الواسطة في معرفة أحوال مالطة ، كشف المخبّا عن فنون أوروبّة

المؤلف:

أحمد فارس الشدياق


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-589-X
الصفحات: ٥٧٩

بالدليجانس (١١٤) فبلغنا برجا في الساعة السادسة من اليوم الثاني ، ومنها سافرنا في سكة الحديد إلى باريس فوصلنا اليها في الساعة الرابعة من صباح الخميس ، وسيأتي وصف هذه المدينة بعد فراغي من وصف إنكلترة إن شاء الله ، وإنما أقول هنا إنّا لما وصلنا إليها كانت السياسة جمهورية إذ كانوا قد خلعوا الملك لويس فيليب عنا لملك ففرّ بنفسه وأهله إلى بلاد الإنكليز ملجأ الفارّين ، ومأمن القارّين ، ومهما حصل فيها وقتئذ من الشغب وسفك الدماء فلم يكد الإنسان يتميّز المفجوع من أهلها من المغبوط ؛ فإن منتزهاتها لم تزل حافلة بالناس. ثم بعد أن لبثنا يومين في باريس سافرنا في سكة الحديد إلى كالي أو كالس وذلك في الساعة الثانية بعد الظهر من يوم الأربعاء الواقع في السابع والعشرين من أيلول ؛ فبلغناها في الساعة السابعة مساء.

كالي

وكالي هذه إحدى فرض فرنسا المقابلة لإنكلترة ، وهي دون بولون ، وكانت سابقا تحت استيلاء الإنكليز أيام حروبهم مع الفرنسيس ، وبقيت في أيديهم مائتين وثلاث عشرة سنة ، ثم استرجعها الفرنسيس في عصر الملكة ماري سنة ١٥٥٨ ، فلمّا بلغها الخبر أظهرت الحزن الشديد ما قيل إنه كان سبب موتها وقالت : أموت وفي قلبي اسم كالي مكتوبا. فكانت كالي عندها أخت حتّيعند الفراء. بقيت نورماندي وانجو ومين وطورين وبواتو وبريتاني وغيرها بيد الإنكليز نحو سنة ٢٩٢.

في الطريق إلى لندرة

وأوفق لنا أن باخرة معدّة للسفر إلى لندرة فركبنا فيها وسارت ماخرة بنا ، وأول ما دخلت في نهر التامس انحجبت عنّا الشمس واكتسى الجو سحابا ، وكان يوما ماطرا مظلما يقضي بالأسف على شمس مالطة ، وهذا النهر يختلط بالبحر الملح وتسير فيه

__________________

(١١٤) الدليجانس : مركبة عمومية فرنسية تجرها الخيول. (م).

١٢١

السفينة نحو خمس ساعات إلى لندرة ، والسفر فيه بهيج من جهة أن السفينة تسير فيه سيرا خفيفا لا اضطراب فيه ، وترى فيه من البواخر الصاعدة والمنحدرة ما يشغل الخاطر ، وله عند الإنكليز شأن عظيم. ويحكى عن الملك جامس الأول الذي ألحق حكومة مملكة سكوتلاند بإنكلترة أنّه لّما نقم على أهل لندرة أشياء أنكرها أراد أن ينتقل ديوانه منها فقال له ضابط البلد ـ ويقال له بلغتهم مير ـ : إذا كان لا بد من ذلك فلا تنقل نهر التامس معك. وهو كلام بليغ يشير إلى إن أهل المدينة ربّما يستغنون عن الملك بوجود هذا النهر لأنه من أعظم الأسباب الميسرة للتجارة ، ولو لاه لما حصلت لندرة على هذه الثروة والسعة.

والمأكول والمشروب في هذه السفن ، التي تنقل الركاب من فرض بلاد فرنسا وأكثرها للإنكليز ، غاليان جدّا ، فإن قنينة الشراب في تلك الفرض تساوي فرنكا وفي السفن ستّة فرنكات ، وقس على ذلك.

ثمّ لما بلغنا لندرة أخذت أثقالنا إلى الكمرك ، وفتشت فلم يجدوا فيها ما يوجب الأداء ، إلا أنا أدّينا على كلّ صندوق وكلّ حاجة مستقلة نحو خرج وغيره نصف شلين ، ثم تبوأنا محلا في إحدى الديار ، وبعد أن استرحنا سافرنا منها في سكة الحديد إلى بلدة «وير» بقصد المسير منها إلى القرية التي يسكن فيها الدكطر لي الذي اعتمدته الجمعية لأن يكون معارضا ترجمتي بالأصل الذي أترجم منه.

الدكطرلي

وكان للمذكور شهرة عظيمة عند الإنكليز في معرفة اللغات الشرقية ، وكان في مبدأ أمره نجّارا لكنّه أكبّ على العلم ، وقد فات الثلاثين سنة ، فحصّل معلومات غير يسيرة ، غير أنّه لم يتمكّن من اللغات التي حاولها ، وسيأتي ذكره بعد هذا.

البحث عن الطعام

وحيث كان اسم القرية المذكورة مكتوبا على أثقالنا فلمّا بلغ الرتل إليها وضعوها

١٢٢

في الموقف ، ونحن لم نشعر بذلك ، وبقينا سائرين فيها حتى إذا وقف مرّة ثانية سألنا عنها فأخبرنا بأنّا تجاوزناها بنحو ثلاثة أميال ، فرجعنا إليها مشاة فوجدنا حاجاتنا سالمة ، فسرت في طلب شيء للأكل ، فلم أجد فيها مطعما ، فقلت لأحد الوقوف : ألا نجد طعاما هنا؟

قال : هلمّ معي. فأخذني إلى الجزّار ، وذلك لأن مرادف لفظة الطعام عندهم يستعمل غالبا في اللحم.

قلت : إني أريد شيئا آكله ؛ فدلّني على حانوت بقربه ، فتوجّهت فلم أجد إلا الخبز. قلت : ما الخبز وحده أريد. فدلّني على دكان آخر ، فذهبت فوجدت به الفطير فقط ، فعدت خائبا ، ولقيت بعض الشرطة فقلت له : ألا تهديني إلى محل للأكل؟ فدلّني على موضع زعم أنه شهير يقصده جميع المسافرين ، فتوجّهت فوجدت صاحبته امرأة ضخمة فظّة تحاول إظهار السيادة والإمارة في وجه قاصديها ، فسألتها : هل عندك ما يؤكل؟ قالت : ما عندي سوى البيض ، فتبلّغنا بما عندها ، ورجعنا إلى الموقف حتى جاء الرتل الذي يسير إلى رويستان وهي قرية جامعة. وقد ذكرت هذه الحادثة هنا دليلا على ما يرى من الفرق بين بلاد الإنكليز وفرنسا ، فإن القرى الحافلة في هذه ولا سيّما التي يقف فيها المسافرون يوجد فيها كل ما يشتهي الإنسان من المأكول والمشروب ، وحين كنّا نسافر فيها وتقف حافلة المجدّ كنّا نرى النساء يتسابقن إلينا حاملات لأطباق الفاكهة الطيّبة ويعرضنها على السّفر ، وكنّا نجد أيضا في المطاعم كلّ ما تشتهيه الأنفس.

