نظرات معاصرة في القرآن الكريم

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

نظرات معاصرة في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

التي لا يتحقق حصرها ولا تخمينها مسافات ومساحات وأبعاداً. فإذا علمنا أن أقرب نجم منا يبعد حوالي ( ٤١.٨ ) مليون مليون كيلومتر عن الشمس ، فما هو رأيك في أبعد نجم عنا ، وكيف يتم رصد ذلك زمنياً وحسابياً ورياضياً ، لذلك عمدوا إلى قياس ذلك بالسنوات الضوئية ، والمراد بها ما يقطعه الضوء في السنة ، فإذا عرفت أن سرعة الضوء هي ( ٣٠٠ ) ألف كيلومتر في الثانية ، كانت سرعته في السنة ( ٩.٤٦٠ ) مليون مليون كيلومتر. وهي السنة الضوئية.

٣ ـ وحينما يريد القرآن منك أن تتأمل بعض الظواهر الكونية في الرعد والبرق والظلمات والأمواج والسراب والالتماع في المفاوز ، تندفع في ظلاله العجيبة وأنت أكثر إندهاشاً مما ترى ، وأنت أكثر إبتهاجاً فيما تتوصل إليه من المشاهد العالمية المجردة عن الطلاء والتزويق بل هي حقائق هائلة مدركة بالحس والوجدان دون حاجة إلى إستدلال أو برهان أو شواهد قال تعالىٰ : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) ) البقرة / ١٩ ـ ٢٠.

وهذا المثل القرآني ، وهو في سياق التعبير عن حيرة المنافقين ، يستقطب إستعمال ما هو شائع ومعروف في بقاع الأرض المختلفة وآفاق السماء ، مما يفهمه أهل المعمورة ، ويترصدون مخاوفه وأهواله ، فالمثل هنا عالمي الدلالة غنيٌّ بضمامة التصوير ، ورعب الأضواء الكاشفة والغامضة ، والانهمار الانصبابي للمطر تدفعه ظلمات عاصفة بأصوات الرعد ، وأمواج البرق ، وعصف الرياح ، وظلمة المناخ ، فانحجب الضياء وتلاشى الأمان حتى بالغوا في إدخال أصابعهم في آذانهم نتيجة لاصطكاك الصواعق بأجرام السحاب ، وما يحدثه ذلك من هزات وأصوات ، والله محيط بهم من كل جانب إحاطة تحصى عليهم كل شيء فوق حقيقة الاحاطة الزمانية والمكانية والكتلة وسرعة الضوء ، فأين يذهبون ؟ والبرق يأخذ بأبصارهم ، ويستلب نورها كلمح البصر ، وهم في حيرة وتردد لا يملكون من الأمر

٤١

شيئاً (١). هذا المناخ المتلاطم عالمي المصداق والمفهوم ، إنساني الفهم والتصور.

٤ ـ وهناك من أمثال القرآن ما تقف عنده متأملاً مترصداً ، ولنتائجه خاشعاً متحققاً ، يأخذ بيدك إلى حياة أوسع ، وتصور أشمل ، وتدقيق أروع ، تلمس من خلال ذلك كله رسالة القرآن العالمية ، أنت الآن إزاء مثلين متراصفين في سورة واحدة ، يتحدث الأول منهما عن حياة الصحراء والسراب الخادع فيها ، وما يترشح في ضوء ذلك من معنى إيحائي يتمثله العربي في باديته ، ويتمرسه البدوي في حياته. قال تعالىٰ : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ (٣٩) ) النور / ٣٩.

فالمثل القرآني تصوير بالتمثيل التشبيهي لأعمال الكافرين مشبهة بذلك السراب المنتشر في الصحراء ، يتخيله الظامئ ماءً ، ويكتشفه لدى التحقيق التماعاً خلّباً ، وهو بأمس الحاجة إلى الماء ، ولا ماء ، فهو لا يجده ولكنه يجد الله عنده فيوفيه الحساب بسرعة مذهلة ، ولك أن تتصور هذا السراب في صحراء نجد وبادية الحجاز وطرق الشام. هذا الفهم العربي الخالص لهذا المناخ يتقاطع بمناخ آخر تتحدث عنه البحار الهادرة في محيط كالمحيط الأطلسي أو الهادي ، وتتجلىٰ صوره في بلاد كبلاد الضباب الدائم والظلمات المتراكبة والسحاب الجاثم ، مما لا عهد به للعرب ، ولا علاقة له بأثباج جزيرة العرب. قال تعالىٰ : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (٤٠) ) النور / ٤٠.

هذه ظلمات في بحر لجي لا قعر له ولا ساحل ، عميق غزير المادة تحوطه الأمواج المتدافعة ، ويعلوه السحاب الثقال ، وتملؤه الظلمات المرعبة ، ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة الغمام ، حتى ليخطئ الانسان فيه تشخيص يديه ، فلا يرى ذلك أصلاً (٢).

__________________

(١) المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : ٢٩٣.

(٢) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية : ٢٨٢ + مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : ٣٥٦.

٤٢

هذا المثل إذن ليس كسابقه فهو يتحدث عن تراث خاص متميز ، في مناخ خاص متميز ، يغوص إلى أعماق البحار ، ويتأمل في جغرافية المحيطات ، وتمرس في ظواهر إمتصاص الضوء وخفاء الأنوار.

