نظرات معاصرة في القرآن الكريم

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

نظرات معاصرة في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ومقالات الاسلاميين. وكانت رسالة إبراهيم عالمية ، كما هو شأن رسالة نوح عليه‌السلام ، فهما موسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام ـ فيما بعد ـ أولو العزم من الرسل ، وكان بين إبراهيم عليه‌السلام وخلفه من أولي العزم قرون كثيرة ، كان فيها أسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم‌السلام ، وجمهرة أنبياء بني إسرائيل حتى موسى عليه‌السلام الذي ولد في عصر ذبح المواليد من قبل فرعون مصر ، وكانت سلامته بعناية من الله بايحاء لأمه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ) (١).

ونشأ موسى عليه‌السلام في بحبوحة القصر الفرعوني من بعد أن بصرت به أخته وهم لا يشعرون ، فاسترجعته لأمه : ( فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ ) (٢).

وبغل موسى عليه‌السلام أشده وهو في قصر فرعون وبرعاية امرأته الصدّيقة ، فآتاه الله الحكم والعلم ، وجرت على يديه قوة وبطولة في مصر ، وغادرها خائفاً ، وتوجه تلقاء « مدين » وسقىٰ الماء الأمتين ، وأستضافه أبوهما ، وكان نبيّ الله شعيب ، وتزوج إحدى ابنتيه ، وقضى أبعد الاجلين في خدمته : ( * فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٣٠) ) (٣).

وآتاه الله الآيات البينات ، وابتعثه رسولاً ، وشد عضده بهارون أخيه ، وذهبا إلى فرعون ، فرمي بالسحر ، وجمع له السحرة ، فألقوا حبالهم وعصيهم ، وألقى موسى عصاه ، وإذا بها تلقف ما يأفكون : ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (٤٨) ) (٤).

__________________

(١) القصص : ٧ ـ ٨.

(٢) القصص : ١٣.

(٣) القصص : ٢٩ ـ ٣٠.

(٤) الشعراء : ٤٦ ـ ٤٨.

١٢١

وانتصر موسى عليه‌السلام بعد خطوب وخطوب ، وأُغرق فرعون وقومه في البحر ، وذهب موسى لميقات ربه ، وأضل السامري من بعده قومه ، واختار موسى من قومه سبعين رجلاً فأخذتهم الرجفة بما جعل موسى في حيرة بما أضربه القرآن العظيم : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ) (١).

وجرت الملاحم الكبرى على يد موسى بما يستوعب مساحة مثلى متميزة في القرآن العظيم ، وابتلى بشعب خائر متردد جبان إنتهىٰ أمره أن يقول لموسى : ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) (٢). وفي هذا كشف عن مناخ الشعب اليهودي في صفحات كثيرة من شذرات القرآن الكريم مرتبطة بالفساد والافساد والخور والطغيان وقتل الأنبياء ، ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٨٧) ) (٣).

وكانت نبوة عيسى عليه‌السلام فيصلاً بين الحق والباطل في مولده العجيب وسلوكه الانساني وصدره الرحيب ، وما أيّده به الله تعالى من الآيات الباهرات والمعجزات الخوالد بما أقتصه في كتابه العزيز : ( إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (١١٠) ) (٤).

ومع هذه الدلائل الناصعة فقد انقسم الناس تجاهه إلى : كفرة به ،

__________________

(١) الأعراف : ١٥٥.

(٢) المائدة : ٢٤.

(٣) البقرة : ٨٧.

(٤) المائدة : ١١٠.

١٢٢

ومشركين بالله ، وقلة من المؤمنين ، وآخرين قالوا هو ابن الله تعالى ، ومنهم من قال هو ثالث ثلاثة ، وتلاشت رسالته في المحبة والسلام إلا عند الحواريين وجملة من الصالحين ، وأخيراً إجتمعوا على قتله صلباً ، فشبه لهم في أمره ، ورفع إلى السماء بأمر الله تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٨) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨) ) (١).

وأعطاه الله خصيصةً جديرة بالعناية ، ومنحةً كبرى ينبغي الوقوف عندها بكثير من الرصد الخاص ، لأنها ذات دلائل خاصة ، يقول تعالى : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (١٥٩) ) (٢).

وهذه الخاصيّة الكبرى أن سيؤمن به أهل الكتاب جميعاً بعد نزوله إلى الأرض ، لا شك لهم في ذلك ، ومن ثم تترتب على هذا النزول ومشاهده وعوالمه وبركاته خصوصية أخرى بأن يكون عليهم شهيداً يوم القيامة ، ويتحقّق ذلك إن شاء الله بعد صلاته خلف القائم من آل محمد عجل الله فرجه ، في المسجد الأقصىٰ كما عليه روايات المسلمين كافة.

