نظرات معاصرة في القرآن الكريم

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

نظرات معاصرة في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

يتبوأ القرآن العظيم مقعد صدقٍ في الضمائر المؤمنة الحيّة ، تستلهم هدايته ، وتستطلع إفاضته ، وتستوحي إشارته.

والقرآن نصّ إلهي تفرد بجمال الأسلوب ، ودقة العبارة ، وعمق العطاء ، وهو كتاب الله الذي نصبه مناراً للإعجاز في شتىٰ عوالمه التشريعية والبلاغية والأسلوبية والتأريخية وسواها ، فليس هناك غرابة أن يجتمع فيه تأصيل الغرض الديني بإعتباره كتاب العربية الأكبر.

إنطوت أربعة عشر قرناً أو تزيد على ميلاد هذا الكتاب المجيد ، وما زال جديداً في عطائه ، وجديداً في أفكاره ، وجديداً في ملامحه البيانية الفذّة ، تحدى الله به الأمم والشعوب والقبائل فوجموا أمام بلاغته العربية ، ونازل به عالم العلماء والعباقرة فانحنت الرؤوس ، وشخصت الأبصار ، وعنت العقول ، وطاول به النصوص الأدبية والتشريعية فانهزمت بين يديه ، كل هذا وفوق هذا مما إمتاز به القرآن الكريم ، فلا غرابة إن حديث المشاعر الإنسانية على مدارسته ، ونصب الفكر البشري في إستكناهه ، فما زال الزمان والتقدم الحضاري معاً يوليان هذا المنبع الثّر أهمية خاصة ، فهو الرافد الذي واكب حياة الأجيال ، وهو الشعاع الذي رافق مسيرة الحضارة.

وقد قدّر لي أن أرافق طبقة مختارة في الجامعات والمجامع العلمية ، والجماهير المثقفة ، وأرى الجميع يتطلعون إلى شذرات من معارف القرآن ، بل ويسألون بألحاف وإلحاح عن طائفة كبيرة من خصائصه وتعليماته ، ويتشوفون شوقاً إلى الإجابة المعاصرة بعيداً عن الأفق التقليدي المتزمت ،

٥

وكنت مغتبط النفس لهذا التوجه ، مطمئن الضمير لصحة المنطلق ، أجيل فكراً نابضاً في إستقراء المجهول ، وأقدم عرضاً متواضعاً في ضوء ما أحسن ، ومن خلال هذه المناظرات والطرح المعاصر لفكر القرآن ، تولدت جملة من الأفكار الصالحة التي يفيد منها الراهب في صومعته ، والمفكّر في مكتبته ، والمثقف في جامعته ، والجمهور في حدود معرفته ، وإستحضرت لذلك المؤتمرات العلمية والندوات المتخصصة ، فكانت ميداناً متسعاً لهذه الأفكار تقابلها بالرضا حيناً ، وبالمناقشة الحرّة حيناً آخر ، وقد تسجل بأجهزة الاعلام ، وقد تصوّر كاملة بأشرطة الفيديو ، فكانت هذا الكتاب.

هذا الكتاب عبارة عن محاضرات علمية في نظرات معاصرة للقرآن الكريم ، ألقيت في المؤتمرات والندوات المتخصصة ، وهي خاضعة للردّ والقبول والنقاش ، ولكنها بأية حال صورة عما أفهم ، وأطروحة لما أؤمن به ، ليس فيها تنطعّ المتزمتين ، ولا إغلاق المتفلسفين ، جاءت كما هي عليه تعبيراً واضحاً مفهوماً بمنأى عن الالتواء والتعنت ، وكانت حصة هذا الكتاب منها سبع محاضرات ، ودّونت بعد عنوانها مكان وزمان إلغائها ، وهي كالآتي :

١ ـ ملامح الإعجاز في القرآن العظيم.

٢ ـ البعد العالمي في القرآن.

٣ ـ مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم.

٤ ـ أثر القرآن الكريم في الحفاظ على أصالة اللغة العربية.

٥ ـ الأسلوب النفسي لمكافحة الجريمة في القرآن الكريم.

٦ ـ تحريم الخمر في القرآن الكريم.