المثل الأول : بدوي بطبيعته العربية المحضة.

المثل الثاني : غربي بطبيعته المناخية الخالصة.

ألا تخشع عند هذه الظاهرة الكبرى لتفيد منها : أن القرآن يتحدث إلى كل جيل في كل الأرض ، ليتجاوز الحدود الاقليمية إلى البعد العالمي الرحيب.

أما أنا فلا أعتقد غير هذا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

٤٣
٤٤

مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم

ألقي في المؤتمر العلمي الثالث لكلية الفقه في النجف الاشرف / جامعة الكوفة المنعقد في ١٤ رمضان ١٤٠٨ ه‍ ٣ ـ ٤ / ٥ / ١٩٨٨ م في قاعة الإدراة المحلية ، ونشر في العدد الممتاز المتخصص بدراسات القرآن لمجلة المورد الصادر بتأريخ ١٩٨٨.

وكان شعار المؤتمر « دور الكوفة في التراث العربي والاسلامي ».

٤٥
٤٦

هبط القرآن الكريم في جزيرة العرب ، والأمة العربية تمثل ذروة قدراتها الإبداعية في فن القول.

والقرآن العظيم ، وهو إنساني الرسالة ، إلا أنه عربي النص ، مستشرف العبارة ، مشرق الديباجة بوجه من عروبته الناطقة ، وتبقى هذه العربية أصلاً قويماً في دلائل إعجازه ، بل الأصل الأول ، وما تبقى من دلائل فروع هذا الأصل العريق.

القرآن من وجه ثروة بلاغية لا تنفد ، ومعين تراثي لا ينضب ، وهو كتاب هداية وإرشاد وتشريع من وجه آخر.

هذا التقييم الطبيعي للقرآن مختص به ، لا يشاركه في أبعاده أي كتاب إلهي أو بشري.

إذن : إجتمع في القرآن أصل من عربيته الفصحى ، وقيمتان : بلاغية وتشريعية متميزتان ، ذلك ما دعا علماء العرب ، وجهابذة المسلمين ، وفحول المستشرقين ، وجملة من الأوربيين ، أن ينهلوا من روافده حيناً ، وأن يحدبوا على فهمه الحقيقي بعض الأحايين ، وقد نتج عن هذا المنطلق الأثير إمتداد يد الباحثين الأمينة للقرآن ، فعالجت شتى علومه ، وأستخرجت جملة من كنوز أسراره ، فأضفت على البحث الموضوعي برداً من الجدة لا يبلىٰ ، وأفاضت سبيلاً من المعارف لا يفنى. وكان دور العرب والمسلمين في هذا المجال بارزاً غير خفي ، وقِدحهم المعلىٰ في الميادين كافة.

نشأت المدارس الحضارية التي تعنى بالتراث في ظل حضارة الاسلام في الحواضر العربية في كل من :

٤٧

مكة المكرمة ، المدينة المنورة ، البصرة ، الكوفة ، بغداد ، الموصل ، النجف الأشرف ، القاهرة ، الشام ، إشبيلية ، غرناطة ، القيروان وتونس.

كان بعض هذه المدارس كياناً مستقلاً ، وبعضها كان أمتداداً للمدارس الأم. إذ كانت النشأة مختلفة في جملة من المجالات ، فالأصل دون نزاع المدرستان العراقيتان العريقتان في البصرة ، تأسست في العام الخامس عشر الهجري ، وفي الكوفة تأسست في العام السابع عشر الهجري ، وبدأ العطاء العلمي فيهما مع التأسيس حتى البناء المتكامل.

مدرسة مكة أندر عطاء ، ومدرسة المدينة أكثر حيوية ، ومدرسة البصرة أوسع مادة ، ومدرسة الكوفة أغلى قيمة ، وأعظم شهرة ، فمولد الاسلام في مكة ، وترعرعه في المدينة ، ونشأته الحضارية المتحفزة في كل من البصرة والكوفة.

حقاً لقد كانت نصيب العراق العلمي والتأسيسي غنياً في هذه المسيرة الأكاديمية المتطورة ، فبعد البصرة في إزدهارها ، والكوفة في عطائها ، زهت مدرسة بغداد التراثية على يد ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦ ه‍ ) ، في العصر العباسي الأول ، وتأسست مدرسة النجف الأشرف على يد الشيخ الاكبر أبي جعفر الطوسي ( ت : ٤٦٠ ه‍ ) في العصر العباسي الثاني ، وتبلورت مدرسة الموصل الحدباء بجهود ابنا الأثير مجتمعين لا سيما ضياء الدين ( ت : ٦٣٧ ه‍ ) في أواخر الدولة العباسية. وأعطت كل مدرسة ثمرات أوراقها في النحو وعلوم القرآن والتفسير واللغة والنقد والأدب والفقه والأصول والبلاغة والفلسفة والترجمة ، والتأريخ والجغرافيا ، والببلوغرافيا ، والكيمياء ، والجبر والفلك والهندسة والطب وعلم الأصوات والايقاع الموسيقي وغيرها.

وهذه مفردات علمية هائلة يحتاج النهوض فيها إلى جمهرة من العلماء والباحثين والمهرة والطلاب وشيوخ الصناعة في كل فنّ ، رؤساء الجامعات في العصر الحديث أدرى بحجم هذه المفردات وأوعى لمشكلاتها ، وأعلم بدلائلها الموسوعية.

