تاريخ صفد

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني

تاريخ صفد

المؤلف:

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

فمن أصحابه المشغوفين بصحبته ، الملازمين لحضرته العبد الضّعيف محمّد العثماني ، صاحب هذا التّأليف ، لزمته للعلم والسّلوك مدّة حياته ، فلم أفارقه في مجلسه وخلواته ، وبمجرّد انقطاعي لضرورة عظيمة يحضر بنفسه الكريمة ، وكان يمتدح بصحبتي ، ويظهر رغبة أعظم من رغبتي ، جمع الله الشّمل به في دار الكرامة ، وجعله من الآمنين يوم القيامة.

ومن أفضل أصحابه ، وأعزّ أحبابه ، بل كان عن تحقيق يعامله النّظير والرّفيق ، الشيخ سراج الدين عبد اللطيف الاسكندري ، ورد على صفد وأقام حتّى عدّ من أهلها لطول المقام ، القاضي الصالح ، القائم في المصالح ، العالم العامل ، الزّاهد العابد ، الورع المحقق ، المعمّر المنوّر العارف ذو العلوم والمعارف ، والكرامات واللطائف ، تولّى القضاء في سائر جهات المملكة الصفدية في نحو سبع وثلاثين سنة ، ومع ذلك لا يملك دينارا ولا درهما ، بل يقنع بالقوت حين تحقق أنّه يموت ، وهو الأخ الشّفوق ، والصّاحب الصّدوق ، الوافي بالحقوق لا يفتر عن الاشتغال على أيّ حال من الأحوال ، أسره الأفرنج فحصل ببركته له ولأصحابه في أسرع وقت الفرج ، وحدّث عن كراماته ولا حرج ، وله عليّ فضل ومنّة جمعني الله وإيّاه في الجنّة ، سئل عنه في المنام خير العالمين ، فقال : هو من الصالحين ، أدرك جماعة من الأطواد المقتدى بهم بين العباد : الشيخ ياقوت الاسكندري ، والشيخ داود ، وقاضي القضاة فخر الدين بن مسكين ، ومما حكاه عنه من الغرائب عن عمّه الشيخ زين الدين بن مسكين الفقيه الشّافعي الترتيني شيخ ابن الرّفعة ، عن صاحب الوقعة المعروف بقراقوش ، وكان من الصالحين.

حكايته في دخول الحمّام المشهورة وكل ليلة ، وقراءة الجن عليه وإعطائهم الدراهم له ، ثمّ قال ابن مسكين : هذا نقل العدل عن العدل.

ومنهم الشيخ شرف الدين ذو العلم والدين ، والزّهد والتّمكين ، من بالقدر راضي ، العيلوطي القاضي ، كان من الصالحين الأخيار ، والعلماء

٢٠١

الأبرار ، والزّهّاد العبّاد المجتهدين في الزّاد للمعارف ، والورع العارف والمجاهد الكاشف ، سعينا له في وظيفة القضاء ، للعلم بحاله ، وضعف عياله في خدمة شيخنا ابن الرّسّام ، عند شيخنا قاضي القضاة ابن الخابوري ، فولّاه الشّاغورين ، قال : قبلت أحدهما فهو يكفي ، ما أصنع باثنين ، لا بدّ في الطّلبة من حاله كحالي ، فهذا له ، وهذا لي ، فقال شيخنا ابن الخابوري : سبحان الله ربّ العالمين ، هذا والله من الصالحين ، ثمّ طلب دعاءه ، وأكبر ثناءه ، فغاب دون الشهر ، فعاد إلينا فلمّا دخل علينا قلنا له : ما سبب هذا الحضور؟ فقال : استغنيت والله المحمود المشكور ، فقلنا بماذا؟ فقال كتبت بعشرين وخطّبت بعشرين ، وهل يحسن السّعي في الدنيا وقد فتح بأربعين ، وتهيّأ لنا من الغلة ثمانية أكيال نقطع بها الشتاء ، فهذه جملة وما بعد هذا إلّا السّرف ، فرحم الله من قنع واعترف ، فغبطناه على هذه الفضائل ، وعضضنا ندما وحزنا على الأنامل ، مات شهيدا بالطّاعون الكبير ، وصار إن شاء الله إلى نعم النّصير.

ومنهم الفقيه المشهور ، والعالم المذكور ، القاضي ناصر الدين منصور ، كان كبير القدر ، قديم الهجرة يشتغل ويشغل ، ولا يمل ولا يبطل ، وهو من الأجلاء أصحاب الرّسّام ، وله اشتغال كثير على المشايخ بالشام ، وأدرك الشيخ نجم الدين ، وأخذ عنه ، وتخرّج به وشيخ الإسلام برهان الدين بن القرداح ، وكان يشتغل بجامع صفد الظّاهري ، وتولّى القضاء بجهات كثيرة ، ومات بالطّاعون الكبير شهيدا ، وحصّل دنيا عظيمة ، ثمّ وضعها بصندوق وأودعها عند بعض التّجّار بالسّوق ، فمرض وخرس منه اللسان ، ومات فضاع ماله لعدم البيان ، فتعب طول حياته ، وفرط عند وفاته ، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

ومنهم الفاضل اللطيف ، والذّكي الظّريف ، والدّيّن العفيف ، القاضي شرف الدين النّصيبيني ، الحاكم الشّفيق ، من الفقهاء الأدباء ، والبلغاء الخطباء ، اشتغل وارتحل وحصّل وتفنّن وصنّف ، وعلّق ونظم عقيدة في

٢٠٢

فنّها فريدة ، وعمل لي أبيات اقترحتها عليه في بعض الأوقات فصادفت ولاء عظيما فخطبها عندي عظيما ، فمنها :

حتام اجتهد في الحطام وأرغب

وعلام لا أبكي الزمان وأندب

أسرتني الشهوات إما منصب

أو ملبس أو مأكل أو مشرب

سودت بيض صحائفي بقبائح

تحصي علي الزمان وتكتب

بعد ما تفوت الأربعين لعاقل

في هذه الدنيا لعمري مطلب

ومنهم الفاضل الرئيس ، شيخ التّدريس القاضي بدر الدين الحمراوي ، سيّد كبير ، ومفنن نحرير ، أخذ عن شيخ الإسلام علاء الدين الرّسّام ، وله في معرفة الشروط قلم جيد ، ولسان مبسوط ، وهو من الإخوان الأقدمين والأخيار المقرّبين ، وحججنا جملة عدة ، ولمّا تولّيت القضاء فوّضت إليه أمور المسلمين وصار هو المشار إليه مدّة سنين ، ثمّ وقع في قلبه شيء من الحسد ، إذ الحسد في كل جسد ، فظنّ الرّعاع أنّ ما بيننا من المودّة قد فسد ، فعلمت أنّ الشيطان قد نزع بيننا فقلت التي هي أحسن ، فأصلح الله حالنا ، ودفع كيد الشيطان ، وعدنا ولله الحمد إخوانا وودنا كما كان ، وآثرته بتدريس البلد ، فأسفى السبب المقتضي للحسد ، ولو ذكرنا الموت لهانت علينا جميع الأشياء ، وكل ما الناس فيه فمصيره إلى الفناء.

