تاريخ صفد

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني

تاريخ صفد

المؤلف:

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

كتاب بشارة بتحرير صفد صدر باسم السلطان الظاهر بيبرس

وتم توجيهه إلى قاضي قضاة الشام شمس الدين أحمد بن

خلكان ـ نقلا عن كتاب ذيل مرآة الزمان

لليونيني (٢ / ٣٣٨ ـ ٣٤٣)

سر الله خاطر المجلس الأعلى السامي واطلع عليه وجوه البشائر سوافر ، وأمتع نواظره باستجلاء محاسنها النواضر ، وواصلها إليه متوالية تواجهه كل يوم بمراتبها الزواهي الزواهر ، وأماثلها لديه متضاهية الجمال متناسبة في حسن المبادي والأواخر ، ولم تزل وجوه البشائر أحسن وجوه تستجلى ، وألفاظه أعذب ألفاظ تستعاد وتستحلى ، وإذا كررت على المسامع أحاديث كتبها لا تمل بل تستملى ، لا سيما إذا كانت بإعزاز الدين ، وتأييد المسلمين ، ونبأ فتح نرجو أن يكون طليعة فتوحات كل فتح منها (هو الفتح المبين ، فإن أنباءها تجل وقعا وتعظم في الدنيا والآخرة نفعا ، وتود كل جارحة عند حديثه أن تكون سمعا ، لحديث) هذا الفتح الذي كرم خبرا ، وخبرا وحسن أثره في الإسلام وردا وصدرا ، وطابت أخبار ذكره فشغل به السارون حداء والسامرون سمرا ، وهو فتح صفد واستنقاذه من أسره واسترجاعه للإسلام وقد طالت عليه في النصرانية مدة من عمره ، وإقرار عين الدين بفتحه وكان قذى عينه وشجى في صدره ، وقد كنا لما وصلنا الشام بالعزم الذي نفرته دواعي الجهاد ، وأنفذته عوالي الصعاد ، وقربته أيدي الجياد ، ملنا على سواحل العدو المخذول فغرقناها ببحار عساكرنا الزاخرة ، وشنينا بها من الغارات ما ألبسها ذلا رفل بها الإسلام في ملابس عزه الفاخرة ، وهي وإن كانت غارة عظيمة شنت في يوم واحد على جميع سواحله واستولى بها النهب والتخريب على أمواله ومنازله ، واستبيح من حرمه وحرمه مصونات معاقله وعقائله ، إلا أنها كانت بين يدي عزائمنا المنصورة نشيطة نشطنا بها الغازين ، واسترهفنا بها همم المجاهدين

٨١

وقدمناها لهم كاللهنة قبل الطعام للساغبين ، وأعقبنا ذلك بما رأيناه أولى بالتقديم وأحرى ، وتبيناه أشد وطأة على الإسلام وأعظم ضرا ، وهي صفد التي باء بإثمها حاملها على النصرانية ، ومسلطها بالنكاية ، على البلاد الإسلامية ، حتى جعلها للشرك مأسدة آساده ومراد مراده ، ومجر رماحه ومجرى جياده ، كم استبيح بسببها للإسلام من حمى ، وكم استرق الكفار بواسطتها مسلمة من الأحرار ومسلما ، وكم تسرب منها جيش الفرنج إلى بلاد المسلمين فحازوا مغنما وقوضوا معلما ، فنازلناها منازلة الليل بانعقاد القساطل ، وطالعناها مطالعة الشمس ببريق المرهفات وأسنة الذوابل ، وقصدناها بجحفل لم يزحم بلدا إلا هدمه ولا قصد جيشا إلا هزمه ، ولا أم ممتنعا طغا جباره إلا سهله وقصمه ، فلما طالعتها أوائل طلائعنا منزلة وقابلتها وجوه كماتنا المقاتلة اغتر كافرها فبرز للمبارزة والقتال ووقف دون المنازلة داعيا نزال ، فتقدم إليه من فرساننا كل حديد الشبا جديد الشباب يهوى إلى الحرب فيرى منه ومن طرفه أسد فوق عقاب ، ويخف نحوها متسرعا فيقال : أهذا لقاء أعداء أم لقاء أحباب؟ فهم فوارس كمناصلهم رونقا وضياء ، تجري بهم جياد كذوابلهم علاءا ومضاء ، إذا مشوا إلى الحرب مزجوا المرح بالتيه فيظن في أعطافهم كسل ، وهزوا قاماتهم مع الذوابل فجهلت الحرب من منهم الأسل ، فحين شاهد أعداء الله آساد الله تصول من رماحها بأساودها وتبدى ظمأ لا ينقعه إلا أن ترد من دماء الأعداء محمر مواردها ، وأنها قد أقبلت نحوهم بجحافل تضيق رحب الفضاء ، وتحقق بنزولها ونزالها كيف نزول القضاء ، وأنه جيش بعثه الله بإعزاز الجمعة وإذلال الأحد ، وعقد برايته مذ عقدها أن لا قبل بها لأحد ، وأن الفرار ملازم أعدائه ولا قرار على زائر على الأسد ، ولوا مدبرين وادبروا على أعقابهم ناكصين ولجأوا إلى معقلهم معتقلين ولا متعقلين ، فعند ذلك زحفنا إليه من كل جانب حتى صرنا كالنطاق بخصره ، ودرنا به حتى عدنا كاللثام بثغره ، وأمطرنا عليه من السهام وابلا سحبت ذيول سحبه

٨٢

المتراكمة ، وأجرينا حولها من الحديد بحرا غرقه أمواجه المتلاطمة ، وضايقناها حتى لو قصد وفد النسيم وصولا إليه لما تخلص ، أو رام ظل الشمس أن يعود عليه فيئا لعجز لأخذنا عليه أن يتقلص ، ثم وكلنا به من المجانيق كل عالي الغوارب عاري المناكب عبل الشوى سامي الذرى ، له وثبات تحمل إلى الحصون البوائق ، وثبات تزول دونه ولا يزول الشواهق ، ترفع لمرورها الستائر فتدخل أحجاره بغير استيذان وتوضع لنزوله رؤوس الحصون فتخر خاضعة للأذقان ، فلم يزل يصدع بثبات أركانه حتى هدمها ، وتقبل ثنيات ثغره حتى أبدى ثرمها ، وفي ضمن ذلك لصق الحجارون بجداره وتعلقوا بأذيال أسواره ففتحوها أسرابا ، وأججوها جحيما يستعر التهابا ، فصلي أهل النار بنارين من الحريق والقتال ، ومنوا بعذابين من حر الضرام وحد النصال ، هذه تستعر عليهم وقودا ، وهذه تجعل هامهم للسيف غمودا.

