تاريخ صفد

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني

تاريخ صفد

المؤلف:

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

الملك المنصور أبو بكر في نهار الجمعة سلخ جمادى الأول ، سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة ، وكان أمره من العجائب العظيمة من جراءته فيما ادّعاه كيف ألقى نفسه إلى التّهلكة ، ثمّ توجّه البرناق بعسكر صفد إلى الشام على أن يلحق أرغون الكامل في طاعة المصريين ، فانقلب إلى جهة أمير أحمد وبيبغا أروس مغلوبا على رأيه في نهار الخميس ثامن شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.

وفي شعبان وصل متسلّم المقر الشّهابي ابن صبح فخر الدين استداره ، وصارت الأخبار تصل إلى قلعة صفد من مصر إلى السلطان بعد خروجه منها صحبة سعاة وكان بلبان الحسامي في نيابة القلعة بصفد ، فاجتهد وحصّن القلعة بالمناجيق والرّجال ، وجاءه رسول من بيبغا ، وكتب باستمالته ، فلم يوافق ، وصمّم على طاعة المصريين ، وسلم وقسم ، وفي عشرين شعبان انهزم بيبغا اروس ، وأمير أحمد ، وحضر ساعي إلى قلعة صفد بذلك ، وكتب بذلك وجهّز صحبة ساعي ، ثمّ بريدي إلى المخيم الشريف إلى منزلة قاقون ، وكانت حركة عظيمة شكر فيها بلبان الحسامي نائب قلعة صفد ، ونائب قلعة دمشق لم يوافق ، واجتهد في المناصحة فنالهما الإكرام (٢٥).

وهنا نكتة لطيفة ، وهي أنّ سلامة الصّدور تنفع في كثير من الأمور ، انظر كيف سلم بلبان الحسامي ، بسلامة صدره مع مخاطرته بمخالفة نائب الشام بيبغا أروس ، بعد أن قطع العقلاء وأرباب التجربة بأنّ الغلبة لبيبغا أروس ، وعطب قرمشي مع حذقه وتجربته في المناصحة والاجتهاد الزايد ، بعد أن قطع العقلاء بأنّ الدائرة على بيبغا اليحياوي فانعكس الحال فسبحان الفعّال.

ثمّ دخل السلطان الملك الصالح إلى دمشق المحروسة في نهار الخميس مستهلّ شهر رمضان المعظّم ، ورسم بتوسيط برناق ، وجماعة من الأمراء بدمشق تحت القلعة في ثالث شوّال ، ثمّ توجّه إلى مصر بعد صلاة الجمعة

١٤١

سابع شوّال سنة ثلاث وخمسين ، وفي أيام الملك الصالح مسك الوزير علم الدين بن زنبور ، فوجد له جوهر ستين رطلا بالدمشقي ، كوافي مطعمه ستون قنطار بالدمشقي ، ذهب مسكوك عين ستمائة ألف دينار ، وحب لؤلؤ أردبين ، أقبية وجنبينات وكواملي وسنجاب وغيره ألفان وستمائة قطعة ، أملاك مسقف ، ما قيمته ثلاث مائة ألف دينار ، معاصر سكر خمسة وعشرون معصرة وبها من القند والسّكر والآلات ما لا يقوم ، جوار سبعمائة جارية ، عبيد مائة عبد ، طواشيه ستون ، مماليك خمسون ، وما وجد حاصلا في بعض القاعات سبعمائة ألف درهم ، وفي مكان آخر دراهم ثلاثين اردب ، حوايص ذهب ستة آلاف حياصه ، كلوتات ذهب سبعة آلاف ، مراكب كبار خمسمائة مركب ، شخاتير ماية سواقي ، أربعمائة خيول ، وبغال ألف رأس ، حمير فاره خمسمائة ، صيني قيمته خمسين ألف درهم ، شاشات مختلفة ثلاثمائة شاش ، نطوع قيمة كل نطع خمسمائة درهم ، سبعة آلاف نطع ، بسط مختلفة ستة وثلاثون ألف بساط قماش ، اسطبل القيمة عنه مائتا ألف درهم ، مخازن بها مالا يقوم ، أبقار ستة آلاف رأس ، أغنام سبعة آلاف ، وذلك خارجا عمّا اختفى من ذخائره وودائعه وكتب من السّخاوي نائب الحكم العزيز بالقاهرة المحروسة (٢٦).