ومنهم الخطيب صاحب الطريق الأحسن ، المشتغل في كثير من الفنون ، شمس الدين ابن ميّاس ، خطيب عين الزيتون ، تخرّج بشيخ الإسلام علاء الدين بن الرّسّام ، اجتهد وجدّ حتّى نبل واعتدّ ، وله بالفرائض معرفة جيدة ، وولي القضاء بجهات متعددة ، ثم اجتمع على الإنابة وقنع بالخطابة.

وممن ورد على صفد وأقام حتّى عدّ من أهلها لطول المقام الشيخ الإمام ، أحد فقهاء الأنام ، شرف الدين منصور بن جماعة ذو الفضيلة

٢٠٣

والبراعة العراقي الشّافعي ، أخذ عن الأعلام بالشام ، ثمّ رغب في الإقامة عندنا فأقام ، ففتح عليه بتداريس مناسبة ، وتأكدت بيني وبينه المصاحبة ، ثمّ استميل عنّي فمال ، ثمّ ندم واستقال ، فذهب ما كان من الوحشة وزال ، رعاية لقديم صحبته وسابق إحسانه ومحبّته ، وصار عليّ شفوقا ، وفي محبّتي صدوقا ، وإن عاد إلى الخباط فآخر الليل تسمع العياط.

ومنهم الشيخ الكبير الأصيل ، ذو الفنون والتحصيل ، والعلم المستطيل ، والوصف الجميل ، شيخ الأدب ، ومحيي سنّة العرب ، بمكارمه الغامرة ، وأشعاره الباهرة ، فكم له من بديع مقامة ، إذا تدبّرها قس اعترف له بالإمامة ، وكم له من قصيد عظيم لو سمعه امرؤ القيس لأقرّ بالتّقديم ، القاضي زين الدين عبد الله الزّبيري ، هو من أجلاء قضاتي وإخواني ، وأهل مولاتي لحسن أخلاقه وعدم نفاقه ، وأمّا في الكرم والسّماح فحدّث عنه ولا جناح ، جعلني الله وإيّاه من أجلّاء المتّقين آمين.

ومن علماء صفد وأكابرها وأفاضلها جدّي الخطيب ، شرف الدين الحسين بن الكمال ، كان رئيسا فاضلا ، عالما مفتيا كاملا في ذكائه ، كالنّار الموقدة ، وفي حيائه كالعذراء المنضدة ، وكان صالحا تقيّا بارّا ذكيّا اشتغل على الأطواد ، ورحل إلى أطراف البلاد ، فحصّل جملة من العلوم الشّرعيّة والأدبيّة والرّياضة ، وله طريقة لطيفة في الكتابة ، وتفرّد في علم الهيئة ، واخترع أشياء فيها لم يسبق إليها ، وقرأ القراءات السبعة بالقاهرة ، وبرع في علم الحساب حتّى فاق أهل عصره ، وله مصنّفات لطيفة ، ونظم رقيق ، من ذلك الأبيات التي تقدّم ذكرها في أوّل الكتاب ، وكان يحب الزّهد والانقطاع ، رأيته بمنامي بعد موت والدي على هيئة حسنة ، وأخبرني أنّه جدّي وقال لي : رتّب لأبيك ولا ترتب لي ، فقلت : نعم أرتب لك فظننت في النّوم أنّه يعني معلوما ، فلمّا تيقّظت ، علمت أنّه قصد القراءة والدعاء ، وكان شيخنا علاء الدين بن الرّسام يطنب في الثّناء عليه ، ويقول كان حسن الخلق والخلق ، عظيم اللطف والأناة والسّكون ، مع الدّيانة الوافرة ،

٢٠٤

وكان الخلق كلّهم عنه راضون ، ومات شابا دون الثّلاثين ، رآه والدي بعد وفاته بالمنام ، فذكر أنّه في خير وافر الأقسام ، فقال : ألّا تحضره لديك لتطمئن برؤيتهما؟ فقال : كل يوم أراهما عند مجيئها لقرائتهما.

وولده هو والدي الشيخ شرف الدين عبد الرحمن من السادات الأكابر ، والصالحين الأماثل ، سلك في صغره طريق جدّه الكمال ، واقتدى به في شريف الخلال ، من الصلاة الحسنة ، والصوم المحفوظ ، والذّكر الكثير ، والصّمت في محلّه ، وكثرة تلاوة القرآن ، ودوام التّهجّد والبكاء ، والتّضرّع في ظلمات الليل ، ولين الجانب ، وحسن الخلق ، وتربية الأيتام ، وكفالة الأرامل ، وعيادة المرضى وتشييع الجنائز ، وكثرة الإنفاق والبذل حتّى لا يقتني شيئا أبدا بل ينفق كل ما جاء ، ولم أر أحيا وجها منه ، ما كان يثبت وجهه في وجه أحد ، لزمته وأخذت عنه نحو عشر سنين ، فلم أره ليلة ينام كما تنام النّاس ، ولقد رأيته ليلة قام فصلّى ، ثمّ بكى وسجد باكيا ، ومكث يبكي ويمرّغ وجهه ، وطال سجوده ، وانقطع حسّه حتّى ظننت أنّه فارق الدنيا فهممت بالقيام إليه فسمعته يقول شابت لمتي ، وضعفت قوّتي ، وكبرت جرمتي ، وقلّت حيلتي ، فعلمت أنّه حي ، وكان عالما عاملا ، حفظ القرآن العظيم ، والتّنبيه في الفقه ، والجمل في النّحو ، والخطب النّباتيّة ، وكان له معرفة جيدة في أصول الدين ، والعربية ، فإنّه أخذ أولا عن عمّه الشيخ نجم الدين ، وأخذ الفقه عن الشيخ برهان الدين بن الفركاح ، والشيخ شرف الدين الفزاري بدمشق ، واجتمع بجماعة من الأكابر في العلم والزّهد ، وله معرفة في علم الشروط ، وله فيه وفي غيره مصنّفات ، وله نظم لطيف ، ومقامات ، ومات في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وعمره ثمان وخمسون سنة ، رأيته بعد وفاته ، فقلت :أخبرني عمّا لقيت؟ فقال : وقفت بين يدي الله عزوجل ، فقلت : فما قال لك؟ قال لي : من أنا؟ قلت : فما قلت له؟ قال : قلت أنت الله الذي لا إله إلّا أنت رب الأرباب ، قلت : فما قال لك؟ قال : قال لي : هذه الجنّة