وتضيء الدنيا بخاتم النبيين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو رسول رب العالمين ، وآخر أولي العزم من المرسلين ، قال تعالى : ( وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (٣). وكان أول ما نزل عليه من القرآن قوله تعالى : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) ) (٤).

ولهذه البداية سر عظيم نشير إلى بعض نفحاته ، فالمجتمع الجاهلي مجتمع وثني ، فلا بد أن ينبه إلى خالقه العظيم في دلالية موحية إلى التوحيد وطرح الصنمية الشائعة ، والقرآن أنزل على أمي لا عهد له بالقراءة ، ليبلغه

__________________

(١) النساء : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) النساء : ١٥٩.

(٣) سبأ : ٢٨.

(٤) العلق : ١ ـ ٥.

١٢٣

إلى أميّين لا عهد لهم بالتعلم ، فكان الجهل أول طوق يجب أن يكسر ، وكان الجمود الفكري أول حاجز يجب أن يتجاوز ، وكان التقوقع على الأوهام أول ما يجب التحرر منه ، فكانت البداية هذا الافتتاح الرفيع الذي يتناسب مع هذه الثورة الجديدة ، إنها الدعوة الفطرية إلى الايمان والعلم بعرض واحد ، فهو إرهاص بإيمان سينتشر ، وإشعار بإفاضات علمية ستضيء ، مصدرها الله تعالى ، وأدائها العلم ، لارتياد المجهول واكتشاف المكنون (١).

وتداعت قريش إلى افتراضات متناقضة تجاه القرآن ، وضلّت في متاهات حائرة من أمره ، فقالوا : أضغاث أحلام ، وقد أيقنوا بصحوة النبي ويقظته ، وعزوه إلى الكذب والاختلاق ، وقد وصفوه هم أنفسهم بالصادق الامين ، ونسبوه إلى الشعر ، وقد علموا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته ، وما استقامت لهم الدعوى بشيء ، فوصموه بسلاح العاجر ، وقالوا أنه مجنون ، قال تعالى : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) ) (٢).

وقد دلت الأحداث الاستقرائية ، والسيرة التجريبية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رجاحة عقله ، وإتزانه الدقيق في تصرفاته كافة ، فرددوا قول الكهانة والجنون فرد إفتراءهم القرآن : ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) ) (٣) وتمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت ، فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلماً من البشر ، وهو غلام رومي يمتهن صناعة السيوف بمكة ، ولا يعرف العربية فردهم القرآن رداً بديهياً حاسماً ، قال تعالىٰ : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (١٠٣) ) (٤).

وحينما أعيتهم الحيلة ، ووقف بهم المنطق السليم ، وتداعت الأوهام المتناثرة هنا وهناك إنطلقوا إلى القول : ( فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) (٥) ، وما كان

__________________

(١) ظ : المؤلف ، تأريخ القرآن : ٣٨.

(٢) الحجر : ٦.

(٣) الطور : ٢٩.

(٤) النحل : ١٠٣.

(٥) المدثر : ٢٤.

١٢٤

لمحمد أن يتداول السحر ، ولا رصدوا عليه مأخذاً في ذلك ، ولكنها تهمة الأنبياء في كل زمان ومكان ، كما وصف ذلك القرآن : ( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) ) (١).

وأرجف بهؤلاء وأولئك القرآن العظيم ، فصكهم بهذه الايمان العظمى ، ليقطع دابر القول ، ويكشف الحقيقة كما هي : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ (١٥) الجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ (٢٣) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) ) (٢).

وأعيتهم السبل ، وبان عجزهم ، فنهىٰ بعضهم بعضاً عن سماع القرآن ، وأمر بعضهم بعضاً باصطناع الضوضاء عند قراءة النبي للقرآن ، قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) ) (٣). فما غلبوا بل انتكسوا ، وما انتصروا بل انهزموا ، وصكهم القرآن بالإنذار النهائي : ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣) ) (٤). فحدثني أستاذي المعظم آية الله السيد محمد علي الحكيم مد الله في عمره الشريف ، قال : فلما تلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية قف لها شعر قريش.

وإنتهت هذه الملحمة في الآخذ والرد والتفنيد ، ويئس الكفار من جميع المناورات التكذيبية الباهتة وطار هباء تكذيبهم الواهن للقرآن ، وحجهم الله تعالى في كل ذلك إحتجاجاً بليغاً ، أخذوا يقترحون معجزة غيره ، وآية سواه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ) (٥) ، وكأن القرآن ليس آية ، فردهم الله رداً مفحماً ، وبين عظمة هذا القرآن : ( وَلَوْ أَنَّ

__________________

(١) الذاريات : ٥٢.

(٢) التكوير : ١٥ ـ ٢٦.