الوصول إلى بارلي

ثم سرنا إلى رويستان ومنها إلى قرية بارلي وهي على بعد ثلاثة أميال منها ، فبلغناها في الساعة الحادية عشرة ليلا ، فتوجّهت إلى دار الدكطر لي فوجدته مستعدّا لتلقّي الأحلام السعيدة ، فقال لي : قد كتبت إليّ الجمعية تخبرني بقدومك ؛ فينبغي أن تذهب الليلة لتبيت في خان القرية. فبتنا فيها ، وفي الغد كتب إلى الجمعية يخبرهم بأنّه أكرم مثواي ، وعني بإنزالي منزلا مريحا ؛ فشكروه على عنايته.

١٢٣

وكانت مدّة سفري من مالطة إلى هذا المنفى في ثمانية وعشرين يوما.

لمحة عن إنكلترة

ثم قبل الشروع في الترجمة وفي ذكر شيء من أحوالي ينبغي هنا أن أقدّم كلاما في أحوال إنكلترة على وجه الاختصار فإنّ تفصيل ذلك مرجعه إلى كتب التاريخ والجغرافية ، فأقول : إن الرومانيين كانوا يسمّونها : بريتانيا ، وفي اللاتيني المتعارف تسمّى : إنكليا وفي لغة أهلها انكلاند ، ومعنى لاند : أرض ، وحين يذكرون بريتانيا فإنّما يعنون بذلك إنكلترة ووالس وإرلندة ، وهي منقسمة إلى اثنين وخمسين كونيا أي ولاية منها اثنتا عشرة ولاية هي الأصول ، وأشهر مدنها : دوفر ، ونرويش ، وهل ، ونيوكاستل ، وليفربول ، وبرستول ، وفلموث ، وبليموث ، وبورتسموث ، واكسفور ، وبرمنهام ، ومنشستر ، وشفيلد ، ونوتنهام ، وكمبريج ، ويورك ، وباث ، وشلتنهام. وهي كثيرة معادن الحديد والفحم والقصدير والرصاص والنحاس ، وحيواناتها ضليعة حسنة الصورة ، وبها مراع واسعة ومروج نضيرة ، وفيها نحو خمسين نهرا تصلح للسفر أشهرها التامس ، وجبالها قليلة لا يبلغ أعلاها أكثر من مائة ذراع ، وطول الجزيرة كلّها لا يزيد على ثمانمائة ميل ، وعرضها في بعض الجهات ثلاثمائة ، وفي بضها أقل.

معلومات إحصائية

وقبل فتح الرومانيين لها لم يكن عنها خبر يعتمد على صحّته ، وقد غزوها مرّتين وذلك في سنة ٢٦ و ٥٥ للميلاد ، وكان عدد أهلها حينئذ نحو مليون ، وفي سنة ١٨٥١ بلغ عددهم (٢٦٢ ، ٤٥٢ ، ١٧) نفسا ، وعن غيبون أن الرومانيين كانوا يحسبون بريتانية مغاصا للّؤلؤ ، وهو الذي دعاهم إلى فتحها. وبعد حرب أربعين سنة استولوا على أقصى أطراف الجزيرة.

وعدد من ولد فيها وفي والس في سنة ١٨٥٤ بلغ (٥٠٦ ، ٦٣٤) أنفس ، وعدد من مات ٢٣٩ ، ٢٣٨ ، وفيها ٠٧٧ ، ١١ أبرشية. ويقال : إنّها كانت في الزمن القديم متّصلة

١٢٤

بأرض فرنسا.

ونقلت من جرنال التيمس : إنه يوجد في إنكلترة وإرلاند أربعة وخمسون قاضيا في المحاكم العليا تبلغ وظيفتهم ٨٠٤ ، ٢٤١ ليرة وثلاثمائة وخمسة وتسعون قاضيا في المحاكم الأدنى تبلغ وظيفتهم ٦٦٣ ، ٢٩٢ ليرة ، فتكون جملة القضاة ٤٤٩ ، وجملة وظائفهم ٤٤٧ ، ٥٣٤ ليرة. قال ولكبير القضاة عشرة آلاف ليرة في كل سنة ، ولقاضي محكمة الاستدعاء ستة آلاف.

ويوجد ٥٨٦ ، ١٨ من القسيسين المنتمين إلى الكنيسة المتأصلة و ٥٢١ ، ٥٨ من قسيسي الكنيسة البابوية ، و ٤٧٧ ، ١ من طلبة علم اللاهوت ، والمدرسين فيه ، فتكون الجملة ٦٤٧ ، ٣٠ وعدد فقهاء الشرع ٤٢٢ ، ١٨ ما عدا ٧٦٣ ، ١٦ ما بين وكيل دعوى وكاتب صكوك ونحو ذلك ، وعدد الأطباء ٧٢٨ ، ١٨ ما عدا التلامذة الذين دخلوا في سلك المتطبّبين و ١٦٣ ، ١٥ ما بين جرّاح ودوائي ، ويضاف إليهم أكثر من ألف ومائة من معالجي الأسنان و ٤٣٠ صانعا لآلات الجراحة. فأصحاب هذه الحرف الثلاث أعني القسيسية والفقهية والطبية ، ومن يتعلق بهم وينضمّ إليهم يبلغون ٧٣٠ ، ١١٠ وعدد المؤلفين وأهل الأدب ٨٦٦ ، ٢ منهم أربعمائة وستة وثلاثون مؤلفا يكتبون لناشري الكتب ، و ٣٠٢ ، ١ ما بين كاتب وناشر.

وعدد أهل الصنائع الظريفة ٦٠٠ ، ٨ من جملتهم الرّسّامون ، وعدد المدرسين في العلوم أربعمائة وستة وستون ، وعدد المهندسين ٠٠٩ ، ٣ وجملة المشتغلين بالتعلم والتخريج ٣٤٤ ، ١٠٦ منهم ٣٧٨ ، ٣٤ رجالا و ٩٦٦ ، ٧١ نساء وفي عداد الأول يعملون في المكاتب و ٣٧١ ، ٤ يعلمون مطلق التعليم و ١٤٩ ، ٣ يعلمون الموسيقى و ٥٣٠ ، ١ يعلمون اللغات و ٥٥٤ يعلمون الهندسة ، وفي القسم الثاني أعني النساء ٨٨٨ ، ٤١ يعلمن في المكاتب و ٢٥٩ ، ٥ يعلمن مطلقا ٦٠٦ ، ٢ يعلمن الموسيقى ، ويوجد أكثر من ألفين من اللاعبين واللاعبات في الملاهي ، فمن الرجال ٣٩٨ ، ١ ومن النساء ٦٤٣ ومن أهل الموسيقى الرجال ٦٦٨ ، ٣ ومن النساء ٤٣٢ وعدد الذين هم في الخدمة المدنية ٦٩٨ ، ٧١ في خدمة الإدارة المدنية و ٧٨٥ ، ٢٩ في خدمة دواوين الميري و ٧٦٨ ، ٣ في خدمة دولة الهند ومقامهم في بريتانيا.