فعند ذلك جاءهم الموت من فوقهم ومن أسفل منهم ، وأصبح ثغرهم الذي ظنوه عاصما لا يغني عنهم ، ومع ذلك فقاتلوا قتال مستقتل لا يرى من الموت بدا ، وثبتوا متحايين يقدون بيضهم البيض والأبدان قدا ، فصبر أولياء الله على ما عاهدوا الله عليه ، وقدموا نفوسهم قبل إقدامهم رغبة إليه ، ورأوا الجنة تحت ظلال السيوف فلم يروا دونها مقيلا وتحققوا ما أعده الله لأهل الشهادة فاستحلوا وجه الموت على جهامته جميلا ، فعند ذلك خاب ظن أعداء الله وسقط في أيديهم وصار رجاء السلامة برؤوسهم أقصى تمنيهم ، فعدلوا عن القتال إلى السؤال وجنحوا إلى السلم ، وطلب النزول بعد النزال ، وتداعوا بالأمان صارخين ، وجاؤوا بدعاء التضرع لاجين ، فاغمد الصفح عنهم بيض الصفاح ، وقاتلوا من التوسل بأحد سلاح ، واستدعوا راياتنا المنصورة فشرفوا بها الشرفات ونزلوا على حكمنا ، فأقالت القدرة لهم العثرات ، وتسلم الحصن المبارك وقت صلاة الجمعة ثامن عشر شوال ،

٨٣

وتحكم نوابنا على ما به من الذخائر والأموال ، ونودي في أرجائه بالواحد الأحد ، واستديل للجمعة يوم الجمعة من يوم الأحد ، ونحن نحمد الله على هذا الفتح الذي أعاد وجه الإسلام جميلا ، وأنام عين الدين في ظل من الأمن مده ظليلا وألان من جانب هذا الثغر ما لا ظن أن سيلين ، وذلل من صعبه ما شرح به صدر الملك والدين ، فإنه حصن مر عليه دهر لم يدر فتحه بالأوهام ، ولا تطاولت إليه يد الخطب ولا همة الأيام وربما كان يجد منفسا فيدعو الملوك إلى نفسها فيتصامموا ويخطبهم وممرها أدنى حرب فيرغبوا في العزلة والمسالمة فيسالموا ، ألهاهم عن فخر فتحه الرغبة في رفاهية عيشة ظنوها راضية ، ووقف بهم دون السعي فيه همة لنزول الدنايا متغاضية ، وجنح بهم مراد السلم وإرادة السلم كانت عليهم القاضية ، والمجلس أيده الله يأخذ حظه من هذه البشرى ويقر بها عينا ويشرح بها صدرا ، ويحلي وجوه بشائرها من هذه المكاتبة ، على عيون الناس من كل حاضر وباد ، ويستنطق بها ألسن المحدثين في كل محفل وناد ، والله يحرس المجلس ويسهل بهمته كل مراد ، إن شاء الله تعالى.

٨٤

ترجمة بيبرس من ذيل مرآة الزمان لليونيني

بيبرس بن عبد الله أبو الفتح ركن الدين السلطان الملك الظاهر الصالحي :

قال عز الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم بن شداد ـ رحمه‌الله ـ : أخبرني الأمير بدر الدين بيسري الشمسي ـ رحمه‌الله ـ أن مولد الملك الظاهر بأرض القبجاق سنة خمس وعشرين وست مائة تقريبا ، وسبب انتقاله من وطنه إلى البلاد أن التتار لما أزمعوا على قصد بلادهم سنة تسع وثلاثين وست مائة بلغهم ذلك كاتبوا أنر قان ملك أولاق أن يعبروا بحر سوداق إليه ليجيرهم من التتار ، فأجابهم إلى ذلك وأنزلهم واديا بين جبلين له فوهة إلى البحر ، وأخرى إلى البر ، وكان عبورهم إليه سنة أربعين وست مائة ، فلما اطمأن بهم المقام غدر بهم ، وشن الغارة عليهم وقتل وسبى ، وكنت أنا والملك الظاهر فيمن أسر ، وعمره إذ ذاك أربع عشرة سنة تقديرا فبيع في حلب بخان ابن فليح ، ثم افترقنا فاتفق أن حمل إلى القاهرة فبيع إلى الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار ، وبقي في يده إلى أن انتقل عنه بالقبض عليه في جملة ما استرجعه الملك الصالح نجم الدين أيوب منه ، وذلك في شوال سنة أربع وأربعين وست مائة ، فقدمه على طائفة من الجمدارية ، فلما مات الملك الصالح نجم الدين ، وملك بعده ولده الملك المعظم ، وقتل ، وأجمعوا على عز الدين التركماني وولوه الأتابكية ، ثم استقل وقتل فارس الدين أقطاي الجمدار ، فركب الملك الظاهر والبحرية وقصدوا قلعة الجبل ، فلما لم ينالوا مقصودهم خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للتركماني ، مهاجرين إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف ، وهم : الملك الظاهر ركن الدين ، وسيف الدين بلبان الرشيدي ، وعز الدين أيدمر السيفي ، وشمس الدين سنقر الرومي ، وشمس الدين سنقر الأشقر ، وبدر الدين بيسري الشمسي ، وسيف الدين قلاوون الألفي ، وسيف

٨٥

الدين بلبان المستعرب وغيرهم ، فلما شارفوا دمشق سير إليهم الملك الناصر طيب قلوبهم فبعثوا فخر الدين إياز المقرىء يستحلفه لهم فحلف ودخلوا دمشق في العشر الآخر من شهر رمضان فأكرمهم الملك الناصر ، وأطلق للملك الظاهر ثلاثين ألف درهم ، وثلاث قطر بغال ، وثلاث قطر جمال ، وخيلا وملبوسا ، وفرق في بقية الجماعة الأموال والخلع على قدر مراتبهم ، وكتب إليه الملك المعز يحذره منهم ويغريه بهم ، فلم يصغ إليه ، وكان عين للملك الظاهر إقطاعا بحلب فالتمس منه الملك الظاهر أن يعوضه عن بعض ما كان له بحلب من الإقطاع بجينين وزرعين فأجابه إلى ذلك فتوجه إليهما ، ثم استشعر من الملك الناصر وتوجه بمن معه ومن تبعه من خشداشيته وأصحابه إلى الكرك ، فجهز صاحبها الملك المغيث عسكره مع الملك الظاهر نحو مصر ، وعدة من معه ست مائة فارس ، وخرج من عسكر مصر لملتقاه ، فأراد كسبهم ، فوجدهم على أهبة ، والتف عليه وعلى من معه عسكر مصر ، فلم ينج منهم إلا الملك الظاهر ، والأمير بدر الدين أيبك الخزندار ، وأسر سيف الدين بلبان الرشيدي.

