الواسطة في معرفة أحوال مالطة ، كشف المخبّا عن فنون أوروبّة

المؤلف:

أحمد فارس الشدياق


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-589-X
الصفحات: ٥٧٩

إلى برهان ، فيكون المنبر على هذا ممّا عدل به عن وجه استعماله تجوّزا ، كما أنه عدل به أيضا في العربية الفصحى من التعميم إلى الخاص ، فإن معنى النبر في اللغة الارتفاع ، فالمنبر على هذا آلة الرفع ، أو محله ، ثم خصّص عند قوم بمحل الخطبة وعند غيرهم بكرسي الولادة ، وإنّما قلت آلة الرفع أو محله فقد قام الإمام الخفاجي على شرح درّة الغواص ما نصّه : «هذا تحقيق بديع لما فيه من الفرق بين اسم الآلة التي تتناول باليد وغيرها ، فيتعيّن كسر الأول إلا شذوذا فيفتح بعض من الثاني كمرقاة ومنارة لأنّه من وجه آلة ومن وجه مكان ، وهو فرق لطيف قلّ من تنبّه له أو نبّه عليه.

والحاصل أنه لا شكّ في كون المالطية عربية ، ولكنّي لست أدري أصل هذا الفرع أشامي هو أم مغربي؟ فإن فيها عبارات من كلتا الجهتين والغالب عليها الثانية ، غير أن الألفاظ الدينية من الأولى ، فيقولون مثلا : (القدّاس ، والقدّيس ، والتقربن ، والأسقف ، وما أشبه ذلك) مما لا يفهمه أهل المغرب. ومن المالطيين من يقرّ بأنّ لغتهم غير فينيقية ولا حبشية ولكن لا يكادون يقرّون بأنّها فرع العربية مكابرة وعنادا.

ولا يخفى أن كلّ لغة في العالم لا بدّ وأن يدخلها بعض ألفاظ أجنبية إمّا للحاجة إليها، أو لتقارب أهل اللغتين واختلاطهما كالعرب والفرس مثلا والرومانيين واليونانين في الزمن السابق.

وهذه اللغة العربية مع سعتها وغزارة موادها وكثرة تصاريفها لم تخل عن ألفاظ بعضها من الفارسية ، وبعضها من اليونانية ، وبعضها من الحبشية والهندية والسريانية والعبرانية. ولم يقل أحد إن العربية فرع عن هذه اللغات ، فكيف لعقلاء مالطة أن يقولوا : إن لغتهم فينيقية بسبب وجود كلتين منها فيها؟ وأقبح من ذلك أنّهم يظنّون أنّ فساد لغتهم وانعكاسها عن أصلها العربي ليس من العيب في شيء قياسا على أن الطليانية انفسخت على اللاتينية واستقلّت بصيغ خاصّة بها دون الأصل وهو مدفوع بأن العربية لم تنقض دولتها بعد كما انقضت اللاتينية حتى تستقل المالطية بقليل موادها ، وبأن المالطية لم يؤلّف فيها شيء إلى الآن من كتب العلم والأدب ، ولم يتكلم بها أقوام ، فالفرق واضح ، والحاصل أنّهم لا يرون فسادها ولا يشعرون بقبحها

١٠١

ضرورة أنّهم لم يطّلعوا على محاسن أصلها الذي حلّئوا (١٠٦) عنه.

نعم إن أهل الشام ومصر والحجاز وغيرهم قاصرون عن اللحاق بأهل العربية الفصحى ، ولكن ما منهم إلا من يشعر بقصوره عنها ، ويدري عظم التفاوت بين الطرفين ، وكلّ يودّ لو يصل إلى درجة الكمال في معرفتها ، وكنت ذات يوم سائرا مع جماعة منهم فأخذ أحدهم يصف لغتهم ، وجعل من محاسنها اجتماع الألفاظ العجمية فيها كأنه يقول : إنّها انتقت ما شاق وراق فمثلها مثل العجوز التي رأت زوجها يزني.

تعصّب المالطيين ضد العرب

ولشدة تعصّب المالطيين على أهل العربية وتشنيعهم عليهم ، إذ كان منتهى السّب عندهم أن يقولوا عربي ، كان الإنكليز وسائر الإفرنج أقرب منهم إلى تعلّمها غالبا ، ولو كان عند أولئك ركن منها عظيم ، وذلك أن المالطي العنيد إذا سمع في العربية مثلا لفظة خرج ، وكانت عادته منذ نطق أن يقول حرج فلا يرى في ذلك كبير فرق ، ولا يرى أن نقطة صغيرة تقوّم المعنى أو تفسده بخلاف من يتعلّم من أول الأمر أن يقول الكلمة على حقّها. وكانوا إذا سمعوني وصاحبي نتكلّم قالوا ليس من فرق كبير بين اللغتين إلا عجمة في لغتهم يعنوننا ، ولا يخطر لهم ببال أن لغة لم تضمّن بطون الأوراق ، ولم تضبطها الأحكام النحوية لا تكفي النوع الإنساني.

