نظرات معاصرة في القرآن الكريم

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

نظرات معاصرة في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ج‍ ـ ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ) (١).

بعد تشخيص هاتين الظاهرتين نجد القرآن متحدياً عن سمات المجرمين وأوصافهم في كل من النشأتين الحياة الأولى ، والحياة الآخرة.

وتبدأ مشخصات الجريمة في القرآن بالقتل المتعمد ، وبقطع الطريق ، وبالسرقة ، وبالزنا ، وكبائر المحرمات ، وأحاول فيما يلي القاء الضوء على بعض هذه المفردات ، ومعالجتها في القرآن نفسياً ، دون الدخول في التفصيلات المضنية.

١ ـ القتل : يعتبر القتل من أبشع الجرائم في القوانين السماوية ، وهو كذلك في القوانين الوضعية ، وقد حدد الله تعالى هذا المعلم بأسبابه ودوافعه ونتائجه ، وهو نوعان : قتل العمد ، وقتل الخطأ ، ولهما في الشريعة الاسلامية حدود في القصاص والديات ، ولا يتعلق حديثنا لمثل هذه الحدود وإنما بالمشخصات الجرمية فحسب.

أ ـ قال تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (٣٣) ) (٢).

فقد حددت هذه الآية عدة معالم لحالة القتل :

الأولى : عدم جواز قتل النفس التي حرم الله الا بالحق.

الثانية : من قتل مظلوماً فلوليه الحق بالقصاص.

الثالثة : الاكتفاء في المقاصة الشرعية عن الاسراف.

وقد كرّر تعالى الملحظ الأولى في آية أخرى فقال : ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٣).

ب ـ وفيما اقتص الله تعالى من خير ابني آدم حددت معالم أخرى لجواز القتل وحرمته مع الارشاد الموحي ، قال تعالى :

__________________

(١) الانعام : ١٢٣.

(٢) الإسراء : ٣٣.

(٣) الأنعام : ١٥١.

٨١

( مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) (١).

وتحدد استنباطات الفقهاء ان القتل يجب في مواضع الكفر بعد الايمان على تفصيل به في مسألة الارتداد ، والزنا بعد الاحصان ، والفساد في الأرض كالعصابات المسلحة ، وقطاع الطرق ، وفي حالة القصاص.

والأول والثاني مستفادان من السنة الشريفة ، والثالث والرابع من النص القرآني السابق.

وقد عالج القرآن ظاهرة القتل المتعمد نفسيًّا في عدة ملامح تحذيرية وترغيبية وإصلاحية.

أولاً : حذر القرآن الكريم من قتل الأولاد خشية الفقر بأن ربط الرزق بالله ، فنهى عن القتل لهذا الملحظ فقال في آيتين :

أ ـ ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (٢).

ب ـ ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) (٣).

ويلاحظ هنا الذوق البلاغي في القرآن إذ استعمل في آية الأنعام ( مِّنْ إِمْلاقٍ ) وفي آية الإسراء ( خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) وفي الأولى قدم ضمير الخطاب ( نَرْزُقُكُمْ ) على ضمير الغائب ( إِيَّاهُمْ ) وفي الثانية عكس الامر فاستعمل مكان المخاطب الغائب ( نَرْزُقُهُمْ ) ومكان الغائب المخاطب ( إِيَّاكُمْ ) وهو ملحظ دقيق تفصيله في غير هذا البحث.

ثانياً : الانكار الشديد بصيغة الاستفهام ، قال تعالى : ( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (٩) ) (٤).

ثالثاً : الوعيد بالخلود في النار ، وغضب الله تعالى ولعنه وهو أشد ،

__________________

(١) المائدة : ٣٢.

(٢) الأنعام : ١٥١.

(٣) الإسراء : ٣١.

(٤) التكوير : ٨ ـ ٩.

٨٢

وإعداد العذاب العظيم وهو أقطع ، ويمثل هذا الاتجاه قوله تعالى :

( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣) ) (١).

رابعاً : الثناء المطلق والوعد الجميل مع الوعيد باعتبار الذين يتصفون بعدم القتل من عباد الرحمن ، قال تعالى في صفتهم : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) ) (٢).

خامساً : التبكيت والتسفيه والخسران فيما قال تعالى : ( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ) (٣).

