تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام

المؤلف:

إبراهيم بن محمّد بن عيسى الميموني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤

١
٢

٣
٤

ترجمة المؤلف

اسمه ونسبه

إبراهيم بن محمد بن عيسى المصرى الشافعى المأمونى

صفاته وأخلاقه

قال عند المحبى : عالم محقق خاتمة الأساتذة المتبحرين ، كان آية ظاهرة فى علوم التفسير والعربية ، وأعجوبة باهرة فى العلوم العقلية والنقلية ، حافظا متقنا متضلعا من الفنون ، مشهورا خصوصا عند القضاة وأرباب الدولة ، وأبلغ ما كان مشهورا فيه علم المعانى والبيان حتى قل من يناظره فيهما.

كان مترفها فى عيشه رقيق الطبع حسن الخلق فصيح اللسان وجيها.

شيوخه :

لازم والده سنين ، وكان ينحصر معه وهو صغير ، ودرس على الشمس الرملى وأجازه بمروياته ، وأخذ عن أبى بكر الشنوانى ومنصور الطبلاوى وغيرهم.

مؤلفاته :

١ ـ حاشية على المختصر.

٢ ـ حاشية على المواهب اللدنية.

٣ ـ حاشية على تفسير البيضاوى.

٤ ـ المعراج.

٥ ـ تحريرات على حاشية الجامى.

وفاته :

توفى يوم الثلاثاء ثانى عشر من رمضان سنة تسع وسبعين وألف ودفن بتربة المجاورين رحمه‌الله تعالى (١)

__________________

(١) انظر خلاصة الأثر ١ / ٤٥

٥

وصف المخطوط

ـ اعتمدنا فى تحقيق الكتاب على نسخة فريدة مصورة من مكتبة حسن حسنى عبد الوهاب بتونس تحت رقم ١٨٦٦٠.

ـ عدد أوراقها ٢٠٥ ورقة فى كل صفحة ٢٥ سطرا.

ـ نسخت عام ١٠٤٦ ه‍ نسخها : منصور سليم حسن الدمناوى الأزهرى ، نوع الخط فارسى جميل.

٦

٧

٨

٩
١٠

تمهيد

الحمد لله الذى حكم بالتغير على كل مخلوق لظهور نوامس عظمته ، وأنزل مثل الجبال من تجلى جلال أحديته ، وأوجب الاستسلام والانقياد لبالغ قدرته ؛ إذ هو القاهر ، فلا منازع له فى إرادته ، وإذا أبرم حكما فهو المنفرد بمعرفة حكمته [] في كل شريف ومشروف ، وعم استيلاء صفة قهره كل منكور ومعروف. من رضى بمجارى أقداره أوصله إلى [] عظمته ، ومن فتح عين قلبه لتلقي ما يرد عليه [] على باهر حكمته.

والصلاة والسلام على من أمده [](١) بالآيات الباهرات والحجج الظاهرات ، وشرف بوجود تلك المشاعر الشريفة وحمى به حرمه بتلك المناسك المنيعة ؛ فأزال ما بها من الأصنام وطهرها من دنس الشرك والآثام ، أمده الله تعالى بالآيات ليظهر بذلك كرامته عند مولاه ، وكان بذلك خليقا ، وليتحقق صدق رسالته حيث تساقطت حين أن تلى عليها قوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) وعلى آله وصحبه أجمعين الذين لم يعبدوا الله على حرف ، ولم يقصروا فى طلب القصور وقاصرات الطرف وبعد. فيقول الفقير إلى مولاه العلم المأمونى الشافعى إبراهيم : «إن من المعلوم عند ذوى البصائر وأرباب التأمل والنواظر أن بادئ البدء لم يعد بقباء أحد من الموجودات خلقه للوجود إلا وقد قذفه فناء وموت ، ولم يخط لفرد من الأفراد لباس الإيجاد إلا وألبسه عباء فناء وفوت ، إذ قهره تعالى عام لجميع الموجودات ، وقضاؤه نافذ فى جميع المصنوعات ، وقدرته تعالى ما زالت ترى عجيبا ، وتبدى غريبا ، وتوقظ بزواجره شاكا ومريبا ، وتبدى شموس المواعظ غير متوارية بحجاب ، وتذكر بما يبدو منا وما يصدر عنها وإنما يتذكر أولوا الألباب ، فما من وقت ولا زمان إلا ويظهر من قدرة الله تعالى فيه ما يبهر العقول ، ويعجز عن إدراك حكمته أرباب المعقول والمنقول.