٢٠٥

فادخلها ، ثمّ رأيته مرّة أخرى ، فقلت له : أخبرني عن أعجب ما رأيت في الدنيا ، فقال : إن أعجب ما رأيته كتبته بورقة ، وهي بالكيس الأزرق أولها : «كتبت» ، فقلت : لا أعلم ما أوله «كتبت»؟ فقال : اتني بدواة وورقة ، ثمّ املاني ثلاثة أبيات ، ثمّ تيقظت وفتّشت الكيس الأزرق فوجدت الورقة بعينها ، وإذا هي قصيدة من نظمه وهي هذه الأبيات :

كتبت بطرس راحتي وبناني

خطا يسهل مقلة الوسناني

فإذا وقفت عليه كن متدبّرا

معنى المقال بفهم ذي عرفاني

اعلم بأنّي من سراة أولي الحجى

قرشي حقيقا من بني عثمان

من عبد شمس أهل كل كريمة

شم الأنوف ومعدن الضيفاني

أرقى المنابر خاطبا ومذكرا

بفصاحة خلقت بطي لساني

قد كان غصن شيبتي متأنفا

اختال عجبا مثل غصن الباني

وإذا مررت على الحسان تشوّقت

عند بدير لواحظ الغزلاني

وتميط كل خريدة لخمارها

حتّى تبين قلائد العقياني

وإذا سمعت بأنني في مربع

أمنية يهززن قضيب الباني

فمضى الشباب وشاب عارض لمتي

وابيّض فودي وانقضت أزماني

فإذا رأتني الحور في خطراتها

سترت محاسنها لحي يراني

فقطعت أيام الشباب بغفلة

في روض لهو راتعا بأماني

ودنا المشيب مبينا عن رحلتي

فنظرت من وجلي إلى ديواني

فوجدته كالليل مما قد حوى

من معظم الزلّات للحرماني

فجهدت على أن أنال مثوبة

ألقى بها ربي الذي انشاني

هيهات فات زمان تحصيل العلا

ماذا أحصل والمشيب دهاني

واخجلتى مما جنيت لشقوتي

كيف المقال لعالم الكتماني

فبكيت حزنا إذ مضى زمن الصّبا

في غفلة وغياه الخسراني

وتنغصت نفسي الحياة فلم تطب

والموت أصبح نازل بعناني

٢٠٦

وعضضت من ندمي أنامل راحتي

ودعوت للحنان والمناني

وسألته صفح الجميل عن الخطا

وقبول توبة مذنب حيراني

من لي فأرجو غيره لشدائدي

وهو الكريم وصاحب الغفراني

فاحتل لنفسك يا بني بحيلة

تنجو بها من روعة الفتناني

واقلع عن الأحزاب إنّك راحل

فانقذ لنفسك من شقا النيراني

خذها إليك وصية من ناصح

عذل الزمان يساعد ويداني

هذا كان ما قاله ، ثمّ عزله خطيب الموصل ، ثمّ ظهر أنّ ما قاله أرق وهو جائز على لغة ثلاثة قبائل من العرب ، وولد لوالدي شرف الدين جماعة من البنين منهم العبد المسكين وأخوه علاء الدين ، والخطيب شهاب الدين ، والقاضي شرف الدين ، والخطيب بدر الدين ، وكانت والدتهم شريفة ، سألت والدهم عند وفاته كيف يكون حالي بهؤلاء الأولاد ، مع طول الزمان ، وتقلّب حالاته ، وأنت لا تترك لهم دينارا ولا درهما؟ فقال : قد فوّضت أمرهم إلى ربّ الأرض والسّماء ، فلمّا مات حفظت صحبته إلى الممات ، ولم تنم على غير الأرض كشفا ، ولم تزل تبكي حتّى جاءها الموت لطفا ، وحكت أنّها بكت في بعض الليالي ، ونامت فرأته فابتهجت وقامت ، فقال : ممّ بكاؤك فقد طال وزاد؟ فقالت : إنّما أبكي على الأولاد ، فقال : ألم أقل لك يا ضعيفة اليقين أنّني فوّضت أمرهم إلى ربّ العالمين ، وأبشري بما يحب قلبك ويرضاه ، فكلّهم خطباء وقضاة ، أمّا العبد فقد عمل من صغره إلى كبره بإنعام يعجز طول عمره عن شكر أيسرها ، وباقي إخوتي ولله الحمد كما يسرّ أحبّتي ، لهم من فضل الله أوفر نصيب ، وكل منهم قاضي وخطيب ، اللهم زدهم توفيقا ولا تجعل لهم إلى الشّرّ طريقا.