ثم حضر للنّيابة المقر الشّهابي ابن صبح في سابع شوال فأقام بها إلى سابع ذي الحجة سنة تسع وخمسين وسبعمائة ، ثمّ نقل إلى حجوبة الشام ، وكان رجلا عظيما مهيبا ، ورعا فارس الخيل ، شفوق على الرّعية ، يقهر الظّلمة ، وينصح السلطان سرّا وجهرا ، ويحب الفقراء والعلماء ، صاحب صدقات وانفاق في الخير ، ذا ثروة عمل حسابه عن سنة فاشتمل على ألف ألف وعشرة آلاف ومائة أحد وخمسون وثلث وربع وثمن ، وغلات خمسة آلاف غرارة وتسعمائة وثمانية وخمسين غرارة وسدس وثمن غرارة ، وزيت أحد وخمسين قنطار ، وأحد وثمانين رطل ، دبس أحد عشر قنطار وأحد وخمسين رطل ، وقطن مائة ثمانية وخمسين قنطار ،

١٤٢

وثلاثين رطلا وثلث ، وأوز ومائتا طير وغير ذلك من الآلات والسّروج والكنابيش والخيول والبغال والجمال ، والمماليك ، صرف نفقة مائة ألف وخمسة وأربعون ألفا ، وصدقات ثلاثة وعشرون ، وثمن عمارة الجامع ستة آلاف ؛ انعامات مائة وخمسة وأربعون ألفا ، ثمن قماش للخزانة ، مائتا ألف وسبعون ألف خيل وجمال ، وطيور مائة ألف وخمسة وتسعون ألفا ، ثمن ذهب مائة ألف وسبعون ألف ، خيل وجمال ، وطيور مائة ألف وخمسة وتسعون ألفا ، ثمن ذهب مائة ألف وعشرة آلاف عن خمسة آلاف دينار ، وصار الحاصل الذهب المذكور مائتا ألف ، والغلات والأعيان المذكورة.

وفي أيامه عمّر الجامع الشّهابي بالساحة فأحيى به صفد ، وفتح عينها ، وحصل به النّفع الكثير للمصلّين ، والغرباء القادمين ، وبني به رواق برّاني برسم الفقراء لا يخلو من صالح ، وجدّد الجامع الظّاهري ورمّم شعثه ، وعمّر جامعا نافعا بعين الزّيتون ومأذنة وطهارة ، وساق الماء من عين الزيتون إليه ، وحصل به النّفع الكثير وعمّر خانا بجسر يعقوب عليه‌السلام ، حصل به النّفع الكثير صيانة للمسافرين ، وعمّر خانا بقرية حطين ، وقفا على نبيّ الله شعيب عليه‌السلام حصل به النّفع الكثير لأهل البلد والغرباء ، وعمّر جسرا على نهر الرّقاد وكانت ضرورة على المسافرين داعية إلى بنائه ، وتضرّر الناس زمانا طويلا ، حتّى أقامه الله تعالى لعمارته.

وفي أيامه جرى في صيدا ما جرى من الافرنج (٢٧) فتوجّه إليهم بنفسه وأولاده وفكّ الأسرى من أهل صيدا من الافرنج بمال جزيل قام به من ماله ، وغمر أهل صفد بإحسانه وصدقته ، وكان له صدقة بصفد كل سنة نحو عشرين ألف درهم ، ويجهز إلى مكة والمدينة وبيت المقدس ، ومدينة الخليل عليه‌السلام غير ذلك جملة كثيرة ، لا جرم أنّه نفعه الله بذلك وقت الضرورة لمّا حبس بالاسكندرية.

رأيت الخليل إبراهيم على نبيّنا وعليه‌السلام بمنامي ، فقلت : يا خليل

١٤٣

الله الأمير شهاب الدين ابن صبح أحسن إلينا ، وشرعت أعدّد ما فعله من الخير ، وقد جرى له ما جرى.

فقال لا بأس عليه ، فقلت : ادع له ، فقال : ادع أنت ونحن نؤمّن على دعائك ، فتوقفت تأدبا له ، فقال : إذا دعوت وأمنا فكأننا قد دعونا ، فدعوت بحضرته قائما مبتهلا ، وهو ومن بحضرته يؤمّنون ، وهذه عناية ، ولكنّ الله يمنّ على من يشاء من عباده ، فكتبت إليه إلى الاسكندرية أبشّره ففرح وأعاد جوابي في ظاهر كتابي ، وأكّد عليّ في الدعاء فلم يلبث إلّا أيام يسيرة وفرّج الله عنه وكتابه عندي ، وكانت مدّة نيابته ست سنين وثلاثة شهور وعشرة أيام.

وفي ذلك الوقت مات السلطان الملك الصالح صالح ابن بنت المرحوم تنكز ، ثمّ تسلطن وأعيد إلى الملك ثانيا أخوه الملك النّاصر حسن في ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبعمائة.