وقد تصدّى مرّة أحد مؤلفيهم إلى تأليف كتاب نحو فيها ، فكتب بعد طالعته : «ألف بتو اللغة المالطية» ، ثم ذكر العين بعد الألف ، فكان خلفا لأن جميع اللغات التي تبتدئ بهذا العنوان تكتب فيها الباء بعد الألف ، فلمّا وقفت على ذلك كتبت له :

يا قائلا ألفا بتّو

وبعدها ألف عين

__________________

(١٠٦) حلئوا عنه : انفصلوا ، وبانوا. (م).

١٠٢

إن كان ذا البدء مينا

فكل ذا النحو مين

ويقال : إن جميع اللغات القديمة والحديثة تبدأ بالألف إلا الحبشية فإنه فيها الحرف السابع عشر ، والظاهر من ترتيب حروف المعجم في العربية والسريانية والعبرانية أنّها أي العربية لا ارتباط بينها وبينهما.

لفظهم للحروف

أهل مالطة يلفظون الغين أينما وقعت عينا ، والخاء حاء ، والفلاحون منهم يلفظون القاف همزة ، ويشمّون الألف في نحو قال وباع الضمة ، وهو غريب فإن الضم أيضا عند الهمج من أهل الشام ، وينطقون بالضاد دالا وبالطاء تاء ، ولا يلفظون العين إذا كانت متطرفة أصلا فيقولون تلا أي طلع وسما أي سمع ، ويقال : إنّهم كانوا في القديم يلفظون الثاء على حقّها. وممّا يضحك منه أن الفلاحين إذا خدموا أهل فالتة غيّروا لهجتهم فلفظوا الغين عينا ، والخاء حاء توهّم أن لغة هولاء هي الفصحى.

وأهل غودش يميلون الألف في نحو فيها ومنها ، والجميع ينطقون بالجيم نطق أهل الشام إلا في قولهم جدي فإنّهم يلفظونها كأهل مصر ، والظاهر أن حق لنطق به أن يكون قريبا من مخرج الشين كما في لغة أهل الشام.

استطراد في تنافر الحروف

ففي المزهر في الفائدة الخامسة من النوع التاسع ، وهو معرفة الفصيح ما نصّه : قال الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح قالوا التنافر يكون إمّا لتباعد الحروف جدّا أو لتقاربها ، فإنّها كالطفرة والمشي في القيد. نقله الخفاجي في سر الفصاحة عن الخليل بن أحمد وتعقبه بأن لنا ألفاظا حروفها متقاربة ولا تنافر فيها كلفظ الشجر والجيش والفم ، وقد يوجد البعد ولا تنافر كلفظ العلم والبعد ، ثم رأى الخفاجي أنّه لا تنافر في البعد وإن أفرط بل زاد فجعل تباعد الحروف شرطا للفصاحة.

١٠٣

في الإبدال وجوازه

وقال الاشموني عند ذكر الإبدال : الشين أبدلت من ثلاثة أحرف : الكاف ، والجيم ، والسين. فالكاف نحو أكرمتك قالوا أكرمتش ، وهي كشكشة تميم كما تقدم ، والجيم كما في قوله إذ ذاك حبل الوصال مدمش أي مدمج ، قال ابن عصفور : ولا يحفظ غيره ، وسهّل ذلك كون الجيم والشين متّفقين في المخرج. إلا أنّه يظهر أيضا أن الجيم كثيرا ما تبدل من القاف والكاف مما يؤيد مذهب أهل مصر ، فمن إبدالها من القاف قولهم : قفّ العشب وجفّ والمقذاف والمجذاف ، وقلمه وجلمه ، والقشم والجشم ، وشق وشج ، والقرقس والجرجس ، وقصّ وجزّ ، وتلقف الحوض وتلجف ، والشرق والشرج ، ونظائر ذلك كثيرة. ومن إبدالها من الكاف قولهم كد وجد ، وكهد وجهد ، وأكن وأجن ، وكرع وجرع ، وكلبة الزمان وجلبته ، والمكالحة والمجالحة ، وعكر به وعجر ، والركس والرجس ، وما أشبه ذلك.

فعلى هذا يكون استعمال أهل مصر له صحيحا ويؤيده ما ورد في المزهر في النوع الرابع عشر قال : المهمل على ضربين ضرب لا يجوز ائتلاف حروفه في كلام العرب البتّة ، وذلك كجيم تؤلّف مع كاف ، أو تقديم كاف على جيم ، وكعين مع غين أو حاء مع هاء.

وأيضا فإنهم يعرّبون مرّة بالجيم وأخرى بالقاف ، مثال الأول : الديزج والنبريج ، ومثال الثاني : الرستاق والفرزدق. وربّما أبدلت من الحرفين معا كقولهم سهجة وسهكه وسحقه. والذي يظهر لي أن ذلك لغة لبعض العرب ، غير أن أهل الصعيد والمغاربة وأهل الحجاز ينطقون بها كأهل الشام.

عودة إلى نطقهم الحروف

ثم إن أهل غودش ينطقون بالأحرف الحلقية على حقّها إلا أنّهم يكسرون ما قبل الواو الساكن فيقولون : مكسور ومفتوح ، ويضمون ما قبل الألف نحو قاعد ، وهلم جرا. ويقولون منكم وعليكم بكسر الكاف ، وهي لغة ربيعة ، وقوم من كلب كما في

١٠٤

المزهر في النوع الحادي عشر ، وتسمّى الوكم (١٠٧). ويقولون منهم وبينهم وهي أيضا لغة كلب.