على أنها الأيام قد صرن كلها

عجايب حتى ليس فيها عجايب

__________________

(١) كل ما بين معكوفتين طمس بالأصل.

١١

فمن ذلك أنه فى شهر شعبان المعظم المنتظم فى سلك سنة تسع وثلاثين وألف الذى أنزل فيه آية الصلاة على النبى المكرم قد عمد السيل إلى عقود البيت الحرام ففسخها ، وإلى محكم آيات بناية فنسخها ، وانتصب لعالى ما بنى منه على الرفع فكسره ، وإلى ما جمع جمع السلامة منه فكسره ، فبلغت من ذلك القلوب الحناجر ، وفعلت المخافة بالمسلمين ما لا تفعله الخناجر ، وكادت أنفسهم أن تتفطر أسفا من ذلك ، ونجوم سماء مسرتهم قد تسربلت بعموم الغموم لما هل لهم من المهالك ، وشارفت الأرض أن تنشق وتخر الجبال هدا ، وتحمل المسلمون من أثقال تلك المساءة إدّا ، وكلما سكن الواعظ قلوبهم بطلب التوبة والإقبال على الله تعالى وهدّا ، أقلقهم الأسف فلا يجدون من تساكب المدامع بدا ، ظنا منهم أن بساط الوجود قد أشرف على الانطواء وأن نجوم سمائه قد دنت من الغروب كأن لم يخفق على مفرقه عصابة ذاك اللواء.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وذلك لما جبلوا عليه من محبة هذا البيت العظيم والقيام بما يجب له من مزيد الإجلال والتكرم ، وكيف لا وهو قبلتهم التى يصلون إليها ووسيلتهم التى يطوفون بها ويحجون إليها؟ وفى ذلك دلالة على بقاء الخير الكثير والفضل الخطير فى هذه الأمة المكرمة والعصابة المعظمة حيث بقى فيهم المحافظة على احترام هذا البيت الشريف والقيام بحماية حرمتها المنيفة ، عملا فى ذلك بما جاء فى الحديث المجمع على العمل به فى القديم والحديث من قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحومة حق تعظيمها «يعنى الكعبة والحرم» فإذا ضيعوا ذلك هلكوا» ولما دهى العالم هذه النازلة التى هدّمت ما شيد فى الدهور ، والمعضلة التى ظن الناس بما أرته أن إسرافيل قد نفخ فى الصور ، صارت الأفكار لها مستهولة ، ومن شدة وقعتها متزلزلة ، خصوصا لما وقفوا على الأثر القدسى المروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه وهو : «قال الله تعالى : «إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتى فخربته ثم أخرب الدنيا على أثره» ، فعند ذلك صاروا أحير من ضب وأذهل من صب ، وكان من الواجب على العلماء أن يبينوا للناس ما خفى عليهم ، وأن لا يكتموا شيئا مما

