتعريف ، وأنّى لمثلي أن يدرك جميع ما عند أولئك الناس من الاختراع ، والإحداث والإبداع ، إلا أنّ رغبتي في حب إخواني على الاقتداء بتلك المفاخر ، هي التي سهّلت عليّ هذا الخطب وأطالت باعي القاصر ، فأمسكت القلم من بعد إلقائه مرارا ، وتوكّلت على الباري المعين أن يكشف لذهني ما عنه توارى ، ويدني إلى فكري ما شطّ عنه مزارا ، وحرّرت هذه الرحلة وسمّيتها «كشف المخبا عن فنون أوربا» وذلك لأني لم أقتصر فيها على شرح ما عند الإنكليز وحدهم من الفنون ، بل استطردت إلى وصف غيرهم أيضا والحديث ذو شجون ، وليكن معلوما عند القارئ ، والسامع والداري ، أنّي في كل ما وصفت به الإنكليز والفرنسيس وغيرهم من أهل أوربا ، لم يمل بي هوى ولا غرض بغضا أو حبّا ، إذ ليس لي حذل (١١) مع أحد منهم ولا ضلع ، ولا انحراف ولا ميل ولا ضرّ ولا نفع ، وإنّما رويت عنهم ما رويت ، وحكيت ما حكيت ، بحسب ما ظهر لي أنّه الصواب ، فلا ينبغي أن يحمل قولي على ضغن أو إغضاب ، وأعوذ بالله من أن أبخس الناس أشياءهم ، فأتعمد القول فيما شأنهم وساءهم ، إلا أنّه لا ينكر أنّ الإنسان محلّ النقص والمعيب ، وأنّه قلّ من ينظر إلى نفسه بعين المصيب ، وكذا كنت أقول للإنكليز ، فلم يكن أحد منهم ينكر قولي أو ينسبه إلى التعجيز ، ثم إنّي بعد الفراغ من تحرير الرحلة المشار إليها عرضت عوارض كثيرة ، وأحوال خطيرة ، كحرب أميركا وبولاند مثلا ، وكزيادة في عدد سكان الممالك أو في أعمالهم ممّا استعظمه الناس وصار لهم شغلا ، من جملة ذلك ما جرى في الممالك الإسلامية من التحسين والتنظيم ، والترتيب والتتميم ، إلا أني رايت إيداعها في الرحلة نصبا مستأنفا ، وشغلا لا ينتهي ولا يستوفى ، فصرفت عنه صفحا ، وصدفت كشحا ، إذ حوادث الدهر أكثر من أن يحصرها ذكر ، أو يحيط بها زبر (١٢).

__________________

(١٠) التأريف : التحديد. (م).

(١١) الحذل : الميل وكذلك الضلع. (م).

(١٢) الزبر : الكلام ، والكتابة. (م).