من شعرهم

ومن سفهاء المالطيين من يدّعي النظم بلغتهم هذه الفاسدة ، ويقال له عندهم التقبيل ، فمن ذلك قولهم :

ين حنينا ساير نسافر

ساير نسافر ما ناحدكش معي

مور وهيا بالسلامه

الله يظمك في المحبة تيعي

وبقي هنا حل ما أعجم من الألفاظ قوله ين بمعنى أنا ، وحنينا بمعنى حبيب منادى محذوف منه حرف النداء ، ومن الغريب هنا أن المنادى إذا كان عظيما خطيرا يدخلون عليه أداة النداء من الطليانية فيقولون أو مولاي ، وإذا كان حقيرا أدخلوا عليه أداة النداء من العربية ، فيقولون يا تفاح يا عنب ، وقوله ساير نسافر هي مثل قول عامّة مصر والشام رايح أسافر. وما ألطف هنا عبارة الإمام الزمخشري في شرحه لامية العرب اذ قال : وأمّا المستقبل وإن كان معدوما في الحال ، ولكن هو مار إلى الوقوع. والنون في نسافر علامة للمفرد المتكلم لا الجمع فإنه نسافرو وهي لغة أهل المغرب ، والشين في ناحدكش لازمة عندهم بعد النفي والاستفهام كما في العربية الدارجة. ومن أهل الشام من يراها أيضا لازمة ولو بعد الجملة ، فيقولون : ما هو كتيرش فكأن إبرازها ضربة لازب. وميعي أصله معي ومور فعل أمر من مار أي ذهب ، وهو في اللغة كذا ، وهيا اسم فعل بمعنى أقبل ، وذكره صاحب القاموس مكرّرا وفسره بأنه زجر ، وهو غريب ولا يبعد أن يكون أصله حي.

ويطربني ما روي عن ذلك الأعرابي الذي سمع رجلا يدعو آخر بالفارسية يقول له

__________________

(١٠٧) وكم فلان الكلام وكما قال : السلام عليكم بكسر الكاف. (م).

١٠٥

زوذ ، فقال لأصحابه ما يقول؟ قالوا يقول : عجّل ؛ فقال ألا يقول : حيّ هلك؟ وعلى حيّ هلك تخرج أحجية بديعة. ويظمك أصله : إمّا يزمك ، أو يضمك وما قبل الضمير المنصوب مضموم ، وهذا من بعض آثار محاسن العربية القديمة في هذه البلاد ، والباء من المحبة مفتوحة فتحة مشبعة ، وكذا هي في كل مكان به علامة التأنيث نحو طيبة وكبيرة ، وهي أيضا من تلك الآثار ، وأحسن من الإمالة ، فأمّا تيعي فقد خبط فيها بصراؤهم خبط عشواء وذلك لأنّهم يدخلون بين المضاف والمضاف إليه لفظة تا فيقولون مثلا : الدار تا الطبيب. فمنهم من زعم أنّها من الطليانية فإنّ المضاف فيها يفصل عن المضاف إليه بلفظة دي ، ومنهم من زعم أنّها من السريانية فإنها فيها كذلك ، ثم إذا أضافوا تا إلى الضمير برزت معه العين فيقولون تاعنا ؛ فلهذا لم يدركوا أصلها ، والصحيح أنّها محرّفة من متاع فإن أهل المغرب يدخلونها كثيرا في الإضافة ويبتدئون بالميم ساكنة على عادتهم من الابتداء بالساكن ، وتقصير اللفظ ، وربّما قالوا نتاع بالنون ساكنة أيضا.

فأمّا العين فإن المالطيين لا يكادون ينطقون بها إذا وقعت آخر الكلمة فيقولون : تلا وقلا في طلع وقلع كما ذكرنا آنفا ، ويحذفونها أيضا فيما إذا اتصل به ضمير فيقولون طليت وقليت جريا على حذفها بغير اتصال الضمير ، وقلب العين ألفا أو همزة من أساليب العرب كما في تفصى وتفصع ، وأقنى وأقنع ، والشما والشمع ، وتكأكأ وتكعكع ، وزقاء الديك وزقاعه ، وزأزأ وزعزع أي حرك ، وبدأ وبدع ، وامرأة خبأة وخبعة ، أي تختبئ تارة وتبدو أخرى ، والخباء والخباع ، والخبء والخبع ، ونظائر ذلك كثيرة حتى قلبوها أيضا متوسّطة كما في تأرّض وتعرض ، ودأم الحائط ودعمه. فأمّا تليين الهمزة ألفا فأشهر من البينة عليه.

وممّن حرّف أيضا لفظة متاع أهل مصر فقلبوا الميم باء ، وهي لغة لبعض العرب كما في درّة الغواص ، فيقولون : با اسمك في ما اسمك. واعلم أن فصل المضاف عن المضاف إليه بأداة أسلوب حسن يفيد التنصيص ، وذلك ما إذا كان المضاف منعوتا بنعت صالح لأن يعود على المضاف إليه أيضا ، كما في «عذاب الله العظيم» ، بخلاف ما لو كان بينهما فاصل ، والأرجح رجوعه إلى المضاف كما في المغني.