(٣) فصلت : ٢٦.

(٤) فصلت : ١٣.

(٥) الرعد : ٢٧.

١٢٥

قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَىٰ بَل للهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ) (١).

فأبان تعالى أن هدايتهم لا أمل في تحقيقها ، لأن أمر الآيات بيده تعالى ، والأمر له جميعاً وبين أيديهم الآية الكبرى وهو القرآن ، فلو أن قرآنا كانت هذه صفته ، لكان هذا القرآن ، ومع ذلك فلم يكن لهم أن يهتدوا به إلا بإذنه تعالى.

وحينما جوبهوا بهذا الردّ المتين ، تسللوا من طرف خفيّ لانكار أصل الرسالة في صلف وغرور لا مثيل لهما : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣) ) (٢) ، فلقن الله نبيه الحجة عليهم لرسالته بشهادته وشهادة من عنده علم الكتاب ، وفي الآية إسناد الشهادة إلى الله تعالى ، وشهادة الله عندهم كبيرة : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) (٣). فهم يشهدون أن أكبر الشهادات هي شهادة الله تعالى ، وحينما أخذ هذا الاقرار منهم ، وسجله عليهم ، اعتبر ذلك كافياً بينه وبينهم ، وأضاف له ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) في شهادته ، وهنا يبرز دور في بنائه قواعد الاسلام جنباً إلى جنب النبي ، وعليه الروايات الدالة أن الآية نزلت في علي عليه‌السلام ، ويؤيده أنه أعلم الامة بالكتاب ممن آمن بالنبي بإجماع المسلمين ، عن أبي سعيد الخدري (رض). قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله جل ثناؤه ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ ). قال ذاك وصي أخي سليمان بن داود ، فقلت يا رسول الله فقول الله : ( قُلْ كَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) قال ذاك أخي علي بن أبي طالب (٤).

وعن الامام محمد الباقر والامام جعفر الصادق والامام موسى بن جعفر والامام علي بن موسى الرضا عليهم‌السلام ، وزيد بن علي ، ومحمد بن

__________________

(١) الرعد : ٣١.

(٢) الرعد : ٤٣.

(٣) الأنعام : ١٩.

(٤) ظ : الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : ١١ / ٣٨٨.

١٢٦

الحنفية وسلمان الفارسي ، وأبي سعيد الخدري ، وإسماعيل السدي ، قالوا جميعاً : ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) هو علي بن أبي طالب (١).

وهنا نقف مقارنين بين من عنده علم من الكتاب وهو وصي سليمان في قوله تعالى : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) (٢).

وعند أهل العربية أن من للتبعيض كما هو معروف ، أي أن وصي سليمان عنده جزء وشيء من كليّ علم الكتاب ، وبلمحة عين جاء بعرش بلقيس من اليمن إلى حيث مجلس سليمان من الأرض المقدسة. فما هو رأيك بمن عنده علم الكتاب كله ، وما هي قدرته الخارقة التي خولها الله إياه فيما لديه من إمكانات وطاقات سخرها جميعاً في إعلاء كلمة الله في الأرض ، وترسيخ الكيان الاسلامي الوليد ، ووحدة الأمة المتفرقة ، وتوحيد الكلمة وكلمة التوحيد ليس غير يكفي أن نشير إلى فدائه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ليلة الهجرة ، وقتله نصف المشركين ببدر ، وكانوا سبعين ، قتل منهم بسيفه خمسة وثلاثين فارساً ، وشارك في النصف الثاني ، وقتله حملة الألوية جميعاً في أحد من بني عبد الدار ، وقتله عمرو بن ودّ العامري في الخندق ، وقد برز الايمان كله إلى الشرك كله ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكانت ضربته تلك تعادل عبادة الثقلين كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقلع باب خيبر وقتل مرحب ، وقد أعطاه الراية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً : والله لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله ، كراراً غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه. وحضوره كل مشاهد رسول الله عدا غزوة تبوك التي كان فيها بمنزلة هارون من موسى ، وقد إستخلفه النبي على المدينة ، وأهم من هذا كله تمثل الاسلام متكاملاً في شخصيته بمبادئه كافة ، فهو النموذج الأرقى الذي حمل الاسلام فكراً ورأياً وعقيدة ونظاماً حتى ذهب شهيد عظمته في مثل هذه الليلة نتيجة مؤامرة ثلاثية خطيرة بين الخوارج ومعاوية ورتل المنافقين في الكوفة متمثلاً بالاشعث بن قيس ، وماذا عسى

__________________

(١) ظ : المرجع نفسه والصفحة.

(٢) النمل : ٤٠.

١٢٧

أن أقول في علي عليه‌السلام وقد قال الله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَٰئِكَ المُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ (١٤) عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (١٥) مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (١٨) لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ (٢٣) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلَامًا سَلَامًا (٢٦) ) (١).