١٢٥

الشروع في ترجمة التوراة

ثم إني أخذت في أن أذهب إلى الدكطر لي في كل يوم لأترجم التوراة ثم أعود إلى منزلي ملازما له ، فلم تمض عليّ أيام حتى عيل صبري ؛ لأنّ هذه القرية التي قدّر الله أن أسعد الناس بترجمتي فيها كانت من أنحس قرى الإنكليز ، على أن جميع قراهم لا تليط بقلب الغريب لما سيأتي.

متاعب الإقامة في القرية

ولم يكن فيها للأكل غير اللحم والزبدة المخلوطة بالجزر ، والخبز والجبن واللبن المذيق والبيض والكرنب ، وذلك يغني عن ذكر ما هو معدوم فيها ، على أن هذه اللوازم إنّما كانت نفاية ما يوجد في المدن. ومن عادة الإنكليز أن يكون لهم بالقرب من القرى بليدة يباع فيها ما يلزم لهم من المأكول والمشروب والملبوس والأثاث ؛ فيذهب إليها الفلاحون مرّة في الأسبوع ويشترون ما يلزمهم ، وقد يمرّ على البيوت ليلا رجل ينفخ في البوق تنبيها على ذهابه إلى تلك البليدة فمن شاء أن يشتري شيئا كلّفه به وجزاه على ذلك. وقد يمرّ أيضا تجار بعجلات فيها نحو البن والشاي والسكر ، أو يكون معهم راموز هذه الأشياء ليبعثوا منها للمشتري من حوانيتهم. وبمثل هذه الأسباب المتنوعة والصعوبة المبرحة يحصّل الإنسان ما لا بدّ له لقوام عيشه.

أمّا محار البحر والسرطان والإنكليس ، وهذا الذي يسمّونه «لبستر» ، وهو أطيب ما يؤكل عندهم ، وهو في شكل البرغوث وأكبر من السرطان فلا وجود لها البتّة. وأمّا السمك فلا يرد منه إلى مرّة في كل ثلاثة أشهر ، على أن جميع أصناف سمكهم مسيخة (١١٥) إلا صنفا منها يقال له : سمن ، وهو طيب لكن لا بالنسبة إلى سمك بلادنا (١١٦). وقد يضعونه في الثلج ليلا ويعرضونه للبيع نهارا ، فربّما كان

__________________

(١١٥) المسيخ من الطعام : ما لا طعم له. (م).

(١١٦) وردت العبارة في الطبعة الأولى على النحو الآتي : بالنسبة إلى سمك بلادنا لا طعم له. (م).

١٢٦

عمر السمكة بعد صيدها أطول منه قبله. ولكن ربيب الثلج هذا لا وجود له إلا في المدن.

الغنى والفقر في إنكلترة

ومن قدم إلى لندرة ورأى فيها تلك الحوانيت العظيمة والأشغال الجمّة والغنى والثروة حكم على جميع الإنكليز بأنّهم أغنياء سعداء ، ولكن هيهات ؛ فإنّ أهل القرى هنا كأهل القرى في الشام بل هم أشدّ قشفا. وكثيرا ما تقرأ حكايات تدلّ على بؤسهم ، وقشف معيشتهم ممّا لا يقع في بلاد أخرى. فمن ذلك حكاية عن حائك شكا حاله إلى إحدى النساء المخدومات فقال : «يا سيدتي إنّي حائك وإنّ لي امرأة وثلاثة أولاد بقوا من عشرة فجعت بهم ، ودخلي من كدّي الليل والنهار لا يزيد على سبعة شلينات في الأسبوع ، ولكن عليّ أن أعطي منها شلينا واحدا لأجل النول ، وأربعة في الشمع الذي أسهر عليه. فقالت له : وكيف تعيش على هذا الدخل القليل؟ قال : على قدر الإمكان. ألا وقد مضى علينا ستة أشهر لم نشتر فيها رطلا واحدا من اللحم ، بل لا نقدر على مشترى الحليب إلا بالجهد ؛ فجلّ طعامنا إنّما هو الشعير وحساء الماء. وقد يكون لنا في بعض أيام الآحاد ادام من البطاطس. أمّا أنا فلا أبالي فإنّي قد ألفت البوس ، والضنك ، ومذ سنين عديدة لم أعرف شيئا من الدنيا سوى الكدّ والكدح المبرح على قلّة الأجرة ، ولكن همّي بالأولاد ، وبأمّهم النحيفة.

فقوله : إنّه لم يقدر على شراء الحليب مع كونه في الريف أرخص الأشياء بالنسبة إلى غيره يغنيك عن مزيد البيان فيما يكابده هؤلاء الناس. وكثيرا ما تقرأ أيضا في صحف الأخبار عن أناس تركوا أولادهم من الإملاق ، أو ماتوا من الجوع والبرد ، أو النوم على الأماكن القذرة ، أو اعتفدوا (١١٧) فماتوا جوعا. نعم إنه يوجد مستشفيات وملاجئ يقوم بها الأهلون إمدادا للفقراء والعاجزين ونحوهم إلا أنها ربّما كان عدد من فيها لا يقبل الزيادة ، أو كان اللبث فيها ضنكا أو الدخول إليها صعبا ونحو ذلك.

__________________

(١١٧) اعتفد : أغلق بابه على نفسه ، لا يسأل أحدا حتى يموت جوعا. (م).

١٢٧

وقد يبلغ من فقرهم أنهم يتركون طفالهم بغير معمودية لئلا يعطوا القسيس مصروفها. وأعرف في القرية المذكورة أولادا كثيرين لم يتعمّدوا مع أنّهم من رعية الكنيسة المتأصّلة التي توجب المعمودية ولا تأذن لمن مات غير معمّد أن يدفن في مدافنها فتنزله منزلة المنتحر.