وهكذا نجد القرآن العظيم قد استقطب مختلف الاساليب لدرء جريمة القتل بين الوعد والوعيد وتهيأة المناخ النفسي ليطمئن المجتمع وتصان الأرواح.

٢ ـ السرقة : لقد حدد القرآن حكم السرقة ؛ واعتبرها من الجرائم التي يعاقب عليها بقطع اليد بنص قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) ) (٤).

هذا الحكم له حدود وله قيود في تعيّن مبلغ السرقة ، وهوية السارق ، ومكان القطع ، وللفقهاء فيه كلام طويل ، وكذلك الحال في نوعية السرقة غصباً أو سلباً أو أغار سراً أو علانية ، لكن المهم هو وقع الحكم على الاسماع وشدته لدى التنفيذ ، وهذا ما دفع بحملة من الأوربيين والمستشرقين إلى تصوير الاسلام بأنه دين وحشي ، وليس الأمر كذلك ، لأن الظروف المعيشية التي سخرها الله لعباده ، هي أكبر وأكثر من ظروف الاعتداء على أموال الآخرين ، ولأن الامانة سر من أسرار الخليقة ، يعود الانسان بدونها متردياً للحضيض الاوهد ، ويحضرني في ردّ هذه الشبهة ، ما أبانه أبو العلاء المعري ، متسائلاً عن حكمة قطع اليد بقوله :

__________________

(١) النساء : ٩٣.

(٢) الفرقان : ٦٨.

(٣) الأنعام : ١٤.

(٤) المائدة : ٣٨.

٨٣

يد بخمس مئين عسجد فديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

فأجابه السيد المرتضى علم الهدى ( ت : ٤٣٦ ه‍ ) :

عز الامانة أغلاها وأرخصها

ذل الخيانة فأنظر حكمة الباري

٣ ـ الزنا ، وهو جريمة يقاربها من لا عائلة له يحافظ على شرفها ، ولا زوجة يصون حرمتها ، ولا بنت يغار عليها ، ولا أخت يثأر لكرامتها لأن الزنا دين كما يقول العرب و « كما تدين تدان » ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى في الزواج غنى عن هذه الجريمة الخلقية في أمراضها وأضرارها ونتائجها. قال تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (٣٢) ) (١).

وقد عالج القرآن هذه الظاهرة عملياً بالطرق الشرعية المسنونة ، وشدد عليها عقاباً في البكر فقال تعالى :

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ (٢) ) (٢).

ثم هز القرآن الكريم الحمية والغيرة والكرامة ، وأنه ليربأ بالنفس الانسانية عن هذا المسلك الوخيم فقال تعالى :

( الزَّانِي لا يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ (٣) ) (٣).

لهذا كان قذف المحصنات والتشهير بالنساء البريئات من المحرمات التي يعاقب عليها الله تعالى ، وانظر إلى قوله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) ) (٤).

ولنبتعد قليلاً عن هذا المناخ إلى عظمة قوله تعالى في صد هذا

__________________

(١) الإسراء : ٣٢.

(٢) النور : ٢.

(٣) النور : ٣.

(٤) النور : ٤.

٨٤

المناخ : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) ) (١).

اثرى الهدوء النفسي والاطمئنان الروحي مهيئاً بالزنا وبالمحرمات الاخرى كاللواط والسحاق والعادة السرية ، إنها لموبقات حقاً.

( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٢).

ألا تنظر إلى قوله تعالى وهو يرغب بنعيم الجنة في ملذاتها الحسية : ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (٣).

وإلى قوله تعالى :( وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) (٤). إنني أدعو الشباب المثقف إلى الزواج بسن مبكرة من أجل مكافحة جريمة الزنا ، فالزواج المبكر سنّة سار عليها سلفنا الصالح ، وأدعو الآباء والامهات إلى التخفيف من غلاء المهور وشروط الزواج ، فالمسلم كفء المسلمة ، قال تعالى :

( وَأَنكِحُوا الأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) ) (٥).

والزواج حاجة يحتاج إليها الشباب بخاصة كالاحتياج إلى الاكل والشرب بالضبط ، ولا حياء في الدين (٦).

٤ ـ كبائر المحرمات : وهي عبارة عن المحرمات التي ذكرها الكتاب العزيز ونص عليها علماء التشريع الاسلامي مما يعتبر الوقوع فيها منافياً لعدالة المسلم ووصفه بالفسق حيناً ، وبالكفر حيناً آخر ، ولنا في صدد عدها ، فمنها : عقوق الوالدين ، أكل مال اليتيم ، أكل الربا ،

__________________

(١) الروم : ٢١.