وكان الأزهر في القاهرة ، والشام في كل من : بيت المقدس ودمشق وحلب الشهباء ، وجامع الزيتونة في تونس ، والقرويين في المغرب ، مدارس سيارة لفنون العرب والاسلام.

٤٨

وكانت الدولة العربية في الأندلس تحتضن الحواضر العلمية في كل من إشبيلية وغرناطة وطليطلة وقرطبة ، فانتشرت الثقافة وكثر التصنيف ، وحملت المجامع والجوامع برؤوس التراثيّين الاعلام.

وكان المشرق الاسلامي في حواضره العلمية يغذي الحركة الثقافية بأمداد من فيضه المتدفق في الفقه والحديث والأصول والأدب وعلوم القرآن والتفسير فكان اقليم خوارزم ، وخراسان ، وجرجان وطبرستان والري حواضر علم ، ومحافل شعر ، ومقرّات تصنيف وتأليف ، ومجامع الفحول من علماء العربية والاسلام.

وكان القرآن الكريم في جميع ما ذكرنا من مدارس وأقاليم ودول ومشاهد هو المتصدر لحلقات الدرس والبحث والاستكشاف العلمي ، وكانت الريادة فيه تعني سبر ما في أغواره من عمق ، وبيانه من إتساق ، وأبعاده من بلاغة ، وسوره من إعجاز ، وآياته من تأويل وكشف وتفسير.

وتبقى مدارسة القرآن في جدية ، واستيعاب جزئياته بنهم ، تكويناً وأصالة من نصيب مكة والمدينة في مرحلة البداية ، ومدرستي البصرة والكوفة في مرحلة التأصيل لهذا الفن ، وامتد فيما بعد ذلك الشعاع الهادي إلى الحواضر العربية تدريجياً حتى إستقطبها جميعاً في أبعاد متفاوتة ، وكان ما قدمته هذه الحواضر من جهود قرآنية ، يصل بها إلى الذروة الصاعدة من بين الجهود الانسانية المبدعة.

ولا غرابة أن تكون مرحلة التكوين لعلم التفسير وقد رسخت النواة الصالحة التي انبثقت عنها مدونات علم التفسير في مرحلة التأصيل ، ويمكننا إلقاء الضوء عليها بما يلي :

١ ـ مدرسة مكة ، وكان قوامها بعد النبي وآله وأصحابه : النخبة الرائدة من أصحاب ابن عباس ( ت : ٦٨ ه‍ ) وابن عباس رأسها. وقد نبغ فيها كنموذج أرقى : مجاهد بن جبر المكي ( ت : ١٠٠ ـ ١٠٣ ه‍ ) وعكرمة مولى ابن عباس ( ت : ١٠٤ ه‍ ) وأمثالهما من الرواد الأوائل ، ممن أخذ عن ابن عباس أخذاً حثيثاً متواصلاً.

٤٩

وكان ابن عباس قد أخذ لباب هذا العلم وطريقته عن الامام علي كما هو منصوص عليه (١).

٢ ـ مدرسة المدينة : وكان قوامها في مرحلة التكوين ثلاثة من أئمة أهل البيت هم : الامام علي بن الحسين زين العابدين ( ت : ٩٥ ه‍ ) والامام محمد الباقر ( ت : ١١٤ ه‍ ) والامام جعفر الصادق ( ت : ١٤٨ ه‍ ) كما اعتمدت هذه المدرسة طائفة من تلامذة أبي بن كعب ( ت : ) وأصحاب زيد بن أسلم ( ت : ١٣٦ ه‍ ).

وقد امتازت هذه المدرسة بالتجرد والموضوعية ، والكشف عن مراد الله من كتابه ، فيما أثر عنها من روايات محددة.

٣ ـ مدرسة البصرة ، وكان على رأسها الحسن البصري ( ت : ١١٤ ه‍ ) وأبو عمرو بن العلاء ( ت : ١٤٥ ه‍ ) وهو أحد القراء السبعة ، وعيسى بن عمر الثقفي ( ت : ١٤٩ ه‍ ) وكان من مشاهير القراء ، والخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : ١٧٥ ه‍ ) فيما آثر عنه من دروس ، وكان قد كتب في جملة العلوم العربية المتخصصة ، وفي كتابه ( العين ) شذرات قرآنية أملتها طبيعة البحث اللغوي في الاستشهاد والاستنباط على حد سواء (٢).

وكان أبو عبيدة ، معمر بن المثنى الليثي ( ت : ٢١٠ ه‍ ) في كتابه « مجاز القرآن » قد قفز بالتفسير اللغوي للقرآن عند البصريين إلى مرحلة التأصيل مستفيداً من تجربة الفراء ( ت : ٢٠٧ ه‍ ) أو موازياً له في المنهج بحدود كثيرة (٣).

هذه خلاصة موجزة إقتضها طبيعة البحث في التمهيد لنقف عند مدرسة الكوفة وجهودها في تفسير القرآن العظيم.

إذا استعرضنا حياة مدرسة الكوفة التفسيرية ، وجدناها تمثل إتجاهيين

__________________

(١) ظ : الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : ٢ / ١٥٧.

(٢) حققه الدكتور مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي ، وطبعته وزارة الاعلام في ثمانية أجزاء.

(٣ ) حققه الدكتور فؤاد سزكين ، ونشرته مكتبة الخانجي ، الطبعة الثانية ، القاهرة / ١٩٧٠.