٧ ـ مسيرة الكائن الإنساني ورسالة السماء في القرآن العظيم.

وقد أسميتها مجتمعة « نظرات معاصرة في القرآن الكريم » أرجو أن يلتمس بها القارئ شيئاً جديداً ، وأن يتطلع لها الشباب بأفق متفتح ، وأن يفيد منها الباحث الموضوعي ، عسىٰ أن تكون لنا ذخراً يوم الدين ، نعدّ فيه

٦

من حَمَلَة القرآن ، ونعتبر في بركته من خَدَمَتِهِ ، فيوردنا مورد الكرامة ، ويطلّ بنا على ساحة القدس ، وهذا أكبر رجائنا وأعظم أملنا.

وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم عليه توكلت ، وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

النجف الأشرف

الدكتور محمد حسين علي الصغير

أستاذ في جامعة الكوفة

٧
٨

ملامح الإعجاز في القرآن العظيم

ألقيت في الحرم الحيدري الشريف عند الرواق في مؤتمر الاعجاز القرآني في النجف الاشرف ليلة ٢٣ رمضان ١٤١٠ ه‍ ١٨ نيسان ١٩٩٠ بحضور وفود علماء العرب والاسلام وبحشد حافل من علماء وأدباء النجف الاشرف ، وقد حصل البحث على التقييم الأول ونشر في وقائع المؤتمر. وأردف البحث بمحاضرة مرتجلة استمرت زهاء الساعة عن « إنسانية القرآن » ألقيت في الندوة العلمية لآل محي الدين في النجف الأشرف مساء يوم ١٥ رمضان ١٤١٧ ه‍ / الموافق ٢٥ / ١ / ١٩٩٧ م.

٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

الاعجاز بمفهوم بديهي : عبارة عن خرق لنواميس الكون ، وتغيير في قوانين الطبيعة ، وقلب للنظام الثابت في الموازين إلى نظام متحول جديد.

فالثابت هو الأصل الجاري على سنن الحياة ، والمتحول هو الحالة المغايرة لأنظمة المعادلات الكونية المتكافئة. هناك إذن مَعْلَمات : معلم طبيعي بسيط ، ومعلم خارق معقد ، والمعلم الطبيعي لا تجد عنه متحولاً ، فهو سنة الله في الإبداع والمعلم الخارق ما تجد فيه قلباً لتك السنن ، ومجابهة لمجريات الأحداث الرتيبة ، بأخرى إعجازية. فزوجية الكائنات هي الأصل في بعث حقائق الأشياء ، والطريق إلى تسيير حياة الكائنات في العوالم المرئية والمسموعة والمدركة والمتخيلة بدليل قوله تعالى :

( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) ) (١).

وفي هذا الضوء يكون الايجاد الطبيعي للإنسان منسجماً مع نظام الزوجية العام في حالة متأصلة إعتيادية ، ويكون الأصل التكويني للبشرية في خلق آدم من التراب دون الطريق الطبيعي في التناسل هو الحالة الفريدة ، وهي الاعجاز ، ويحمل عليها كلما قابل العادة ، ولم يخضع إلى التجربة كما في إيجاد عيسى عليه‌السلام بما مثله القرآن : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٥٩) ) (٢).

وليس السبق في العلم إعجازاً بل هو من مفردات إكتشاف المجهول ،

__________________

(١) يس : ٣٦.

(٢) آل عمران : ٥٩.

١٠

وتحقيق الزيادة في أولية الاستقراء والاستنباط. إذ قد يتوصل الكثيرون إلى ذلك فيما بعد بنظام أفضل ، ومواصفات متكاملة ، فيكون الرائد في الاكتشاف أو الاختراع قد سبق الآخرين وحقق ما لم يحققوه دون إعجاز كما هي الحال في التقنيات الحديثة ؛ وإنما الإعجاز هي التفرد بالشيء في محور إلهي على يد الأنبياء بين يدي رسالاتهم على سبيل التحدي ، فالسبق إلى الاكتشاف كيفية مشتركة بين فرد أو جماعات على نحو الإبتكار ، لا على سبيل التحدي ، والمعجزة مختصة بالنبي على سبيله ، فالمبتكر ـ إذن ـ يحقق سبقاً علمياً ، والمتحدي يحقق إعجازاً إلهياً ، وفرق بين الأمرين.