(٢) طه : ١٣١.

(٣) البقرة : ٢٥.

(٤) آل عمران : ١٥.

(٥) النور : ٣٢.

(٦) ظ : للتفصيل في الحث على الزواج ، عز الدين بحر العلوم : الزواج في القرآن والسنة.

٨٥

شهادة الزور ، كتمان الشهادة ، شرب الخمر ، ترك ما فرض الله تعمداً ، ما تقدم من قتل النفس المحترمة والزنا والسرقة ، قطيعة الرحم ، الكذب ، أكل الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل به لغير الله ، والقمار ، وأكل السحت ، والرشوة ، والبخس في المكيال والميزان ، والغيبة ، والنميمة والبهتان ، وغش المسلمين ، وأمثال ذلك مما يعتبره القرآن جريمة يعاقب عليها في الدنيا أو الاخرة ، وهنا نلقي نظرة فاحصة لسبيل مكافحة الجرائم بتلميح موجز يتعلق بإصلاح المجتمع والنفس الانسانية والعودة بها إلى الفطرة الخالصة النقية من كل وضر وشائبة وذلك أننا في كثير من الدول النامية نعيش أزمة أخلاقية تأثرت بمفاهيم الغرب غير الدقيقة ، هذه المفاهيم هي التي تؤدي إلى الجريمة ، فالخروج عن التقاليد العربية الاصيلة ، والابتعاد عن واقع الرسالة الاسلامية المقدسة ، والتهور ضد الاعراف الانسانية النبيلة كل أولئك مما يوقع في هذه الجرائم آنفة الذكر ، الولد مثلاً لا يعرف قيمة والديه والطالب لا يقدر جهود مربيه ، والصديق يعامل صديقه بالاثرة لا الايثار والاخ يضرب صفحاً عن أخيه ، والجار يطوي كشحاً عن جاره ، والكذب والبهتان والنميمة ديدن الكثيرين ، وأفضل الناس من شغلته عيوبه عن عيوب الآخرين فلسنا معصومين ، والتفاهم في لغة المحبة والاخوة الصادقة عاد ضرباً من الهذيان ، وحب لأخيك ما تحب لنفسك ليست من أخلاقنا ، والكلمة الطيبة صدقة نسخت من معجمات الحديث الشريف و ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (١) كأنها ليست من كتاب الله.

وقوله تعالى :

( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (٢) لا نجد مفهوماً لها في تعاملنا مع الناس.

وقوله تعالى :

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) فصلت : ٣٤.

٨٦

( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١) ، كأنه ليس من أخلاق رسولنا العربي الامين.

حتى عاد التواضع ضعة واللين ضعفاً ، والاخلاق تملقاً ، والحديث ثرثرة والادب عدم اتزان.

أن درء المفاهيم الخاطئة ، وهذه المتخلفات الذهينية ، هو الذي أن نحارب الجريمة ، ونكافح انتشارها والا فنحن في عداد المجرمين ( إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ المُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) ) (٢).

قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ ه‍ ) :

« ما سلككم في سقر ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنما حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ، فيقولون ، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه » (٣).

وإذا لم يكافح كل منا الجريمة من موقعه ، والانانية الذاتية في داخله ، والقوقعة على النفس ، كان ما قدمناه كلاماً فارغاً لا يسمن ولا يغني من جوع.

ومما توفيقي إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل.

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

(٢) المدّثر : ٣٩ ـ ٤٢.

(٣) الزمخشري ، الكشاف : ١٨٧٤.

٨٧
٨٨

تحريم الخمر في القرآن الكريم

ألقي في المؤتمر الطبي المنعقد في القاعة الكبرى لجامعة الكوفة بشعار « الخمرة وأضرارها الاجتماعية والصحية » في ٢٨ شعبان ١٤١٨ ه‍ = ٢٩ / ١٢ / ١٩٩٧ وقد نظمت المؤتمر نقابة الأطباء بالتعاون مع كلية الطب في جامعة الكوفة في النجف الأشرف.

٨٩
٩٠

بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الخمر لغةً : ما أسكر من عصير العنب لأنها خامرت العقل.

قال ابن الاعرابي : وسميت الخمر خمراً لأنها تركت فاختمرت ، وإختمارها تغير ريحها.