٥٠

رئيسين في مرحلة التكوين والتدوين معاً وهما :

أ ـ الاتجاه التدريسي ؛ ويمثلها بن مسعود ( ت : ٣٢ ه‍ ) فقد كان صاحب مصحف معروف ، وكان مفسراً للقرآن ، وحافظاً له ، ومقرناً فيه ، وجملة تابعة له من تلامذته ، وفي طليعتهم مسروق بن الاجدع ( ت : ٦٣ ه‍ ) والاسود بن يزيد ( ت : ٧٥ ه‍ ) والربيع بن خثيم ، وعامر الشعبي ( ت : ١٠٥ ه‍ ) وأمثالهم من المفسرين الأول لنتفٍ من آيات القرآن سائرة في ركاب علم الحديث تجدها في مظانها من كتب التفسير ، وكان ذلك بهدف تعليم القرآن استناداً إلى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من أحب أن يسمع القرآن غضاً فليسمعه من ابن أم عبد » (١) ، يعني ابن مسعود ، وكان ذلك حثاً على تلقي القرآن منه ، مضافاً إلى توجيهاته له ، مما عنى تشكيل مدرسة الكوفة التفسيرية والقراءتية والتعليمية بوقت واحد في شكلها الأولي.

ب ـ الاتجاه النصي ، ويمثله تلامذة الامامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما‌السلام ، وقد نشأت عنه طبقتان تقيدت بنقل النصوص رواية وكتابة ، وإن إجتهدت الطبقة الثانية في حدود لا تتعدى توضيح النص وشرحه :

أ ـ طبقة الرواة ، وفي طليعتهم : زرارة بن أعين الكوفي ، وعلي بن الحسن الوشا الكوفي ، ومحمد بن مسلم الكوفي ، ومعروف بن خربوذ الكوفي ، وحريز بن عبد الله الأزدي الكوفي (٢).

وقد امتازت روايات هؤلاء بالدقة والضبط والأمانة ، وهم معروفون بالوثاقة والدراية وحفظ الرواية.

ب ـ طبقة المؤلفين ؛ وهم الذين أبقوا لنا أثراً تفسيرياً معتمداً قيماً ، وفي طليعتهم : فرات بن إبراهيم الكوفي ، وأبو حمزة الثمالي الكوفي ،

__________________

(١) الكشي ، الرجال ، عن الكنى والألقاب : ١ / ٢١٦.

(٢) ظ : الخوئي ، معجم رجال الحديث : ٤ / ٢٥٥ فيما يتعلق بترجمة ( حريز ) ، وسماه البرقي : ٩٠.

٥١

ومحمد بن إبراهيم النعماني الكوفي وأضرابهم (١) ، وألف أبان بن تغلب ( ت : ١٤١ ه‍ ) كتاب الغريب في القرآن ، وذكر شواهده من الشعر (٢).

وقد ألف محمد بن السائب الكلبي الكوفي ( ت : ١٤٦ ه‍ ) تفسيراً للقرآن (٣).

وبحدود هذا التأريخ نسب الاستاذ بروكلمان للامام جعفر الصادق ( ت : ١٤٨ ه‍ ) كتاباً يسمىٰ ( تفسير القرآن ) (٤).

وأبو النضر ، محمد بن مسعود بن محمد السلمي الكوفي المعروف بالعياشي ( ت : ٣٠٠ ه‍ ) لم يصلنا من كتاباته الكثيرة إلا كتابه في التفسير الذي نقحه علي بن إبراهيم الكوفي ، وهو المعروف اليوم ب‍ ( تفسير العياشي ).

ومن أبرز علماء التفسير في القرن الرابع في الكوفة : علي بن إبراهيم بن هاشم الأشعري نسباً ، والكوفي مولداً ونشأة ، والقمي هجرة وشهرة ، وله تفسير القرآن ، مطبوع عدة مرات.

وطبقة المؤلفين الأوائل هذه ، لم يصلنا من تآليفهم التفسيرية إلا النزر القليل ، مما هو مطبوع طبعاً رديئاً ، أو مما هو مخطوط لم تمتد له يد التحقيق ، ومما علمنا به من خلال النقل عنه في كتب التراث ولم نره.

بيد أن ما وقفنا عليه من سرد لأسماء المصنفين والاعلام ، والمؤلفات التفسيرية في الفهارس ، وما شاهدناه فيما بعد فترة التكوين من جهود تفسيرية بناءة ، جعلنا نتجه إلى واقع المذهب الكوفي في التفسير بعناية إكتشافه والتحقق من منهجيته فرأيناه بايجاز يميل إلى ظاهرة الاستعمال اللغوي ، والتبادر الذهني عند العرب لدى إطلاق الألفاظ في مداليلها ، والتوجه إلى فروق اللغة وخصائص العربية ، والاهتمام بالتعبير

__________________

(١) ظ : محمد حسين الطباطبائي ، القرآن في الاسلام : ٦٠.

(٢) ظ : الخوئي ، معجم رجال الحديث : ١ / ٢٣.

(٣) (٤) ظ : بروكلمان ، تأريخ الأدب العربي : ٤ / ٩ ـ ١١.

٥٢

البدوي في الشعر الجاهلي ونحو ذلك ، فضلاً عن العناية المركزية بالمأثور ، وما يتعلق فيه من روايات ومقارنات ودراسات وملخصات.