وكان عليٌّ أول السابقين للاسلام في تأريخ الاسلام ، وأفضل السابقين للايمان في العالم ، فقد أخرج العلامة السيوطي في الدار المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس في قوله ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) قال نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب التجار الذي ذكر في ياسين ، وعلي بن أبي طالب ، كل رجل منهم سابق أمته ، وعليٌّ أفضلهم سبقاً (٢).

عاش عليٌّ عليه‌السلام تأريخاً إنسانياً مليئاً بالاحاسيس الكونية ، والأسرار الالهية ، واستشهد عملاقاً أزلياً لم تكتشف الحضارة الانسانية مرافئ وشواطئ عالميته ، فضلاً عن الأعماق البعيدة ، وقد اتسع للبشرية جمعاء ، ولم تسعه البشرية جمعاء ، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً.

وكانت مسيرة الكائن الانساني مرتبطة الوجود الحقيقي الناصع برسالته نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلافة أوصيائه الائمة المهديين ، فقد كمل بذلك الدين ، وتمت النعمة وأرتضي الاسلام ديناً ، فعالجت هذه الرسالة قضية الانسان في كل أبعادها المعقدة ، وأوجدت لها الحلول الشاملة ، وتابعت مراحل هذا الكائن الكريم عند الله في أدواره الزمنية الفعلية ابتداء من الحضانة حتى الميراث ، وسارت معه سيراً سجحاً أوقفه على ساحل الأمن والاطمئنان ، فأهتدى من إهتدى عن بصيرة وبينّة ، وضل من ضل عن عناد وإصرار ، حتى إنتهت به إلى العالم الآخر.

والمتفحص للسياق القرآني العظيم ، يجد الحياة الدنيا ويجد الحياة الآخرة بجلاء ووضوح ، ويلمس بينهما حياة البرزخ بعد التبصر والامعان.

__________________

(١) الواقعة : ١٠ ـ ٢٦.

(٢) ظ : الطباطبائي ، الميزان ١٩ / ١١٨.

١٢٨

الحياة الدنيا في النشأة والترعرع والكيان والاكتمال في التزاوج والرعاية والحقوق والواجبات في الصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس ، والفقه والفرائض والوصايا والجروح والقصاص والديّات ، والحياة الآخرة في الوعد والوعيد ، والبشارة والنذارة كما سيأتي.

وحياة البرزخ بأهوالها المجهولة بحدود ، والمعلومة بحدود أخرى ، حياة فاصلة بين الدنيا والآخرة ، فالدنيا بعد لم تنته ، والآخرة بعد لم تقم ، ولكن الروايات تؤكد : إذا مات المرء قامت قيامته ، والامام علي عليه‌السلام يؤكد هذا الملحظ ويقول : الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا. والقرآن العظيم يصرح ، وتصريحه الحق ، ويقول وقوله الفصل : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) ) (١) ، والمتدبر في سياق الآيات القرآنية لدى المقارنة الحيّة يستهدي إلى هذا اللون من الحياة البرزخية.

إن إنفصال الروح عن الجسد لا تعني أكثر من الانتقال بالكائن الحيّ إلى عوالم رتيبة أخرى ، قد تدخل في حساباتنا الداخلية وقد تنحسر عنها ، وقد تدخل في أعماقها ولكنها قد لا تستقرّ ، وقد تستقر عند ذوي الصفاء الروحي استقراراً ثابتاً لا يتزلزل ، وقد ورد أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنان ، أو حفرة من حفر النيران ، والذي تؤكد الاخبار ، أو الذي يبدو من قسم كبير منها ، أن الانسان عندما يوضع في قبره يحاسب حساباً إجمالياً يلزم فيه الانسان طائره في عنقه فيما عمل ، فإذا قامت القيامة ، وكان الحساب الجزائي التفصيلي وضع كتابه بين يديه ، وعليه قوله تعالى : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (١٣) ) (٢) ، وقد ورد أن سؤال القبر حق على الملكين ، وإذا كان الأمر كذلك فهناك نوع من الحياة مجهولة في جملة من حيثياتها قد يعلم بعضها في الآيات كقوله تعالى : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) (٣) ، والمعنى يوحي بإثبات البرزخ فتكون إماتة في الدنيا وأخرى في البرزخ ، وإحياء في

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.

(٢) الإسراء : ١٣.

(٣) المؤمن : ١١.

١٢٩

البرزخ وإحياء في يوم القيامة.

واستحباب تلقين الميت ثلاث مرات عند الموت وعند القبر وبعد الانصراف عنه يوحي بذلك إيحاء كبيراً ، لأنه مقترن بفتاوى علماء المسلمين ومنشأ ذلك الروايات الصحيحة الثابتة التي تفيد هذه الاحكام.