والمعجزة الالهية في هذا الملحظ على نوعين : وقتية ودائمية ، وجميع معاجز الأنبياء وقتية ـ كما يدل عليه الاستقراء ـ ذهبت بذهابهم ، إلا معجزة محمد وهي القرآن فإنها باقية ما بقي الدهر ؛ على أن النبي قد شارك سائر الأنبياء في معاجزهم الموقوتة ، فكان له انشقاق القمر وتسبيح الحصى ، وسعي الأشجار ، وشهادة الغيب ... الخ.

ومعجزة كل نبي شيء ورسالته شيء آخر ، فمعجزة موسى عليه‌السلام في العصا واليد البيضاء والآيات البينات ، ولكن رسالته هي التوراة. ومعجزة عيسى في إبراء الاكمه والابرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى ، ولكن رسالته هي الانجيل ، إلا نبينا محمد فإن معجزته عين رسالته ، ورسالته هي معجزته ، وهما معاً القرآن (١).

وبراعة الإعجاز تتجلى في ملائمة قضية الإعجاز لكل نبي بما يلائم عصره ، وينسجم مع فنون جيله ، ويعزى إلى حياة قومه فيما هو طبيعي أو خارق دون تحد.

وكان الامام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أول من نبه إلى هذه الحقيقة العالية فيما رواه ابن السكيت ( ت : ٢٤٤ ه‍ ) قال ابن السكيت للإمام الرضا عليه‌السلام : « لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه‌السلام بالعصا ويده البيضاء ، وآلة السحر ؟ وبعث عيسى بآلة الطب ؟ وبعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام والخطب ؟ فقال الإمام الرضا : إن الله لمّا بعث موسى عليه‌السلام كان الغالب على أهل

__________________

(١) ظ : مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : ١٣٠.

١١

عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم ، وأن الله بعث عيسى عليه‌السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيا به الموتى ، وأبرأ الاكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت به الحجة عليهم.

وأن الله بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنه قال : الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجة عليهم ؛ قال : فقال ابن السكيت : تالله ما رأيت مثلك قط ، فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال عليه‌السلام : العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه ؛ فقال ابن السكيت : هذا والله هو الجواب (١).

ولم يكن الأنبياء ليستعملوا الطريق الطبيعي في المعجز ، وإنما كانوا يتحدون هذا الطريق ، فموسى تحدى سحر السحرة ( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (١٢٢) ) (٢) فكان إعترافهم بصحة دعوى موسى دليلاً على إعجازه ، لأن ما جاء به ليس من سنخ ما يعرفون.

وعيسى لم يستعمل مضادات الأمراض ، وإعطاء الدواء ، فيحقق سبقاً طبياً ، وإنما كان يبرئ الاكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله دون وسائل الأطباء والرسول الأعظم لم يصك العرب ببلاغة القرآن ، إلا لأنهم أئمة البلاغة وأرباب البيان ، ولكنه من الله : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (٤٤) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) ) (٣).

فكله من عند الله ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ (٤) ) (٤) قال الجاحظ ( ت : ٢٥٥ ه‍ ) « ولأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من

__________________

(١) الكليني ، الأصول من الكافي : ١ / ٢٤.

(٢) الأعراف : ١٢٠ ـ ١٢٢.

(٣) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

(٤) النجم : ٣ ـ ٤.

١٢

خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة ـ لتبين له في نظامها ومخرجها ، وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها ، ولو تجدي بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها » (١). فعبارة القرآن إذن من سنخ ما يعرفون ويدركون ، ولكنها ليس من جنس ما يحسنون لا كمّاً ولا كيفاً ، فطلب إليهم الأتيان بمثله فما أستطاعوا ، وتنزل على عشر سورة فما أطاقوا ، فتحداهم بسورة واحدة فقال : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) ) (٢) وقد دل الاستقراء أن أقصر سور القرآن هي الكوثر بسم الله الرحمن الرحيم : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (٣) ) (٣).