٢٦

مسار الرحلة

الانطلاق

مالطة ٢ أيلول ١٨٤٨

مرسى مسينة ٣ أيلول

صقلّية

نابولي ٤ أيلول

شيفتا فكيه ٥ أيلول

ليفورنو ٦ أيلول

جينوى ٧ أيلول

مرسيلية ٨ ـ ١٠ أيلول

مدينة ليون ١٠ أيلول

باريس ١٤ ـ ٢٧ أيلول

كالي أو كالس ٢٧ أيلول

لندرة ٢٧ أيلول

وير

رويستان

بارلي ٣٠ أيلول

٢٧

التوجه إلى برستول

جبال والس

العودة إلى برستول

بلدة باث

جلتنهام

كلوستر

اجتاز عدة بلدان منها استورد

أكسفورد

قرية صغيرة قبل كمبريج

كمبريج

لندرة

دارنكطون

بنريث

سكوتلاند

ليفربول

منشستر

أيدنبورغ

كلاسكو

كمبريج

لندرة

من لندرة إلى بولون

باريس

لندرة

باريس

لندرة

٢٨

القسم الأول

الواسطة في معرفة أحوال مالطة

٢٩
٣٠

في تخطيط مالطة معربا

شيء عن جغرافية مالطة وتاريخها

اعلم أن تخطيط مالطة هو في ٢٢ درجة و ٤٤ دقيقة من الطول وفي ٢٥ درجة و ٤٥ دقيقة من العرض ، أمّا موقعها في الكرة فإن بعض الجغرافيين ألحقوه بإفريقية بالنظر إلى المكان ، وبعضهم ألحقه بجزائر إيطالية بالنظر إلى عادات أهل مالطة وأحوالهم وديانتهم ، والمراد بذلك أنها من أوربا فممّن ألحقها بإفريقية بثولومي ، وممّن ألحقها بأوربا بلينوس وسطرابوس ، ودليلهما على ذلك كونها على بعد ستّين ميلا من رأس باسرو وعلى مائتين من كلبيه نومينا أركولي ، والمحل الأول أقرب إلى أوربا والثاني أقرب إلى إفريقية. قال : فأمّا عرضها فاثنا عشر ميلا ، وطولها عشرون ، ودورتها ستّون وقاعدتها الآن هي المدينة المسمّاة فالتة ، فأما في الأعصر السالفة فكانت نوتابيلي ويقال لها الآن المدينة ، وموقعها في وسط الجزيرة في أرفع موضع منها ، وكأن الجزيرة منقسمة بها الى شطرين : أحدهما يمتدّ جهة الشرق ، والآخر جهة الغرب ، والذي بنى فالتة كان أحد أمراء الإفرنج وسمّاها باسمه ، وذلك سنة ١٥٧٦ وهي على ربوة بقرب البحر يقال لها شبراس.

قلت زعم بعض المالطيين أنّ أصل هذه الكلمة شبر الرأس ، وبعضهم أنّها جبل رأس وعندي أنّها شعب الرأس. قال في الصحاح : شعب الرأس شأنه الذي يضمّ قبائله ، وهو كناية عن أصل الشيء ومجتمعه كما أن قبائل الرأس مرجعها إلى الشعب ، ويحتمل أنها سمّيت بشيب الرأس لأن أهل مالطة إذ ذاك كانوا يناصبون المسلمين الحرب والثأر ، وكلّ فريق ملاق من فريقه ما يشيب الرأس.

وذكر بوليه المؤلف الفرنساوي أن قاعدة هذه الجزيرة سميت باسم الأمير لا فاليت رئيس طريقة الفرسان ، ولد في سنة ١٤٩٤ ومات في سنة ١٥٦٨ وكان شهيرا بالبأس

٣١

والإقدام ، وأوّل ما استولى عليه من الجزيرة عند محاصرته المسلمين بها برج صانت المو ثم قوي عليهم وأخرجهم منها. قال المؤلف : ثم خلفه باولودل مونتي فأتمّ بناءها في الثامن عشر من أيار ، وذلك في سنة ١٥٧١ وقبل بنائها كان مقام الزعماء المنتسبين إلى طريقة مار يوحنا في برملة والبرغو بشرقي فالتة ، ويقال للثانية فيتوريوزا أي المنصورة ؛ لحرب انتصر فيها أهل مالطة على المسلمين وذلك في سنة ١٥٥٦. قال : وفي ضواحي هذه المدينة قرية اسمها الفلوريانة ، وهي أعمر جميع قرى الجزيرة ، وجملتها أربع وعشرون قرية ، وهي جديرة بأن تسمّى أمصارا لكثرة سكّانها ، وحسن بنائها ، وكنائسها.