١٢

تقرر لديهم ، ويرشدهم إلى ما هو خير لهم مما أهمهم من الإقبال على الله تعالى بالتوبة النصوح ، وجاء أن يحصل لهم بذلك الفتوح فإن ما حصل لهذا البيت عبرة للّبيب العاقل وحسرة على المعرض الغافل ، وتنبيه على إخلاص التوبة من المتفاضل وإزعاج للمتباطئ عن الطاعة والمتثاقل ، وآية من الله لعباده منذرة ، ومن سنة الغفلة موقظة ، ولكن ليست هذه الكائنة بأول قارورة كسرت فى الإسلام ، ولا بالأمر الذى لم يتفق ما يقرب منه فى سالف الأيام ، بل تقدم له حصول ما هو أعظم خطرا وأقوى تأثيرا أو أثرا مما أثبتنا بعضه فى هذا الكتاب ، ليعلم أن عجائب هذا الدهر متصلة الأسباب ، وليظهر أن إلمام هذا الحادث ليس هو الخراب الذى أشير إليه فى الأثر المشهور ، والخبر الغير المنكور إذ ذاك خراب على يد الفجار حيث لا يبقى إلا الأشرار ، وذلك بعد موت سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ، ورفع القرآن من الصدور بل هذا من أعظم الآيات ، وأقوى المعجزات ، الدالة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث أخبر بسقوط هذا البيت الشريف بعده وعين عدده ، وسخن على يقين من أن حضرة سلطاننا طاول الله بعمره الأبد ، وحرسه بسر «قل هو الله أحد» ، يفوز بثواب تجديد بناء هذا البيت الشريف بغاية الإحكام ؛ وبذلك يمتاز على من تقدمه من الملوك والحكام ، وقد صار ولله الحمد عزاء المسلمين تجديده للبيت الشريف مستدركا بالهناء وتعوضوا عن كنز العنى بكنز الغنى ، وأعقبت الأيام نقصها بإتمامها ونقضها بإبرامها ، واسترجعت العبرات ما جاءت به من مزنها واستبدلت ردّ مسرتها من حرارة حزنها ، ولما أن أجملنا عليهم فى المقال ، واختصرنا لهم فى بيان الحال ، تطلبوا منا تأليفا جامعا لتفصيل هذه المباحث المقفلة ، وكتابا كاشفا عن غوامض هذه المعضلات المغلقة ، فأملينا عليهم فى هذه الصحائف ما تحار العقول فى الوصول إلى أمده ، وحققنا لهم ما فهمناه من الحكم ببركة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومدده ، من بيان أسرار درر الأحكام الشرعية والأحاديث النبوية ، وتلونا عليهم ما يزيل عنهم هذا الألم والنصب ، ويريحهم مما هم فيه من مزيد الخوف والتعب ، ليطمئن بذلك خاطرهم ويبتهج به ناظرهم ، وسميتها : «تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام» وذلك بنظر مولانا سلطان سلاطين الإسلام

١٣

شرقا وغربا مالك أرقاب الأمم عجما وعربا ، خادم الحرمين الشريفين ، مسلك سبل القبلتين ، مختار الله تعالى لحماية حمى بيته الحرام ، وعمارة تلك المشاعر العظام ، صاحب العز والخير والجبر لعموم العباد ، مولانا السلطان الأعظم مراد ، بلغه الله المراد ، وكفاه شر الأعداء والحساد ولا برح موفور النعم ، مسعود السيف والقلم ، بجاه سيد العرب والعجم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا والسبب الحامل للعلماء على الإقبال على بيان هذه المسائل العلمية والكشف عن حقائق ما ستر من تلك المباحث البهية ، أنه لما وصل الخبر بذلك لحضرة مولانا عين أعيان الوزراء الكرام ، وصفوة الصفوة من أرباب الدولة العظام مختار الخلافة الخاقانية لكفالة كافة مهمات المسلمين ، ومرتضى تلك السعادة السلطانية لمطالب الدنيا والدين ، صاحب المجد الذى انقطعت دونه مطايا المطامع ، والسؤدد الذى انحسرت الأبصار دون أضوائه السواطع ، مقلد جيد العليا جواهر المجد والجلال ، وملبس هياكل السعادة حلل السؤدد والجمال.

فالوصف عن إحصاء وصفك عاجز

والعقل عن إدراك قدرك قاصر

وقف الكلام وراء مدحك حايرا

أنى يفى بالمدح ذاك الحاير

أعنى بذلك حضرة مولانا الوزير المعظم ، والدستور المفخم ، الذى بهر الشمس ضياء عزته ، واتفقت كلمة علماء الإسلام على الشكر لجميله ومنته ، أعظم الوزراء الكرام ، مدبر ممالك الإسلام ، الذى عذبت بالديار المصرية موارد فضله ، وأمطر على العلماء والرعايا وافر عدله ، وارتفع على الوزراء الكرام بمزايا الجود والإنعام وسجايا الأفضال والإكرام ، لا سيما بالنسبة إلى العلماء الأعلام ، فلقد شاع جوده فى تخوم الآفاق ، وبذلك وغيره من الملكات الفاضلة اعتلى على أعالى الوزراء وفاق ، وحصل فى هذه الدعوى من جماهير الورى الإجماع والوفاق ، واهتزت الشمس بوقوعها على مواطىء قدمه طربا ، وافتخرت السماء بدورانها حول رأس خدمه تيها وعجبا.