فما بال الأمم لا تأتي بسطر واحد من هذا الجنس ؟ وإذا كان القرآن قد أعجز العرب ، فغير العرب أشد عجزاً لأمرين :

الأول : أن العرب هم أهل اللسان ، وقد عجزوا عن مجاراة القرآن ، فغير أهل اللسان عاجزون من باب أولى.

الثاني : أن اللغة العربية الشريفة ليست لغزاً من الألغاز ، وهي قابلة للتعلم ، وقد نبغ فيها كثير من مسلمي غير العرب ، وأتقنها حملة من المستعربين والمستشرقين حتى ترجموا القرآن إلى لغاتهم وقدموا أفضل الدراسات القرآنية ، وإنما التحدي أو يتحدى الإعجاز القرآني من كل أمة علماءها ، وعلماء الأمم يتمكنون من العربية ، فتوجه إليهم التحدي وعجزوا عن ذلك في كل زمان ومكان.

( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨) ) (٤).

وقد يقال بأن الله قد صرف قلوب الناس ، وحبس ألسنتهم عن أن

__________________

(١) الجاحظ ، رسائل الجاحظ ، تحقيق السندوبي : ١٢٠.

(٢) البقرة : ٢٣.

(٣) الكوثر : ١ ـ ٣.

(٤) الإسراء : ٨٨.

١٣

يأتوا بمثل هذا القرآن ، فيسمى ذلك إعجازاً بالصرفة ، وهو رأي المعتزلة (١).

ولكن الرأي الأمثل ، أن الله قد يسر جميع القدرات البيانية ، ووهب مستلزمات البلاغة للناس وتحداهم فلم يتمكنوا من الأتيان بمثل لهذا القرآن ، وذلك أبلغ في الإعجاز.

فما هي وجوه هذا الإعجاز في القرآن وما هي مظاهره ؟ أحاول فيما يلي أن أضع ملخصاً بأبرز وجوه الاعجاز ومظاهره على نحو الإجمال.

١ ـ الإعجاز الغيبي ، ويتمثل بما تحدث عنه القرآن الكريم بضرس قاطع في الأنباء عن الغيب الماضي والمستقبلي :

أ ـ عرض القرآن سيرة الأمم السالفة وجزئيات أحداثها ، وكبريات أنبائها بلهجة الجزم واليقين ، فأخبر عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وذي القرنين وأهل الكهف ، وقوم عاد وثمود ولوط وشعيب ، وجمهرة عظيمة ممن أصابهم عذاب الاستئصال بمجريات أحوالهم بما يعتبر كشفاً لأدق التفصيلات التأريخية بما لا علم لأحد به على وجه الكمال ، وهي حالة لا عهد بها للمجتمع العربي في مكة ، مما كعلهم يتهافتون على هذه الأخبار ، ويتمثلون وقائعها بالمقياس التأريخي للإفادة من عبرها وأحداثها ومواردها.

ب ـ وتحدث القرآن عن الأحداث المستقبلية بلغة التأكيد بعدة مناسبات أبرزها ، وقعة بدر ( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) ) (٢) وغلبة الروم وانتصارها فيما بعد ( الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) ) (٣).

وعن فتح مكة ( لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ ) (٤) وهزمت قريش بعليائها وجبروتها في معركة بدر الكبرى ، وانتصر الروم على

__________________

(١) ظ : عبد الكريم الخطيب ، الاعجاز في دراسات السابقين : ١٧٦ ـ ١٧٨.

(٢) القمر : ٤٥.

(٣) الروم : ١ ـ ٣.

(٤) الفتح : ٢٧.

١٤

الفرس بعد سنين من غلبة الفرس (١) ، ودخل النبي مكة فاتحاً ، وقد كان فتح مكة غير وارد في الحساب التخطيطي ، إذ كيف يمكن لهذا المهاجر مع طائفة قليلة من أهل بيته وأصحابه وهو ضعيف مستضعف ، أن يقتحم جبروت قريش ويغزوها في عقر دارها ، وكان ذلك دليلاً واضحاً ومنتشراً في البلاد على الاعجاز الغيبي ..