وعدد أهل الجزيرة كلّهم نحو ١٢٠٠٠٠ نفس ، ولفالتة مرسيان أحدهما كبير يعدّ من أعظم المراسي وذلك لسعته عدّة بوارج مع الأمن ، ولكونه في وسط بحر الروم فمن ثم كانت الجزيرة بهذا الاعتبار أعظم محل للتجارة على أن تلك المخازن العديدة والشؤون (١٣) الرحيبة المبنية عند هذا المرسى تغري الظاعن والمقيم بتعاطي التجارة فيها ، والثاني صغير وهو مرسي المراكب التي ترد من البلاد المشوبة بالوباء ، ويقال له مرسا مشطو محرّفة عن مرسى الشّط. أمّا هواء الجزيرة فالغالب عليه الاعتدال غير أن أرضها صخرة لا تصلح من أصلها للحرث ، ومع ذلك فإن السنبلة الواحدة تخرج في تربتها التي ليست بالطيّبة ولا الرديئة ست عشرة سنبلة أعشرين ، وفي عام الخصب ثماني وثلاثين ، وفي الجيّدة إحدى وستّين. وأخصّ أصناف غلالها التي يتّجر بها القطن ، وقد يبعث منه إلى جهات مختلفة في أوربا مقدار جزيل إلا أن بخس ثمنه رغّب الأهلين عنه إلى غيره ، فصاروا يصرفون همّتهم في تربية التوت فإن فيه نفعا كبيرا ، وقد علم بالتجربة أنّه يتحصّل منه حرير أعلى من حرير إيطالية ـ قلت وقد علم بالتجربة أيضا أن دود القز لا يعيش في هذه الجزيرة والمؤلف إنّما كتب هذا عند الشروع في تربية التوت قال : وفي هذه الجزيرة تنمو الأشجار المثمرة لأصناف الفاكهة الطيبة كالرمان والتفاح والعنب والإجاص ، وأعظمها الأترج.

__________________

(١٣) وردت في الطبعة التونسية : الشون ، وهي جمع شونة أي مخازن الغلال ، وهي أقرب إلى الصواب. (م).

٣٢

فأما عدد الأهلين الآن بالنظر إلى صغر الجزيرة فإنه عظيم جدّا ولم يعهد من قبل قطانها كانت تحوي هذا المقدار وإنما يعلم أنها كانت مأهولة بأسرها إلا أن بعض جهات منها خلت عن السكان كما يستدلّ على ذلك من الآثار الباقية ، وما وصل إلينا من أسماء بعض قرى لا وجود لها. وسبب ذلك ـ فيما قيل ـ أن المالطيين حين كانوا تحت ولاية الأرجونيين وجدوا أنفسهم عرضة لغزو المسلمين المتتابع ولهجوم لصوص أفريقية ، فجعلوا مقرّهم شرقي المدينة صيانة لعرضهم ومالهم ، وأخلو الجهة الغربية.

وذكر بعض الجغرافيين أنّ مالطة كانت تسمّى في القديم هيبرية وقال بعض : إنه لم يوجد في بلاد أوربا جزيرة عرفت بهذا الاسم وإنما هو اسم مدينة قديمة في صقلية ، ثم عرفت أخيرا باسم كامرينة. ولما استوطن الفينيقيون هذه الجزيرة سمّوها أوجاجية ، وسمّاها اليونانيون : مليتة ، واشتهر ذلك في سنة ٨٢٢ قبل الميلاد ، وسمّاها المسلمون مالطة ، ومعنى ميليسة أو ميليتة في لغة اليونان النحل ، وزعم قوم أنّها سمّيت باسم ميليتة ابنة دوريس على جهة التعظيم ، وهو مشتقّ من ميلت في السريانية ، وهو اسم إله ، ويعرف في غيرها بجونوا ، ولا يبعد أن يكون ذلك أيضا في اللغة الفينيقية. قال : وروى بعض المؤرخين أن بناء مدينة فوتابيلي كان بعد الطوفان بنحو ألف وأربعمائة سنة ، وأعظم ما فيه عبرة من مبانيها قبل تاريخ النصارى هياكل جونوا وأبروسربين وهركوليس وأبولو فموقع الأول هو بين فيتوريوزة وصانت أنجلو.