وعاد الملك الظاهر إلى الكرك فتواترت عليه كتب المصريين يحرضونه على قصد الديار المصرية ، وجاءه جماعة كثيرة من عسكر الملك الناصر ، وخرج عسكر مصر مع الأمير سيف الدين قطز والأمير فارس الدين أقطاي المستعرب ، فلما وصل المغيث والظاهر إلى غزة انعزل إليهم من عسكر مصر عز الدين أيبك الرومي ، وسيف الدين بلبان الكافري ، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي ، وعز الدين أيبك الجواشي ، وبدر الدين ابن خان بغدي ، وعز الدين أيبك الحموي ، وجمال الدين هارون القيمري ، واجتمعوا بالظاهر والمغيث بغزة ، فقويت شوكتهم وتوجها إلى الصالحية ، ولقوا عسكر مصر يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وخمسين ، فاستظهرها عسكرهما أولا ، ثم عادت الكسرة عليه ،

٨٦

فانكسر ، وهرب الملك المغيث ولحقه الملك الظاهر ، وأسر عز الدين أيبك الرومي ، وركن الدين منكورس الصيرفي ، وسيف الدين بلبان الكافري ، وعز الدين أيبك الحموي ، وبدر الدين بلغان الأشرفي ، وجمال الدين هارون القيمري ، وشمس الدين سنقر شاه العزيزي ، وعلاء الدين أيدغدي الاسكندراني ، وبدر الدين ابن خان بغدي ، وبدر الدين بيليك الخزندار الظاهري ، فضرب أعناقهم صبرا خلا الخزندار الجوكندار شفع فيه ، وخيره بين المقام والذهاب ، فاختار الذهاب إلى أستاذه فأطلق ، ثم إن المغيث حصل بينه وبين الملك الظاهر وحشة أوجبت مفارقته له وعوده إلى الملك الناصر ، بعد أن استحلفه على أن يقطعه خبز مائة فارس من جملتها قصبة نابلس وجينين وزرعين فأجاب إلى نابلس لا غير ، وكان قدومه على الملك الناصر في العشر الأول من شهر رجب سنة سبع وخمسين ومعه الجماعة الذين حلف لهم الملك الناصر ، وهم : بيسري الشمسي ، والتامش السعدي ، وطيبرس الوزيري ، وأقوش الرومي الدوادار ، وكشتغدي الشمسي ، ولاجين الدرفيل ، وأيدغمش الحلبي ، وكتشغدي المشرقي ، وأيبك الشيخي ، وبيبرس خاص ترك الصغير ، وبلبان المهراني ، وسنجر الأسعردي ، وسنجر البهماني ، وألبلان الناصري ، وبلتي الخوارزمي ، وسيف الدين طمان ، وأيبك العلائي ، ولاجين الشقيري ، وبلبان الأقسيشي ، وعلم الدين سلطان الألدكزي فأكرمهم ووفى لهم.

فلما قبض الملك المظفر قطز على ابن أستاذه ، حرض الملك الظاهر للملك الناصر على التوجه إلى الديار المصرية ليملكها فلم يجبه ، فرغب إليه أن يقدمه على أربعة آلاف فارس أو يقدم غيره ليتوجه بها إلى شط الفرات يمنع التتر من العبور إلى الشام ، فلم يمكن الظاهر لباطن كان له مع التتر ، وفي سنة ثمان وخمسين فارق الملك الظاهر الملك الناصر ، وقصد الشهرزورية وتزوج منهم ، ثم أرسل إلى الملك المظفر قطز من

٨٧

استحلفه له ، ودخل القاهرة يوم السبت الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ، فركب الملك المظفر للقائه ، وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب بخاصته.

ولما خرج الملك المظفر للقاء التتر سير الملك الظاهر في عسكر ليتجسس أخبارهم ، فكان أول من وقعت عينه عليهم ، وناوشهم القتال.

فلما انقضت الوقعة بعين جالوت تبعهم يقتص آثارهم ، ويقتل من وجد منهم إلى حمص ، ثم عاد فوافى الملك المظفر بدمشق ، فلما توجه الملك المظفر إلى جهة الديار المصرية ، اتفق الملك الظاهر مع سيف الدين الرشيدي ، وسيف الدين بهادر المعزي ، وبدر الدين بكتوت الجوكنداري المعزي ، وسيف الدين بيدغان الركني ، وسيف الدين بلبان الهاروني ، وعلاء الدين آنص الأصبهاني على قتل الملك المظفر ـ رحمه‌الله ـ فقتلوه على الصورة المشهورة ، ثم ساروا إلى الدهليز ، فتقدم الأمير فارس الدين الأتابك ، فبايع الملك الظاهر ، وحلف له ، ثم الرشيدي ثم الأمراء على طبقاتهم ، وركب ومعه الأتابك ، وبيسري ، وقلاوون ، والخزندار ، وجماعة من خواصه فدخل قلعة الجبل.

وفي يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة جلس في إيوان القلعة وكتب إلى جميع الولاة بالديار المصرية يعرفهم بذلك ، وكتب إلى الملك الأشرف صاحب حمص ، وإلى الملك المنصور صاحب حماة ، وإلى الأمير مظفر الدين صاحب صهيون ، وإلى الاسماعيلية ، وإلى علاء الدين ، وصاحب الموصل ، ونائب السلطنة بحلب ، وإلى من في بلاد الشام من الأعيان يعرفهم بما جرى.