وأمّا أخي القاضي علاء الدين كان من العلماء العاملين ، والفقراء الصالحين ، حسن الخطابة والتّدريس ، ماهرا في الفتوى والحكم ، باشر نيابة الحكم بصفد فوق عشرين سنة ، وولي التّدريس بالجامع الظّاهري ،

٢٠٧

ولما بنى المقري الشّهابي ابن صبح الجامع الجديد ، فوّض إليه التّدريس والخطابة والنّظر بالجامع المذكور ، ثمّ مات رحمه‌الله بعد أن حجّ حجّات كثيرة ، عقيب وصوله من الحج سنة تسع وخمسين وسبعمائة ، وله ثمان وثلاثون سنة ، وكان حسن الأخلاق عظيم التّواضع مطرح جدا ، عصبي يقوم في قضاء الحاجات ، ويحلل المشكلات ، ولا يهاب ملكا ولا غيره ، عظيم السّخاء ، لو ملك ألف درهم أنفقها في ساعته ، ولمّا مات لم يخلّف شيئا من الدنيا قط ، وله تلاميذ ومصنّفات ، فمن مصنّفاته كتاب النّافع في الفقه ، وهو كتاب نفيس لطيف كثير الفوائد ، وأمّا تلاميذه فجماعة منهم : الصّاحب الشّفوق ، والمحب الصّدوق ، العالم الفاضل الذّكي ، ذي الأصل الأصيل البارع ، النّبيل غزير المروءة ، حافظ الأخوّة صاحب العصبية المهمات والحميّة وقت الملمّات والمكارم الحاتميّة والجود والأريحيّة ، من حاله سماوي ، الشيخ زين الدين البعناوي ، لزمه وتخرّج به ، وكان عزيزا عليه ، وما ضاع إحسانه فيه وفاء له بالصّحبة ، ولنا من بعده في الجود والمحبّة.

ومنهم الوفي بالحقوق ومن يربو على الأهل ويفوق ، ذو العلم والدين ، والفضل المبين ، والإيمان المتين ، الشيخ بهاء الدين عبد الكريم الشافعي ، وكان مملوكا للأمير أحمد ، وكان من الصّغر في الخير يجهد ، فنسب إلى الديانة ، وعرف بالصّيانة ، رأيته في بعض الأسفار ، فتفرّست فيه أنّه من الأخيار ، فلم تمض إلّا مدّة يسيرة حتّى رغب فينا ، وهجر أميره فلاطفه وهدّده ، فلم يرجع عمّا قصده ، فلمّا عرف منه الصّدق وحققه سلّم حاله إليه ، وأطلقه ، وبنى المدرسة وفوّض أمرها إليه ، وأكرمه وأقبل عليه ، فجدّ في العلم وتحصيله في سائر الأوقات ، وصحب أخي علاء الدين حتّى مات ، ثمّ لزمني فرأيته على أحسن الحالات ، ثمّ قرأ عليّ كتبا ، وعرضها مطربا ، فبرع وبحث ودرس وغمرنا بأنواع

٢٠٨

الفضل ، فزوّجته بابنة أخي ، وصار من أعزّ الأهل زاده الله منّة ، وجمعني الله وإيّاه في الجنّة.

ومنهم ولده وتلميذه ، الشيخ الصالح ، الزّاهد العابد ، الورع الدّيّن ، الذّكي المدقق شمس الدين بن محمد سعيد الحوراني الصفدي ، كان يحضر عندي صغيرا ، فأفترس فيه الخير ، فأوصيت عليه أخي علاء الدين فأحبّه وأكرمه ، ولزم بابه ليلا ونهارا على مصطبة بدهليزه وثوقا بدينه ونزاهته ، فتفقه وعلم ، ثمّ مات الأخ علاء الدين رحمه‌الله تعالى ، فلزمني ليلا ونهارا ، وجدّ في الطّلب حتّى صار من العلماء ، وأعانه على ذلك ذكاءه ، وحفظ كتبا كثيرة ، كان يسردها من غير كتاب ، ثمّ برع وفاق حتّى صار يبدي غرائب في الفقه ، فتوجد منصوصا عليها ، فكان يفتي معي ، ويعينني على التّصنيف ، وكان كثير النّفع للخلق ، شديد الاعتناء بطلب العلم ، كثير التّلاوة للقرآن ، ثمّ مات وهو شاب صغير السّن ، فلو عمّر لاحتاج إليه أكابر العلماء ، فكانت له الجنازة العظيمة التي لم ير مثلها بصفد ، ورأى إنسانا طيورا خضراء ترفرف على نعشه ، فغشي على الرّجل وحمل ، ثمّ أخبر بذلك الأمر الغريب ، ثمّ مات عن قريب.

وممّن توطّن صفد وأقام شيخ الإسلام وبقيّة السّلف الكرام ، ومن قصدت أن أختم بذكره الكلام على المشاهير من العلماء الكرام ، شيخنا وبركتنا ، الشيخ زين الدين عمر بن هدبة بن يونس الصّالحي ، المقرىء شيخ الصفدية وبركتها وإمامها وقدوتها ، تفرّد بعلم الكتاب والسّنّة ، وقطع عمره في الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنّة ، فأتقن القراءات السبعة ، والعشرة بهمّة عليّة ، وبرع في علم التّفسير ، والعربية ، وأتقن علم الحديث الشريف حتّى احتيج إليه في الأمصار الكبيرة ، ولكنّه رأى قلبه اجتمع عليه في هذه البلدة الصغيرة ، فنفع الخلق بعلمه الباهر وألحق الأصاغر بالأكابر ، فإنّه قرأ عليه الآباء والأبناء ، ووصل إلى قريب التسعين ، وعليه النّور والبهاء ، وقوّته وسمعه وبصره لم يتغيّر شيء منها ،

٢٠٩

وحجّ حجّات كثيرة ، وبني له في داره تربة حسنة منيرة ، لا يكاد يخرج منها إلّا لضرورة ، وجعل عند رأسه خابية مسبلة لها نفع ماء أعمّه ، وأجزل له ، وقف داره والبئر والفرن على تربته ، وانقطع للعلم الشريف وخدمته وهو باق ولله الحمد مجتهدا في نفع الخلق ، ورضى الحق ، وله ميعاد نهار الجمعة بالجامع تخشع منه القلوب ، وتجري فيه الدّموع ، وكم تاب فيه من تاب ، وكم نيل فيه من طالب ، ومن حين جلوسه على الكرسي ينتحب ويبكي ، فإذا شاهده الناس على هذه الحالة ، وقد ألبسه الله النّور والجلالة خشعوا وتضرّعوا ، ثمّ أنصتوا واستمعوا ، فإذا سمعوا جواهر قوله تصارخوا من حوله ، فلو لم يكن له من الأعمال إلّا هذا الميعاد لكفاه في الزّاد إلى المعاد ، وله أصحاب يلازمونه ويحبّونه فتح عليهم من صحبته وانتفعوا ببركته.

فمن أصحابه الأكابر وأحبابه الأماثل الشيخ جمال الدين يوسف العكبري ، صحبه زمانا طويلا فتخرّج به وبرع في علم القراءات ، واشتهر بحسن الصّوت ، والفصاحة ، ثمّ اختصّ بصحبة القضاة من أيام شيخنا الخضري وإلى آخر وقت فصار معدودا من الفقهاء مطّلعا على غوامض الأشياء وشكله من أحسن الأشكال ، وبحسن طريقه ضربت الأمثال.