فى كل يوم لنا من مجده عجب

وكل ليل لنا من ذكره سمر

سقى به الله دنيانا فأخصبها

والعدل يفعل ما لا يفعل المطر

١٤

احتظى من عام إنعامه كل غنى وفقير ، وارتضع من ثدى إحسانه كل صغير وكبير ، فهو حسنة الزمان ، وعزة جبهة الدهر والأوان ، حاكم الأقطار الحجازية ، والتخوت اليوسفية ، مولانا الوزير محمد باشا يسر الله له من الخير ما شاء ، فاهتم لذلك غاية الاهتمام ، وأحضر لمجلسه الشريف علماء الإسلام ، وعرض ما وصل لحضرته من فتاوى علماء الحجاز ، غير مكتف بها لعدم إفصاحها عن كنه المراد ، مع عدم خلوها عن نوع من المجاز ، وطلب من العلماء الحاضرين بيان الحكم الشرعى ، وإظهار مقدار ذلك المقام المرعى ، وكان الفقير ممن شمله ذلك المجلس الشريف ، مع أفراد من أعيان كبار العلماء أرباب الإفتاء والتصنيف فعند ذلك فتح الكلام فى بيان تلك الأحكام ، وما منا إلا من أفصح عن بيان ذلك بغاية الإحكام.

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطى الأباطح

ثم انتهى المجلس الشريف مع مزيد الدعاء لعلى مقامه المنيف ، فبعد ذلك أدير الكلام بين العلماء فى جميع المجالس ، وصار ذلك مصاحبة القاعد والجالس ، ولما رأيت بضاعة العلماء عند حضرة هذا الوزير نافقة ، وأغصان كمام الفضلاء فى روض سدته بأنواع السرور باسقة ، أحببت أن أبيض من هذا التأليف الفريد ، والتصنيف الوحيد نسخة أهديها إلى خزانته المعمورة ، وساحته التى بمزيد جبر خواطر العلماء مشهورة ، فوجهت ركاب النظر شطر ذلك المطلب ، وتوجهت تلقاء مدين ذلك المأرب ، وجعلت وصف الذل للمرآة صقالا ، فلمع شئ من البوارق رحب مقاما وعذب مقالا ، أجراها المولى الكريم على اللسان ، فقل أن يجري مجراها إنسان ، تطرب وترتاح عند سماعها الأرواح ، هى من الدر المصور ، والسر المكنون ، وقد صدر ذلك فى زمن يسير ، عن خاطر بأعباء الأكدار كفيل ، ونشأ عن فكر كدت عليه آلام الملمات فهو عليل ، وانبعث عن ذهن ذهبت به خطوب الحوادث فهو كليل ، إن نام ففؤاده بالهموم مأسور ، وإن قام فقلبه بغمرات الغموم مغمور ، وكيف لا وقد أقعد صحيح فضله كسر مقيم ، وأعدم وجود كمالاته حظ سقيم؟ ولو كان فردا لما اشتكى جميع الهموم من المسألة عائلة ، والأعضاء بخصوص الضجر بالقلب من التعب فى غموم.

ولو كان هما واحدا لاتقتيه

خواطر قلبى كلهن هموم

وقال :