ومن نظم المالطيين أيضا ، وهو معنى حسن ، ولكنّه مكسوّ قبيح اللفظ والسبك :

١٠٦

المحبوب تاقلي سافر

ليلي ونهاري نبكيح

جعلتلو بدموعي البحر

وبالتنهيدات تا قلبي الريح

وهو يشبه قول لسان الدين الخطيب :

والبحر قد خفقت عليك ضلوعه

والريح تبتلع الزفير وترسل

ومثله قول القاضي الفاضل :

كأن ضلوعي والزفير وأدمعي

طلول وريح عاصف وسيول

وقول إبراهيم بن سهل الإشبيلي :

إذا أنست ركبا تكفّل شوقها

بنار قراه والدموع بورده

ومثله ما ذكره علي بن ظافر في بدائع البدائه :

«شراعها من فؤادي وبحرها من دموعي».

وبقي هنا إصلاح فاسد اللفظ : فنقول قد مرّ شرح تا أنها تكون بين المضاف والمضاف إليه ونبكيح الحاء مبدلة من الهاء وهي لغة للعرب أيضا ، فيقولون : المليه والمليح ، والهاضوم والحاضوم والمده والمدح ، وتاه وتاح ، وشقه النخل وشقحها ، وقوله البحر محركة جار على القياس من أن الاسم الثلاثي الذي أوسطه حرف حلق يجوز الفتح فيه نحو : شعر وشعر ، ونهر ونهر. قال الإمام الخفاجي في شرح درّة الغواص : قال ابن جنّي في المحتسب قرأ سهيل بن شعيب السهمي جهرة وزهرة في كل موضع محركا ، ومذهب أصحابنا في كل حرف ساكن بعد فتح لا يحرّك إلا على أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر. ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا قياسا مطردا كالبحر والبحر. وما أرى الحق إلا معهم.

وممّا أنشدنيه أحدهم بمحضر جماعة :

١٠٧

ينا اشتقت نجي فوق سدتك

نجي شبيهه تا عصفور

نطفي المصباح بجوانحي

نعطيك بوسه ونرجع نمور

فقلت له : لو قلت نأخذ بوسه لكان أولى لأنّ من يأخذ هنا خير ممّن يعطي ، فلم يفهم ، واستعادنيها فأعدتها عليه فلم يفطن لها لا هو ولا هم أيضا ، لأن المعاريض والمطارحات عندهم في كساد عظيم ، والمراد بالسدّة عند المالطيين نفس الفراش ، وهو في اللغة باب الدار ، وعندي أنّ قدماء المالطيين كانوا همجا يرقدون على الأبواب فسمّوا كلّ مرقد سدّة ، كما أنّهم سمّوا كلّ مكنسة مسلحة وهي في الأصل آلة للسلح وهكذا كانوا يستعملونها ، ثم أطلقوها على كلّ ما ينظّف به المكان ، ولهذا نظائر كثيرة ، إلا أن أهل طرابلس الغرب يستعملون السدّة أيضا بمعنى الفراش.

وقد ذكرت يوما لأحد من يتوسّم فيه الأدب من أهل مالطة سعة العربية في البديع وخصوصا التورية ، فقال : وكذا هي المالطية. وذكر هذه الجملة وهي عندك تينا تا اللحم ، فقال : تينا هنا يحتمل أن تكون مضارعا من تيته يريد من آتيته أو أعطيته ، وتا اللحم يحتمل أن يكون معناها ما يخصّ اللحم أي ثمنه ، وعندك هنا إغراء ، وعلى المعنى الثاني يحتمل أن تكون لفظة تينا مفرد التين وتا اللحم مضاف إليها أي تينة لحم والمعنى عندك تينة لحم كناية عن الإست ، وإغراؤهم بعند ليس على القياس فإنّهم يدخلونها على الأفعال خاصّة ، ومن تورياتهم أيضا قولهم : علاه من غير ماء يوهمون به من غلاء السعر.

ما بقي في لغتهم من فصيح العربية

وممّا بقي عندهم من فصيح العربية قولهم دار نادية ، وحقّها نديّة ولكنّها أفصح من قول أهل مصر والشام ناطية. وقابلة أي داية ، وخطر ومخاطرة أي رهان ، وغرفة أي علّية ، وقولهم في الدعاء عمروا وتمروا ، وبدا لي أي عنّ لي ، وتطاول ، ويشرف وصديد وبطحاء وتجالدوا وهو أفصح من تعاركوا ، وزفن أي رقص ، وبوقال وهي أفصح

١٠٨

من قول أهل الشام شربة أو نعارة ، ويماري أي لا يقنع بالحق ، ويشرق بالماء ، ويستقصي ، وفرصاد للتوت ، وسفّود. وأهل الشام يقولون : سيخ وشيش. وقد ورد في كلام النابغة الذيباني بقوله : «سفود شرب نسوه عند مفتأد» وتقزّز أي تباعد من الأدناس ، وعسلوج للقضيب ، وجلّوز وهو البندق الذي يؤكل ، ولكن هذه الألفاظ كلّها مستعملة في الغرب ؛ وبهذا يترجّح أن أصل المالطيين من المغاربة. ومن ذلك ضمّهم آخر الفعل المضارع أحيانا نحو: يحسبك ويبدلك ، وقولهم : وعدة وزنة ، وهما اسمان من وعد ووزن لا مصدران ، ولذلك سلم فاؤهما كما قال الحماسي :

وإذا أتى من وجهة بطريفة

لم أطّلع مما وراء خبائه

قال الشارح ومن روى من وجهه فمعناه من سفره الذي توجّه إليه ، ويروى : لم أطّلع ماذا وراء خبائه. ومعنى البيت لم أعرض نفسي عليه متعرّفا ما جاء به من سفره ليشركني في طرفه يجعلني أسوة نفسه.