٢ ـ الإعجاز التشريعي : ويتمثل بما فصله القرآن بآيات الأحكام وفقه القرآن بما لا عهد لمناخُ الجزيرة بتفصيلاته الدقيقة ، فقد نظم حياة الفرد والأمة بأحكام لا مزيد على إبرامها برباط الحرية دون فوضى وبريقة الامتثال دون إستعباد ، فالأحوال الشخصية قد نظمت بأحكامها الجديدة في الزواج والطلاق والعدة والنفقة والمواريث والوصايا والحدود والديات والجروح والقصاص والديون والعقود بما لم تسبق إليه أعرق الأمم تشريعاً ، وأعمقها تفقهاً ، بل كانت مفردات حياة جديدة متأطرة باطار التطوير الإنساني ثم تكفل القرآن ببيان فروض وواجبات وطقوس منظمة ضمن الحياة اليومية كالصلاة بفرائضها ونوافلها ، وفي جملة من الشهور كالصوم والحج والعمرة ، وفي خلال السنة كالزكاة والخمس في المحاصيل والغنائم.

إن هذه الأبعاد المترامية الأطراف في التشريع لا يمكن أن يصدر تعاليمها إلا خالق هذا الكون ومنظم شؤونه ، إذ لم تعرف الحضارة البشرية هذا التفصيل الدقيق في نوعية الاحكام وجزئيتها.

٣ ـ الإعجاز العلمي : ونريد به ما أورده القرآن من نظريات وقوانين توصل إليها العلم الحديث فيما بعد في مسار الأرض وإنشطار النجوم ، وتعدد الأفلاك ، وابعاد السماوات ، وزوجية الكائنات ، دون إستعمال القرآن لقوانين الحس والتجربة والمعادلة وإنما جاء ذلك ابتداء ، وما ورد فيه كان دون سابق معرفة بشرية بالحيثيات المتناثرة فيه حتى ثبت أن القرآن لا يعارض ما يتوصل إليه العلم بل هو الأساس في ذلك فيما أفاده جملة من المتخصصين ، ولا يراد بهذا الاعجاز الاتساع الفضفاض

__________________

(١) ظ : للتفصيل : الخوئي ، البيان في تفسير القرآن : ٦٨ وما بعدها.

١٥

الذي يخرج بالقرآن عن مهمته الأولى والأساسية ؛ فهو كتاب هداية وتشريع لا كتاب صناعة وتقنيات ، مع دعوته للتفكر والتدبر في بدائع السماوات والأرض (١).

٤ ـ الإعجاز الصوتي : ويتمثل في جزء منه في الحروف المقطعة بفواتح بعض السور القرآنية ، فهي حالة فريدة من الاستعمال وقف عندها العرب موقف المتحير ، ولا سابق عهد لهم بأصدائها الصوتية ، مما قطعوا به أن هذه الأصوات المركبة من جنس حروفهم هي نفسها التي تركب منها القرآن ولكن لا يستطيعون أن يأتوا بمثله. وهو ما أفردنا بعمل مستقل (٢).

٥ ـ الإعجاز العددي ، وقد وفق الأستاذ عبد الرزاق نوفل إلى اشتعراء الإعجاز العددي في القرآن ، في مقارنات سليمة ، وموازنات حسابية دقيقة ، فقد قام بعمليات إحصائية لورود الألفاظ المتناظرة ، والمتقابلة ، والمتضادة ، والمتناقضة ، وقابلها بعضها ببعض بالعدد نفسه ، أو نصيفه ، أو شطره ، أو ما يقاربه ، مما شكل ثروة عددية تنبئ بالضرورة أن القرآن لم يستعملها صدفة ، بل بميزان ، وذلك الميزان لا يمكن أن يكون من صنع البشر ، فهو إذن من أدلة إعجازه (٣).