١٥

يا مبدى الإنصاف طال تلهفى

وجهلت مورد علّىّ من مصدرى

بعلاك قد علق الرجاء وأنت يا

خير البرية عدة المتحير

ما شمت البارق جودك والندى

ورجوت عارض وابل لك ممطر

وحططت آمالى ببابك راجيا

بالحق إدراك النجاح المثمر

وصرفت عن كل السماح مطالبى

وعلى سماحك كان عقدى خنصرى

ونرجو بين طلعة هذا الوزير أن يتهلل بدر النجاح ، وأن يغرد طير القبول بصلاح الحال وحال الصلاح ، لا زالت كعبة الإقبال ومستلم الإقبال ، ومشرق شمس الكمال ، ولا برحت كواكب السعادة بمطلعها منيرة ، وأفلاك السيادة على وطيتها مستديرة ، وزمام النجاحة نحو سماحتها مسيما ، ووجه القبول والإقبال فى محرابها مصليا ومسلما ، ما فاز بالأمل آمل ، وتيسرت على طالب وسائل هذا ، ولما كانت الكعبة الشريفة أفضل مساجد الأرض ، مما حواه الطول والعرض ؛ إذ هى بيت الله الحرام ، وقبلة لجميع الأنام ، والمسجد الحرام فضله لا ينكر ، وما طوى من فضائله لم يزل ينشر ومكة المشرفة هى بلده الأمين ، ومسقط رأس سيد المرسلين ، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى ، وأعظم من أن تستقصى ، تصدى للتأليف فى فضل ذلك جمع كثير من المتقدمين والمتأخرين ، غير أنى أحببت أن أخترع أمرا لم أسبق إليه ، وأن أسلك فى ذلك طريقا لم يدلوا عليه ، لما أن التأليف فى هذا الوقت ليس إلا كما قال بعضهم : جمع ما تشتت ورم ما تفتت ، وأما تفسير الآيات الواردة فى فضل ذلك ، والكلام على ما يتعلق بتلك المسالك فقد تكفل ببيانه العلماء على حسب مراتبهم وتنوع مقاصدهم فلذلك رتبت كتابنا هذا على ثلاثة مباحث :

المبحث الأول

فى الجواب عن أسئلة ابتكرتها حيث دار الكلام بين الأفاضل فى بعضها ، واخترت أن أرتب فى شأنها أسئلة ليسهل الكشف عن أجوبتها وهى : هل حفظ محل البيت الشريف من دخول الطوفان زمن نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن السيول فيما

١٦

بين نوح وإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم تعله السيول؟ فإن كان حفظ منهما فما باله لم يحفظ فى هذا الزمن من هذا السيل الذى استولى على بنيانه وهدمه؟ وهل ما نقله الزركشى فى كتاب إعلام الساجد بأحكام المساجد عن أبى القاسم المالكى أنه قال : سمعت أن الحرم يعرف بأنه لا يجى سيل من الحل فيه كل الحرم ، قال ابن عطية فى تفسيره : وهذا لأن الله تعالى جعله ربوة وفى حكمها ليكون أصون له انتهى. صحيح وعليه فهذا السيل الذى دخل البيت الآن وقبل ذلك من أى محل جاء؟ أو غير صحيح وهل تقدم حصول سيل يقرب من هذا أولا؟ وهل سقوط هذا الجانب من البيت الشريف فى هذا الزمن على هذا الوجه علامة على شئ يحدث فى الدنيا يخشى منه؟ وأنه من الآيات المنذرة بخراب الدنيا عملا بما روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال : قال الله تعالى : «إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتى فخربته ثم أخرب الدنيا على أثره» أولا يدل على ذلك ، بل ربما يشعر بمزيد الخصب وإن تفرع عليه وقوع بعض البيت لما ذكره العلماء من أن الغيث إذا كان فى ناحية الركن اليمانى كان الخصب باليمن ، وإذا كان من ناحية الركن الشامى كان الخصب بالشام ، وإذا عم البيت كان الخصب لجميع البلدان ، ذكر ذلك بعض المفسرين فيما نقله ابن الحاج ونقل ذلك غيره كما نقله الفاسى (١) وغيره ، ونقل الفاسى عن ابن عباس أنه قال : «ما مطرت مكة قط إلا كان للخندمة عزة وذلك أن فيها قبر سبعين نبيا انتهى. قال الفاكهى (٢) : الخندقة ما بين حرف السويدا إلى الثنية التي عليها بئر ابن أبى سمير فى شعب عمر ومشرفة على أجياد الصغير وعلى شعب ابن عامر وعلى دار محمد بن سليمان فى طريق منى وهو جبل فى ظهر أبى قبيس إلى آخره وهل أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدد سقوطها بعد بعثته ورسالته؟ وفى أى زمن يكون سقوطها وخرابها بحيث لا تعود كذلك ولا تحج بعد ذلك؟ وهل فى القيمة تعاد كباقى المساجد؟ وهل صح أنها تزف زف العروس عند قيام الساعة