ويحكى أن ملك نوميدية الذي كان دأبه غزو مالطة كان قد أخذ منه قطعة بديعة من العاج وأهداها إلى أستاذه ، ففرح بها أولا غاية الفرح ، ولكن لمّا علم أنّها أخذت من الهيكل ردّها إلى الملك والتمس منه أن يعيدها في محلها وموقع هيكل أبروسربين في قلعة تسمّى مطرفة وقد وجد فيه آثار ، وموقع هيكل هركوليس في جهة الجزيرة الجنوبية بالقرب من مرسى سيروكو (أي مرسى الشرق) وهو من بناء الفينيقيين ، وقد وجد فيه آثار كثيرة. وموقع هيكل أبولو عند فوتابيلي وهو من بناء الإغريقيين ، وكان ذا رونق عظيم ، ويقال إن جملة ما أنفق في بنائه بلغ سبعمائة وتسعين سسترسيا ، وقد علم ذلك من وجود صنم نصبه له مجلس عام ، ووجد أيضا آثار حمام في محل اسمه قرطين.

٣٣

وممن ذكر حكومة مالطة من الشعرآء الأقدمين أوميروس وأوفيديوس ، ويفهم من كلام الأول أن القبيلة التي يقال لها الفياكنس هم أول من استوطنوا هذه الجزيرة ، وكانوا ذوي قوة وبأس ، ثم خلفهم الفينيقيون ، وهم من جهات صور وصيدا وذلك سنة ١٥١٩ قبل الميلاد وكانوا أهل سعي وكسب وتجارة ، فلبثوا فيها نحو أربعمائة وخمسين سنة حتى تغلب عليهم الإغريقيون ثم سلّموها للقرطاجنيين ، وذلك نحو سنة ٥٢٨ قبل الميلاد ، ثم جاء من بعدهم الرومانيون في سنة ٢٨٣ من التاريخ المذكور فأقرّوا فيها أحكامهم وسننهم. وأعظم ما حدث في دولة الرومانيين ممّا لا ينبغي أن يهمل ذكره قدوم ماربولس ، وانكسار السفينة به وبمن كان معه ، وذلك سنة ٥٨ في عهد القيصر طيباريوس في موضع يقال له الآن خليج ماربولس ومنذ ذلك الوقت تنصّر أهل الجزيرة. ثم بعد انقراض دولة الرومانيين منها استولت عليها قبيلة الفندلس ، ثم القوث ، ثم تغلب على هؤلاء البليساريون وطردوهم منها وألحقوها بحكومة البلاد الشرقية ، وبقيت كذلك إلى سنة ٧٨٠ فاخذوا في هضم الرعية ، فقاموا عليهم وسلّموا الجزيرة للمسلمين.

فتح المسلمين لمالطة

قلت ذكر في كتاب الجمع والبيان في أخبار القيروان أن مالطة فتحت في أيام أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب ، توفي سنة إحدى وستّين ومائتين ، وإنما لقّب بالغرانيق لأنه كان مشغوفا بالصيد. روي أنه بنى قصرا في السهلين لصيد الغرانيق أنفق فيه ثلاثين ألف دينار ، فكنّي بهذه الكنية وكان في غاية الجود إلا أنه غلب عليه اللهو والطرب والأكل والشرب ، ولم يزل مقيما على لذّاته طوال عمره. انتهى. فعلى هذا فلا معنى لقول المؤلف وسلّموا الجزيرة للمسلمين.

قال ثم قام الأمير روجر النورماني بعدها بمائتي سنة ، واستردّ الجزيرة ، وألحقها بصقلية ، فبقيت كذلك نحو سبعين سنة. ولمّا تزوج القيصر هنري السادس سلطان جرمانية وليّة عهد صقلية دخلت مالطة في حكومته ، وذلك سنة ١٢٦٦ وبقيت كذلك اثنتين وسبعين سنة ، وفي أثناء ذلك ولي أخولويس ملك فرنسا حكم صقلية