ومن خلال ما سلف يتضح بكثير من الوضوح مناخ الحياة البرزخية بأنه العالم المثالي الذي يحياه الانسان في القبر بعد موته إلى يوم القيامة ، ويدل على هذا الفهم ما يستفاد من قوله تعالىٰ : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) ) (١). فهذا الطلب التذللي الاستكاني من الظالم أو الفاسق أو الكافر أو الضال : ( رَبِّ ارْجِعُونِ ) عند الموت ، وقد شاهد الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يلتفت إليه حينئذ ، فهي كلمة عابرة يقولها عند الموت ، بل سيموت ولا يرجع ، ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ، فالبعث يوم القيامة وراءهم يطلبهم حثيثاً ، وهم الآن في عالم القبر البرزخي ، فلا رجوع إلى الدنيا. ويمكن استنباط حياة البرزخ من قوله تعالى : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٦) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦) ) (٢). فالعرض على النار في الحياة البرزخية في القبر إذ لا غد وعشياً يوم القيامة ، أما في القيامة فالدخول في أشد الحساب ، فسوء العذاب في البرزخ العرض على النار صباحاً ومساءً ، وفي القيامة سوء الحساب بدخول النار. وفي قوله تعالى : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (١٥٤) ) (٣).

دلالة أن هناك نوعاً من الحياة الخاصة بالشهداء عند الله بعد الموت مباشرة ، فهم ليسوا بأموات بمعنىٰ فنائهم ، بل هم أحياء بأعيانهم ، ولكن الحواسّ القاصرة لا تدرك هذا النوع من الأحياء.

يقول السيد الطباطبائي « إن الآية دالة على الحياة البرزخية ، وهي

__________________

(١) المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) المؤمن : ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) البقرة : ١٥٤.

١٣٠

المسماة بعالم القبر ، العالم المتوسط بين الموت والقيامة ، ينعم فيه الميت أو يعذّب تقوم والقيامة » (١).

وفي هذا الضوء فإنّا نرى الحياة البرزخية حقيقة قرآنية واقعة لا محالة ، لهذا ورد أن من خصائص الدفن في النجف عند أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أو من آثاره ، رفع عذاب البرزخ ، فتأمل : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (٥١) ) (٢).

وهذه نفخة البعث والاحياء وهي النفخة الثانية ، أما النفخة الأولى فهي والثانية تتمثل في قوله تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (٦٨) ) (٣). وبهذا نظهر أن النفخ نفختان ؛ الأولى للإماتة الشاملة إلا من شاء الله ، والثانية للاحياء والنشور ، وهو ظاهر القرآن وتدل عليه روايات الائمة عليهم‌السلام.

هنالك يصدر نداء الملكوت الجبروتي المطلق من قبل الله تعالى : ( لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (٤). وهما سؤال وجواب منه تعالى في آن واحد ، إذ لا مجيب في الكون فقد انطمسوا في ظل الفناء والموت ، وبقي الحيّ القيوم وحده لبيان حقيقة الملك السرمدي.

عند ذلك ينفرج الجمع في المحشر إلى فريقين أهل النار وأهل الجنة : ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) ) (٥).

ويصف القرآن حياة أهل الجنة في مئات من الآيات البيّنات ، ويصف

__________________

(١) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : ١ / ٣٤٩.

(٢) ياسين : ٥١.

(٣) الزمر : ٦٨.

(٤) المؤمن : ١٦.

(٥) الزمر : ٧١ ـ ٧٣.

١٣١

أيضاً حياة أهل النار في مئاتٍ من الآياتِ البينات ، وفي سورة الواقعة عرضٌ تفصيل للملذّات الحسية والنعيم المادي السرمدي لاصحاب اليمين وهم أهل الجنة (١). وفيها دليل على تواجد اللذائذ بمختلف أصنافها المعددة هناك وهو ردّ على من قال بأن النعيم روحي فقط ، أو قال بأن البعث روحاني لا جسماني روحاني ، فالنعيم كالبعث روحي مادي بأبرز صوره ، والحياة الروحية هناك تتجلى أيضاً بقوله تعالى : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠) ) (٢).

فهذه النفس قد إطمأنت لله تعالى فوصفت بأنها راضية ، وإذا رضي العبد عن ربه عمل له عملاً صالحاً مستقلاً لا شائبة معه ، ولا رياء فيه ، وإذا كان كذلك رضي الله عنه ، وما بعد رضى الله تعالى من درجة ، وحينئذٍ يصدر الأمر الالهي لتلك النفس بالدخول في عباده ، وهي منزلة عليا إذ إستعمال لفظ العبد في القرآن يوحي بأنهم الطبقة العليا الحائزة على مقام العبودية الخالصة ، وعادة ما يستعمل هذا اللفظ صفة وإسماً لمن بلغوا أقصى مراتب الزلفىٰ عند الله ، فلا أمر ولا نهي عندهم إلا أمر الله ونهيه ، فالدخول في هذه الصفوة مقدم على الدخول في الجنة ، فهو مقام روحي كبير فيه من الشرف والرفعة والعزة ما لا يدانيه أي ملحظ آخر في السمو والارتقاء والمنزلة ، إذ الحشر مع محمد وآل محمد والأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين ، وهم العباد المنتقون حقاً فيه من القرب لله عز وجل ما فيه من المعاني الروحية البهيجة ، وإذا تم هذا فقد تعيّن الدخول إلى الجنة ، وهذه الجنة مضافة إليه سبحانه وتعالى تشريفاً لها وتعظيماً لشأنها ، إذ لم تضف الجنة لله في القرآن إلا في هذا الموضع.

وكما تضمنت سورة الواقعة تفصيل حياة أهل الجنة ، فقد تضمنت حديث أهل النار ، وهم أصحاب الشمال في لوحة قاتمة فظيعة في مناخها ، وسمومها ، وظلها ، وأكلها ، وشربها ، وصفتهم وخصائصهم بالترف

__________________

(١) ظ : الواقعة : ٢٧ ـ ٤٠.

(٢) الفجر : ٢٧ ـ ٣٠.

١٣٢

والاصرار على كبائر الذنوب ، والتكذيب بيوم الدين والحشر والنشر (١).

أعاذنا الله وإياكم من هذا العذاب الأليم ، ووقانا شر ذلك اليوم ، ورزقنا خيره وسروره وحبوره ، بقي علينا أن نتذكر قول الامام العظيم علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « إِعمَلُوا لِلجَنَّةِ عَمَلَها فإنّ اللهَ لا يُخْدعُ عن جَنَتِهِ ». كتبنا الله وإياكم في أهل الجنة إنه سميع الدعاء.

__________________

(١) ظ : الواقعة : ٤١ ـ ٥٦.

١٣٣
١٣٤

مصادر ومراجع

١ ـ خير ما نبتدئ له : القرآن الكريم.

٢ ـ ابن الاثير ، أبو السعادات ، مبارك بن محمد الجزري (ت: ٦٠٦ ه‍ ) ، النهاية في غريب الحديث / قاهرة / د. ت.

٣ ـ ابن الجزري ، محمد بن محمد المعروف بابن الجزري ( ت : ٨٣٣ ه‍ ) ، غاية النهاية في طبقات القراء ، تحقيق البروفيسور براجشتراسر ، مطبعة الخانجي / القاهرة / ١٩٣٢ م.

٤ ـ ابن جني ، أبو الفتح ، عثمان بن جني ( ت : ٣٩٢ ه‍ ) ، الخصائص ، دار الكتب المصرية / القاهرة / ١٩٥٣ م.

٥ ـ ابن خلدون ، عبد الرحمن بن خلدون ، المقدمة ، المطبعة الشرقية ، القاهرة ، ١٣٢٧ ه‍.

٦ ـ ابن عطية ، عبد الحق بن أبي بكر الغرناطي ( ت: ٩٧٢ ه‍ ) ، مقدمتان في علوم القرآن ، تحقيق : آرثر جفري / مطبعة السنة المحمدية / القاهرة / ١٩٥٤ م.

٧ ـ ابن قتيبة / أبو محمد ، عبد الله بن مسلم ( ت : ٢٧٦ ه‍ ) ، تأويل مشكل القرآن ، تحقيق : أحمد صقر / مطبعة البابي الحلبي / القاهرة / ١٣٧٣ ه‍.

٨ ـ ابن منظور ، جمال الدين ، محمد بن مكرم الأنصاري ( ت : ٧١١ ه‍ ) ، لسان العرب ، طبعة مصورة عن طبعة بولاق / القاهرة / د. ت.

٩ ـ ابن النديم ، أبو الفرج ، محمد بن اسحاق البغدادي ( ت : ٣٨٥ ه‍ ) الفهرست / المطبعة الرحمانية / القاهرة / ١٣٤٨ ه‍.

١٠ ـ الألوسي ، أبو الفضل ، محمود الألوسي البغدادي ( ت : ١٢٧٠ ه‍ ).

١٣٥

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني / الطبعة المنيرية / القاهرة / د. ت.

١١ ـ الانباري ، عبد الرحمٰن بن محمد الانباري ، نزهة الالبا / مطبعة بولاق / القاهرة / ١٢٩٤ ه‍.