فإذا قارنا بين هذا وذاك وجدنا ، الأثر الروائي والأثر اللغوي ، بكل تشعباتهما ، يشكلان مدرسة الكوفة التفسيرية ، ويمثلان معلماً بارزاً من معالم التفسير ، فإذا ضغطنا العلاقات التراثية بين الأثرين ، اقتضى ذلك كشف الجهد المشترك بين هذين الأصلين من أجل الوصول إلى القاعدة التي ترسو عليها مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم.

كان علي بن حمزة الكسائي ( ت : ١٨٩ ه‍ ) شيخ مدرسة الكوفة النحوية دون منازع ، وهو التلميذ الوفي لمؤسس هذه المدرسة أبي جعفر الرؤاسي الكوفي. وكان الرؤاسي معاصراً للخليل بن أحمد الفراهيدي ، وكتابه « الفيصل » في النحو يأخذ عنه سيبويه ( ت : ١٨٠ ه‍ ) فإذا ذكر في الكتاب : الكوفي ، فإنما يعني أبا جعفر الرؤاسي (١).

ولقد إختار الكسائي لنفسه طريقة خاصة في القراءة وعدّ بها من القراء السبعة ، وكان قد أخذ القراءة مذاكرة عن حمزة الزيات ، وسمع من الامام جعفر الصادق (٢).

ولقد أثنى ابن جني ( ت : ٣٩٢ ه‍ ) على دقة الكسائي في النحو وضبطه في العربية (٣).

وللكسائي كتابان في القرآن هما :

كتاب المشتبه في القرآن (٤).

كتاب ما إشتبه من لفظ القرآن ، وتناظر من كلمات الفرقان (٥).

وتجد في منهج الكسائي التأليفي في هذا النمط مزجاً كلياً بين تفسير

__________________

(١) ظ : بروكلمان ، تأريخ الادب العربي : ٢ / ١٩٧ ، و ظ : مصادره.

(٢) ظ : الخوئي ، البيان في تفسير القرآن : ١٥٥.

(٣) ظ : ابن جني ، الخصائص : ١ / ٨٤.

(٤) موجود في : باريس أول ٦٦٥ ، رقم (٤) وهو نفسه كتاب : المشبهات في القرآن.

(٥) ظ : بروكلمان ، تأريخ الأدب العربي : ٢ / ١٩٩.

٥٣

مفردات القرآن ، ومدارك اللغة ، وقضايا الصرف والموازين ، ومذاهب القراء ، ومصادر النّحو العربي.

على أن الفراء أشهر تلاميذ الكسائي ، وهو يحيى بن زياد الكوفي ( ت : ٢٠٧ ه‍ ) هو أول من تناول مسائل النحو ، ومصادر اللغة ، وفلسفة العربية الفصحى في كتابه الجليل : « معاني القرآن » (١).

وقد بدأ الفراء بإملاء هذا الكتاب على تلامذته استقراءً من فاتحة الكتاب حتى استوفى القرآن العظيم ، فكان الرجل من تلامذته يقرأ الآية ، والفراء يفسر ، وهكذا حتى أتم الكتاب إملاءً من غير نسخة (٢).

وإنتشر الكتاب في بغداد إنتشار النار في الهشيم ، ولا أحسب الخطيب البغدادي مبالغاً فيما رواه عن أبي بديل الوضاحي في هذا الصدد ، قال : فأردنا أن نعد الناس الذين إجتمعوا لإملاء كتاب المعاني ، فلم يضبط قال : فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضياً » (٣).

وقد ذهب ثعلب ( ت : ٢٩١ ه‍ ) مذهباً إفتائيًّا في الثناء عليه فقال : « لم يعمل أحد قبله مثله ، ولا أحسب أن أحداً يزيد عليه » (٤).

وقد إعتبر الاستاذ بروكلمان : الفراء : أول من قعد لدرس تفسير القرآن في مسجد من مساجد بغداد ، ونقل قول ثعلب : « ولولا الفرّاء لما كانت اللغة ، لأنه خلصها وضبطها ، ولولا الفرّاء لسقطت العربية ، لأنها كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد ، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب » (٥).

والدقة تقتضي : أن يقال : إن الفراء هو أول منظم لدرس التفسير أسبوعياً من ناحية الزمن ، وتسلسلياً من ناحية ترتيب المصحف ، وتكاملياً من حيث استقطب كل سور القرآن ، وليس هو أول من ألقى دروساً مستقلة

__________________

(١) حققه الاستاذ محمد علي النجار.

(٢) ظ : مقدمة المعاني : ١ / ١٣.

(٣) ظ : معاني القرآن ، مقدمة التحقيق : ١ / ١٣.

(٤) ابن النديم ، الفهرست : ٦٦.

(٥) ظ : بروكلمان ، تأريخ الادب العربي : ٤ / ٩ وانظر مصادره.

٥٤

في التفسير ، بل هو أول من ألقى دورساً منظمة في التفسير. ولمدة سنتين لم ينقطع خلالها فيما رتبه لنفسه على النحو الذي يشير إليه بدقة ميدانية : أبو عبد الله محمد بن الجهم بن هارون السمري ( ت : ٢٦٨ ه‍ ) بقوله لدى تدوينه معاني القرآن ، « هذا كتاب فيه « معاني القرآن » أملاه علينا أبو زكريا : يحيى بن زياد الفراء يرحمه الله ، عن حفظه من غير نسخة ، في مجالسه : أول النهار ، من أيام : الثلاثاوات والجمع ، في شهر رمضان ، وما بعده من سنة إثنتين ، وفي شهور سنة ثلاث ، وشهور من سنة أربع ومائتين » (١).