٣٤

ومالطة معا ، وبعد سنتين تغلّب عليه الأمير بطرس الأراجوني ، ثم آل أمرها إلى الملك كرلوس ملك صقلية فولّى عليها الفرسان من نظام مار يوحنا برضى الأهلين واتفاق دول أوربا ، وكان قد جرى هذا النظام عندهم أولا ثم لما نبغ نابوليون واستولى على البلاد سلّمت له الجزيرة على أن يرخّص للأهلين في التصرف بحقوقهم إلا أن الفرنسيس لم يلبثوا أن هتكوا بعض السنن القديمة ، وانتهكوا حرمة الكنائس ، فتحزب عليهم المالطيون تحزبا لم يخل عن سفك دم كثير منهم ، وعن تلف أموالهم إلى أن أتت الإنكليز فسلّموها لهم ، وكان ذلك في سنة ١٨٠٠.

قلت : لمّا دخلها نابوليون وجد فيها ألفا ومائتي مدفع ومائتي ألف رطل من البارود ، وأربعين ألف بندقية وعدّة بوارج ، و ٥٠٠ ، ٤ أسير من المسلمين ، فأطلقهم ، وذلك في سنة ١٧٩٨.

قال : فأما أخذ المسلمين لها فإنه كان من باب المصادقة أولى منه من المغالبة وعاملوا الأهلين أولا بالرفق والمياسرة ووقّروا سننهم وأحكامهم ، وامتزجوا بهم للغاية حتى كأن الجيلين واحد كما يتبين ذلك من بقاء لغتهم فيهم.

لغة مالطة

قال : أمّا لغة مالطة فذهب بعضهم إلى أنّها عربية فاسدة ، وذهب آخرون إلى أنّها فينيقيّة لأن اليونانيين بعد أن فتحوا الجزيرة لم يخرجوا منها الفينيقيين ، بل ظلّوا فيها آمنين محافظن على لغتهم ، وما برحت مستعملة حتى بعد استيلاء الرومانيين عليها ، وأنها لم تتغير في مدّة القرطاجنيين لأن لغة هؤلاء أيضا كانت فينيقية.

ومع أن دأب الرومانيين كان حمل الناس على التخلّق بأخلاقهم ، والسلوك بسننهم أينما ملكوا فلم يجبروا الرعية هنا على التكلم بلغتهم ، والدليل على ذلك أنّ الرومانيين الذين كانوا مع ماربولس سموا المالطيين بربرا ، ولم يكن يطلق هذا الاسم إلا على من جهل اللاتينية واليونانية.

قال : ثم بقيت في دولة المسلمين أيضا ، ولم تتغير وإنّما دخل فيها بعض ألفاظ أجنبية ، ويؤيد كونها فينيقيّة مشابهة بعض ألفاظ منها للغتنا نحو بير وصيد فإنهما

٣٥

في الفينيقية : بر وصد ، وغير هذا كثير ممّا له لفظ واحد ومعنى واحد في كلتا اللغتين ، والحاصل أن مأخذ اللغة المالطية من الفينيقية أرجح من أن يكون من العربية وإن كانت قريبة من هذه أيضا.

قلت : دليله هذا أوهى من بيت العنكبوت ، فإن البير والصيد ينطق بهما في لغتهم كما في لغتنا سواء ما عدا موافقتهما في تصريف الافعال والأسماء وفي الضمائر ، وغير ذلك من أساليب الكلام كما سيأتي بيان ذلك.

ومن الغريب أنّ المؤلّف لا يعرف الفينيقية ولا العربية ولا المالطية وإن كانت لغته ، ويتعرّض للحكم والاستدلال فكيف يحكم على الشيء وهو يجهله ، وكيف يقول أولا : إنّ لغة المسلمين بقيت في أهل مالطة لشدّة الالتحام الذي كان بين الفريقين ، ثم يقول الآن إنها فينيقية لمجرد وجود كلمتين فيها ، وإنما حمله على هذا بغضته وبغضة أهل بلاده للعرب ، وتبرئة أنفسهم أنهم ليسوا منهم بل من الفينيقيين ؛ إذ كان هؤلاء كما ذكر أرباب جدّ وتجارة ، والعرب عند أهل مالطة كناية عن الهمج ؛ وذلك لجهلهم التواريخ ، ولأنهم لا يرون الآن إلا صعاليك المغاربة. والظاهر أن المسلمين الذين فتحو مالطة لم يكونوا من أهل العلم والتمدّن كالذين كانوا في صقلية وغيرها ؛ فإنّي لم أجد فيما قرأت قط من كتب الأدب والتواريخ قال المالطي ، والسيوطي رحمه‌الله لم يغادر في كتاب الأنساب الذي سمّاه لبّ اللباب أحدا من أهل العلم إلا وذكره ما خلا المنسوب إلى مالطة.