ثم أفرج عمن في الحبوس من أصحاب الجرائم ، وأقر الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير على الوزارة ، وتقدم بالإفراج عن الأجناد

٨٨

وزيادة من رأى استحقاقه من الأمراء ، وخلع عليهم ، وسير الأمير جمال الدين أقوش المحمدي بتواقيع الأمير علم الدين الحلبي ، فوجدوه قد تسلطن بدمشق ، فشرع الملك الظاهر في استفساد من عنده ، فخرجوا عليه ونزعوه عن السلطنة ، وتوجه إلى بعلبك فسيروا من حضره وتوجه به إلى الديار المصرية ، وصفا الشام للملك الظاهر بأسره في سنة تسع وخمسين وقد ذكرنا في سياق السنين مما تقدم جملا من أخباره وأحواله وفتوحاته وغير ذلك فأغنى عن إعادته.

ولما كان يوم الخميس رابع عشر المحرم من هذه السنة جلس الملك الظاهر بالجوسق الأبلق بميدان دمشق يشرب القمز وبات على هذه الحال ، فلما كان يوم الجمعة خامس عشرة وجد في نفسه فتورا وتوعكا ، فشكا ذلك إلى الأمير شمس الدين سنقر الألفي السلحدار ، فأشار عليه بالقيء فاستدعاه فاستعصى ، فلما كان بعد صلاة الجمعة ركب من الجوسق ، فلما أصبح اشتكى حرارة في باطنه ، فصنع له بعض خواصه دواء ، ولم يكن عن رأى الطبيب ، فلم ينجع وتضاعف ألمه ، فأحضر الأطباء ، فأنكروا استعمال الدواء ، وأجمعوا على استعمال دواء مسهل ، فسقوه فلم ينجع ، فحركوه بدواء آخر كان سبب الإفراط في الإسهال ، ودفع دما محتقنا ، وضعفت قواه ، فتخيل خواصه أن كبده تقطع ، وأن ذلك عن سم سقيه ، وعولج بالجوهر ، وذلك يوم عاشره ، ثم جهده المرض إلى أن قضى نحبه يوم الخميس بعد صلاة الظهر الثامن والعشرين من المحرم ، فاتفق رأي الأمراء على إخفائه وحمله إلى القلعة لئلا يشعر العامة بوفاته ، ومنعوا من هو داخل من المماليك من الخروج ، ومن هو خارج من الدخول ، فلما كان آخر الليل حمله من كبراء الأمراء سيف الدين قلاوون الألفي ، وشمس الدين سنقر الأشقر ، وبدر الدين بيسري ، وبدر الدين الخزندار ، وعز الدين الأفرم ، وعز الدين الحموي ، وشمس الدين سنقر الألفي المظفري ، وعلم الدين سنجر الحموي ، وأبو

٨٩

خرص ، وأكابر خواصه وتولى غسله وتحنيطه وتصبيره وتلقينه مهتاره الشجاع عنبر ، والفقيه كمال الدين الاسكندري المعروف بابن المنبجي ، والأمير عز الدين الأفرم ، ثم جعل في تابوت ، وغلق في بيت من بيوت البحرية بقلعة دمشق إلى أن حصل الاتفاق على موضع دفنه ، ثم كتب الأمير بدر الدين الخزندار إلى ولده الملك السعيد مطالعة بيده ، وسيرها على يد بدر الدين بكتوت الجو كنداري الحموي ، وعلاء الدين أيدغمش الحكيمي الجاشنكير ، فلما وصلا ، وأوصلا المطالعة ، خلع عليهما وأعطى كل واحد منهما خمسين ألف درهم ، على أن ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصرية.

ولما كان يوم السبت ركب الأمراء إلى سوق الخيل بدمشق على عادتهم ولم يظهروا شيئا من زي الحزن ، وكان أوصى أن يدفن على الطريق السابلة قريبا من داريا ، وأن يبنى عليه هناك ، فرأى الملك السعيد أن يدفنه داخل السور ، فابتاع دار العقيقي بثمانية وأربعين ألف درهم نقرة وأن يغير معالمها ، وتبنى مدرسة للشافعية والحنفية ويبنى بها قبة شاهقة يكون بها الضريح ، ويعمل دار الحديث أيضا ، فلما تم بناء القبة ومعظم المدرسة ودار الحديث ، جهز الملك السعيد الأمير علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص ، والطواشي صفي الدين جوهر الهندي إلى دمشق لدفن والده ، فلما وصلاها اجتمعا مع الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق ، وعرفاه المرسوم فبادر إليه وحمل الملك الظاهر ـ رحمه‌الله تعالى ـ من القلعة إلى التربة ليلا على أعناق الرجال ، ودفن بها ليلة الجمعة خامس شهر رجب الفرد من هذه السنة.

وفي سادس عشر ذي القعدة وقف الملك السعيد هو وعز الدين محمد ابن شداد بإذنه وتوكيله وحضوره المدرسة المذكورة والقبة مدفنا وباقيها مسجدا لله تعالى برسم الصلوات ، وقراءة القرآن العزيز ، والاعتكاف ، وباقي الدار مدرستين إحداهما شرقي الدار هي للشافعية ، والأخرى

٩٠

قبلي الدار إلى جانب القبة وهي للحنفية ، ودار حديث قبلي الإيوان المختص بالشافعية ووقف على ذلك جميع قرية الضرمان من شعراء بانياس ، وجميع قرية أم نزع من الجيدور ، وبهمين من بيت رامة من الغور ، ومزرعيتها الذراعة وشويهة ، وتسعة عشر قيراطا ونصف قيراط من قرية الأشرفية من الغوطة ، وبساتين ابن سلام الثلاثة وبستان الستسة وطاحونه والحمام على الشرف الأعلى الشمالي ، وكرم طاعة من بلد بانياس ، وخان بنت جز ، وخان بحكر الفهادين ، ورتب في التربة الملك الظاهر ناظرين في مصالح التربة ، وحفظ ما بها من الآلات لكل واحد منهما في الشهر ستين درهما ، ومؤذنا له في الشهر عشرون درهما وستة عشر مقرئا لكل واحد منهم خمسة وعشرون درهما ، منهم نفسان يزاد كل واحد منهما عشرة دراهم ، ويشتري في كل شهر شمع وزيت ، وما يحتاج إليه من التربة من الفرش والقناديل وآلات الوقيد بمبلغ ثمانين درهما ، وترتب في كل مدرسا له في الشهر مائة وخمسون درهما ، ومعيدان لكل واحد منهما أربعون درهما ، وثلاثين فقيها لأعلاهم عشرين درهما ، ولأدناهم عشرة دراهم وأن يصرف فيما تدعو الحاجة إليه من أجرة ساقي وإصلاح قنى وغير ذلك ، وثمن زيت ومسارج ، وقناديل ، وآلة الوقيد بالمدرستين في الشهر أربعون درهما ، وشاهدا ومشارفا وغلاما ، وجابيا وغيرهم لكل منهم ما يراه الناظر والنظر للملك السعيد مدة حياته ثم لولده وولد ولده.