وتشوق الناس إلى كتب الفراء ، بعد إنتشار المعاني. وكان أبو العباس ، أحمد بن يحيى المعروف بثعلب ( ت : ٢٩١ ه‍ ) إمام الكوفيين في زمانه ، قد نسب له الحريري في ( درة الغواص ) كتاباً إسمه ( معاني القرآن ) (٢).

ويبدو أنه يدور في فلك الفراء من حيث العرض والأسلوب ، لأن هذا هو الشائع في العصر آنذاك.

وأبو بكر بن الأنباري ( ت : ٣٢٨ ه‍ ) يعد من أبرز تلامذة ثعلب ، وأكثرهم أخذاً عنه ، وقد أتقن اللغة وتفسير القرآن ، فألف كتاب : الوقف والابتداء في القرآن الكريم ، وهو المعروف ب‍ « كتاب الايضاح في الوقف والابتداء » وقد لمحت له طبعة حديثة جيدة ، ومنه عدة نسخ خطية في مكتبات العالم (٣).

وكان أبو بكر السجستاني ( ت : ٣٣٠ ه‍ ) تلميذ أبي بكر بن الانباري ، وله كتاب طريف اسمه : « اشتقاق أسماء نطق بها القرآن ، وجاءت بها السنن والاخبار » وهذا العنوان والكتاب ، هو المحفوظ خطياً في الأسكوريال : ثاني / ١٣٢٦.

ويذهب بروكلمان أن عنوان الكتاب هو : نزعة القلوب أو ( المكروب ) في غريب القرآن أو في ( تفسير كلام علاّم الغيوب ) وهو لا يذكر مواد

__________________

(١) ظ : الفراء ، معاني القرآن : ١ / ١.

(٢) ظ : بروكلمان ، تأريخ الادب العربي : ٢ / ١٩٩.

(٣) ظ : المصدر نفسه ٢ / ٢١٦.

٥٥

المفردات اللغوية من حيث اشتقاقها ، بل يرتب المفردات على حروف المعجم (١).

بعد هذا العرض الموجز لمصاقبه مدرسة النحو واللغة والاعراب ، لمدرسة التفسير القرآني في الكوفة ، وسير الأولى بركاب الثانية ، وإستناد الثانية على حصيلة الأولى ، نستطيع أن نقطع حازمين أن إرساء قواعد هذه المدرسة يعود إلى سببين :

الأول : الأثر التدويني فيما أثر من روايات وأحاديث تفسيرية للقرآن أو لبعض القرآن في القرن الأول والثاني من الهجرة ، في جهود طبقة الرواة الثقات ، وطبقة المؤلفين الروّاد.

الثاني : الأثر اللغوي المستند في أغلبه إلى آراء شيوخ مدرسة الكوفة : ابتداء من أبي جعفر الرؤاسي مؤسس هذه المدرسة ، ومروراً بنفحات الكسائي ومؤلفاته وقراءته ، ووقوفاً عند جهود الفراء المشتركة بين القرآن واللغة ، لا سيما في : « معاني القرآن » ، واستئناساً بما أداه ثعلب في : ( معاني القرآن ) من إستشراف أستاذه الفراء فيه ، وما أبداه ابن الانباري من نضج لغوي في إطار قرآني بالوقف والابتداء ، وما أورده أبو بكر السجستاني من شذرات لغوية مرتّبة ترتيباً عصرياً مزج فيها مفردات القرآن باللغة ، وفقه اللغة.

وهذا العرض تقريبي وزمني بوقت واحد ، وقد لا يكشف عن تمام العمق الدلالي للمدرسة الكوفية المقارنة بهذا الملحظ ، ولكنه يكشف عن أصالة الجهود المتميزة على سبيل الانموذج الاصلح ، كما يحيط المتتبع علماً بأن الأصل الموضوعي لمدرسة النحو واللغة الصرف في الكوفة ما هو إلا خدمة القرآن العظيم ليس غير ، حتى أن من أعطى جهداً لغوياً خالصاً ، أو تراثياً محضياً لا يمزج معه ألقاً من القرآن ، قد يعمد بإزائه إلى ابتكار طريقة مثلى لخدمة القرآن بشكل يتصوره ويخطط له فينفذه.

ولعل من طريف ما ذكره ابن النديم ( ت : ٣٨٠ ه‍ ) في هذا المدرك :

__________________

(١) ظ : بروكلمان ، تاريخ الأدب العربي : ٢ / ٢١٧.

٥٦

أن أبا عمرو إسحاق بن مرار الشيباني الكوفي ( ت : ٢٠٦ ه‍ ) وهو تلميذ المفضل الضبي الكوفي ( ت : ١٧٠ ه‍ ) كان راوية للشعر ، ولكنه كان متحرجاً من كتابته ، فأخذ عهداً على نفسه ، إذ كتب شعراً لقبيلة من العرب كتب بإزائه مصحفاً يضعه في المسجد ، فعدّ ما كتب من مصاحف فوجد نيفاً وثمانين مصحفاً بخط يده ، لأنه كتب أشعار نيف وثمانين قبيلة من قبائل العرب (١).