مما يضحك من كلامهم

ومما يضحك من كلامهم قولهم هذا رجل من الكلاب وامرأة من الحمير يعنون : ذكرا وأنثى لأنّه ليس عندهم لفظ مرادف لهما فيضطرّون إلى هذا التعبير القبيح ، ويقولون عمل اللحية أي حلق وجهه ، وكذلك إذا حلق شعر عانته أيضا. ويقول أحدهم للآخر عند الإبانة والإفصاح ين نكلمك بالمالطي ، فكأنه يقول إنّ هذا الكلام قد بلغ من البيان بحيث لا يبقى للسامع محلّ للشّكّ فيه ، ويكثرون من جملة «قال لي» يكرّرونها في أثناء الكلام مرارا ، وإذا قصدوا توكيد خبر كرّروا اللفظ خمس مرّات فأكثر ، فيقولون : ما ريتوش قط قط قط قط قط ، وما كان ليش فلوس خلاف دا بز بز بز بز بز أي بس وخاده أي أخذه كله كله كله كله كله وما يسوى شي شي شي شي شي. ونحو ذلك. ومن أوزان كلامهم فاعلة للمصدر فيقولون : عملته بالواقفة أو بالقاعدة ، قال شارح الشافية : اعلم أن مجيء المصدر على وزن فاعلة أقل من مجيئه على وزن مفعول كالعافية نحو عافاه الله عافية ، والعاقبة نحو عقب فلان مكان أبيه

١٠٩

عاقبة ، وكالباقية كقوله تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)(١٠٨) أي بقاء ، وكالكاذبة كقوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ)(١٠٩) أي كذب. وأهل الشام يقولون : يطلع بالطالع ، وينزل بالنازل. ومن ذلك وزن فعل بالضم نحو سدد وصرر وهو نادر ، والأسماء الثلاثة التي أوائلها ضمّة يتبعونها ضمة أخرى نحو عمر وشغل وهو أيضا جار على القياس. وكذلك التي أوائلها كسرة نيتبعونها كسرة أخرى نحو عجل ورجل.

من قبيح عادتهم في الكلام

ومن قبيح عادتهم في الكلام هم وسائر الإفرنج توجيه ما يسوء من القول للمخاطب بدون محاشاة ، فيقولون مثلا : إنّي أحبك ما دمت حيّا ، وهذا الحرّ يقتلك ، وهذا النبات يقطع لك مصارنك أي مصارينك ، وهذا التراب يعميك ، وإذا مت جاء الطبيب وشرّح جسمك عضوا عضوا ، أو يقول لك العائد لا تله عن دائك فإنه قتّال ، وغير ذلك ممّا يقتضي فيه الإطلاق ألا ترى ما قاله سيد الفصحاء والبلغاء حبك الشيء يعمي ويصم ، ولم يقل يعميك ويصمك وإن يكن المعنى عليه.

فأمّا إمالة صوتهم عند الكلام ، هي التي تسمّيها الإفرنج امفازس ، فغريبة على من لم يتعود سماعها فإنّ لهم مدّا في الصوت ، وخفضا غير مألوف لأهل العربية حتى إن الإنكليز المولودين بمالطة يجرون هذه الإمالة في لغة أنفسهم انعداء من المالطيين ، وقد يعدّ هذا النوع عند الإفرنج من لوازم الفصاحة ولكن ليس كالذي يجريه المالطيون فإنّهم فيه مشطّون ، وهو يكاد أن يكون في العربية مفقود الاسم والمسمّى أو لعلّه هو اللهجة ، وقد لا حظت في أثناء قراءة المشايخ أنّهم كانوا يمدّون صوتهم عند التباس المعنى ترويا فيما يستقبلونه ، فكان هذا المدّ ضرب منه.

وممّا يضحك أيضا أن للمالطيين لازمة في الكلام يكرّرونها وهي سميتش محرّفة

__________________

(١٠٨) الآية ٨ من سورة الحاقة. (م).

(١٠٩) الآية ٢ من سورة الواقعة. (م).

١١٠

عن سمعت فعلا ماضيا والشين لازمة بعد الاستفهام كما هي بعد النفي ، ولمّا كان الإنكليز يسمعونها منهم مرارا أطلقوها علما على من يجهلون اسمه عند النداء ، وعلى الولدان الذينيخدمون الطعام.