ومنهم الذّكي الفهم ، والطّبع السّليم ، والطّريق المستقيم ، جمال الدين إبراهيم المعروف بابن الطّرابلسي ، كان أبوه من الجند بالقلعة ، فأحضره إليّ ، وقال : هذا قد خرجت لكم عنه ، ابتغاء ما عند الله ، فلزمني مدّة فوجدت عنده ذكاء وفصاحة ، فأشرت عليه وعلى والده ، أن يلازم الشيخ زين الدين لتشمله بركته ، فلزم الشيخ ليلا ونهارا ، فحنّ عليه وكابد معه حتّى برع ، وفاق ، فقرأ القراءات السبعة ، وأجازه بها ، ثمّ درّبه في قراءة الحديث حتّى مهر فيها ، وهو باق في خدمته ملازم لصحبته.

ومنهم العالم العامل ، المتعفّف الحامل ، المفنّن الكامل ، ذو الفضل

٢١٠

الجزيل ، الشيخ غرس الدين خليل ، عرف بابن الفقيه ، تخرّج به وبرع وقرأ القرآن فأفر ـ ، وجمع ثمّ لزم العزلة وجعل اجتهاده لله.

وأمّا الرؤساء وأهل السيادة من الصفديين :

فمنهم الأمير حسام الدين حسن بن المنتخب اسباسلار ، كان من العلماء الأكابر ، والفضلاء الأماثل له مصنّفات جليلة ، وقصائد بديعيّة ، وعارض الحريري في المقامات ، فعمل خمسين مقامة على منوالها وربّما فضلت عليها لمحاسن وقف عليها وقال ، أولها : شعر :

لإن حكت ألفاظا وأصبحت ناسخا

برود يمان فالحريري أفخر

ومن أصحابه المتأدّبين بآدابه ابن أخيه ناصر الدين اسباسلار ، صاحب المهابة والأنوار ، أحد الفضلاء ، وقدوة العقلاء ، وشرف البلغاء ، ورئيس الرؤساء اجتمعت فيه صفات جليلة ، ومناقب جميلة ، أدركته وصحبته ، فما فارقني ولا فارقته ، وكان لا يجتمع بأحد ، ولا يخرج من القلعة إلّا في ثاني يوم العيد ، فأجلس في خدمته على سفح القلعة مع جماعة من مشايخها ورتوتها (٣٢) ننظر الناس من بعيد ، ونتذاكر ما ينفع ويفيد ، فلمّا كبر سنّه ، وضعف عن الحركة أتيناه في بعض الأعياد على العادة ، وسألناه التّشريف للإفادة ، فقال : اعذروني وأنا أحكي لكم حكاية لطيفة نافعة ظريفة ، فقلنا : احكي فبكى ، ثمّ حكى قال : كنّا نصحب شيخنا بدمشق من السادات الأكابر يقال له الشيخ كمال الدين بن الأعمى ، وله عادة يخرج معنا إلى وادي الغياض بدمشق في أيام الزّهر ، فأتيناه في بعض السنين فسألناه في اجرائنا على ما اعتدنا فقال : قد فتح بأبيات ، فاسمعوها منّي ، واقبلوا عذري وانصرفوا عنّي فقلنا : قل وتفضّل بإفادتك على جاري عادتك فأنشأ يقول : شعر :

٢١١

أمّا الغياض فإنّ عندي شاغل

عنها لعظم بليتي ومصابي

ما كنت أنظرها فأدرك حسنها

إلّا بأعين رفقتي وصحابي

ماتوا وشبت فما انتفاعي بالربا

بعد المشيب وفرقة الأحبابي

قلنا : هذا ما قاله هو ، فأنت ما قلت؟ قال : قلت :

يا أخلاني وإخوان الصّفا

دعوة من موجع القلب مصاب

خلني وازور عني أربع

فمصابي بهم أيّ مصاب

خانني سمعي وأيضا بصري

قد تولى ثمر نابي ونصابي

فقلنا : بالله هل عذرتموه وتركتموه؟ فقال : لا والله ، فقلنا : نحن نأخذك كما أخذتموه ، فقام معنا جبرا ، وقال : صبرا على حكم الإخوان صبرا ، وأمّا صبره وثباته فما بعده غاية ، كان له ولد نجيب وصل ثلاثين سنة ، فمات ليلا ، ولم يظهر له خبر ، ولا سمع بداره صياح ، فمررت عليه فوجدته بين أصحابه على عادته ، لم أنكر شيئا من حاله ، فقال : ألك ضرورة ، أو تجلس عندنا؟ فقلت : هل من حاجة؟ فقال : مات مملوكك محمد ، ولا بأس بصلاتك عليه ، فقلت الله أكبر ، وجلست عنده متعجّبا من صبره الأوفر ، وكان المقر العلمي الجاولي العظيم الشّأن قديما في ملكه ، فلمّا صار إلى ما صار عليه سأله المصير إليه فاعتذر ، وتأخّر ، فرتّب له جملة تحمل في كلّ سنة إليه.

وكان أخوه علاء الدين من سادات المسلمين ، كثير الورع والديانة عظيم العفّة والصيانة.

ومنهم رفيقه وصاحبه وصديقه ، علاء الدين بن حجي اسباسلار ، كان من السادات الأخيار في المكارم كحاتم ، وعلى الجود ملازم ، معدود من ذوي المروءات مقصود للصّدقات ، برّه شامل ، وفضله كامل ، وعقله تام ، وجوده عام ، الفقراء والغرباء يهرعون إليه ، والملوك والأمراء

٢١٢

يحتاجون إليه ، ولمّا اشتهر بالمكارم والرّفد ، حصل لبعض المتوكّلين شيء من الجهد ، وكان يتفقّده في جميع الحالات ، وقال له أهله : أعلم ابن حجي فقد حصلت الضرورات فقال :

يقولون لي الأهلون قد زاد ضرّنا

فقل لابن حجّي يكشف اليوم ما بنا

فقلت لهم صونوا لوجهي واصبروا

وقوموا اسألوا ربّ حجّي وربّنا

فسمع خبره فأزال ضرّه ، ولو استقصيت أحواله وأخباره في الجود ، لخرجت عن المقصود ، فإنّ له عليّ من الإحسان ما الله عنه مجازيه في الجنان ، رأيته بعد وفاته بمنامي ، وكأنّي في الجنّة ، فجئت إلى مكاني بدهليز ، فبهت فيه ووقفت أتأمّله ، وإذا بشخص قد اعتنقني ، وإذا به ابن حجّي المذكور ، فسررت به ، فقلت : ما فعل الله بك؟ فقال : أكرمني وغفر لي وأدخلني الجنّة ، ثمّ رأيت معه جملة مفاتيح ، قلت : ما هذه المفاتيح؟ فقال : أحضرني ربي بين يديه ، وقال لي : أنت كنت تحب في أن يكون لك في الدنيا كلام ، وهذه مفاتيح الجنّة تكون معك.