سبب فقر الفلاحين

وسبب فرط فقر الفلاحين هنا هو كون الأرض قد دحاها الله تعالى لأن تكون ملك الأمراء والأشراف فقط ، فيستاجرها منهم أناس مأمونون ، ويستخدمون بعض الفلاحين في حرثها واستغلالها ، فلهذا لن تجد في القرية أحدا ذا رواء ورياش إلا مستأجر الأرض ، وقسيس القرية على أنه لا يلي شيئا من أمور أولاده الروحيين سوى الخطبة فيهم يوم الأحد لأنّه يستخدم تحت يده قسيسا يعطيه نحو ثمانين ليرة في السنة ، ويلقي عليه أحمال الكنيسة ، وهذا المبلغ هو دون وظيفة طباخ الأسقف في بلاد الإنكليز ، فعلى هذا القسيس أن يعمّد أولاد الرعية ، وأن يدفن الموتى منهم ، ويزوّج أحداثهم ، ويعود مرضاهم وغير ذلك.

نمط عيش الفلاحين

وعدد ملاك الأرض في إنكلترة نحو ستّين ألف عيلة لا غير ، وقلّما يذوق هؤلاء المساكين اللحم ، فجلّ أكلهم الخبز والجبن ، فجزّار القرية لا يذبح شاة أو بقرة إلا مرّة في الأسبوع ولا يبيع من اللحم إلا نصف رطل أو ربعه ، وإذا ذبح شاة فلا يسلخها ويجزر لحمها إلا بعد يوم ، والبقرة بعد يومين أو ثلاثة. نعم إنّه قد يربّي أحدهم خنزيرا في دويرته ويذبحه ويتّخذ لحمه كالقورمة (١١٨) التي تتّخذ في برّ الشام ، ويطعم

__________________

(١١٨) القورمة : لحم ييطبخ بشحمه مملحا ، ويحتفظ به إلى وقت الحاجة ، حيث يستعاض به عن اللحم الطازج. (م).

١٢٨

منه في أيام الآحاد. ومن كان ذا يسر قليل اشترى قطعة لحم في يوم السبت وطبخها وتبلغ بها عامّة الأسبوع باردة ؛ إذ ليس تسخين الطعام مألوفا عندهم فهم أحرى أن يأكلوه بائتا مذ أيام من أن يسخّنونه ، ولمّا طلبت من المرأة التي كنت نازلا عندها تسخين طعام بقي لي من الغداء لم تكد تفهم مني إلا بعد شرح وتفسير ، وراح كلّ منّا يتعجّب من صاحبه.

وليس في القرى مواضع للهو والحظّ ، وإذا أرادوا اللهو عمدوا إلى أجراس الكنيسة يضربونها فتقوم عندهم مقام آلات الطرب. ومن الحظ عندهم أن يجلس الرجل مع امرأته ينظران إلى الخنانيص التي يربّيانها أو إلى ما يزرعانه من خسيس البقول في عرصته ، فإنّ لكلّ منهم في الغالب بضع أذرع من الأرض أمام بيته يزرع فيها نحو الفجل والكرنب وما أشبه ذلك ولو لا ذلك لكانت عيشتهم شرّا من عيشة البهائم.

صعوبة الحياة في الريف

وقد ترى في القرية دكّانا فيه نفاية ما يباع من الشمع والصابون والسكر والبن والشاي، وبيتا حقيرا يباع فيه شيء من البصل والبطاطس والحلويات الرديئة والتفاح المسيخ تنظرها من طاقة البيت ، ولو اشتريت ذلك جميعه لما بلغت قيمته خمسين قرشا. وفي أوان الشتاء لا يمكن للإنسان أن يخرج من منزله لاستنشاق الهواء وذلك لكثرة الوحل في الطريق فقد يمكث عدّة أيّام رهين بيته. وليس في القرى خيل أو حمير أو بغال أو عواجل تكرى فليس إلا مركوب النعل ، وقد يكون لبعض المتشبّعين عجلة يحركونها بأرجلهم إذا أرادوا أن يذهبوا من قرية إلى أخرى فتجري بهم من دون حصان ولا حمار ، وبعضهم يكون له عاجلة صغيرة مفتوحة يجري بها حصان صغير فمثل ذلك لا يدفع عليه شيء للميري ؛ فأما العواجل المعتادة ، والخيل فلا بد من الأداء عليها كما سيأتي بيانه في محله.

وكنت كلّما اضطررت إلى المؤنة ذهبت إلى البلدة ماشيا ، ومرّة اضطررت إلى أن أذهب في التابوت الذي ينقل فيه الدّمان (١١٩) ، لكنّه كان فارغا. وعلى فرض أن

__________________

(١١٩) الدمان : الزبل. والتابوت : الصندوق. (م).

١٢٩

يسكن غني إحدى هذه القرى فلا يمكنه أن يتنعّم بغناه إذ لا يجد فيها إلا ما يجده الفقير ، إلا أن يجلب مؤنته من لندرة وغيرها. ويعلم الله أني مدّة إقامتي في تلك القرية المشؤومة لم يكن لي هم إلا بتحصيل لوازم المعيشة فكنت أجلب بعض القطاني من كمبريج ، وبعض النقل من رويستان ، والمزر (١٢٠) من لندرة في سكة الحديد ، ولكن لّما وجدته غاليا اقتصرت عن جلبه ، فاستولى عليّ ضعف المعدة ووهن في ركبي لم أحس به في عمري قط ، فإن مزر القرى رديء إذ ليس منه إلا ما ينبط بالمنبطة دون المرعى في زجاج ، وهو كالدواء سواء إلا أنه غير نافع ، وقد غشي علي مرّة في دار دكطر لي وأنا أترجم ، فأمر خادمته بأن تتداركني بكسرة خبز مشوية.

أمّا الصيف فإنّه وإن يكن غير مزهق إلا أنّه منغّص لعدم وجود البقول المرطبة فيه ، ولعوز الفاكهة كما ستعلم ولا سيّما أنّ أكثر شرب أهل الريف إنّما هو من مناقع من ماء المطر ، وأكثرها يعلوه الطحلب فإذا نشفت عمدوا إلى الآبار وهي قليلة يدّخرونها إلى الحاجة، وهي أيضا من المطر ، إلا أن الإنكليز قلّما يشربون الماء فإنّهم يستغنون عنه بالجعة. وقد مضى علينا في الصيف نحو شهرين لا نذوق فيهما شيئا من الفاكهة والخضرة إلا ما ندر ، وفي شهر نيسان انقطع عنّا المذيق الذي كنّا نشتريه لأجل القهوة ؛ لأنّهم كانوا يسقونه الخنازير ، ولا يبيعونه فاضطررنا إلى أن نتوسّل بإحدى النساء لتشفع فينا عند صاحبة البقرة في إمدادنا كل يوم بما يكفي للقهوة فقط ، ففعلت ، ثم جاءت مبشّرة لنا بقبول خالص شفاعتها في المذيق ، وأنّ صاحبة البقرة رضيت بأن تبيعنا كل يوم بنصف بني تفضّلا وتكرّما فأوسعناها شكرا وثناء ومطأطأة رأس وانحاء ، وفي هذا الشهر المبارك لم يكن يوجد شيء من الفاكهة ، ولا من البقول وكانت البصلة الصغيرة تباع ببني مع أنّ الحقول كلّها كانت ناضرة زاهية ، فالمارّ فيها هو كراكب البحر وهو ظامئ.