قال أمّا جزيرة (غودش) وتسمّى بالإفرنجية كوتزو فزعم بعض : أن هذه اللفظة يونانية ومعناها مركب مستدير ، وهي كأنها ذيل انقطع من مالطة ، وطولها اثنا عشر ميلا في عرض ستّة وأهلها نحو خمسة عشر ألفا ، وجملة قراها ستّ ، ومدينتها تسمّى الربط (كأنه محرّف عن الربض) وفيها أثار قلعة قديمة. وبقول الجزيرة وفاكهتها طيّبة جدّا وكذا عسلها حتى إن الأقدمين كانوا يفضّلونه على عسل جبل هبلا. ويرد منها إلى مالطة قوارب كثيرة مشحونة بالفاكهة والبقل والسمك. وحكومتها ملحقة بمالطة ، وكذا كانت في الزمن القديم. وزعم بعض أن مالطة وغودش وكمونة كانت في الأصل جزيرة واحدة وحدث لها من الزلازل ما فرّقها.

(انتهى المنقول من كتاب مختصر ألّفه مكلف في تاريخ مالطة)

٣٦

جزيرة غودش

وأقول قد رأيت جزيرة غودش غير مرّة أمّا اسمها فأظنه محرّفا عن لفظة الهودج سمّاها بها المسلمون لشدّة شبهها به ، كما سموا الجزيرتين الأخرين كمونة وفلفلة لصغرهما ، إلا ان أهلها ينطقون بها بالغين المعجمة لا بالمهملة كما ينطق به أهل مالطة ، ولا أعلم في لغتهم كلمة غيرها قلبت فيها الهاء غينا ، فأما قلب الجيم شينا فكثير.

أما أرضها فأحسن من أرض مالطة ولا سيّما كون حقولها مكشوفة للنظر كحقول فرنسا وإنكلترة ، لا كحقول أهل مالطة كما يأتي ، وهي أزكى ثمرا ونباتا وأهلها أخلص طوية ، وفيها الحمير والبغال ضليعة لكنّها غير فارهة ، وربّما بيع الحمار منها بأربعين ليرة.

أما شجرها فإن التفاح لا يكاد يكون أكبر من العليق في الشام ، وشجر التين منبسط على الأرض ، وليس فيها من شجر الجوز سوى شجرة واحدة ، وفيها أيضا نخلة لكنّها لا تثمر. وأسماء قراها ومواضعها كلّها عربية محضة. وممّا أضحكني من خرق أهلها أنّهم يدرسون القمح على البهائم من دون نورج (١٤) ، وذلك بأن يربطوا مثلا كل زوج منها في قرن ويمشوهما على السنابل فيثور هذا ناحية وذاك أخرى ، وكذا هي في مالطة. ومن غرابة أرض غودش أن جميع محالها مزروعة محروثة إلا ما قابل مالطة فكأنه من قبيل مراعاة النظير. أما كمونة فليس فيها سوى بيت واحد وكنيسة ، وأرضها قليلة الجدوى.

__________________

(١٤) النورج : آلة تدرس بها أعواد القمح ونحوها ، تجرها البهائم. (م).