وفي جمادى الآخرة من سنة سبع وسبعين وست مائة ، سير الملك السعيد برسم تتمة العمارة ، ومصالح الوقف إثني عشر ألف دينار ، وفي يوم السبت ثالث ذي القعدة سنة سبع وسبعين وقف عماد الدين محمد ابن الشيرازي بطريق الوكالة عن الملك السعيد جميع أحد عشر سهما وربع سهم ، وثمن سهم من قرية الطرة من ضياع الجبيل من إقليم أذرعات من عمل دمشق إلى المدرستين والتربة ، بعد أن انتقلت الحصة

٩١

إلى ملك الملك السعيد على ثماني قرى مضافين إلى القرى الست عشرة ، ويقر كل منهم خمس وعشرون ويزاد لكل مدرس رطلان خبزا مثلثا بالدمشقي ، ولكل خادم من الخادمين ، ولكل نفر بالتربة والفقهاء والمؤذنين والفراشين والبوابين في كل يوم ثلثي رطل خبزا أسوة بفراشي التربة ، ويصرف إلى مباشر الأوقاف والشاهد والمشارف لكل واحد رطلا خبز ، وأشهد الحكام على نفوسهم وسجلوا بثبوت ذلك.

في يوم الاثنين سادس عشر ذي القعدة سنة سبع وسبعين شرع في عمل أعزية الملك الظاهر بالديار المصرية ، وتقرر أن يكون أحد عشر موضعا نصبت فيه الخيمة العظيمة السلطانية ، وفرشت بالبسط الجليلة ، وصنعت الأطعمة الفاخرة ، واجتمع عليها الخواص والعوام ، وحمل منها إلى الربط والزوايا ، فإذا كانت ليلة اليوم الذي عمل فيه حضر القراء ، والوعاظ ، فانقضى الليل بين قراءة ووصل إلى صلاة الفجر ، وأول هذا الجمع بالبقعة المعروفة بالبقعة بجوار مسجد يعرف بالأندلسي ، والثاني بالحوش الظاهري ، والثالث بالمدرسة المجاورة لقبة الشافعي ـ رحمه‌الله تعالى ، والرابع بجامع مصر ، والخامس بجامع ابن طولون ، والسادس بالجامع الظاهري بالحسينية ، والسابع بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة ، والثامن بمدرسة الملك الصالح ، والتاسع بدار الحديث الكاملية ، والعاشر بالخانكاة برحبة العيد ، والحادي عشر بجامع الحاكم وهو يوم الأحد ، والثاني من شهر ربيع الأول ، وأنشد الشعراء المراثي ، وخلع على جماعة من الوعاظ وغيرهم ومن لم يخلع عليه أعطاه جائزة حسنة.

وله أولاد وأزواج : كان له من الأولاد : الملك السعيد ناصر الدولة محمد بركة ، كان مولده بالعشر من ضواحي مصر في صفر سنة ثمان وخمسين وستة مائة ، وأمه بنت حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمي ، والملك نجم الدين خضر أمه أم ولد ، والملك بدر الدين سلامش ، وولد له من البنات سبع من بنت سيف الدين دماجي التتري ،

٩٢

وأما زوجاته فأم الملك السعيد ، وهي بنت بركة خان ، وبنت الأمير سيف الدين نوكاي التتري ، وبنت الأمير سيف الدين كراي التتري ، وبنت الأمير سيف الدين دماجي التتري ، وشهرزورية تزوجها لما قدم غزة وحالف الشهرزورية ، فلما ملك الديار المصرية طلقها.

وأما وزراؤه : تولى السلطنة واستمر زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع ابن الزبير ، ثم صرفه واستوزر بهاء الدين علي بن محمد بن سليم ، وفي وزارة الصحبة ولده فخر الدين أبا عبد الله محمد إلى أن توفي في شعبان سنة ثمان وستين ، فرتب مكانه ولده الصاحب تاج الدين محمد ، وزر له في الصحبة أيضا أخوه الصاحب زين الدين أحمد ، ووزر له الصاحب عز الدين محمد ابن الصاحب محيي الدين أحمد ابن الصاحب بهاء الدين نيابة عن جده ، وكان له أربعة آلاف مملوك منهم أمراء أسفهسلارية ، ومقادمة ، وخاصكية داخل الدور ، وخاصكية خارجها ، وجمدارية ، وسلاح دارية وكتابية.

ومن عفته وشرف نفسه وعدله أن الملك الأشرف صاحب حمص كتب إليه يستأذنه في الحج ، وفي ضمن الكتاب شهادة عليه أن جميع ما يملكه انتقل عنه إلى الملك الظاهر ، فلم يأذن له في تلك السنة ، واتفق أنه مات بعد ذلك ، فتسلم الحصون التي كانت بيده ، ومكن ورثته من جميع ما تركه من الأثاث ، والملك ، ولم يعرج على ما أشهد به على نفسه.

ومنها أن شعراء بانياس وهي إقليم يشتمل على قرى كثيرة عاطلة بحكم استيلاء الفرنج على صفد ، فلما فتحها أفتاه بعض فقهاء الحنفية باستحقاق الشعراء فلم يرجع إلى الفتيا ، وتقدم أمره أن من كان له فيها ملك يتسلمه ، ولم يكلفهم بينة فعادت إلى أربابها وعمرت.