١٢ ـ الجاحظ ، أبو عثمان ، عمرو بن بحر ( ت : ٢٥٥ ه‍ ) البيان والتبيين. تحقيق : حسن السندوبي / المطبعة الرحمانية / القاهرة / ١٩٣٢ م.

١٣ ـ الخطابي ، حمد بن سليمان ( ت : ٣٨٨ ه‍ ) ، بيان القرآن.

١٤ ـ الخفاجي ، أبو محمد ، عبد الله بن محمد بن سنان ( ت : ٤٦٦ ه‍ ) سر الفصاحة ، تحقيق : عبد المتعال الصعيدي / مطبعة صبيح / القاهرة / ١٣٧٢ ه‍.

١٥ ـ الراغب الأصبهاني ، الحسين بن محمد بن الفضل ( ت : ٥٠٢ ه‍ ) المفردات في غريب القرآن / تحقيق : محمد سيد كيلاني مطبعة مصطفى البابي الحلبي / القاهرة / ١٩٦١ م.

١٦ ـ الرماني ، علي بن عيسى ( ت : ٣٨٦ ه‍ ) ، النكت في إعجاز القرآن.

١٧ ـ الزركشي ، بدر الدين ، محمد بن عبد الله ( ت : ٧٩٤ ه‍ ) ، البرهان في علوم القرآن ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم / دار إحياء الكتب العربية / القاهرة / ١٩٥٧.

١٨ ـ الزوزني ، أبو عبدالله ، الحسين بن علي بن أحمد ( ت : ٤٨٦ ه‍ ) ، شرح المعلقات السبع / دار الجيل / بيروت / الطبعة الثانية / ١٩٧٢.

١٩ ـ الزمخشري ، محمود بن عمر ( ت : ٥٣٨ ه‍ ) ، الكشاف عن حقائق التأويل.

٢٠ ـ السيوطي ، جلال الدين ، عبد الرحمٰن بن أبي بكر ( ت : ٩١١ ه‍ ) ، الاتقان في علوم القرآن. تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، مطبعة المشهد الحسيني / القاهرة / ١٩٦٧ م.

٢١ ـ السيوطي ، جلال الدين ، عبد الرحمٰن بن أبي بكر ( ت : ٩١١ ه‍ ). الدر المنثور في التفسير بالمأثور. مطبعة بولاق / القاهرة / د. ت.

٢٢ ـ السيوطي ، المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، تحقيق : محمد أحمد جاد

١٣٦

المولى وآخرين / مطبعة البابي الحلي / القاهرة.

٢٣ ـ الشريف الرضي ( ت : ٤٠٦ ) ، تلخيص البيان في مجازات القرآن.

٢٤ ـ الطبرسي ، أبو علي ، الفضل بن الحسين ( ت : ٥٤٨ ه‍ ) ، مجمع البيان في تفسير القرآن / مطبعة العرفان / صيدا / ١٣٣٣ ه‍.

٢٥ ـ الطبري ، محمد بن جرير ( ت : ٣١٠ ه‍ ) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن / مطبعة الحلبي / القاهرة / ١٩٥٤ م.

٢٦ ـ الطوسي ، أبو جعفر ، محمد بن الحسن ( ت : ٤٦٠ ه‍ ) ، التبيان في تفسير القرآن ، تحقيق : أحمد شوقي الأمين + أحمد حبيب القصير / المطبعة العلمية / النجف الاشرف / ١٩٥٧ م.

٢٧ ـ عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة + دلائل الاعجاز.

٢٨ ـ العياشي ، أبو النضر ، محمد بن مسعود بن عياش السلمي ( ت : ٣٠٠ ه‍ ) ، تفسير العياشي ، تحقيق : هاشم الرسولي المحلاتي / المطبعة العلمية / ١٣٧١ ه‍.

٢٩ ـ الفراء ، أبو زكريا ، يحيى بن زياد ( ت : ٢٠٧ ه‍ ) ، معاني القرآن ، تحقيق : أحمد يوسف نجاتي ، محمد علي النجار ، مطبعة دار الكتب المصرية / القاهرة / ١٩٥٥ م.

٣٠ ـ القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن.

٣١ ـ الكليني ، محمد بن يعقوب ( ت : ٣٢٩ ه‍ ) ، الأصول من الكافي.

٣٢ ـ ياقوت ، أبو عبد الله ، ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي ( ت : ٦٢٦ ه‍ ) ، معجم الأدباء ( إرشاد الأديب ) ، تحقيق : البروفيسور مرجليوث / القاهرة / ١٩٢٣ م.

المصادر الحديثة :

٣٣ ـ أحمد أمين ( الدكتور ) ، ضحى الاسلام / مطبعة لجنة النشر والتأليف / الطبعة الثانية / القاهرة.