قوة العربية وتمكنها

ثم إن بقاء اللغة العربية في جزيرة مالطة ولو محرّفة مع عدم تقييدها في الكتب دليل على ما لها من القوة والتمكن فيمن تصل إليه من الأجيال ، ألا ترى أن مالطة قد تعاقبت عليها دول متعدّدة ودّوا لو يحملون أهلها على التكلّم بلغاتهم فلم يتهيأ لهم ، وبقوا محافظين على ما عندهم منهم خلفا بعد خلف ، وهؤلاء الإنكليز يزعمون أن لغتهم ستكون أعم اللغات جميعا وأشهرها ، وما تهيأ لهم أن يعمّموها عند المالطيين ؛ نعم إن الخاصّة منهم يتعلّمونها ولكن ليسوا عليها بمطبوعين ؛ فإن محاوراتهم بين أهليهم إنّما هي بالمالطية لا غير ، وليس الطبع كالتطبّع ، ولا الكحل كالتكحّل.

ويقال : إنّ الذي تحصّل عند أهل مالطة من العربية ممّا هو مأنوس الاستعمال وغير مأنوسه يبلغ عشرة آلاف كلمة ، مع أن الذي جمع ذلك جرى على طريقة الإفرنج من أنّهم يقيدون في كتب اللغة جميع الألفاظ المشتقّة كاسم الفاعل والمفعول والآلة والاسم المنسوب ، وإلا لكان هذا القدر كافيا في المحاورات للإفصاح عمّا في الخاطر ، فأمّا في الكتب فلا ، ولا أحسب الكلام المستعمل الآن في برّ مصر والشام يزيد على هذا القدر ، غير أن أهل الشام فيما أظن أكثر مواد من أهل مصر كما أن هؤلاء أحسن منهم نسق عبارة والله أعلم.

تمّ الجزء الأول

المسمّى بالواسطة إلى معرفة مالطة

١١١
١١٢

القسم الثاني

المسمى بكشف المخبا عن تمدّن أوربا

١١٣
١١٤

من مالطة إلى إنكلترة

مسينة

أقول بعد الحمد لله إنه في الساعة العاشرة من صباح السبت الموافق لثاني يوم من أيلول سنة ١٨٤٨ سافرنا من مالطة إلى إنكلترة ، وبعد نحو ساعتين غابت عنّا أرضها ولكن لم أقل كما قال الشريف الرّضي :

وتلفتت عيني فمذ خفيت

عنا الطلول تلفّت القلب

وبعد خمس ساعات ظهرت لنا أرض جزيرة صقلّية ، وفي نحو الساعة الثامنة من صباح الغد أرسينا في مرسى مسينه ، وكان فيه يومئذ بوارج ملك نابولي لحصار البلد ، فكانت تطلق المدافع عليه ، ويأتيها جوابها من القلعة ، فلذلك لم نقم بها إلا بعض دقائق.

صقلّية

ويقال إنّ سكان صقلّية الأقدمين كانوا من إسبانيا ، وكان يقال لهم سيكانني ، ثم قدم إليها الأطروسكان من إيطاليا في سنة ١٢٩٤ قبل الميلاد ، ثم استوطنها الفينيقيّون واليونانيون ، ثم جاء القرطاجنيون واستولوا على الجزيرة كلّها إلى أن أخرجهم منها الرومانيّون ، وفي سنة ٨٢١ للميلاد فتحها المسلمون وجعلوا مقرّ الحكومة في بالرمو ، ولبثوا فيها مائتي سنة إلى أن أخرجهم منها الأمير روجر الروماني. وفي تاريخ الروانيين لغيبون أنّها فتحت في زمن المأمون في سنة ٨٢٣ ، وزعم بعض المؤرّخين أنّها كانت متّصلة بالأرض ففصلتها الزلازل المتتالية.

١١٥

نابولي

وفي نحو الساعة الحادية عشرة من صباح الاثنين بلغنا نابولي ، وهي مدينة ظريفة مشهورة بكثرة العواجل والملاهي والحظ والمتنزّهات الزهية والفاكهة الرخيصة الطيّبة. وفيها عدّة كنائس حسنة ، وأحسن طرقها حيث الحوانيت العظام الطريق المسمى توليدو. ولو لا أنّ مملكة نابولي عرضة للزلازل لكانت أحسن بقاع الأرض لخصبها واعتدال هوائها.

شيفتا فكيه

ثم سافرنا منها في ذلك اليوم فوصلنا إلى شيفتا فكيه في صباح الثلاثاء فأقمنا فيها ساعات ، وليس فيها شيء يقرّ العين.

ليفورنو

ثم سافرنا منها يوم الثلاثا وقد تزوّدنا بعض فاكهة فوصلنا إلى ليفورنو في صباح الأربعاء ، وظاهر هذه المدينة للناظر دون ظاهر نابولي لكنّها من داخل أكبر ، وطرقها أوسع وبناؤها من الآجر المحكم وديارها شاهقة إلا أنّها ليس لطرقها ممشى على الجوانب للناس ، وكذا هي مدينة نابولي ومرسى ليفورنو حسن ، وفيها ملهى وعدّة أعلام ومدارس (١١٠) لليهود يقال : إنه أعظم مدارس لهم في أوربا ، ومكتبة موقوفة وهي ذات أشغال ، وتجارة أهلها نحو (٠٠٠ ، ٧٦) وفي القرن الثالث عشر لم تكن إلا قرية حقيرة.

__________________

(١١٠) المدارس : موضع دراسة الكتب الدينية ، والأعلام : المنائر. (م).