ومنها أن بستان سيف الإسلام بين مصر والقاهرة ، وكان ملكا لشمس الملوك أحمد ابن الملك الأعز شرف الدين يعقوب بن الملك

٩٣

الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ـ رحمهم‌الله تعالى ـ فتوفي المذكور بآمد ، وبقي البستان في يد ولده شهاب الدين غازي ، فلما ملك الملك الصالح نجم الدين الديار المصرية أخرج المذكور من مصر ، واحتاط على البستان ، فلم يزل تحت الحوطة ، فلما ملك الملك الظاهر رفع ولد شهاب الدين غازي قصة أنهى فيها الحال ، فأمر بحملها على الشرع فثبت ملك المتوفى بشهادة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور وبهاء الدين بن ملكشوا والطواشي صفي الدين جوهر النوبي ، وثبتت الوفاة ، وحضر الوراثة بشهادة كمال الدين عمر بن العديم ، وعز الدين محمد بن شداد فسلم لهما البستان ، ثم ابتاعه منهما بمائة وثلاثين ألف درهم.

ومنها أن بنت الملك المعز صاحب حلب كان عقد عليها الملك السعيد نجم الدين إيل غازي ، صاحب ماردين على صداق مبلغه ثلاثون ألف دينار مصرية ، فمات عنها ولم يدخل بها ، وكان الملك المظفر قطز ـ رحمه‌الله تعالى ـ قد احتاط على أملاك الملك السعيد بدمشق لما تملكها ، وبقيت تحت الحوطة.

فلما ملك الملك الظاهر رفعت قصة تذكر الحال وسألت حملها على الشرع ، وأن يفرج عن الأملاك لتباع في مبلغ صداقها ، فتقدم أن يثبت ما ادعته فثبت بشهادة كمال الدين ابن العديم ، ومحمد بن شداد ، ولم يكن بقي في الصداق غيرها فأفرج لها عن الأملاك فبيعت وقبضت ثمنها.

ومن حكمه أنه كان له ركابي وهو بدمشق يسمى مظفرا ، كان يأخذ الجعل من الأمراء الناصرية على نقل أخباره إليهم ، وتحقق ذلك منه ، وبقي معه إلى أن ملك واستمر به ، فدخل يوما إلى الركاب خانة ، فوجدها مختلة ، وفقد منها سروجا محلاة ، فالتفت إليه ، فقال له : نحسن في دمشق ونحسن في القاهرة ، متى عدت قربت الأسطبل شنقتك فقال : يا خوند إذا لم أقرب الأسطبل من أين آكل أنا وعيالي؟ فرق له ، وأمر أن يقطع في الحلقة بحيث لا يراه فأقطع ، وبقي إلى أن توفي السلطان.

٩٤

وكان يفرق في كل سنة أربعة آلاف إردب حنطة في الفقراء ، والمساكين ، وأصحاب الزوايا وأرباب البيوت ، وكان موصفا عليه لأيتام الأجناد ما يقوم بهم على كثرتهم ، ووقف على تكفين أموات الغرباء بالقاهرة ومصر ، ووقفا يشتري به خبز ، ويفرق في فقراء المسلمين ، وأصلح قبر خالد رضي‌الله‌عنه بحمص ، ووقف وقفا على من هو راتب فيه من إمام ومؤذن وقيم ، وعلى من ينتابه من البلاد للزيارة ، ووقف على قبر أبي عبيدة ابن الجراح رضي‌الله‌عنه ، وقفا لتنويره وبسطه وإمامه ومؤذنه ، وأجرى على أهل الحرمين بالحجاز الشريف ، وأهل بدر وغيرهم ما كان قطع في أيام غيره من الملوك الذين تقدموه ، وكان يسفر ركب الحجاز كل سنة تارة عاما ، وتارة صحبة الكسوة ، ويخرج كل سنة جملة مستكثرة يستفك بها من حبسه القاضي من المقلين ، ورتب في أول ليلة من شهر رمضان المعظم بمصر والقاهرة وأعمالها مطابخ لأنواع الأطعمة ، وتفرق على الفقراء والمساكين.

وأما مهابته ومنزلته من القلوب أن يهوديا دفن بقلعة جعبر عند قصد التتر لها مصاغا وذهبا ، وهرب بأهله إلى الشام واستوطن حماة ، فلما نفد ما كان بيده كتب إلى صاحب حماة قصة يذكر أمر الدفين ، ويسأله أن يسير معه من يحفره ليأخذه ، ويدفع لبيت المال نصفه ، فلم يتمكن من إجابة سؤاله ، وطالع الملك الظاهر بذلك فورد عليه الجواب أن يوجهه مع رجلين لقضاء غرضه ، فلما توجهوا ووصلوا الفرات امتنع من كان معه من العبور فعبر هو وابنه ، فلما وصل أخذ في الحفر هو وابنه وإذا بطائفة من العرب على رأسه ، فسألوه عن حاله فأخبرهم ، فأرادوا قتله ، فأخرج لهم كتاب الملك الظاهر مطلقا إلى من عساه يقف عليه فكفوا عنه ، وساعدوه حتى استخلص ماله ثم توجهوا به إلى حماة وسلموه إلى الملك المنصور ، وأخذوا خطه أنهم سلموا اليهودي إليه سالما وما تبعه.

ومنها : أن جماعة من التجار خرجوا من بلاد العجم قاصدين أبواب

٩٥

الملك الظاهر ، فلما مروا بسيس منعهم صاحبها من العبور وكتب فيهم إلى أبغا ، فكتب إليه يأمره بالحوطة عليهم وإرسالهم إليه ، واتفق أن هرب مملوك إلى حلب ، واجتمع بالأمير نور الدين علي ابن مجلي ، وأخبره بحالهم ، فكتب للملك الظاهر بذلك على البريد ، فعاد الجواب يأمره أن يكتب إلى صاحب سيس إن هو تعرض لهم في شيء يساوي درهما واحدا أخذتك عوضه ، فكتب إليه بذلك ، فأطلقهم وصانع أبغا بأموال جليلة.

ومنها : أن تواقيعه التي في أيدي التجار المترددين إلى بلاد القفجاق بإعفائهم من الصادر والوارد ، ويعمل بها حيث حلوا من مملكة بيت بركة ومنكوتمر ، وبلاد فارس وكرمان.