٣٧

في هواء مالطة ومنازهها وغير ذلك

إنما قدمت هذا الفصل من كلامي لأهميته فإن العافية خير ما ملك الإنسان ، وإن أرضا لتأكل من نازلها لجديرة بان لا يؤكل منها. فأقول قد تقدّم فيما مرّ بك موقع هذه الجزيرة ، وبقي الآن الكلام على هوائها من حيث هو هو فإن الهواء لا يعرف غالبا من مجرد نسبة الموقع ، أما اشتقاق اسمها إن كان عربيا فمن م ل ط ومعظمه يدل على التجرد والخلو ، أو التجريد والإخلاء ، فتكون قد سمّيت بذلك لخلوّها عن الغياض والجبال والانهار وغيرها. وفي القاموس : ومالطة كصاحبة د (أي بلد) ، وكان عليه أن يذكر خصوص كونها جزيرة فإنه كثيرا ما يتعقب الصحاح بمثل ذلك. فأما قوله أولا ملط شعره حلقه ، ثم قوله بعد فاصل والأملط من لا شعر على جسده ، وقوله في أول المادة الملط الخبيث لا يرفع له شيء إلا سرقه ، ثم قوله عند الآخر وامتلطه اختلسه ، فن اختلاط الترتيب في التركيب.

وممّن ذكر مالطة أيضا المطران جرمانوس فرحات في كتابه المسمّى (باب الإعراب عن لغة الأعراب) قال : ومالطة جزيرة عاصية متقاصية قرب صقلية سكانها لصوص البحر. قلت : لعلّ تأليفه هذا الكتاب كان قبل سفره إلى رومية وإلا لما قال متقاصية ، أو أنه جاء بها للمجانسة. أما قوله سكّانها لصوص البحر فينبئ بما كان لأهلها حينئذ من الشهرة الذميمة عند أهل المشرق ، وكأن هذه الصفة كانت غالبة عليهم حتى أنسته أن يقول : لغتهم العربية ، ودينهم النصرانية.

فأما الصحاح فذكر ملطية في بلاد أرمينية والآن تعدّ من البلاد التركية. أما هواء مالطة فلا يحمده من ألف البرور الواسعة لأنه كثير التقلّب فيختلف في الليل والنهار عدّة مرار فقد يكون في الصباح صحو فلا تشعر إلا والغيم قد طبّق أعنان السماء ، فيكفهرّ الجوّ ويهيج البحر وتثور الزوابع ، وتزمر الرياح فترقص لها الأبواب ، بل قد يكون في النهار برد وفي الليل حرّ ، هذا في الشتاء. فأما في الصيف فلا ترى في

٣٨

الجو لطخة سحاب ولا غادية أصلا ، وفصل الشتاء يبتدئ فيها منشهر تشرين الأول ، وينتهي إلى أيار ، والباقي صيف شديد ، وإن وقع في خلال ذلك يوم معتدل فتأتي فيه نفحة من الريح باردة وأخرى حارّة ، أو تكون النعور وهي من الرياح ، ما فاجأك ببرد وأنت في حرّ ، أو عكسه. وفي الجملة فإنها جديرة بأن تسمّى مخزن الرياح ، فهي لا تخلو منها باردة كانت أو حارة ، وأكثر رياحها في الصيف السافياء تأتي بغبار وتراب دقيق تطيّره على وجوه الناس ، وتدخله في الديار من خصاص (١٥) الزجاج.