٦ ـ الإعجاز الاجتماعي : إن المتمرس بتأريخ الجزيرة العربية ، في بدء الرسالة الاسلامية ليبهر ـ حقاً ـ بهذا التوحيد المفاجئ ، والتغيير الاجتماعي العاجل ، والتسخير لطاقات العرب في ظل القرآن حتى جعل منهم أمة تحمل هذه الرسالة للأجيال ، فتتناسى حروبها وشحنائها ، وتضرب صفحاً عن عرقيتها وعشائريتها ، لتنتظم في ظل الاسلام وتهتدي بشعلة القرآن ، فيفتح الله على يديها شرق الأرض وغربها ، وتتسلم مقاليد الاسلام بعد الوثنية ، وأولية التوحيد بعد الإشراك وإذا بكيانها ينصهر بتعاليم القرآن فجأة ، وهو ما يحقق

__________________

(١) للتفصيل في الاعجاز العلمي ظ : طفطفاوي جوهري / تفسير الجواهر.

(٢) لتفاصيل هذه النظرية ظ : بحثنا : الصوت اللغوي في فواتح السور القرآنية.

(٣) ظ : عبد الرزاق نوفل ، الاعجاز العددي في القرآن الكريم.

١٦

الاعجاز الاجتماعي في جملة التغيير الجذري للأعراف والتقاليد والمخلفات.

٧ ـ الإعجاز البياني : ويتمثل بالتركيبة الخاصة المتميزة لألفاظ القرآن ومعانيه ، وفي مجموعة العلاقات المجازية والاستعارية والتشبيهية والكنائية والرمزية والايحائية بين المعاني والألفاظ ، وذلك السر الأكبر في إعجاز القرآن ، فالعرب أمة بيان ، ورجال بلاغة ، تطربهم الكلمة ، وتهزهم الخطبة ، ويستهويهم الشعر ، وقد وقفوا عند بلاغة القرآن باهتين بما عبر عنه الوليد ( والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر ) (١).

والحديث عن الاعجاز البياني مستفيض ينهض بعمل مثقل مستقل ، ويكفي في عظمته أن الإمام علياً عليه‌السلام من أوائل رواده في الافادة والاستفادة ، وأن ما ورد في نهج البلاغة كان إمتداداً طبيعياً للاعجاز البياني في القرآن لتأثر الامام في القرآن وهذا المنهج مدين إلى علماء الاعجاز كعلي بن عيسى الرماني ( ت : ٣٨٦ ) (٢) وحمد بن سليمان الخطابي ( ت : ٣٨٨ ) (٣) والشريف الرضي ( ت : ٤٠٦ ) (٤) وعبد القاهر الجرجاني ( ت : ٤٧١ ه‍ ) (٥) حتى تسلمه جار الله الزمخشري ( ت : ٥٣٨ ه‍ ) فجعل تفسيره الكشاف مضماراً للاعجاز البياني ، وفتح فيه عمق دراسة جديدة في البلاغة القرآنية التطبيقية التي إعتمدت التسلسل المصحفي ، إذ فسر القرآن كاملاً ناظراً فيه الوجوه البيانية ، ومستلهماً المناخ الفني حتى عاد تفسيره كنزاً بيانياً لا تنتهي فرائده ، وقد تجلى فيه ما أضافه من دلالات جمالية في نظم

__________________

(١) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : ١٩ / ٧٢.

(٢) ظ : النكث في إعجاز القرآن.

(٣) ظ : بيان القرآن.

(٤) ظ : تلخيص البيان في مجازات القرآن.

(٥) ظ : أسرار البلاغة ودلائل الاعجاز.

١٧

المعاني ، وما بحثه من المعاني الثانوية في تقديم العبارة ، وعائدية الضمائر ومعنى المعنى ، وتعلق البيان بعضه ببعض (١).

إن الحضارة الانسانية اليوم بحاجة إلى هذا المنهج في استجلاء جمال القرآن ، وإستقراء خفايا مكنوناته ، أما التعدي على مقام القرآن ووحدته الفنية بالإيغال في النزاعات التقليدية ، والاصحار بمتاهات الخصومات ، فأمر ترفضه عقلية المثقف العصري ، وتلفظه روحية البحث الموضوعي ، وحسبك في كتب الكلام ومصنفات الاحتجاج وصنوف المقالات غنية عن ذلك.