ومنها : أنه أعطى بعض التجار مالا ليشرى به مماليك ، وجواري من الترك ، فشرهت نفسه إلى المال فدخل به قراقرم واستوطنها ، فبحث الملك الظاهر حتى وقع على خبره ، فبعث إلى بيت منكوتمر في أمره فأحضروه إليه تحت الحوطة.

ومنها : أنه كان بجزيرة صقلية في زمان الأنبرتور مقدار خمسة عشر ألف فارس مسلمين ، وهم مهادنين لهم ، وهم في خدمته ، لهم الإقطاعات. فلما مات أشار من بها من الفرنج على من ملكها بعده بقتلهم ، فقتل منهم مفرقا نحو ثلاثة آلاف فارس ، واتصل بالملك الظاهر قتلهم والعزم على قتل الباقين ، فكتب إليهم : إن هؤلاء المسلمين أقرهم الملك الذي كان قبلكم على بلادهم وأموالهم ، فإما أن تقروهم على ما أقرهم من الهدنة ، وأما أن تؤمنوهم وتوصلوهم بأموالهم إلى بلاد المسلمين ليبلغوا مأمنهم ، فإن لم يقدروا على التوجه واختاروا الإقامة وجرى على أحد منهم أذى ، قتلت على كل من تحت يدي من أسرى الفرنج ، ومن في بلادي من تجارهم ، وقتلت ما اشتملت عليه مملكتي من طوائف النصارى ، فلما تحققوا ذلك اجتمع رأيهم على إبقائهم على عادتهم ، وكان أخذ نفسه بالاطلاع على أحوال أمرائه وأعيان دولته حتى

٩٦

لم يخف عليه من حالهم شيء ، وكثيرا ما كانت ترد عليه الأخبار وهو بالقاهرة بحركة العدو ، فيأمر العسكر وهم زهاء ثلاثين ألف فارس فلا يثبت منهم فارس في بيته ، وإذا خرج لا يمكن من العود.

ومنها : ما أحدثه من البريد في سائر مملكته بحيث تتصل به أخبار أطراف بلاده على اتساعها في أقرب وقت ، والذي فتحه من الحصون عنوة من أيدي الفرنج ، خذلهم الله : قيسارية ، أرسوف ، صفد ، طبرية ، يافا ، الشقيف ، أنطاكية ، بغراس ، القصير ، حصن الأكراد ، حصن عكار ، القرين ، صافيثا ، مرقية ، حلبا ، وناصفهم على المرقب ، وبانياس ، وبلاد انطرسوس ، وعلى سائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون ، وولى في نصيبه الولاة والعمال ، واستعاد من صاحب سيس درب ساك ، ودير كوش ، وبلمش ، وكفر دبين ، ورعبان والمرزبان. والذي صار إليه من أيدي المسلمين : دمشق ، وبعلبك ، وعجلون ، وبصرى ، وصرخد ، والصلت ـ وكانت هذه البلاد قد تغلب عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي بعد قتل الملك المظفر ـ رحمه‌الله تعالى ـ وحمص ، وتدمر ، والرحبة ، وزلوبيا ، وتل باشر ، وهذه منتقلة إليه عن الملك الأشرف صاحب حمص في سنة اثنتين وستين وست مائة ، وصهيون ، وبلاطنس ، وبرزية ، وهذه منتقلة إليه عن سابق الدين سليمان بن سيف الدين وعمه عز الدين ، وحصون الاسماعيلية وهي : الكهف ، والقدموس ، والمنيقة ، والعليقة ، والخوابي ، والرصافة ، ومصيات ، والقليعة ، وانتقل إليه عن الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل : الشوبك ، والكرك ، وانتقل إليه عن التتر : بلاد حلب الشمالية ، وشيزر والبيرة ، وفتح الله على يديه بلاد النوبة ، وفيها من البلاد مما يلي أسوان جزيرة بلاق ، ويلي هذه البلاد بلاد العلى ، وجزيرة ميكائيل ، وفيها بلاد وجزائر الجنادل وانكوا ، وهي في جزيرة وإقليم مكس ، ودنقلة ، وإقليم أشوا ، وهي جزائر عامرة بالمدائن ، فلما فتحها أنعم بها على ابن عم المأخوذة منه ، ثم ناصفه عليها ووظف

٩٧

عليه عبيدا وجواري وهجنا وبقرا ، وعن كل بالغ دينارا في كل سنة ، وكانت حدود مملكته من أقصى بلاد النوبة إلى قاطع الفرات ، ووفد عليه من التتر زهاء ثلاثة آلاف فارس ، فمنهم من أمره بطبلخاناة ، ومنهم من جعله أمير عشرة إلى عشرين ، ومنهم من جعله من السقاة ، وجعل منهم سلحدارية وجمدارية ، ومنهم من أضافه إلى الأمراء.

وأما مبانيه فمشهورة : منها ما هدمه التتر من المعاقل والحصون ، وعمر بقلعة الجبل دار الذهب ، وبرحبة الجامع قبة محمولة على اثني عشر عمودا من الرخام الملون ، وصور فيها سائر حاشيته وأمرائه على هيئتهم ، وعمر طبقتين مطلتين على رحبة الجامع ، وغشى لبرج الزاوية المجاور لباب السر ، وأخرج منه رواشن ، وبنى عليه قبة ، وزخرف سقفها ، وأنشأ جواره طباقا للمماليك ، وأنشأ برحبة القلعة دارا كبيرة لولده الملك السعيد ، وكان في موضعها حفير ، فعقد عليه ستة عشر عقدا ، وأنشأ دورا كثيرة برسم الأمراء ظاهر القاهرة مما يلي القلعة أسطبلات جماعة ، وأنشأ حماما بسوق الخيل لولده ، وأنشأ الجسر الأعظم والقنطرة التي على الخليج ، وأنشأ الميدان بالبورجي ، ونقل إليه النخيل من الديار المصرية ، فكانت إجرة نقله ستة عشر ألف دينار ، وأنشأ به المناظر ، والقاعات ، والبيوتات ، وجدد الجامع الأنور والجامع الأزهر ، وبنى جامع العافية بالحسينية ، وأنفق عليه فوق ألف ألف درهم ، وأنشأ قريبا منه زاوية الشيخ خضر ، وحماما ، وطاحونا ، وفرنا ، وعمر على المقياس قبة رفيعة مزخرفة ، وأنشأ عدة جوامع في أعمال الديار المصرية ، وجدد قلعة الجزيرة ، وقلعة العامودين ببرقة ، وقلعة السويس ، وعمر جسر سهم الدين بالقليوبية ، وجدد الجسر الأعظم على بركة الفيل ، وأنشأ قنطرته وبنى على جانبيه حائطا يمنع الماشي السقوط فيه ، وقنطرة على بحر ابن منجا ، لها سبعة أبواب ، وقنطرة بمنية الشيرج ، وقنطرتين عند القصير على بحر أبراس بسبعة أبواب أوسطها تعبر فيه المراكب ،