والخمر : ما خمر العقل ، وهو المسكر من الشراب.

وهي : خمرة وخمر وخمور بزنةِ : تمرة وتمر وتمور (١).

والعرب تسمي العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه ، فالتسمية مجازية ، وعليه حمل قوله تعالى : ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) (٢). فهو يعصر العنب الذي سيصير خمراً.

والخمرة محرمة شرعاً ، وحرمتها ثابتة تشريعاً في نصوص قرآنية غير قابلة للتأويل ، ومنصوص عليها ، روائياً في أحاديث غير خاضعة للاجتهاد ، فلا إجتهاد مقابل النص.

ليس لنا بعد هذا أن نبيح ما حرّم الله ، وليس لنا أيضاً أن نحرم ما أباح الله ، سواءً أكان ذلك صادراً عن الله في كتابه ، أو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنته ، أو عن الائمة الطاهرين في صحاح ما روي عنهم.

كل أولئك لما ورد أن : حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة. « متّفقٌ عليه ».

هذا التحديد الصارم في المنظور لأحكام الشريعة بعامة ، له منطلق

__________________

(١) ابن منظور ، لسان العرب : ٥ / ٣٣٩ / مادة : خمر.

(٢) يوسف : ٣٦.

٩١

واحد ، واعتبار واحد : إنه قانون السماء الذي لا يصح التحكم في ثوابته المطلقة حساً وعقلاً وتجربة وشرعاً وعرفاً ، ذلك أن قانون السماء مصدر غيبي عتيد لا يخضع للعلم التجريبي ، ولا يقوم على أسس الدساتير الفيزياوية والرياضية ، ولا يكون نتيجة للفرز المختبري ، ولا يصح حيثية للاختيار البشري ، كما هو القانون الوضعي من جهة ، والكشف العلمي من جهة أخرى ، لأن الأنظمة السماوية لها منظورها الخاص الصادر من وراء الغيب ، وطبيعتها الملكوتية النازلة بتعليمات الوحي وإذا كان الامر كذلك ، وهو كذلك فليس لنا أن نقول : لم ؟ وكيف ؟ ولو ؟ فهذه اعتبارات أرضية لا ترتبط بالبعد الالهي الذي قدّر فهدى.

وليس للانسان المحدود التعقل والتفكير والاستنتاج أن يتدخل في شؤون ذلك النظام الدقيق الذي تديرهُ القوة الغيبية المدبرة ، لأنه عاجز عن تدبير نفسه إلا باذن من الله مرتبط بالإشاءة ، فكيف به لهذا العالم الفسيح الهائل.

في هذا الضوء من الاستقرار يمكننا التحدث عن تحريم الخمر في القرآن الكريم ضمن نصوصه التي لا تقبل الردّ أو الاجتهاد لأنها نصوص مقدسة أملاها الوحي من كلام الله على رسوله الأمين. ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (١٩٣) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (١٩٥) ) (١).

ويتكفل البحث في معالجة هذا الموضوع إنطلاقاً من تلك النصوص بحسب أسبقيتها في النزول ـ مكّيها ومدنيّها ـ لنصل إلى رؤية معاصرة تتولى رعاية هذا الملحظ الجدير بالأهمية.

أولاً : الذي يبدو للبحث أن أول ما نزل في الموضوع : قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ ) (٢).

والفواحش في تصوّر أولي هي تلك المعاصي الكبيرة التي يبالغ في سَوءَتِها إلى درجة التشنيع ، والأثم هو الذنب الذي يورث المرء هواناً

__________________

(١) الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥.

(٢) الأعراف : ٣٣.

٩٢

وإنحداراً عن الاسراع في تحصيل الثواب. قال الراغب ( ت : ٥٠٢ ه‍ ) : « الاثم اسم للأفعال المبطئة عن الثواب » (١). هذا في معناه العام ، ولكنه ، قد يخصص بالخمر وحده ، وذلك لاشتهار الخمر عند العرب وفي الشرع باسم الإثم.

ففي الوسائل : عن علي بن يقطين عن الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، وهو يتحدث عن الآية أعلاه ، قال : « وأما الاثم فإنها الخمر بعينها » (٢).