ومن أصحاب المروءات المقصودين في المهمّات والذّكاء الموصوف بالفصاحة والخبرة بالأشياء ، جبل على الألمعية (٣٣) ، وخلق الأريحة ، بابه مفتوح ، ونواله ممنوح ، يطلب للمشكلات يحملها ويندب للمعضلات فيسهّلها ، وهو للضّعفاء والملهوفين أشفق مساعد وخير معين.

ومنهم الصادق في الأخوّة ، الفائق في المروءة ، المعروف بابن الصّايغ ، كثير المواهب والصدق ، كان من عقلاء الأنام ، ودهاة الإسلام مع الدين والعفاف والمكارم والإنصاف ، أعظم من رأيت وفاء صحبته ، وأغزرهم مروءة ، يضر نفسه لمصلحة أصحابه ، ويبذل ماله في مصالح أحبابه ، ولا يتأخّر عن ملهوف يأوي إلى جنابه ، ولا يؤاخذ من جنى عليه ، ولا يشغل بعتابه لا جرم ازدحام الناس على بابه هذا من الحيرة يستشير ، وهذا يشكو إليه عدم المسيرة ، وكان للفقير بالجامع أعظم معين ونافع ،

٢١٣

يطبخ لهم الطعام ، ويغسل لهم ثيابهم على الدوام ، ويسخّن لهم الماء ليلا للاستنجاء ، وإذا اتّسخت رؤوسهم ذهب بهم إلى الحمّام ، وعندهم يأكل ويشرب ، وينام فليله لهم ، ونهاره لغيرهم من الأنام ، لا يختفي عن من قصده ولو للسلام ، ولا يعتذر عن حاجة ولو أقام في قضائها كثيرا من الأيام ، ظاهر الاحتشام ، كثير الابتسام ، قليل الملام ، يرعى الذمام ، ويكرم الأيتام ، صحب المشايخ الأعلام بمصر والشام ، في طريق الشريعة والحقيقة ، وأخذ في العلوم الظاهرة والدقيقة ، صحب عمّي الشيخ نجم الدين فتفرّس فيه الخير عن يقين ، فاصطفاه لصحبته ، وزوّجه بابنته وسوّاه بمهجته ، وعدّه لملازمته ، فما خابت فراسته ، ولا ضاعت تربيته ، وكان لأولاد الكمال أشفق من عم وخال ، يبذل لمصالحهم الجاه والمال ، ولا يرجع عن خدمتهم على كلّ حال ، وخصّصني من بينهم بعظيم الأنس ، وساواني بالمال والنّفس ، ولم أنل خيرا إلّا وقد كان السبب فيه ، لاجرم من الدعاء لا أخليه ، وأرجو من فضل ذي المنّة أن آخذ يده بيدي ، وندخل الجنّة ، وله من الفضل والشّأن ما لا يناسب التّطويل بذكره في هذا الكتاب والمكان ، إذ لكلّ مقال ، وفي الجملة من سادات الرّجال.

ومنهم اللطيف الذّات ، الجميل الصّفات ، المعدود من أصحاب المروءات ، الموصوف بالفضل المعروف بالعقل ، الحسن التّدبير ، المداري صارم الدين من السّلاري ، ذو الذكاء والفهم ، والاجتهاد في طلب العلم ، والباحث عن الفضائل ، والكاشف عن أخبار الأواخر والأوائل ، وله في صناعة الإنشا يد طولى ، ومن معرفة الأدب وصحبة الملوك حظ أوفى ، لا جرم له الحظوة من الملوك ، والنّوّاب ، والعلماء ، والكتّاب ، صحب المقر الأشرف السّيفي منكلي بغا ، فتجوهر وتدرّب ، وشاهد وجرّب ، ثمّ صحب المقر الأشرف علمدار مربي الملوك الكبار ، فأقام ببابه يكتسب من آدابه ، في الخير يتكلّم ، وعن الشّر يتباعد ليسلم ، إن

٢١٤

رأى ضعيفا جبره وعضده ، أو مظلوما نصره وأيّده ، أو ظالما زبره ، فهو حسنة في هذا البيت ، ورحمة أتمّ الله عليه سوابغ النّعم.

ثمّ نختم هذا القسم الثاني بالخطيب كمال الدين ، كما افتتحناه بأبيه الشيخ نجم الدين ، فنقول : هو الكبير بن الكبير ، الذي من حقة أن يفخر نهاية أبيه في بدايته أدركها وأحواله بعد السبعين في شأنه أدركها ، فكفل إخوته وبرّ والديه ، وأقام في كل شيء مقام أبيه ، لما اجتمع من الخصال المحمودة ، ولد بدمشق ، ثمّ انتقل صحبة والده إلى صفد ، وسنّه أربع سنين ، فنشأ بصفد ، وتخرّج بوالده وتأدّب بآدابه ، وتبع طرائقه ، فصار رئيسا كبيرا ، وعاقلا فاضلا ، ومات والده ، وقد بلغ الحلم فاستقرّ في وظائفه ، وقد ظهر له ثبات ، وصار يناظر الأكابر في الحشمة ، وإقامة الحرمة ، وكتب خطّا منسوبا عند أهل الكتابة ، وتفرّد في قراءة المحراب والخطابة ، وله نظم بديع رائق ، ونثر حسن فائق ، وكان له جوابات في الحال مسكته ، منها أنّه لمّا توفّي والده قال له الأمير سيف الدين قرمشي الحاجب بصفد ، وكان من أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيميّة ، ويقول بتلك المسائل المعروفة ، ويكره الشيخ نجم الدين ، أشعري الاعتقاد ، ومولانا كمال الدين : ايش خلف الشيخ نجم الدين من كتب أرسطو؟ فقال : تأسيس التّقديس ، فخجل قرمشي خجلا عظيما ، فقال له قاضي القضاة شرف الدين : الذّنب لك وهذا فهو ابن نجم الدين ، ثمّ إن الخطيب كمال الدين لزم طريقة حسنة في جمع خاطره ، والإقبال على شأنه إلى أن مات في رابع عشر جمادى الآخرة ، سنة اثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر ، مات فجأة كوالده صلّى الصّبح بالنّاس ، ثمّ دخل إلى بيته فمات ، استسقى بالمسلمين في شهر ذي القعدة سنة احدى وأربعين ، وهو الحادي والعشرون من نيسان ، فحصلت الإجابة في الحال ، ونزل المطر علينا ، ، ونحن بالمصلّى ، فلمّا خرجنا قال : والله لمّا صعدت المنبر ، ونظرت إلى