__________________

(١٢٠) المزر : نبيذ الشعير أو الحنطة. (م).

١٣٠

مزروعاتهم وثمارهم

وأكثر ما يزرع الإنكليز في حقولهم إنّما هو القمح والشعير واللفت والبطاطس ، وأصل جلب هذه إليهم من أميركا في سنة ١٥٨٦. فأمّا البقول فيزرعونها في عرصات الديار لمؤنتهم فقط ، وهي قليلة جدّا. ولّما كان جلّ علف البقر من اللفت كان لحمها ولبنها لا يخلوان من طعمه ، وإذا زرعوا البقول فلا بدّ وأن يضعوا معها شيئا من الملح والجير ، ويكثرون من تدميلها فلهذا لا تكون زكية إلا أنها تنمو نموّا فاحشا ، فإن الفول قد يعلو مقدار قامة الربعة ، وكذا اللوبياء والقمح والشعير والرشاد يبلغ أطول من ذراع ، ونحو ذلك الخس والنعناع والكرفس ، وقد تبلغ الكرنبة قدر الجرّة الكبيرة ، وتكون التفاحة أو الإجاصة نحو البطيخة الصغيرة ، وقس على ذلك البصل والكراث ، حتى إن الحيوانات البريّة والبحرية تكبر عندهم غاية الكبر ، فإنّ السرطان يكون في قدر رأس ا آدمي ، وقد وزن مرّة ديك حبشي فبلغ أربعين رطلا وكان ارتفاعه ثلاثة أقدام.

وأصل جلب الجزر إلى هذه البلاد كان من هولاندة ولم ينبت هنا قبل سنة ١٥٤٠ ولكنّه لم يكن أولا في هذا الكبر ، وأصل جلب القنبيط كان من جزيرة قبرس ، وكان منذ ستّين سنة يرسل منه من هنا إلى بلاد البورتوغال على سبيل الهدية والطرفة.

ويحرثون على الخيل والبقر جميعا وحين يزرعون القمح وغيره يمدّون خيطا من أول الحقل إلى آخره حتى تأتي الأتلام مستقيمة ، وفي كثير من البقاع يخافون عليه من آفة تعرض له من الدود فيزرعون بينه حشيشا سمّيا ليقتل الدود فإذا حصدوا القمح حصدوا معه الحشيش أيضا ، وباعوه على حدته ، وربّما أغفل فبقي مختلطا بالقمح ، وطحن معه. فقد قرأت في كثير من صحف الأخبار أن كثيرا ماتوا من الخبز ، وهذا هو أيضا سبب وضعهم الملح مع البقول فأعجب لقوم يطبخون طعامهم بلا ملح ، ويملّحون مزروعاتهم ويسمونها.

وممّا لا ينبت عندهم شجر البردقان والليمون الحلو والحامض وقصب السكر والموز واللوز والفستق والتين والمشمش والخوخ والدراق والصنوبر والتمر والرمّان وهذا الأخير لا يعرفون ماهيته والصبّار والآس والزيتون والبطيخ والقثاء والباذنجان والباميا والملوخية

١٣١

والحمّص والعدس والماش ، وقل وجود الخرشف والخيار والسفرجل ، وشجر التوت لا يرى الا للفرجة.

والطيب من فاكهتهم إنّما هو الإجاص والتفاح ، وقد يكبران حتى تملأ الواحدة منهما الكف ، هذا الأخير يدوم الشتاء كله في المطامر ولكن يباع في القرى على قلّة ، وأصل جلبه إليهم كان من برّ الشام وذلك في سنة ١٥٢٢ ، فأما البردقان فيرد إلى المدن الكبيرة من إسبانيا والبرتوغال ، وكذا العنب ، وقد يربّون شجرهما في بيوت من زجاج ويسخنونها بالنار لأن حرارة هوائهم لا تكفي لإنباتهما ، ولكن يكون سعره أغلى من سعر المجلوب إليهم ، وما ينبت في غير هذه البيوت من العنب فإنّه يبقى حثرا ، وهو ما لا يينع ويبقى حامضا صلبا.

وعندهم ثلاثة أصناف من الثمار أو أربعة كحبّ الآس عندنا ، وهي قليلة الجدوى ولا سيّما كونها لا تقوى على الرياح فأقلّ نسمة تذهب بها ، وكذلك عندهم ثلاثة أصناف أو أربعة من البقول لا توجد عندنا وهي أيضا تافهة.

ويحقّ لي أن أقول بعد الاختبار والتحرّي ، إنّ جميع ما ينبت في بلاد الإنكليز هو دون ما ينبت في فرنسا في الطيبة والزكاء ، وجميع ما ينبت في هذه هو دون ما ينبت في برّ الشام ، وما أرى العلّة في ذلك سوى كثرة السرقين (١٢١) في الأرض وقلّة الحرارة في السماء. نعم إنّ جميع ما ينبت عندهم هو أكبر جرما ممّا ينبت عندنا كما تقدم ، ولكن شتّان ما بين الكبر والطعم إلا أن الإنكليز يتنافسون في كلّ شيء ضخم.

أمّا أنواع الرّياحين والزهور والأشجار غير المثمرة فكثيرة عندهم ، وعنايتهم بها أشدّ من عنايتهم بالبقول المأكولة ، على أنّ جلّ أزهارهم لا عرف له ، غير أني رأيت عندهم جملة أنواع من الزهور ذكية الرائحة ممّا هو في مالطة لا رائحة له أصلا ، وكثيرا ما يذكرها المؤلفون في كتبهم وتلهج بها النساء في محاوراتهن حتى أن إحداهن سجنت مرّة فكانت صواحبها يهادينها بباقات من الزهر. وفي أعياد ميلادهن يطرفن به ، فيغني ذلك عن طرف القماش والجواهر ، فهي في الواقع صلة الرحم ، وسبب الوداد. وإذا رقصت امرأة في ملهى وأعجبت الحاضرين نقّطوها بباقة ، وعلى ذكر التنقيط

__________________

(١٢١) السرقين : الزبل. (م).

١٣٢

يعجبني قول ابن المعتز في مليح جدّر :

يا قمرا جدّر لما استوى

فزاده حسنا فزدنا هموم

كأنه غنّى لشمس الضحى

فنقّطته طربا بالنجوم

قلت وأهل اللغة أهملوا هذا الحرف بهذا المعنى ، والضمير في زاده يرجع إلى التجدير المفهوم من الفعل ، وهو ردّ على الحريري حيث منع أن يقال جدّر بالتشديد لكونه ليس للتكثير.