وفي هذا دلالة على مدى العناية بالقرآن ، حتى كأن الجهد الذي يبذل في غيره ضياع ، فلا بد والحال هذه من تقديم جهدنا في القرآن ، إن لم يكن تأليف أو مدارسة ، فهو استنساخ على الأقل كما فعل الشيباني ، وأضرابه كثير.

وهذا الملحظ هو الذي إمتد به فضل الكوفة ، وريادتها الأولى إلى بغداد ، فأدى إلى تأسيس مدرسة بغداد في اللغة والتفسير والبيان العربي. إذ كان رئيس هذه المدرسة ومؤسسها الحقيقي هو ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦ ه‍ ). وقد ولد أبو عبد الله بن مسلم ابن قتيبة في الكوفة عام ( ٢١٣ ه‍ ) وانتقل إلى بغداد ، وظل يزاول التدريس والتعليم : تفسيراً ونحواً وبلاغة إلى أن توفي في أول رجب عام ٢٧٦ ه‍ / ٣٠ اكتوبر ٨٨٩ م.

وهناك ألف كتبه القيمة الثمينة السيّارة مع كل جيل (٢) ، وكان كتابه « تأويل مشكل القرآن » (٣) من عجائب المصنفات جودةً وإتقاناً وتبويباً ، وهو ـ وإلى اليوم ـ أصل من أصول البحث التفسيري واللغوي والبلاغي في سياق متناسق.

وقد نشأ في ظلال ابن قتيبة وجهوده المبتكرة ـ وامتد من بعده ـ كيان مستقل عظيم للقرّاء في مدرسة بغداد ، حتى نشأ أبو بكر بن مجاهد التميمي ( ت : ٣٢٤ ه‍ ) فكان إمام القراء ـ دون منازع ـ وكبير المتنفذين دينياً

__________________

(١) ظ : ابن النديم ، الفهرست : ١٠١.

(٢) ظ : بروكلمان ، تأريخ الأدب العربي : ٢ / ٢٢٢.

(٣) ظ : قوائم مؤلفاته في كل من : ابن النديم : ٧٧ + ياقوت ، معجم الأدباء : ١ / ١٦٠ + بروكلمان ، تأريخ الادب العربي : ٢ / ٢٢٤.

٥٧

وسياسياً في بغداد ، وهو أول من سبع القراءات القرآنية في كتابه : « القراءات السبع » (١) وقد حقّقه ونشره أستاذنا الدكتور شوقي ضيف.

لقد كان المنهج الموضوعي الذي اختطته مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم ، منهجاً يواكب أحدث المداليل العصرية للبحث المبتكر ، وكان نموذج هذا المنهج ـ فيما بعد عصري التكوين والتأصيل ـ هو أبو زكريا الفرّاء ( ت : ٢٠٧ ه‍ ) في « معاني القرآن » ، فقد كان إمتداداً تراثياً متطوراً لما سبق ، وممثلاً جامعياً للتدوين المنظم والمتسلسل ، فقد فسر القرآن الكريم سورة سورة حتى أتى عليه ، وهو يبحث في هذا النوع من التفسير اللغوي المتميز ، المفردات العلمية التالية في الأعم الاغلب ؛ وهي : تراكيب الجمل والاعراب والاشتقاق ، القراءات أصولها وموقفه الاجتهادي منها ، فقدم وأخر وأفتى وأستنبط ، ورجح وقوم بذائقة فنية. وقد عني بالايقاع السمعي للألفاظ ، والجرس الناغم في الكلمات ، واسترسل في بيان الميزان الصرفي للمفردات ، وملاحظة النسق الصوتي في الفواصل ، وأظهر القيمة الصوتية في العبارات ، وقد قارن بين وزن الشعر ووزن القرآن ، وتحدث عن مراعاة السياق ، وترتيب السجع ، وعرض لجملة من أصناف البديع ، وترشحت من خاطره مباحث بلاغية معدودة من نظراته الثاقبة ، وفكره النير أملتها عليه طبيعة البحث اللغوي ، فكان للتشبيه نصيب مما كتب ، وللتمثيل إطار خاص ، وللمجاز مجال جميل ، وللأستعاره معانٍ قرآنية متأصلة ، وهو في كل ذلك لم يخرج عن المنهج اللغوي للتفسير ، وإن استعان على فهم الآية بأختها ، وعلى كشف النص بالرواية ، وعلى تدوين اللغة من الأثر.

لقد أثر هذا المنهج للمدرسة الكوفية بعامة ، كما أثر غيره من إفاضات مدرسة الكوفة في المناحي الانسانية ، في ثلاثة من عمالقة التفسير القرآني ، هم :

١ ـ أبو جعفر ، محمد بن جرير الطبري ( ت : ٣١٠ ه‍ ) في تفسيره الكبير « جامع البيان في تفسير آي القرآن ». فالطبري وإن اعتمد على التفسير بالمأثور بدقّة متناهية ، فلا تكاد تجد رأياً في تفسيره إلا قد أسند برواية

__________________

(١) حققه الدكتور سيد أحمد صقر تحقيقاً فريداً ، مطبعة عيسى الحلبي ، القاهرة.