٢١٥

الخلق ، وما هم فيه من الضّائقة تضرّعت سرّا إلى الله عزوجل ، قلت إلهي إنّي لا أتذلّل عليك بزهدي وورعي ، وعبادتي ، واجتهادي ، ولكن أسألك يا حنّان يا منّان أن لا تخجلني بينهم ، ومن أبيات له في المعنى : شعر :

يا راكب الغي رفقا

ركبت شرّ المراكب

وجلت في دار غي

لاه عن الرّشد لاعب

وجئت تبدا دار

معروفة بالمعاطب

سلكت طرق فساد

عن الموفق ناكب

رفضت رشدك فيها

تغدو به أنت ناصب

يا من يصافي الليالي

احفظ فلست بصاحب

كم سرّ منها صاد

ساءت بشر العواقب

غدا بجودك دهر

بصرت بصاحب المصائب

وتعتريك الرزايا

من القضاء بقواضب

ترمي قسي المنايا

بنادق السهم صائب

فلا يغرنك عيش

فايسوك ذاهب

وارعى سمعك دهرا

فالخطب أفصح خاطب

وابك الدمع بدمع

يزري بسفح السحائب

وابذل لأسنا العطايا

إن كنت للفوز طالب

وحز جميل السّجايا

إن كنت في الخير راغب

واندب لما مضى الخطايا

وانبذ حماها وجانب

وصم وصلّ وواصل

بذل الصلاة واظب

وقم ونادي سحيرا

يا رب جئتك تائب

يا رب عفوا وصفحا

فأنت أكرم واهب

وله من القصائد الغريبة ، والمراسلات العجيبة ، ما يطول ذكره ، وعارض بانت سعاد ، والبردة فأحسن فيها رحمه‌الله تعالى.

٢١٦

ولمّا انتهيت في المقال على ما يتعلق بتاريخ صفد إلى آخر المدّة التي ذكرتها ، وكان ابتدائي من فتوحها ، أحببت أن ألخّص ما قبل ذلك فائدة واحدة حررتها ليكون من ظفر بها التاريخ المختصر ، قد علم ما مضى من اعدام الدنيا ، فإنّني أذكر ما بين آدم ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، من الحوادث العظيمة التي تؤرّخ بها أهل الملك من الأنام ، ثمّ اذكر دولة كل واحد من الصّحابة ، وإقامة مدّتها ، ثمّ أذكر دولة الأمويّة على حدّتها ، ثمّ أذكر عودة دولة العبّاسيّة إلى ظهور الدولة المملوكية ، وإلى أن فتحت صفد في الدولة الظّاهريّة ، فيكون تاريخا كافيا ، بغرض مثلي وافيا إن شاء الله تعالى.

فأقول اختلف الناس في مقدار مدّة الدنيا ، فقيل ستة آلاف سنة ، وقيل سبعة آلاف سنة ، وهذا قول الأكثرين ودليله قول ابن عبّاس رضي‌الله‌عنهما : الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة ، واختلف في الماضي منها فقيل : إنّ بين هبوط آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهجرة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة آلاف سنة وسبعمائة وسبعون سنة ، فمن آدم إلى نوح ألفان ومائتا سنة ، ومن نوح إلى إبراهيم ألف ومائة وثلاث وأربعون سنة ، ومن إبراهيم إلى موسى خمسمائة وخمس وسبعون سنة ، ومن موسى إلى داود مائة وتسع وتسعون سنة ، ومن داود إلى عيسى ألف وثلاث وخمسون سنة ، ومن عيسى إلى محمّد صلّى الله عليهم أجمعين ستمائة سنة ، وقيل بين آدم والهجرة خمسة آلاف سنة وستمائة سنة ، وقيل أربعة آلاف وستمائة سنة ، واتّفقوا كلّهم على أنّ بين الطّوفان والهجرة ثلاثة آلاف سنة وخمس وعشرون سنة.

٢١٧

فصل : ومن الهجرة الشّريفة إلى وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين ، ومدّة خلافة أبي بكر الصّدّيق رضي‌الله‌عنه سنتان ونصف ، ومدّة خلافة عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه عشر سنين وثلاثة أشهر ، ومدّة خلافة عثمان بن عفّان رضي‌الله‌عنه اثنتا عشرة سنة ، ومدّة خلافة علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وكرّم وجهه أربع سنين وتسعة أشهر ، ومدّة خلافة الحسن رضي‌الله‌عنه ستة أشهر ، فهؤلاء الخلفاء الرّاشدون ودولتهم ثلاثون سنة ، ثمّ يكون ملكا ، ثمّ كانت دولة بني أميّة سنة إحدى وأربعين وهم خمسة عشر خليفة ، أولهم معاوية رضي‌الله‌عنه ، ثمّ ابنه يزيد ، ، ثمّ ابنه معاوية ، وعبد الله بن الزّبير ، ثمّ مروان بن الحكم ، ثمّ ابنه عبد الملك ، ثم ابنه الوليد ، ثمّ أخوه سليمان بن عبد الملك ، ثمّ كانت خلافة عمر بن عبد العزيز سنة تسع وتسعين ، ومنه إلى آخر دولة بني أمية ثلاث وثلاثون سنة ، فيها خمسة خلفاء : يزيد بن عبد الملك ، ثمّ هشام بن عبد الملك ، ثمّ الوليد بن يزيد ، ثمّ يزيد بن الوليد ، ثمّ مروان ابن محمد بن الحكم سنة سبع وعشرين ومائة ، ثمّ قتله أبو مسلم الخراساني ، وانقرضت دولة بني أمية وانقطع ملكهم من الشام ، وكانت مدّة دولتهم فيه احدى وتسعون سنة ، وبقي ملكهم بالمغرب.