قال أبو علي الطبرسي ( ت : ٥٤٨ ه‍ ) :

« والأثم : قيل هو الذنوب والمعاصي عن الجبائي ، وقيل : الاثم ما دون الحد عن الفراء. وقيل : الاثم الخمر ، وأنشد الأخفش :

شربتُ الأثمَ حتى ضلَّ عقلي

كذاكَ الأثمُ يَذهَبُ بالعقول

وقال الآخر :

نهانا رسول الله أن نقرب الخفا

وأن نشربَ الأثمَ الذي يوجب الوزرا (٣)

وقد ظهر مما تقدم : أن الاثم لا يخلو من معنيين ، فإما أن يكون هو المعاصي والذنوب ، والخمر أحد مفرداته ، وأبرز مصاديقه وإما أن يكون هو الخمر بعينها كما تسنده الرواية ، ويؤيده لغة الشاهدان الشعريان المتقدمان ، وعلى كلا المذهبين في المعنى ، فالخمر محرمة بهذه الآية ، إما لكونها أحد مصاديق الاثم ، وإما لأنها الاثم بذاته ، وإما بهما معاً كما هو واضح.

ثانياً : وفي مجال إحصاء ما يتخذه الناس من ثمرات النخيل والاعناب قال تعالى : ( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) ) (٤). قال الراغب : « والسُكرُ حالة تعرض بين المرء وعقله ، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب ... والسَكَر ـ

__________________

(١) الراغب ، المفردات في غريب القرآن : ١٠.

(٢) الحر العاملي ، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة : ١٧ / ٢٤١.

(٣) الطبرسي ، مجمع البيان : ٢ / ٤١٤.

(٤) النحل : ٦٧.

٩٣

بفتحتين ـ اسم لما يكون منه السكر » (١).

وفي الآية ـ وهي مكية أيضاً كسابقتها ـ تفصيل لما يتّخذه الناس بعامة ـ دون الخواص ـ من النخيل والأعناب ، وذلك على نوعين : ما هو مسكر كالخمر ومشتقاتها ، وما هو من الرزق الحسن كالتمر والخل والزبيب والدبس وسواها.

وتقييد الرزق بكونه حسناً ، إشارة دقيقة يلمحها البلاغي في تحقيقه ، والمتشرع في إستنباطه ، إلى أن هناك ما ليس بحسن وهو السَكَر ، فكأن هناك رزقين رزقاً طيباً وصف بالحسن ، وهو المباح من ثمرات النخيل والأعناب كالتمر والزبيب وسواهما ، ورزقاً غير طيب ، وهو المحرم مما تتخذ منه المسكرات ، فكان بين الاثنين مقابلة في البين. وليس في ذلك أدنى إشارة إلى تحليل المسكرات.

قال الطباطبائي في الميزان « ولا دلة في الآية على إباحة استعمال المسكر ، ولا على تحسين استعماله ، إن لم تدل على نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن ، وإنما الآية تعد ما ينتفعون به من ثمرات النخيل والأعناب ، وهي مكية بخاطب المشركين ، وتدعوهم إلى التوحيد » (٢).

ثالثاً : وفي عملية لفرز مضار الخمر عن منافعها المتصورة قال تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) (٣).

فبيّن سبحانه وتعالى أن في الخمر والميسر إثماً كبيراً ، والإثم هو الوزر العظيم ، وفيهما أيضاً « منافع للناس » بما يتخيلونه نفعاً من أثمانها في بيعها وشرائها ، وما يتوهمونه من النشوة في شرب الخمر ومعاقرتها ، وما يأخذونه من السحت في لعب القمار ، وما يجدونه من الغلبة حيناً فيها ، وما

__________________

(١) الراغب ، المفردات في غريب القرآن : ٢٣٦.

(٢) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : ١٢ / ٢٩٠.

(٣) البقرة : ٢١٩.

٩٤

يتمتعون به من اللهو واللعب والعربدة في الاجتماع عليهما.

إلا أن الله عز وجل عقب على ذلك بقوله تعالى فرقاناً بين الآمرين « وإثمهما أكبر من نفعهما » إذن : ما فيهما من الإثم أكبر مما فيهما من النفع ، وعبر تعالى بأكبر دون أكثر مع العلم أن الكبر يستعمل في قياس الاحجام ، كما أن الكثرة تستعمل في المعدودات ، فإن الملحظ غير هذا باعتبارهما وصفين يتعلقان بالقياس النظري أو التطبيقي « فهما وصفان إضافيان بمعنى أن الجسم أو الحجم يكون كبيراً بالنسبة إلى آخر أصغر منه ، وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه ، ولولا المقايسة والاضافة لم يكن كبر ولا صغر ، كما لا يكون كثرة ولا قلة ، ويشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في الأحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية ، ثم إنتقلوا من الصور إلى المعاني ، فاطّردوا معنى الكبر والصّغر فيها » (١).