٣٤ ـ الأنصاري ، مرتضى بن محمد أمين الأنصاري ( ت : ١٢٨١ ه‍ ) ،

١٣٧

المكاسب / تحقيق السيد محمد كلانتر / مطبع الآداب / النجف الأشرف / ١٣٩٢ ه‍.

٣٥ ـ بروكلمان ، البروفيسور كارل بروكلمان ( ١٨٦٨ م ـ ١٩٥٦ م ) ، تأريخ الأدب العربي ، ترجمة : عبد الحليم النجار وجماعته ، القاهرة / ١٩٧٧ م.

٣٦ ـ بنت الشاطئ ( الدكتورة ) عائشة عبد الرحمن ، الاعجاز البياني للقرآن + التفسير البياني للقرآن الكريم.

٣٧ ـ الحر العاملي ، محمد بن الحسن العاملي ( ت : ١١٠٤ ه‍ ). وسائل الشيعة ، إلى تحصيل مسائل الشريعة.

٣٨ ـ الخطيب ، عبد الكريم الخطيب ، الاعجاز في دراسات السابقين.

٣٩ ـ الخوئي ، أبو القاسم الموسوي الخوئي ، البيان في تفسير القرآن / الكويت / ١٩٧٩ م.

٤٠ ـ الخوئي ، أبو القاسم الموسوي الخوئي ، معجم رجال الحديث : ج ٣ ، مطبعة الآداب / النجف الاشرف / ١٩٧٣ م.

٤١ ـ الخولي ، أمين الخولي ، مادة تفسير في دائرة المعارف الاسلامية.

٤٢ ـ الخولي ، أمين الخولي ، محاضرات في أمثال القرآن.

٤٣ ـ الخولي ، أمين الخولي ، مناهج تجديد في التفسير والأدب والنحو والبلاغة.

٤٤ ـ السيستاني ، علي الحسيني السيستاني «المرجع الديني المعاصر» ، منهاج الصالحين / دار المؤرخ العربي / بيروت / ١٤١٤ ه‍.

٤٥ ـ صبحي الصالح ( الدكتور ) ، مباحث في علوم القرآن ، الجامعة السورية / دمشق / ١٩٥٨ م.

٤٦ ـ الصغير / محمد حسين علي الصغير ( المؤلف ) ، تأريخ القرآن ، الدار العالمية للدراسات والنشر والتوزيع / بيروت / ١٩٨٣ م.

٤٧ ـ الصغير ، محمد حسين علي الصغير ( المؤلف ) الصوت اللغوي في فواتح السور القرآنية.

٤٨ ـ الصغير ، محمد حسين علي الصغير ( المؤلف ) ، الصورة الفنية في

١٣٨

المثل القرآني / دار الرشيد / بغداد / ١٩٨١ م.

٤٩ ـ الصغير ، محمد حسين علي الصغير ( المؤلف ) المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع / بيروت / ١٩٨٣.

٥٠ ـ الصغير ، محمد حسين علي الصغير ( الدكتور ) / المستشرقون والدراسات القرآنية ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع / بيروت / ١٩٨٣ م.

٥١ ـ الطباطبائي ، السيد محمد حسين الطباطبائي ( صاحب الميزان ) ، ( ت : ١٤٠٢ ه‍ ) القرآن في الاسلام ، دار الزهراء / بيروت / ١٩٧٣ م.

٥٢ ـ الطباطبائي ، السيد محمد حسين الطباطبائي ( ت : ١٤٠٢ ه‍ ) الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات / بيروت / ١٩٧٣.

٥٣ ـ طنطاوي جوهري ، تفسير الجواهر.

٥٤ ـ طه حسين ( عميد الأدب العربي الراحل ) ( ت : ١٩٧٣ م ). تجديد ذكرى أبي العلاء / دار المعارف بمصر / القاهرة / ١٩٢٢ م.

٥٥ ـ عبد الرزاق نوفل ، الاعجاز العددي في القرآن الكريم.

٥٦ ـ عبد العال سالم مكرم ( الدكتور ) ، القرآن وأثره في الدراسات النحوية / دار المعارف بمصر / القاهرة / ١٩٦٨ م.

٥٧ ـ مالك بن نبي ( معاصر ) ، الظاهرة القرآنية / ترجمة : عبد الصبور شاهين / الطبعة الثالثة / دار الفكر / بيروت / ١٩٦٨ م.

٥٨ ـ محمد عبد الله دراز ( الدكتور ) ، النبأ العظيم / مطبعة السعادة / القاهرة / ١٩٦٠ م.

٥٩ ـ محمد فؤاد عبد الباقي ( معاصر ) ، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم / دار إحياء التراث العربي / بيروت / د. ت.

١٣٩

١٤٠