١١٦

جينوى

ثم سافرنا منها إلى جينوى فبلغناها فجر الخميس ، وهذه المدينة مشهورة بكثرة الصروح العالية والديار الشاهقة جدّا ، وفيها قصور كثيرة من المرمر ، وبساتين ناضرة وفاكهة طيّبة ، وهي في نجوة (١١١) من الأرض متفاوضة (١١٢) الوضع ، وطرقها أضيق من طرق ليفورنو ، ولهذا كانت عواجلها أقل من تلك ، إلا أنّ الشمس لا تستحكم في مسالكها لكثرة شرفات الديار المائلة ، فكأنّها مبنيّة من أصلها لحجب الشمس. وفيها حوانيت بهيجة ولا سيّما حوانيت الصاغة ولها قنطرة قديمة شاهقة جدّا إذا نظرت منها إلى الحضيض هالك ارتفاعها. وفيها الفاكهة الطيّبة ، والخبز النظيف ، ومحل قهوة في غيضة أنيقة ، وهي في الحقيقة نزهة للناظرين وما أشبّهها إلا بدمشق ، وليس على من يدخلها إن يدفع شيئا.

لمحة تاريخية

كان تأسيسها في سنة ٧٠٧ قبل الميلاد ، وكانت في زمن دولة الرومانيين حافلة غنّاء. وفي القرن الحادي عشر امتدّت تجارتها بحرا وبرّا ، وفي مدّة الحروب الصليبية صارت مضاهية لفينيسيه في الغنى والثروة حيث كانت موردا للعساكر التي كان يراد تجريدها إلى البلاد المشرقية ، ثم وقع فيها من الفتن والتحزّب ما أضعف دولتها فدخلت في حماية دولة فرنسا ، ثم في عهدة شارلكان (أي كارلوس الخامس الشهير) فاستخلصها من الفرنسيس ، وصارت تتحزّب مع إسبانيا عليهم ، وفي سنة ١٧٩٦ استولى عليها الفرنسيس أيضا وفي سنة ١٨٠٠ حاصرهم فيها الإنكليز والروس وعساكر أوستريا حصارا ديدا فاضطروا إلى تسليمها ، ثم رجعت إلى عهدة فرنسا. وفي سنة المهادنة وهي سنة ١٨١٤ سلّمت لملك سردينية.

__________________

(١١١) في نجوة من الأرض : في مرتفع. (م).

(١١٢) في الطبعة الأولى : متفاوتة الوضع : وهي الأصوب. (م).

١١٧

مرسيلية

ثم سافرنا منها يوم الخميس بعد الظهر فبلغنا مرسيلية في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة ، ولهذه المدينة مرسى عظيم يسع ألفا ومائتي سفينة ولا يزال مشحونا بالبواخر. ولكثرة ورود المراكب إليها قطعوا خليجا من البحر ووصلوه به. وفيها عدّة مكاتب وملهى يعدّ من أحسن ملاهي أوربا ، وبستان للنباتات ، ومكتبة موقوفة ، ومصرف فسيح أعني البورس (١١٣). وفي ضواحيها أكثر من خمسة آلاف دار ، ولها تجارة واسعة مع المشرق وإفريقية وأميركا وإنكلترة والبحر الأسود ، كان تأسيسها في سنة ٥٩٩ قبل الميلاد ، وكانت في الزمن القديم ملحقة بولايات الرومانيين ومنها توصّلوا إلى فتح فرنسا.

وفي هذه المدينة محال عظيمة للقهوة مغشاة حيطانها ، وسقوفها بالمرايا والنقوش والتماثيل ، وأمامها مصاطب يقعد عليها الناس ، وإن لم يشتروا شيئا منها. وأهل المدينة يصرفون فيها أكثر أوقاتهم كل طبقة منهم تنتاب منها محلا خاصا. وفي بعضها ترى قيانا حسانا يغنين وهنّ كاشفات الصدور ، وعند ملهاها عدّة ديار تسكنها المومسات يستدعين الغادي والرائح ، وهي وسخة الحارات والأطراف لكنها بهيّة الحوانيت والديار مبلّطة الطرق. وليس في ديارها مراحيض وإنّما يجمعون أقذارهم في وعاء إلى أن يأتي رجل معه عجلة وعليها برميل كبير فيناولونه الوعاء فيفرغه في البرميل. وما يجمعه فيه فإنه يبيعه لتدميل الأرض ، ولا أعرف مدينة أخرى بهذه الصفة ، ومنهم من يقذف بالأقذار أمام البيوت ليلا فلهذا يشم الماشي في أكثر طرقها رائحة كريهة ، وماؤها في بعض الديار أجاج ولعدم الاكتفاء به نهروا إليها نهرا كبيرا من مسافة نحو ستّين ميلا ، فأحوج ذلك إلى أن ينقبوا له بعض الجبال ، ثم بنوا عليه جسرا عظيما يشتمل على نحو ثلاثة صفوف من القناطر بعضها فوق بعض ، وفي كلّ صفّ خمسون قنطرة ، وارتفاع علياها من الحضيض نحو مائة وعشر أذرع ، وعرض الماء الجاري فيه تسع أذرع ونصف في علوّ مثلها ، وجميع أحجار هذا الجسر

__________________

(١١٣) يقصد سوق الأوراق المالية (بورصة). (م).