٥٨

إلى النبي أو السلف الصالح ، فالآية وجزؤها : كالعبارة القرآنية التي تحمل رأياً واحداً ـ يثبته لها ، ثم يذكر منشأ هذا الرأي ، ومصدر ذلك التأويل في رواية متسلسلة السند أو محذوفته ، وإن كان في ذلك عدة آراء فهو يبسطها رأياً رأياً ، ويصوغها تفسيراً تفسيراً ، ثم يعقب على كل رأي بالروايات القائلة به ، ثم يرجح ويوازن ويقارن. هذا هو منهجه الأصل. ولكنك تحده في مسائل الاعراب ، واختلاف القراءات ، وأسباب النزول ، وعدد الآي ، والميزان الصرفي ، والبعد النحوي ، طالما يستند إلى مدرسة الكوفة ، ويحقق القول فيما تقتضيه. والدراسة الاحصائية لترجيحاته اللغوية نحواً وصرفاً ، أو اشتقاقاً ، أو تركيباً تثبت صحة هذه الدعوى ، وهو من عمل المتخصصين بالدراسات النحوية ، وإن كان لا يهمل آراء البصريين بل ويسرد كثيراً منها في حدود بدت لها أضيق دائرة من ريادته في مدرسة الكوفة.

٢ ـ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( ت : ٤٦٠ ه‍ ) في تفسيره المعروف « التبيان في تفسير القرآن » ، وهذا التفسير الكريم قائم على أساس الدفاع عن بيضة الاسلام ، والنضال المستميت عن كلمة التوحيد من أجل توحيد الكلمة ، لذلك جعله مقارناً بين كل المذاهب الاسلامية وأهل الكلام فهو عارض بأمانة ، ومقرّب بصدق ، وموضوعي بحق ، وقد يرجح رأى الامامية باعتباره مرجعها الاعلى آنذاك ، ولكنه لا يقدح برأي صادر عن مسلم قط ، بل يورده وإن لم يمثل وجهة نظره ، عسى أن يستفيد به غيره ، وهذا معنى الغيرة والحمية الصادقة على العروبة والاسلام.

وطريقة الشيخ الطوسي في تفسيره طريقة الطبري في الرواية ، ولكنه يؤكد مباحث الاعراب والنحو والحجة واللغة ، ويضيف أسباب النزول وعدد الآي وتأريختها مدنية أو مكية ، كما يتناول القراءات ويناقش مصادرها ، وفي خلال ذلك تلمس المدرسة الكوفية متمثلة بشخصيته الأخاذة ، وإن ذكر جملة من آراء المدرسة البصرية.

هذا التفسير ـ من خلال وجهة نظري القاصر ـ تفسير جامع مانع كما

٥٩

يقول أهل المنطق ، لم يكتب مثله بمستواه دراية ورواية وإجتهاداً للملاحظ الآنفة.

وكان الهدف الرئيسي فيه ـ كما يبدو من مباحثه ـ ردّ شبهات الملحدين ، وتوحيد صفوف المسلمين ، بعد أن نزغ الشيطان بينهم ، وتشتّتت الآراء وغلبت الأهواء ، وذلك حينما ظهر التصوف مقارناً للمذهب الفلسفي ، فألقى كل منهما بجرانه في ساحة الوطن العربي ، وأقطار العالم الاسلامي ، فأولى كل منهما للرياضة النفسية والمجاهدة ما أولاها ، وقدمها على ما سواها من البحث الموضوعي ، فأستخدمت الفلسفة في تفسير النص ، والحكمة في إثبات المراد والمسالك الصوفية في تأويل القرآن ، وبقي أهل الحديث على قدمهم متعبدين بالظواهر المحضة للرواية ، وإن خالفت الكتاب أحياناً ، واصطدمت بنزاهة الرواة ، وتشعب الاسانيد ، وتابعهم على هذا جملة من المحدثين ، فقبعوا على الاختلاف والاسفاف بين وثاقة الرواة والاختلاف ، وغزت العزلة المسلمين ، فقنعوا بترهات الحياة عن الواقع ، ولجأوا بالابتعاد ـ عن الناس ـ إلى الفرار ، فتذرعوا بتفسير الباطن حيناً ، وحجب الظواهر الدلالية في اللغة حيناً آخر ، كما تعلقوا بالتأويل الاشاري والمنهج الصوفي بعض الأحايين.

وأناخت فلسفة المتكلمين بكلكلها ، وحطت مذاهب الاحتجاج بثقلها ، فتعصب كل لقضيته ، ونصر كل كلامي مذهبه ، فتشتت الحقائق بيد النزعات ، وخلد قوم إلى الفلسفة الاغريقية ، فأخضعوا القرآن لرياضات مفترضة ، فتأولوا كثيراً من مسلمات الاعتقاد في القرآن : كالحياة بعد الموت ، والبعث والنشور ، والجنة والنار ، وحدوث السماوات والأرض ، تأويلاً يلائم عناصر الفلك ، وحساب النجوم ، وتعدد البروج ؛ وهي ـ بجملتها ـ مقاييس فجة تتجافى مع طبيعة القرآن التشريعية (١).

وهنا يبرز دور الشيخ الطوسي في تسخير طاقاته التفسيرية والبيانية والاصولية والفقهية والكلامية في ارساء الاسس التفسيرية المقارنة ، وهو بذلك قد أفاد من تجارب المؤصلين ، وأضاف من معالم التجديد اللمسات

__________________

(١) ظ : المؤلف ، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم : ٧٩.

٦٠