أرض إنكلترة

أمّا ارض إنكلترة فكلّها سهل محروث مزروع تشبه أرض البقاع في الشام فلن ترى فيها بقعة واحدة بورا ، فكأنّها جميعها لرجل واحد ذي عيال في كونها لا يغادر منها محطّ قدم من دون منفعة ، فلا ترى إلا غياضا وحقولا ومروجا وديارا. والظاهر أن بلاد الإنكليز أعظم حرثا ، وأعمر من بلاد فرنسا وكل شيء فيها من نام وحيوان تراه في غاية الريع والنمو. وكنت قبل حضوري إليها أحسبها كلّها جبالا لما كنت أسمع من شدّة بردها ، فإذا هي قاع صفصف. وقرأت في بعض الأخبار أن قيمة ما تحصّل من غلالها في سنة ١٨٤٧ بلغت ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٥٤ ليرة ، وقس على ذلك سائر السنين. وأحسن بقعة في الأرض يغادرونها مرعى للضأن ، ومسرحا ؛ فلهذا كان لحم الضأن عندهم فاخرا جدا. ومع شدّة عنايتهم بتربية الماشية فإنهم يحتاجون إلى جلب الجلود من الروسية والغرب الاقصى ، وثمن ما يجلبونه منها يبلغ في السنة ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١٥ ليرة يذهب نحو نصفها في عمل الأحذية والباقي في غير ذلك.

بين إنكلترة وفرنسا

وفي بعض الصحف أن في كل من إنكلترة وفرنسا يربى نحو خمسة وثلاثين

١٣٣

مليونا من الغنم ، ومن كلّ من العددين يحصّل قدر من الصوف متساو إلا أنّ غنم فرنسا يحصّل من لحمها أقل ممّا يحصّل من تلك ، وقد يبلغ الحاصل من إقليم شستر من الجبن مبلغ وافر (١٢٢) ، وما يحصّل من لبن البقر في فرنسا يبلغ مليون ليتر ، ثمن كلّ ليتر نحو عشرة من الصنتيم ، وما يحصّل من لبن البقر في إنكلترة يبلغ ضعفي هذا القدر ، ويباع بضعفي قيمة ذلك. والإنكليز يربّون ثمانية ملايين من الماشية في أحد وثلاثين مليون جريب (١٢٣) ، والفرنسيس يربون عشرة ملايين في ثلاثة وخمسين مليون جريب.

وجزارو فرنسا يذبحون في السنة غالبا أربعة ملايين من الماشية تبلغ خمسين مليون كيلو غرام ، والإنكليز يذبحون مليونين ولا يذبحون من العجل قدر ما يذبح عند أولئك.

والحاصل في فرنسا من الحليب مائة مليون فرنك ، ومن اللحم أربعمائة مليون ، ومن الحرث مائتا مليون ، والحاصل في إنكلترة من الحليب أربعمائة مليون فرنك ، ومن اللحم خمسمائة مليون فيكون الحاصل من كل بقرة في إنكلترة من الحليب واللحم فقط أكثر من الحاصل من البقرة في فرنسا من اللبن واللحم والحرث معا ، هذا ما نقلته وفيه نظر.

ما يجلبونه من المأكول والمشروب

ومع خصب أرضهم ، وكثرة غلالهم كما بيّنّاه آنفا ، فإنهم يجلبون كثيرا من المأكول والمشروب من البلاد الأجنبية فقد قرأت أنّه في مدّة ستّة أشهر جلبوا من البق ٢٣٧ ، ١٢ رأسا ، ومن الغنم ٢٦٨ ، ٢٩ ومن البيض ٧٤٥ ، ٤٥٤ ، ٥٦ بيضة ، وفي سنة ١٨٥٠ جلب من الجبن ٠٠٠ ، ٢٧ طن ، وفي سنة ١٨٤٦ جلب من إرلندة من البقر اثنان

__________________

(١٢٢) كذا وردت والصواب : مبلغا وافرا. والعبارة وردت في الطبعة الأولى على النحو الآتي : وقد يبلغ الحاصل من إقليم شستر من الجبن ما قيمته مليون ليرة. (م).

(١٢٣) الجريب : مكيال يزن نحو ستين كيلو غراما. ويساوي في المساحة نحو ٥٧٥ ذراعا مربعا. (م).

١٣٤

وثمانون ألفا وخمسمائة واثنان وتسعون رأسا ، ومن الغنم مائة ألف وثلاثمائة وستّة وستّون ، ومن الخنزير ثلاثمائة وأحد وثمانون ألفا وسبعمائة وأربعة وأربعون ، وقيمة ما جلب من البطاطس في عام واحد بلغت نحو عشرين ألف ليرة ، وقس على ذلك الزبدة والفاكهة والقطاني ، وبهذا يتبيّن لك ما يلزم لأعالي هؤلاء القوم وأسافلهم.

وفي الحقيقة فإن إنكلترة قد ضاقت بأهلها ؛ ولهذا يهاجر منها في كل سنة نحو مائتي ألف وخمسين ألفا. وأحسن أقاليمها في النضارة والريع إقليم كنت ، وفي كثرة أشجار الفاكهة دوفنشير ، وإذا دخلت حمى ششير فهرول.

في صفة حيواناتهم

أمّا حيواناتهم فعلى نسق بقولهم من الكبر والضخامة منها الخيل ، وهي نوعان : ضليع ضخم وهو ما يستعمل في جرّ الأثقال فترى الحصان كالبرج المرصوص ويحمل أربعمائة رطل من أرطالهم وثمنه مائة ليرة ، والثاني خفيف ممشوق وهو للركوب والسباق أو لجرّ عواجل العظماء ، وربّما مشى في الساعة ثمانية عشر ميلا. ويقولون : إنّ خيلهم أعتق من خيل العرب ، وإن يكن أصل بعضها من تلك. ويقال : إنه في زمن الملكة اليصابت لم يكن في جميع مملكة إنكلترة أكثر من ألفي فرس ، وبقرهم تعظم في عظم جواميس مصر ، ولحمها طيّب إلا أنه كثير الدم ، وهي حسنة الخلقة والشكل ، وكذلك غنمهم تسمن سمنا فاحشا ، وهي أيضا مليحة ، ولكن ليس لها ألايا كغنم الشام ، ولعلّها هي النوع الذي يقال له القهد(١٢٤) ، والهر عندهم ظريف وهو أحرى بأن تحلق الحواجب على فقده من هر قدماء المصريين. أمّا الحمير فإنّها قبيحة ، وغير فارهة على قلّة وجودها ، ولا وجود للبغال عندهم وندر رؤية المعزى.