ثمّ كانت دولة بني العبّاس :

من سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، وهم سبعة وثلاثون نفرا ، وكانت إقامتهم بالعراق إلى أن خرجوا منها سنة ست وخمسين وستمائة ، فكانت تلك المدّة خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة ، فأول خلفاء بني العبّاس : السّفّاح ، ثمّ المنصور ، ثمّ الهادي ، ثمّ الرّشيد سنة سبعين ومائة ، ثمّ الأمين ، ثمّ المأمون ، ثمّ المعتصم ، ثمّ الواثق ، ثمّ المتوكّل ، ثمّ المنتصر ، ثمّ المستعين ، ثمّ المكتفي ، ثمّ المقتدر ، وفي سنة ست وأربعين ومائتين من خلافته ظهر المهدي بن تومرت (٣٤) ومن بعده من الفاطميين من المغرب إلى مصر ، وحكموا في البلاد واستفحلت دولتهم على دولة بني

٢١٨

العبّاس ، وهم خمسة عشر خليفة أولهم : المهدي وآخرهم العاضد ، وكانت مدّة استيلائهم على الخلافة ، وانقطاع الخطبة لبني العبّاس بمصر وما وراءها مائتا سنة وثلاث وستون سنة ، إلى أن ولي السلطان الملك النّاصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب ، صاحب الفتوحات قدّس الله روحه ، فأعاد دولة بني العبّاس ، وخطب لهم بالشام ومصر ، فأمّا إمامة من كان تسمّى بالخلافة وهم ببلاد المشرق ، مع غلبة الفاطميين على : المغرب ، ومصر ، والشام إلى دولة السلطان الملك النّاصر في سنة أربع وسبعين وخمسمائة فأولهم القاهر بالله ، ثمّ الرّاضي ، ثمّ المتّقي ، ثمّ المستكفي ، ثمّ المطيع ثمّ الطّائع ثمّ القادر ثمّ القائم ثمّ المقتدي ثمّ المستظهر سنة إحدى وثمانين وأربع مائة ، ثمّ المسترشد ، ثمّ الرّاشد ثمّ المتّقي ، ثمّ المستنجد ، ثمّ المستضيء ، ثمّ النّاصر ، ثمّ الظّاهر ، ثمّ المستنصر بالله ثمّ المستعصم.

ثمّ صار الأمر إلى الملوك ، وصار الخلفاء اسم بلا رسم ، فبعد المستعصم كان الظّاهر بالله ، ثمّ الحاكم بأمر الله ، ثمّ العبّاس أحمد ، وهو الذي ملك من العراق إلى مصرفي أيام السلطان الملك الظّاهر ، ثمّ استقرّ بعده المستكفي بالله أبو الرّبيع سليمان في دولة الملك النّاصر محمد بن قلاوون الصّالحي.

وأمّا الملوك فأولهم دولة السلطان الملك النّاصر صلاح الدين يوسف ابن أيّوب بن شادي صاحب الدّيار المصرية ، والبلاد الشاميّة ، والفراتيّة ، واليمنيّة ، والحجازيّة ، وهو صاحب الفتوحات العظيمة ، كبيت المقدس ، وطبريّة ، وأصله كردي هذباني ، تخرّج بالسلطان الملك العادل نور الدين الشّهيد محمود بن زنكي ، السيد الجليل صاحب المعروف الجميل ، قدّس الله روحه.

ثمّ ملك البلاد في سنة أربع وسبعين وخمسمائة ، فملك قلوب الرّجال ، حين أنفق فيهم الأموال ، وعاملهم بالإكرام والإجلال ، ثمّ هانت عنده

٢١٩

الدنيا حين ملكها فتاب وأناب ، وأعرض عن اللهو والارتياب ، وشرع في الجد والاجتهاد ، وأقبل على تحصيل الزّاد النّافع للمعاد ، وشهر مذهب أهل السّنّة في البلاد ، وغرس أهل العلم والفقه والتّصوّف بين العباد ، وبنى المدارس ، والخوانق ، والأربطة ، والقناطر ، فمهّد له أحسن مهاد ، فلمّا فتح بيت المقدس المكرّم المعظّم في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، سرّ سرورا عظيما ، وفرّق جميع ما حصّله من القدس الشريف ، وغيره على الناس حتّى لم يبق معه شيء ، ومات ولم يخلّف في خزانته من الذّهب والفضّة إلّا سبعة وأربعون درهما ، وجرما واحدا من الذّهب صوريا ، ولم يخلّف دارا ولا عقارا ، ولا ملكا ، ولا بستانا ، ولا قرية ، ولا مزرعة ، توفّي بعد صلاة الصّبح من يوم الأربعاء سابع عشرين صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة ، وغسّله الدّولعي خطيب دمشق ، وكان من الأكابر ، فأظلمت البلاد من بعده ، واستوحشت العباد لفقده ، عامله الله بلطفه العظيم ، وأوصله إلى جنّات النّعيم.

ثمّ تملّك ولداه الأفضل والعزيز ، ثمّ أخوه العادل أبو بكر ، ثمّ الملك النّاصر العزيز بدمشق ، ثمّ المعظم عيسى ، ثمّ الأشرف موسى ، ثمّ الصّالح إسماعيل ، ثمّ الملك الصالح نجم الدين أيّوب سنة سبع وأربعين وستمائة.

ثمّ كانت دولة الأتراك لمّا مات الملك الصالح نجم الدين أيّوب ، أجلس ولده المعظّم فلم تغن عنه ، فطوته أيدي الزّمان.

فنهض مماليك والده ، فدبّروا الملك ، فأحسنوا ، وكسروا الأفرنج وأخذوا ملكهم فرنسيس ، ثمّ اتّفقوا على سلطنة الملك المعزّ عزّ الدين أيبك التركماني الصالحي ، وهو أول من ملك من الأتراك بالدّيار المصرية في سنة ثمان وأربعين وستمائة ، ثمّ الملك المظفّر قطز في سنة سبع وخمسين وستمائة.

٢٢٠