وهذا النفع المتصور ينحصر بالمضاربات المالية وما يترتب عليها في البيع والشراء ، وما يصاحب ذلك من العبث واللهو والاسراف في كل من الخمر والميسر ، وكل أولئك منافع على سبيل الحياة الدنيا فهي من المعاني الاعتبارية الزائلة ؛ ولكن الاثم بهما مما يوجب الغضب المطبق في الآخرة ، ويستنزل سخط الباري ، وهذا مما لا يقوم له شيء ، فالأثم إذن أكبر من النفع.

قال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ ه‍ ) وفي الآية تحريم الخمر من وجهتين : ( أحدهما ) قوله : ( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ ) فإنه إذا زادت مضرة الشيء على منفعته إقتضى العقل الامتناع عنه.

( الثاني ) أنه بيّن أن فيهما الاثم ، وقد حرم في آية أخرى الأثم فقال : ( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ ) (٢) إنتهىٰ كلام الطبرسي أعلىٰ الله مقامه (٣).

__________________

(١) محمد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : ٢ / ١٩٦.

(٢) الأعراف : ٣٣.

(٣) الطبرسي ، مجمع البيان : ١ / ٣١٦.

٩٥

وآية الأعراف مكية سبقت هذه الآية المدنية ، والإثم هناك منصوص عليه إما بإعتباره خمراً ، وإما بإعتبار الآية تحرم مطلق الاثم ، والخمر أجد مصاديق هذا الاثم. وفي هذه الآية على إقتراف الاثم ، وإقتراف الاثم من المحرمات ، فالخمر حرام بدلالة الآيتين معاً. وهذا مَعلَمٌ دقيق المسلك.

رابعاً : ولدى تجاوز المسلمين ـ بعضهم بالطبع ـ بعض هذه التعليمات الصريحة في دلالتها نزل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) (١) وفي الآية نهي صريح عن مقاربة الصلاة حال السكر متلبسين بذلك ، وفيه إشارة إلى تحريم السكر قبل الصلاة لأن الاتجاه بالصلاة إلى الله ينافيه ابطال العمل بالسكر ، فالمعنى ليس لكم أن تسكروا وتتجهوا إلى الصلاة ، فللصلاة مقام عظيم في نهج المرء التعبدي ، وهذا المقام ينبغي أن يضل ملازماً للطهارة الروحية والبدنية ، والسيطرة في تخليص النفس من الرجس العارض لتلك الطهارة إنما يتم بالعقل المسيطر في إدراك علماً يقينياً بعيداً عن التلوث والتدرن بسكر الخمر ، فإذا لم يعلم ما يقول ، وقد فقد أعز ما يملك وهو العقل الدال على إرادة فعل الصلاة إمتثالاً للأمر المولوي فلا معنى لتلك العبادة الفاقدة لشرائطها في الانتهاء عن الخمر ، فإذا هم انتهوا عن ذلك ، وطهروا نفوسهم عن شربها ، ولا معنى لامتثال أمره تعالى مع عبادة غيره ، لا سيما وأن هذه العبادة بالذات تقتضي حضور القلب ، ولا حضور لغائب العقل حتى يعلم ما يقول ، وكيف له أن يعلم ما يقول وهو يعاقر الخمرة التي تذهب بالعقول.

وليس المراد أن الصلاة قد تصح من السكران لو علم ما قال ، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين بل على العكس.

قال الطبرسي « وفي الآية دلالة على أن السكران لا تصح صلاته ، وقد حصل الاجماع على أنه يلزمه القضاء » (٢). وقد تأتي سكارى بالمعنى

__________________

(١) النساء : ٤٣.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٢ / ٥٣.

٩٦

المجازي ، أو أنها تحمل على المعنى المجازي ، بمعنى إتيان الصلاة متكاسلاً أو متثاقلاً ، أو مستغرقاً بالانصراف عنها بأثار النوم والنعاس كما في تفسير العياشي عن الامام محمد الباقر عليه‌السلام أنه قال : « لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً ولا متقاعساً ولا متثاقلاً فإنها من خلل النفاق ، فإن الله نهىٰ المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى » (١).