١١٨

ضخمة جزيلة ، وبعد إجراء هذا النهر كثرت عندهم الحياض والعيون ووفرت الفاكهة والبقول ، وصارت بساتينها في غاية الريع والنضارة.

وفي هذه المدينة عدّة عرصات محفوفة بالشجر يتمشّى فيها الناس ، وتضرب فيها آلات الطرب العسكرية ، وفي أحد هذه المماشي حوانيت تفتح خمسة عشر يوما في السنة تجمع إليها جميع التحف والطرائف وأكثر البلعة فيها بنات حسان فإذا مررت بحانوت حرت بين أن تنظر إلى البائعة أو إلى البياعة. وفيها يوجد أيضا محالّ للعب والغناء واللهو ومشاهدة غرائب الأشياء مصوّرة على خارج المحل دليلا على وجود أعيانها في داخله.

وقد أخبرني من يوثق به أنّه شاهد فيها امرأة ورجلا قد عصب على عينيها بمنديل لكيلا تبصر الحاضرين ، ثم جعل يأخذ من بعضهم خاتما ونحوه ويجعله في كفه مطبقة عليه ثم يسال المرأة عمّا بيده فتجيبه ولا تخطيء ، وإنّه أخذ مرّة درهما قيمته عشرون فرنكا وسألها فقالت : في يدك درهم قيمته عشرون فرنكا. فقال : ويحك ليس في هذه البلاد درهم على هذا الضرب. فقالت : إنّه من ضرب الصين. وكان كذلك ، وسألها مرّة أخرى عن درهم فرنساوي فأجابته بأنه يساوي كذا ، وقد ضرب في عام كذا ، فلمّا سمعت ذلك أعظمته لما أنه كان أول مرّة طرق مسمعي ، ثم لما شاهدته عدّة مرار بمرأى العين في باريس ولندرة سقط اعتباره من بالي إذ تحقّقت أن مع السؤال الذي يلقيه الرجل على المغمض العينين ينبههه على نوع ذلك الشيء المسؤول عنه بلحن من القول لا يدركه إلا هو وعلى كل حال ففي التلقين والتلقن حذق ودربة. وفي الجملة فإن مرسيلية إنّما يستحسنها من قدم إليها من البلاد المشرقية لا من باريس ولندرة.

في الطريق إلى ليون

ثم سافرنا من هذه المدينة في الساعة الرابعة يوم الأحد في سكّة الحديد ، فكان البحر عن شمالنا والجبال والغياض عن يميننا فلم يكن منظر أبهج منه ، وأظن أن بلاد فرنسا أكثر بلاد الدنيا غياضا وحدائق. وكثيرا ما كنّا نسير في حافلة المجدّ نحو ساعة

١١٩

بين الأجم ، والسبب في تكثيرها احتياجهم إلى الوقود بخلاف بلاد الإنكليز فإن أكثرها سهول ومروج وحقول لاستغنائهم عن الحطب بفحم الحجر ، وفي فرنسا الجنوبية تنبت جميع الأشجار المعروفة عندنا ، وذلك كالتين والبردقان والعنب والزيتون والليمون ممّا هو معدوم في بلاد الإنكليز ، غير أن كروم العنب عندهم لا تبلغ في النمو والكبر كروم الشام. وفي مسافة الطريق دخل الرتل في قبوة مظلمة منقورة في الصخور فسار فيها نحو عشر دقائق فكان أمرا عظيما لمن لم ير مثله من قبل.

مدينة ليون

ثم بلغنا مدينة ليون بعد سفر نحو أربع ساعات لم يغب فيها عن أبصارنا ذلك المنظر الأنيق ، وهذه المدينة وسخة الطرق غير أنها حسنة الموقع ، وحوانيتها واسعة عظيمة ، وفيها معامل لثياب الحرير والقماش ، وحريرها مشهور. فأمّا الشريط ونحوه فإنه يصنع في صنت اتيان ، ولها مماش حسنة ، وملهى عظيم ، ومكاتب عديدة ، ومدرسة ملوكية ، ومحكمة جليلة هي من فاخر البناء ، ومكتبة موقوفة ، ومتحف ، وبستان للنباتات ، وعدد أهلها (٠٠٠ ، ٣٣٠) وفيها يجتاز نهران أحدهما يقال له : رون والثاني صون تسير فيهما بواخر مشحونة بالبضائع والميرة تمر على جملة مدن من بلاد فرنسا ، ثم يلتقيان ويصيران نهرا واحدا ممتدا إلى بحر مرسيلية ، ولا تكاد تمضي سنة من دون أن تزخر شواطئه على الأرضين ، وقد طغى في هذه السنة حتى كانت الناس تسير في شوارع المدينة في قوارب ، فهدم كثيرا من البيوت والجسور ؛ وأهلك كثيرا من الماشية والناس وأتلف الغلال فيما جاوره ؛ فانتخى سائر سكان فرنسا إلى إمدادهم وإغاثتهم ، واقتدى بهم الإنكليز أيضا. وعلى هذا النهر جسور من حديد وحجر وعدّة مغاسل للنساء.

في الطريق إلى باريس

ثم سافرنا منها في الساعة الرابعة من يوم الثلاثاء في حافلة المجدّ المعروف

١٢٠