__________________

(١) ج ١ / ١٧٧ (١) شفاء الغرام ١ / ١٧٧

(٢) أخبار مكة ٢ / ١٠١

١٧

وتأتى إلى قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند انشقاقه عنه وتخاطبه ويخاطبها ثم تأتى الصخرة الشريفة وتعانقها وتكون معها فى الجنة وأنه يتعلق بأستاره من حجها حتى تدخله الجنة أو لا؟ وهل تجب المبادرة بعمارة ما سقط من البيت الشريف بالفعل وما أشرف على السقوط دون ما هو ثابت متماسك؟ وهل يجوز التوصل إلى بيان حقيقة ما ظن اختلاله من نجو سقفها بكشف ما يعلم به أمره أو لا؟ وهل إذا بنى ما سقط يجب أن يعاد علي الصفة التى كان عليها أولا من غير زيادة ولا نقص بحيث لا يزاد فى طوله ولا ينقص عنه؟ أو تجوز الزيادة فى طوله كما زاد عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما فى طوله إلى جهة السماء حين بناه على ما كان عليه زمن قريش مع ورود النهى عن التطاول فى البناء؟ وكما زادت قريش فى طوله إلى جهة السماء على ما كان عليه زمن الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن طوله إذ ذاك فى السماء كان تسعة أذرع؟ وهل أحد قبل قريش ممن بناه زاد على الطول إلى جهة السماء الذى كان زمن الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لم يزد عليه؟ وهل كان له سقف ومغلق زمنى الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لم يكن؟ ومن سقفه وجعل له مغلقا بعد الخليل أولا هل هم قريش أو من تقدمهم؟ ومن أى شئ كان السقف والباب حينئذ؟ وهل ما ذكره العلماء من أن ابن الزبير أعاد البيت على قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينافيه ما نقله ابن الحاج المالكى من أن صفة بناء البيت زمن الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مدورا من ورائه ، وكان له ركنان وهما الشاميان ، فجعلت له قريش حين بنته أربعة أركان مع إخراج الحجر منه. وقد نقلوا أن ابن الزبير رضى الله عنهما جعل للبيت أربعة أركان واستلمها وقال : إنما ترك النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم استلام الركنين الشاميين اللذين يليان الحجر بالسكون إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد وافق الناس ابن الزبير على استلام الأركان الأربعة لكونه أعادها على قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن البيت لم يكن له فى زمن الخليل إلا ركنان على ما ذكره ابن الحاج ، وقد ذكر مجاهد وعكرمة فى وجه تسمية البيت بالكعبة أنها مربعة ، وقال القاضى فى المشارق : الكعبة هو البيت لا غير ، سمى بذلك لاستدارتها ، وقيل : لتربيعها يقال : برد مكعب إذا طوى مربعا. وقيل : لعلوه ونتوئه ، ومنه سمى الكعب كعبا لنتوئه وخروجه من جانب القدم ، يقال : تكعبت الجارية إذا خرج نهدها ، وقيل : لانفرادها عن البيوت وارتفاعها ، وذكر