فقد يكون هذا من باب التشبيه التمثيلي للمتكاسل والمتقاعس والمتثاقل بحال السكران ، والله أعلم. ولا يصح لنا علمياً القول بأن هذه الآية قد نزلت قبل تحريم الخمر كما عن بعض المفسرين ، لأن آية التحريم المكية قد سبقت إلى ذلك ، والآية مدنية بالأجماع. وقد سبقتها آية البقرة وهي مدنيّة أيضاً.

خامساً : وكان آخر ما نزل بتحريم الخمر قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (٩١) ) (٢).

هاتان الآيتان بالانضمام للآيات السابقة الناطقة بتحريم الخمر ، قد توحي جميعاً بدلالة تدرج الشارع المقدس بتحريم الخمر ، ولكن ليس التدرج القائل بالسكوت عن حرمة الخمر ، بل ببيان أنها إثم فحسب دون التعقيب على ذلك بالحرمة ، ومن ثم حرّم الاقتراب من الصلاة في حالة السكر ، وحينما إستجابت النفوس ، وتحسست المدارك بضرورة تنفيذ الأوامر الالهية جاء النهي المطلق العام بجميع الحدود والأبعاد في آيتي سورة المائدة.

هذا التدرج التشريعي لما يأتِ بمعنىٰ المرحلية التدرجية من بيان للإثم فحسب ، أو كراهة للاستعمال للضرر ، إلى تحريم نهائي ، إذ لم يكن هناك إيهام فيحتاج إلى بيان ، ولا إبهام فيحتاج إلى تصريح « بل بمعنى أن الآيات تدرجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عام وذلك قوله « والاثم » ثم

__________________

(١) الطباطبائي ، الميزان : ٤ / ٣٦١ ، وانظر مصدره.

(٢) المائدة : ٩٠ ـ ٩١.

٩٧

بالتحريم الخاص في صورة النصيحة : ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ). وقوله تعالى : ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم ، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ في آيتي المائدة » (١).

والآية الأولى من سورة المائدة إعتبرت الخمر رجساً من عمل الشيطان الخاص به ، وعمل الشيطان يدعو إلى الضلال ، وأكدت ذلك « بإنما » حصراً ، وطلبت الاجتناب أمراً ، وعلقت على هذا الاجتناب رجاء الفلاح والسعادة الأبدية ، وعقبت ذلك بأن الشيطان في رجسه هذا يريد إيقاع العداوة والبغضاء بين بني البشر ، ويصد الناس عن ذكر الله ، وختم ذلك بقوله : ( فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) دلالة على أن طائفة من المسلمين لم ينتهوا عن شرب الخمر وسواها حتى قرعوا بهذا الإستفهام الإنكاري تأنيباً وتوبيخاً.

والحق أن تحريم الخمر على هذا النمط من التدرج تقتضيه طبيعة المناخ الجاهلي والبيئة العربية لارتباطهما بالخمرة أدبياً وإجتماعياً وتجارياً مما يقتضي التدرج من الصعب إلى الأصعب فقد كان شعر الخمر شائعاً في العصر الجاهلي يتغنىٰ به وتحيا به الأندية والمحافل ، وكانت المقدمة الخمرية متعارفة في التناول والتدوال والايقاع الفني ، ولا أدل على ذلك من مطلع معلقة عمرو بن كلثوم : (٢)

ألا هبي بصحنك فأصبحينا

ولا تبقي خمور الأندرينا

على أن النماذج المروية لنا في الخمرة قليلة بالنسبة لغيرها ، والتعليل لهذه الظاهرة أن الاسلام حينما حرم الخمر إمتنع الرواة من رواية الشعر المتمثل لها وبها.

ومن جهة أخرى فإن الخمرة مرتبطة بالسلوك الاجتماعي والمسيرة العرفية في المحفل الجاهلي لدى التشريفات والسهرات تقديماً ومعاقرة وإستئناساً ، ولذا كان الاقلاع عنها ـ والإسلام قريب عهد بالجاهلية ـ يدعو

__________________

(١) الطباطبائي ، الميزان : ٦ / ١١٧.

(٢) الزوزني ، شرح المعلقات السبع : ١٦٥.