وممّا منّ الله به على هذه البلاد أن ليس فيها حيّات ولا عقارب ولا رتيلا ، ولا سوام أبرص ، ولا ابن آوى يعوي في الليل ، ولا نمر يأكل الدجاج ، ولا بعوض يمنع من النوم ، ولا براغيث في الربيع إلا نادرا ، ويكثر عندهم الجرذان تسمع شقشقتها

__________________

(١٢٤) القهد : نوع من الضأن تعلوه حمرة ، وتصفر آذانه. (م).

١٣٥

وهي تجري تحت مخشّب البيوت ، وكذا البق لكثرة الألواح في منازلهم.

قال في أبجدية الأوقات : هذا الجرذ الأسمر الذي يسمّى جرذ نوردي غلطا هو أعظم رزيئة في ديارنا ، وأصل مجيئه إلينا كان من بلاد العجم ، وبعض البلاد الجنوبية في آسية كما هو الظاهر من كلام بالاس وغيره حيث قال : إنّه في سنة ١٧٢٩ زحفت أسراب جرذان لا تحصى من البراري الغربية إلى أسطراخان حتى لم يكن ردّها بوجه ما ، وفي أوسط القرن السادس عشر زحفت حتى دنت من باريس إلا أنّ كثيرا من جهات فرنسا لم يزل خاليا من هذه البلية.

فائدة في عمر الحيوان

قال بعض : إنّ الحصان يعيش من ثماني سنين إلى اثنتين وثلاثين سنة ، والثور ٢٠ ، والبقرة ٢٣ والحمار ٣٣. وأصل نتاجه في بلاد العرب والبغل ١٨. والشاة من الغنم ١٠ والكبش ١٥ والكلب من ١٤ إلى ٢٥ والخنزير ٢٥ والعنز والحمام ٨ والقط ١٠ والوز ٢٨ والببغاء من ٣٠ إلى ١٠٠ واليمام من ٥٠ إلى ٢٠٠. هكذا نقلته وهو غريب فإن الحمام واليمام من جنس واحد.

وقال آخر : الدب يعيش ٢٠ ونحوه الكلب والذئب والثعلب من ١٤ إلى ١٦ والأسد نحو ٧٠ والقط في الجملة ١٤ والأرنب ٧ سنين ، والفيل قد يعيش ٤٠٠ سنة ، والخنزير ٣٠ والكركدن ٢٠ والفرس من ٢٥ إلى ٣٠ والجمل نحو ١٠٠ والبقرة ١٥ والضأن قلّما يجاوز ١٠ سنين ، والوعل يعمّر طويلا ، والدلفين ٣٠ ، والنسر قد يعيش ١٠٤ سنين ، والغراب ١٠٠ والسلحفاة ١٠٧ ونوع من الحيتان اسمه والس ولعلّه الدخس يعيش ٠٠٠ ، ١ سنة.

بناؤهم ومساكنهم

أما بناؤهم فمن الآجر الأحمر أو الأبيض ، وقد يصبغون خارج الديار أو يكلّسونه ، ثم يرسمون عليه خطوطا تبديه كأنّه حجارة مربّعة متساوية لا يدركها إلا من دنا منها

١٣٦

وترسّمها (١٢٥). وتبقى على ذلك سنين بخلاف بيوت لندرة فإنّها لّما كانت هدفا للدخان والضباب لم تلبث أن تسودّ كما سنذكر ذلك إن شاء الله. ولهم في تجديد الأبنية مهارة غريبة وذلك أنّهم إذا أرادوا مثلا هدم دار هدموا أولا أسفل جدرانها وأسندوا القائم منها بعضائد ، ثم بنوا الأسفل فربّما نجز الهدم والبناء في وقت واحد. وبعض البيوت يبنون خارجها كالسفينة من قطع خشب يعارضون بعضها ببعض ، ثم يطيّنونها وربّما كانت تلك الأخشاب قديمة. وفي الجملة فإن بيوت الفلاحين حسنة مهندسة ، غير أن منها ما يكون أصغر من سطحه ، فإن السطوح عندهم على ثلاثة أنواع : الأول من ألواح المكاتب التي يتعلم عليها الخط ، وهي للديار الكبيرة. والثاني : من الخزف ، وهو للبيوت الوسط. والثالث : من التبن ، فهذا يكون قبيح المنظر ، وهو يرقّع كما يرقّع الثوب ، ويقولون : إنّه أحسن من غيره شتاء وصيفا فإنّه في الشتاء يمنع البرد ويردّ الثلج ، وفي الصيف يمنع الحرّ.

ولا يكون السطح عندهم إلا مسنّما. والفاصل بين ألواح الزجاج في الشبابيك أكثره قضبان رصاص بدلا من الخشب ، وربّما كان الزجاج مربّعا أو مخمّسا فيكون للعين أنيقا وحيث كان في السابق ضريبة للميري على الطيقان إذا زادت على ثمانية كان الناس يتحاشون من مجاوزة هذا الحد ، ولكنّه الآن أبطل تمتعا بنور الله وهوائه ، ولكن قام مقامها ضريبة أخرى. وكل دار لا بد وأن يكون فيها عدة مواقد للنار ، وأسرّتهم كلّها من خشب لا من حديد ، والغالب أن أرض منازلهم تكون مفروشة باللبد أو البسط من الزرابي ، وأثاثهم بين بين ، وقلّ أن ترى عندهم من الصور إلا صورة كبير العائلة ، وصورة الخيل في السباق أو صورة أرانب وكلاب.

أمّا بيوت الأغنياء والمترفين فلا شيء أجمل منها لإحكام بنائها ، وحسن ترتيبها وحيطانها من داخل مغشّاة بالورق الفاخر المنقش ، وطيقانها محكمة الوضع كبيرة قطع الزجاج وهو يقارب البلور في الصفاء والبريق ، ودرجها وأرضيتها من الخشب المتين ولهم إسراف زائد في الأثاث فإنّ أسرّتهم وموائدهم وأصونتهم وكراسيهم وخزائن كتبهم كلها من الخشب المسمى بالماهيكون ، وقد تبلغ قيمة ذلك في الجملة

__________________

(١٢٥) ترسّم الشيء : تبصره ، ونظر كيف هو. (م).

١٣٧

نحو ٥٠٠ ليرة ، ومع ذلك فلن ترى لسيدة الدار حليا من الماس ، أو شالا من الكشميري وهي عكس عادتنا. ومن إسرافهم أن يغطوا الدرج بالجوخ المنقوش ، أو الزرابي الفاخرة وفوقها الكتّان النفيس يدوسون عليه. ومراحيضهم في غاية النظافة والترتيب حتى إن الفرنسيسإذا ذكروا مرحاضا على هذه الصفة قالوا : إنّه مرحاض إنكليزي. وكنت مرّة ضيفا لأحد نجلائهم(١٢٦) فلمّا أصبحت طلبت الكنيف فدللت عليه وإذا هو في غاية الزخرفة والإحكام حتى إني أحجمت عن فتحه واستعماله ، وخطر ببالي حينئذ ما قاله بعض الظرفاء في نجيل أنفق على كنيف له سبعمائة درهم قد استدانها «ليت شعري ما الذي يريد أن يخرأ فيه؟».