ومن الغريب أن الريح الشرقية التي تكون في الشتاء زمهريرا تصير في الصيف سموما فتتشقّق بها أخشاب المنازل وهي مصبوغة ، وتصرصر (١٦) بها روافد السقوف ، ويجفّ بها الزجاج ويتصلّب ؛ فيكسر بأدنى مسّ ، ويقرمد (١٧) بها الجلد والورق بل يتأثّر بها الحديد والنحاس والعظم ونحوه ، وينتن شمع الشحم فتكون الشمعة في البيت كالجيفة ، وقد تبلغ درجات الحرّ فيها فوق المائة فيقضى الومد (١٨) حينئذ باللباس الخفيف من الكتان ، وبالنوم من دون غطاء. وأكثر أهل مالطة ينامون ليلا على السطوح لكون سطوح ديارهم غير مسنّمة (١٩) بخلاف ديار فرنسا وإنكلترة ، وإذا مشى الإنسان خطوات في الصيف ، يعوم في عرقه ثم لا يلبث أن تلفحه لفحة من الريح ؛ فينبغي أن يكون أحذر من غراب. هذا ولمّا كانت أرض الجزيرة خالية عن الأجم والغياض والجبال والأنهار إذ هي عبارة عن صحن في وسط البحر فمتى أصابتها الشمس مسحتها مسحا على السواء فلا ملطا (٢٠) فيها من شيء ، وربّما زاد حرّها أيضا بسبب النار التي تخرج من جبل صقلية ، ومع قربها من إيطالية فليس في ديارها رخام كديار تونس وليس في شيء منها مياه جارية كديار الشام.

__________________

(١٥) خصاص : جمع خصاصة ، وهي الفرجة ، أو الخلل. (م).

(١٦) تصرصر : تصوّت ، وتحدث صريرا. وروافد السقف : خشب السقف. (م).

(١٧) في الطبعة التونسية : يترمّد : أي يصبح بلون الرماد ، وهو أقرب إلى الصواب. (م).

(١٨) الومد : اشتداد الحر مع سكون الريح. (م).

(١٩) مسنّمة : مرفوعة كالسنام وليست مسطّحة. (م).

(٢٠) الملطا : الملجأ ، والملاذ. (م).

٣٩

ومن جملة الأسباب التي تجعل شتاها عارما (٢١) مكروها كون بنائها من حجر رطب لو جعل في مقمأة (٢٢) بضع سنين لأكلأ (٢٣) ، وحين يستخرج أولا من مقطعه يكون أخضر مائيا ولا يبيضّ إلا إذا نصب للهواء والشمس سنين ، ومن خواصّه أنه قابل للنقش ، فلهذا ترى منه في الديار والكنائس نصمات (٢٤) شتّى ، وقد يبعث منه على سبيل التجارة إلى جميع البلاد ، وكثيرا ما تتوارى الشمس في هذا الفصل فلا تطلّ فيه ولا من شباك ، فاين هذا من شتاء مصر حين يترحّب بالشمس طالعة ، وتشيّع غاربة ، وفي الصيف يطفو نيلها فيرطّب الأرض وينتظم به شمل الأحباب وعقود المسرّات.

وإذا اتفق في مالطة يوم صحو في الشتاء رأيت الناس جميعا يعدّدون محاسنه ويصفونه ، ويلهون عن سوء أيامهم الأخر حين إذ الرياح تأخذ بناصية السائر ، والمياه تهطل من أنف كلّ سحاب ، والزكام ملازم للأنوف ، والسعال قابض على الحلقوم ، وأشد ما يسوء منها استمرار الرياح أياما متوالية من دون مطر فإنه قد يأتي عليها من السنين ما لا يغزر فيه المطر والرياح مع ذلك لا تهدأ أصلا ، وقد احتاجوا في بعض السنين إلى الغيث غاية الاحتياج حتى فرض عليهم أسقفهم دعاء للاستمطار في الكنائس مع الصيام ، والريح مع ذلك تزيد عصوفا فقلت :

ولّما لم يطق كانون قطرا

تولّى وهو يحبق بالرياح

فيا قوم اغسلوا بالدمع فيه

وجوهكم وصوموا عن سفاح

وفي الجملة فإن صيف مالطة وشتاءها شاقّان جاهدان يهجمان بغتة ، فآخر ذنب الشتاء معقود بناصية الصيف فليست كمصر والشام ، فإن الإنسان فيهما يتعوّد على

__________________

(٢١) العارم : الشديد البرد. (م).

(٢٢) المقمأة : المكان الخصيب. (م).

(٢٣) أكلأ : ظهر عليه الكلأ وهو العشب. (م).

(٢٤) نصمات : جمع نصمة ، وهي الصورة التي تعبد. (م).

٤٠