٩٨

وأنشأ في الجسر الذي يسلك فيه إلى دمياط ستة عشر قنطرة ، وبنى قنطرة على خليج القاهرة يمر عليها إلى ميدان البورجي ، وبنى على خليج الاسكندرية قريبا من قنطرتها القديمة قنطرة عظيمة بعقد واحد ، وحفر خليج الاسكندرية وكان قد ارتدم بالطين ، وحفر بحر أشموم وكان قد غمر ، وحفر ترعة الصلاح وخورسرخشا ، وحفر المجايري ، والكافوري ، وترعة كنساد وزاد فيها مائة قصبة عما كانت في الأول ، وحفر في ترعة أبي الفضل ألف قصبة ، وحفر بحر الصمصام بالقليوبية ، وحفر بحر السردوس ، وتمم عمارة حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمل منبره ، وأحاط بالضريح درابزينا ، وذهب سقوفه وجددها وبيض جدرانه ، وجدد البيمارستان بالمدينة النبوية ونقل إليها سائر المعاجين والأكحال والأشربة ، وبعث إليه طيبا من الديار المصرية ، وجدد قبر الخليل عليه‌السلام ، ورم شعثه ، وأصلح أبوابه وميضأته وبيضه وزاد في راتبه المجرى على قوامه ومؤذنيه وإمامه ، ورتب له من مال البلد ما يجري على المقيمين به والواردين عليه ، وجدد بالقدس الشريف ما كان قد تداعى من قبة الصخرة ، وجدد قبة السلسلة وزخرفها ، وأنشأ خانا للسبيل ، نقل بابه من دهليز كان للخلفاء المصريين بالقاهرة وبنى به مسجدا وطاحونا وفرنا وبستانا ، وبنى على قبر موسى عليه‌السلام قبة ومسجدا ، وهو عند الكثيب الأحمر قبلي أريحا ووقف عليه وقفا ، وبنى على قبر أبي عبيدة ابن الجراح رضي‌الله‌عنه مشهدا ومكانه من الغور بعمواس ووقف عليه وقفا ، وجدد بالكرك برجين كانا صغيرين فهدمهما وكبرهما وعلاهما. ووسع مسجد جعفر الطيار رضي‌الله‌عنه ، ووقف عليه وقفا زيادة على وقفه على الزائرين له والوافدين عليه ، وعمر جسرا بقرية دامية بالغور على الشريعة ، ووقف عليه وقفا برسم ما عساه يتهدم منه ، وأنشأ جسورة كثيرة بالغور والساحل ، وأنشأ قلعة قاقون وبنى بها جامعا ووقف عليه وقفا ، وبنى على طريقها حوضا للسبيل وجدد جامع مدينة الرملة وأصلح مصانعها ،

٩٩

وأصلح جامعا لبني أمية ، ووقف عليه وقفا ، وأصلح جامع زرعين وماعداه من جوامع البلاد الساحلية التي كانت في أيدي الفرنج ، وجدد باشورة القلعة بصفد وأنشأها بالحجر الهرقلي ، وعمر لها أبراجا وبدنات وصنع له بغلات مسفحة ، دائر بالباشورة بالحجر المنحوت ، وعمل لأبراجها طلاقات ، وأنشأ بالقلعة صهريجا كبيرا مدرجا من أربع جهاته وبنى عليه برجا زائدا للارتفاع ، قيل : إن ارتفاعه مائة ذراع بحيث أن الواقف عليه يرى الماشي على الخندق دائر القلعة ، وبنى تحت البرج الذي للقلعة حماما ، وصنع الكنيسة جامعا ، وأنشأ ربضا ثانيا قبله بغرب ، وكان الشقيف قطعتين متجاورتين فجمع بينهما ، وبنى به جامعا وحماما ، ودارا لنائب السلطنة وكانت قلعة الصبيبة قد اختربها التتر ، ولم يبقوا منها إلا الآثار ، فجددها ، وأنشأ لجامعها منارة وبنى بها دارا لنائب السلطنة ، وعمل جسرا يمشى عليه إلى القلعة وكانت التتر هدموا شراريف قلعة دمشق ، ورؤوس أبراجها فجدد ذلك جميعه ، وبنى فوق الزاوية المطلة على الميادين ، وسوق الخيل طارمة كبيرة ، وجدد منظرة على قاعدة مستجدة على البرج المجاور لباب النصر ، وبيض البحرة وجدد دهان سقوفها وجعل بها درابزينا يمنع الوصول إليها ، وبنى حماما خارج باب النصر ، وجدد ثلاث اسطبلات على الشرف الأعلى ، وبنى القصر الأبلق بالميدان وما حوله من العمائر ، وجدد مشهد زين العابدين رضي‌الله‌عنه بجامع دمشق ، وأمر بغسل الأساطين وتدهين رؤوسها ، وأمر بترخيم الحائط الشمالي ، وتجديد باب البريد ، وفرشه بالبلاط ، ورم شعث قبة الدم وبيضها ، وبنى دور ضيافة للرسل والواردين والوافدين مجاورة للحمام ، وسوق الخيل ، وجدد البنيان لما هدموه من قلعة صرخد ، وأصلح جامعها ومساجدها ، وكذلك فعل ببصرى ، وعجلون والصلت ، وجدد ما كان التتر هدموه من قلعة بعلبك ، وجدد بابها والدركاة ، وجدد قبر نوح عليه‌السلام بقرية الكرك ، وعمل حول الضريح درابزينا ، وجدد أسوار حصن الأكراد وعمر قلعتها ، وكانت قد تهدمت

١٠٠