وإجارة المسكن للغريب إنّما تكون بالأسبوع ولا بدّ أن يخبر أهل المنزل قبل خروجه بأسبوع ، فإذا علموا ذلك تهاونوا في خدمته ، وإذا استأجر أحد مسكنا في دار من مستأجر الدار وفرشه وكان المستأجر لا يؤدّي غلّة الدار إلى مالكها حقّ للمالك أن يستولي على كلّ شيء في الدار. ثم إن البناء في الأصل كان من الخشب والطين ، ثم من الآجر ، ثم من الحجارة غير المهندمة. فلمّا تمدّن الناس وتبحّروا في الصنائع صار من المرمر.

تاريخ استخدام الحجر في البناء

والبناء من الحجر عرف عند أهل صور من القديم ، ثم اشتهر عند جميع الأجيال ، ولم يعرف في إنكلترة قبل سنة ٦٧٠ وكان المحدث له راهبا اسمه بناديكتوس. وأول جسر بني منه في هذه البلاد كان في سنة ١٠٨٧. أمّا البناء من الآجر فإنّما عرف عن الرومانيين. وفي سنة ١٨٨٦ أمر ألفريد ملك الإنكليز باستعماله ، وفي سنة ١٥٩٨ استحسن تعميمه. وكان بناء لندرة إذ ذاك من الخشب غالبا. وأما الزجاج فيقال : إن أول من تعلّم صنعته هم أهل مصر فإنّهم أخذوها عن هرمس. وقال بلينيوس : بل كان اختراعه في سورية ، وكان له معامل في صور من القديم ، وقد ذكره الرومانيون

__________________

(١٢٦) في الطبعة الأولى : نجلائهم وهي جمع ناجل ونجيل ، وهو الكريم الأصل. (م).

١٣٨

في عهد طيبيريوس ، وعلم من أنقاض بومباي أن الزجاج وضع في الطيقان سنة ٧٩ قبل الميلاد.

استخراج الحجر في أوربا

وأول ما اشتهر اتخاذه في أوربا كان في إيطاليا ، ثم عرف في فرنسا ، ثم في إنكلترة ، وفي سنة ١١٧٧ استعمل في ديار بعض الأعيان ولكنّه كان مجلوبا ، ويفهم من كلام فلتير : إن أول من شهره في بلاد الإنكليز رجل من فرنسا وذلك في سنة ١١٨١ ، وفي سنة ١٥٥٧ أنشئ له معمل ، وفي سنة ١٦٣٥ أكسب رونقا وصفاء ، وفي زمن وليم الثالث أتقن إلى الغاية.

ما يفعله العاطلون عن العمل

ومن سوء التدبير في بلاد الفلاحين أنه لا يقام في القرية من الشرطة إلا واحد ؛ فلذلك يكثر فيها الحريق والسرقة ، فإن أهل القرية إذا لم يستخدمهم مستأجر الأرض يبقون معطّلين متترّعين (١٢٧) إلى ارتكاب كلّ شر ، فيعمدون إلى إحراق أكاديس القمح والحشيش المكدّسة في الحقول في ليلة ذات ريح ، فتسري النار إلى بعض البيوت ، وليس من يطفئها ، ثم لا تلبث أن تلاشيه بالكلية وتسري إلى غيره ، فربّما احترقت القرية كلّها في ليلة واحدة. وفي مدّة شهرين من إقامتي بتلك القرية وقع خمس عشرة حريقة في أكداس الغلال ، وكان سبب ذلك من هؤلاء المعطّلين عن الشغل تشفّيا من غيظهم من مستأجر الأرض ، ورأيت آثار قرية كانت تشتمل على خمسين بيتا احترقت بأجمعها في ليلة واحدة ، بل إن كثيرا من هؤلاء الفجّار ينهبون الكنائس ، وقد يدخلون الديار من مداخن المواقد النافذة إلى السطح ، ويسرقون ما قدروا عليه ، وفي كل ليلة قبل النوم يوصي المخدوم خادمه والمخدومة خادمتها بإطفاء

__________________

(١٢٧) تترّع إلى الشر : أسرع إليه. (م).

١٣٩

النار والنور.

أمّا العاجزون والسّقط فإنّهم يمكثون في المستشفى ، ويقوم بنفقتهم القادرون من الرعيّة ، فإنّ الحكومة لا تنفق شيئا من المستشفيات ، ولا على تصليح الطرق ، ولا على ترتيب الشرطة أيضا إلا أنّ أكثر الناس يستنكفون من المكث في المستشفى كما ذكرنا سابقا.

فقراء الإنكليز

وقد تقرر عند الإنكليز جميعا أن التصدّق على الفقراء يحملهم على الكسل والتواني ، فما يعطون فقيرا إذا مرّوا به ولو كان عريانا اعتمادا على وجود هذه المستشفيات ، ويمكن أن يقال : إنّ أكثر فقرهم هو من انهماكهم في شرب المسكرات ، فإنك ترى منهم فقراء كثيرين بأخلاق من الثياب ومهما يكسبوه ينفقوه في الجعة ، ولا يزالون يكرعون منها حتى تجحظ عيونهم ، وتنعقد ألسنتهم عن الكلام ، ولا يزالون يلهجون بذكرها فهي عندهم في الشتاء للتسخين وفي الصيف للترطيب. ومع ذلك فهم بالنسبة إلى أهل المدن الجامعة أصحى وأعفّ ، كما أنهم أسخى منهم وأكرم ، وهذه خطّة عامّة في جميع البلاد ، فإنّ أهل المدن لما كان احتياجهم إلى أسباب المعيشة والرفاهية أكثر كان الكرم فيهم أقل. وذكر الطبيب بوخان أنه عرف في زمانه نساء بعن أولادهن بالجعة.

من مفاخر الإنكليز

ثم إن الإنكليز طالما افتخروا بهناء العيش في ديارهم ، وهو عبارة عن أمرين ، أحدهما : التمتع بكل ما يلزم للإنسان في معيشته. والثاني : ترتيب وضع الأشياء المتمتّع بها ، وهو أن يكون لكلّ شيء موضع خاص به ولكلّ موضع شيء ، فمن غسل يديه مثلا في طست على مائدة ، ثم تناول المنشفة من جانب المائدة من دون أن يغادر موضعه ، ويفتش عليها ؛ فقد اتّصف بأنّه متهنّئ ، وقس على ذلك. والحقّ

١٤٠