١٨

الأزرقى (١) أن الناس كانوا يبنون بيوتهم مدورة تعظيما للكعبة وأول من بنى بيتا مربعا حميد بن زهير فقالت قريش ربع حميد بيننا ، إما حياة أو موتا ، ثم مقتضى ما تقدم نقله عن العلماء من أن ابن الزبير أعاد البيت على قواعد إبراهيم أن الباب الغربى الذى سده الحجاج وهو الذى فتحه ابن الزبير كان بهذه الصفة زمن الخليل مرتفعا غير لاصق بالأرض ، والمصرح به فى صفة البيت زمن الخليل أنه جعل له بابين كما فى سيرة الشامى ، وروى (٢) الأزرقى (٣) من طريق ابن جريج عن مجاهد قال : بلغنى أنه لما خلق الله السموات والأرض كان أول شئ وضع فيها البيت الحرام ، وهو يومئذ ياقوتة جوفاء لها بابان ، أحدهما شرقى والآخر غربى ، فجعله مستقبل البيت المعمور إلى آخر الرواية ، ثم المصرح به فى شفاء (٤) الغرام (٥) إن البابين فى زمن ابن الزبير كانا لاصقين بالأرض فهل هذا الارتفاع من فعل الحجاج فيكون قد رفعه ثم عنّ له فسده ، أو الرافع له إنما هو ابن الزبير رضى الله عنهما والذى فعله الحجاج إنما هو السد فقط؟ وعليه فهل كان هذا الباب المسدود الآن مرتفعا زمن الخليل أو لا؟ والرافع له إنما هو ابن الزبير فجعل الباب الغربى مرتفعا والآخر لاصقا بالأرض ، وكيف ساغ له أن يغير فى بيت الله ويفتح بابا فى علو الجدار مع حرمة الفتح والاستطراف منه حينئذ إن صح أن البابين كانا لاصقين بالأرض فى زمن الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وفى رواية الحارث بن عبد الله بن ربيعة المخزومى وهو من ثقاة الرواة لعبد الملك تصديقا لما رواه ابن الزبير رضى الله عنهما عن خالته ، وفيه قال عليه الصلاة والسلام : وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض ، بابا شرقيا يدخل الناس فيه وبابا غربيا يخرج الناس منه. فهذا يدل على أن ابن الزبير رضى الله عنهما وفىّ بذلك ، وقد نقل الشامى أن صفة بناء ابن الزبير أنه جعل لبابها مصراعين طولهما أحد عشر ذراعا ، وجعل الآخر بإزائه على هيئته وجعل لها درجا من خشب معوجة يصعد منها إلى ظهرها ، وأن الحجاج غير تلك الدرج التى فى جوفها ونقص من طول الباب خمسة أذرع ، ولم يذكر أنه

__________________

(١) أخبار مكة ١ / ٤٩

(١) أخبار مكة ١ / ٤٩

(٢) المرجع السابق.

(٢) المرجع السابق.

(٣) ١ / ٢٣٧ ـ ١ ـ ٢ / شفاء الغرام ج ١ / ٢٣٧.

١٩

علّى الباب المسدود أيضا ، وكذا هل يرد على قولهم المذكور ـ أعنى أن ابن الزبير أعاد البيت على قواعد إبراهيم ـ ما ذهب إليه الشافعى من أن من البيت هذا البناء الحادث الذى أحاط بالبيت ملاصقا بأسفل الجدار فيما بين الركنين اليمانيين وهو المسمى بالشاذروان بكسر الذال وهى لفظة أعجمية بلسان الفرس ولا توجد هذه التسمية فى حديث صحيح ولا سقيم ولا عن أحد من السلف ، ولأنه ذكر عند فقهاء المالكية المتقدمين والمتأخرين إلا ما وقع فى الجواهر (١) لابن شاس وتبعه أبو عمرو بن الحاجب تبعا لكتب الشافعية فى ذلك من غير تعرض لبيان حكم ، وصرح ابن الصلاح أن قريشا لما رفعوا الأساس بمقدار ثلاث أصابع من وجه الأرض وهو القدر الظاهر الآن من الشاذروان الأصل نقصوا عرض الجدار عن عرض الأساس الأول وذكر العلامة المؤرخ الأزرقى (٢) أن ذرع عرض الشاذروان المخرج من البيت ذراع وقد أحدث فيه بناء على شكل المصطبة أولا ، فكان بسيطا ، ثم سنّم هذا البناء بعد ذلك حتى صار كأنه مثلث احتياطا حتى لا يفسد طواف الطائفين إذا طافوا ماشين عليه لو دام بسيطا لكون طوافهم حينئذ فى جزء من البيت وكان منتهاه إلى قريب من الركن ، ولم يكن من هذه الزيادة الظاهرة تحت الحجر الأسود ثم زيدت بمقدار فى المدة الأخيرة. وقول عالم الحجاز المحب الطبرى إن هذا البناء لم يستكمل جميع القدر الخارج من البيت الذى عرضه ذراع وإنه يجب إعادة الشاذروان إلى ذراع لما نقله الأزرقى حتى لا يفسد طواف الطائفين إذا مشوا فيه على مذهب الشافعى ، وعليه فى الأمر مشكل ؛ لأنه إن صح أن الشاذروان من البيت ، فكيف أخرجه ابن الزبير رضى الله عنما مع التزامه أن يعيده على قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وما تقدم عن ابن الصلاح الشافعى من أن قريشا لما رفعوا

__________________

(١) انظر شفاء الغرّام ١ / ١١٢

(٢) أخبار مكة ١ / ١٠٢

٢٠