وللتاريخ فإن صاحب هذا المنهج في القرن العشرين هو أستاذنا العلامة الشيخ أمين الخولي ( ت : ١٩٦٦ م ) حينما أنيط به تدريس التفسير والأدب معاً في الجامعة المصرية ، فأتى على درس التفسير وجعله كاشفاً عن إعجاز القرآن البياني ، وأوضح منهجه بذلك في مناهج تجديد ، وترجمه بمحاضراته في أمثال القرآن (٢). فالقرآن كما يقول : « كتاب العربية الأكبر ، وأثرها الأدبي الأعظم ، فهو الكتاب الذي أخلد العربية ، وحمى كيانها ، وخلد معها ، فصار فخرها ، وزينة تراثها ... إن التفسير اليوم هو : الدراسة الأدبية الصحيحة المنهج ، الكاملة المناحي ، المتسقة التوزيع ، والمقصد الأول للتفسير أدبي محض صرف » (٣).

وإتجه لهذا المنهج كوكبة من أساتذة الجامعات في الوطن العربي غيرة منهم على القرآن وترسيخ مبادئ إعجازه ، ومن أبرزهم في هذا المضمار الدكتورة بنت الشاطيء فأصدرت الاعجاز البياني للقرآن الكريم والتفسير البياني للقرآن الكريم.

وهناك ملحظ مهم يتعلق بهذا المنهج ، وهو الحفاظ على سلامة اللغة العربية من التدهور والضياع فهي لغة كتاب مقدس ، والحفاظ عليها يرتبط

__________________

(١) ظ : المؤلف ـ المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم : ١٠٤.

(٢) ظ : أمين الخولي ـ مناهج تجديد في التفسير والأدب والنحو + محاضرات في أمثال القرآن ـ مخطوطة في حوزة الدكتور مصطفى ناصف.

(٣) أمين الخولي ـ دائرة المعارف الاسلامية ، مادة تفسير : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

١٨

بالحفاظ على هذا الكتاب تأريخياً ، وهذا التأريخ المشترك يمثل مظهراً اجتماعياً مركزياً متلازماً ، فالتقصير في جانب يطبع أثره على الجانب الآخر ، وقد مرت اللغة العربية بظروف وبيئات مختلفة ، خضعت معها إلى عوامل اللهجات المتباينة ، وأمتزجت بها ثقافة اللغة الأخرى ، وتطور من مفرداتها ما تطور ، وبقي ما بقي ، وهذه عوامل كان من الممكن أن تخضع اللغة معها إلى كثير من التبدل والتغيير ، وأن تتعرض مفرداتها للنسخ أو التجوز ، ومع هذا فقد بقيت هذه اللغة سليمة لم تتأثر بعوامل الانحطاط والضعف ، ولم تتلكأ مسيرتها التأريخية بوهن أو خور ، وسبب هذا البقاء والسيرورة يرجع إلى بيان القرآن ، والدفاع عن القرآن ، وصيانة لغة القرآن ، ففي الوقت الذي تتجاوز فيه هذه اللغة موطنها الأصلي ، ويمتد سلطانها إلى أرجاء فسيحة من العالم فإنها تبقى متميزة بمناخ الصحراء لهجة ، وبطابع البداوة مصدراً ، لأنها اللغة الرسمية للقرآن ، وهو لا يتهاون في قدسية لغته ، ولا يجد عنها منصرفاً ، فارتبط وجودها بوجوده ، وإستمرار رقيّها بإستمراره ، ولم يداهمها الفناء أو الاضمحلال أو التقلب ، في حين تنطوي به الأمم ولغاتها ، وتتلاشى الشعوب وتراثها ، بينما تطوي العربية أمدها الطويل سليمة متناسقة تتسنم مدارج الخلود ، وتناطح هجمات الدهر ، ولما كان القرآن الكريم معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالدة ، وهو مرقوم بهذه اللغة الشريفة ، فالخلود ملازم لهما رغم عادية الزمن ، وهذا أمر يدعو إلى الاطمئنان على سلامة اللغة ، وأصالة منبتها ، وهنا يتجلى أثر تيسير القرآن وفهمه بيانياً بالكشف عن الأسرار ، فهو يشد إليه الباحث شداً ، دون عسر أو عناء ، وبكل يسر وسماح.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

١٩
٢٠