٩٨

إلى تغيير العادات والتقاليد الموروثة مما يقتضي جهداً مضاعفاً ، وعملاً مرناً في معالجة الموضوع ، فكان التدرج في التحريم وسيلة لذلك.

وهناك عامل مهم يرتبط بالمناخ الاقتصادي لقريش ، فلقريش رحلتان مهمتان للتجارة صيفاً وشتاءً ، وكان الخمر إحدى مفردات هذه التجارة ، فهو مرتبط بأرزاق القوم إرتباطاً وثيقاً ، وكل أمر يصطدم بالرزق يستدعي الرفض والمجابهة ، قال تعالىٰ : ( لإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (٤) ) (١).

لذلك كان التدرج في التحريم ضرورةً تقتضيه مرحلية هذا المناخ ، فكان التحريم متدرجاً من الشديد إلى الأشد.

وقد ظهر ممّا تقدم حرمة الخمر حرمة تشريعية قد بدأت في مكة حينما حرم الاثم في آية الأعراف. وفي آية النحل وهي مكية أيضاً إيماء إلى أن السَكَر ليس من الرزق الحسن ، إذ هي لا تتضمن حكماً تكليفياً بل هي في مقام تعداد ما يتخذ من مشتقات النخيل والأعناب طيباً أو غير طيّب ، حسناً أو غير حسن ، سواء أكان ذلك المتخذ من الطيبات أو من الخبائث.

وفي آية البقرة ـ وهي أول سورة مدنية ـ ظهر أن في الخمر إثماً ، وأن إثمه أكبر من نفعه ، وأن التشديد في أداء الصلاة بطهارة نفسية وروحية متكاملة يقتضي الاستمرار في عدم تناول المسكر كما في آية النساء : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) (٢).

وفيها إشارة إلى أن بعض المسلمين لم يكونوا قد إنتهوا من شرب الخمر ، فهم يعاقرونها مع أدائهم الصلاة.

وقد إنتهىٰ هذا الأمر بالتشديد في التحريم مع التوبيخ والزجر والتعنيف في آيتي المائدة.

__________________

(١) قريش ، الايلاف : ١ ـ ٤.

(٢) النساء : ٤٣.

٩٩

ومن خلال هذه الآيات البينات يخلص لنا أن الخمر كما في بعض الروايات « أم الكبائر » وذلك لضررها الفادح الذي يعيث في كيان الفرد والمجتمع معاً ، ويجعل كلاً منهما مترهلاً كسيحاً لا ينتفع منه بشيء.

وإذا تجاوزنا القرآن العظيم إلى الحديث الشريف ، رأيتَ الأمر هائلاً في تحريم الخمر ، وبيان السلبيات ، والنذير الصارخ بإعتبارها من أفظع المآثم ، وقد أحصيت في كتاب الوسائل وحدها أكثر من مئتين وخمسين حديثاً تعالج تحريمها وبيعها وشرائها وأحكامها وأقسامها ومتعلقاتها مما تقف معه أكثر إندهاشاً وأعمق تعجباً (١).

١ ـ ففي وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « يا علي شارب الخمر كعابد وثن » (٢).

٢ ـ وعن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مدمن الخمر يلقىٰ الله كعابد وثن » (٣).

٣ ـ وقيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : إنك تزعم أن شرب الخمر أشد من الزنا والسرقة !! قال : نعم.

« إن صاحب الزنا لعله لا يعدوه إلى غيره ، وإن شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا وسرق ، وقتل النفس التي حرم الله ، وترك الصلاة » (٤).

٤ ـ وعن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من شرب خمراً حتى يسكر لم يقبل منه صلاته أربعين يوماً » (٥).

٥ ـ وعن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام : « أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر ، وما أسكر كثيره ، فقليله حرام » (٦) ، رداً على من اعتبر قليل الخمر حلال ، كما فعل وعّاظ السلاطين لطواغيت العصور.

__________________

(١) ظ : الحر العاملي ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٢٢١ ـ ٣٠٧.

(٢) المصدر نفسه : ١٧ / ٢٥٢.

(٣) المصدر نفسه : ١٧ / ٢٥٥.

(٤) المصدر نفسه : ١٧ / ٢٥٢.

(٥) المصدر نفسه : ١٧ / ٢٣٨.

(٦) المصدر نفسه : ١٧ / ٢٢٢.

١٠٠