ولمّا توجه المقر الشّهابي ابن صبح إلى الشام حضر للنّيابة بصفد المقر الأشرف السّيفي منجك الهمام ، أحد ملوك الإسلام صاحب الحل والنّظام ، ذو العطايا والإنعام ، مسهّل الأرزاق مع الابتسام ، صبيح الوجه ، كريم النّفس ، عفيف الفرج ، رطب الأقلام ، كثير الصّوم ، قليل النوم ، طويل القيام وصل إليه شيء من شعر الرّسول عليه الصلاة والسلام ، فبلغ به نهاية السّؤل والمرام ، ولم يزل في وقاية وذمام ، وكان وروده من نيابة الشام بكرة الخميس ثامن عشر ذي الحجة سنة تسع وخمسين وسبعمائة ومتسفره قرابغا الخاصكي ، وكانت للمقر الأشرف السّيفي منجك إقامة بصفد قبل ذلك ، وعامل الصفديين بلطف وإحسان ، ففرحوا بنيابته ، وابتهجوا لذلك ، فأحسن إليهم ، وعاملهم بأعظم ما كان يعاملهم به من اللطف والإحسان ولين الجانب ، وكانت أيامه أيام خير ، لكنه لم يقم إلّا أياما يسيرة ثمانية وخمسين يوما ، ثمّ طلب إلى مصر فتوجّه في سابع صفر سنة ستين وسبعمائة.

١٤٤

ثمّ حضر للنّيابة بصفد المقر النّاصري محمد بن طوغاي ، ومتسفره الأمير سيف الدين اشتقمر ، صبحة نهار الأحد سادس عشرين جمادى الأوّل ، فكانت نيابته ثلاثة شهور ، وثلاثة أيام.

ثمّ حضر للنّيابة بصفد المقر العزي ازدمر الخزندار ، يوم الإثنين ثامن جمادى الآخر سنة ستين وسبعمائة ، ومتسفره جلبان ، فظهر منه خير عظيم تامته بالحكم لعلمه وحلمه ، فحصل لأهل صفد به الخير الزائد من الإحسان والنفقة مع العفّة ، والورع والمهابة ، واللطف ، والعمل بالشّرع لا يخرج عن حكمه أصلا ، وكان ينصر الضعيف ، ويقمع المتجبّر ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، ثمّ نقل إلى نيابة حماة في ثالث عشرين رجب ، وكانت نيابته خمسة وأربعون يوما ، فتأسّف الخلق عليه ، وشقّ عليهم فراقه.

ثمّ حضر بعده للنّيابة المقر العلائي أبو علي المارداني ، الرّجل الصالح ، لم يختلف فيه اثنان ، المعروف بالعدل والإحسان ، واتباع الشّرع المطهّر مدى الزمان ، الموصوف بلين الجانب ، فإذا قام في حد نهض كالأسد الغضبان ، نهاره في الحكم والعلم ، وليله في التهجّد وتلاوة القرآن ، فغمرنا بفضل كالسّحاب الهطّال ، وكانت دولته كدولة المهدي آخر الزمان ، ثمّ توجه مع السلامة إلى ناحية حماة في نهار الأحد ثالث عشرين المحرّم سنة إحدى وستين وسبعمائة ، فكانت نيابته خمسة شهور واثنين وعشرين يوما.

ثمّ حضر للنّيابة بصفد المقر الرّكني أمير عمر بن أرغون ، من نيابة غزّة بكرة نهار السبت سادس صفر سنة إحدى وستين وسبعمائة ، ومتسفره أرغون المسعودي ، وكان أمير عمر كبير القدر ، محتشم ، طاهر اللسان ، ملازم التلاوة ، سخي يجمع الفقهاء والأمراء في كلّ ليلة جمعة ويعمل لهم وقت حسن ، وتألف بأهل البلد ، وأحسن إليهم.

١٤٥

وفي نهار الأربعاء تاسع جمادى الأول سنة اثنتين وسبعمائة قتل السلطان الملك النّاصر حسن ، ثمّ تسلطن الملك المنصور محمد بن الملك المظفّر في أيام نظام الملك يلبغا ، ونزل به إلى الشام في وقعة المقرين السّيفين ، أسدمر ، وبيدمر ، ثمّ طلب أمير عمر إلى مصر في نهار السبت حادي عشرين رجب سنة اثنتين وستين وسبعمائة فتوجه في سابع شعبان.

وحضر بعده للنّيابة المقر السّيفي ملكتمر المحمّدي الغتمي ، شكل حسن ، وخلق حسن ، لكنّه غتمي لا يعرف العربية ، فحصل به مشقة ، وكان إذا جاءه خصم لا يعرف بالتّركي يضحك ، ويقول : ما تعرف بالتّركي؟! فيقول : لا ، فيضرب يدا على يد ، وشنّع عليه أنّه حكم بين اثنين ، وكان أحدهما يعرف بالتّركي ، فقال هذا معه الحق لأنه قال بالتّركي الحق معي ، ثمّ لطف الله ونقل عن قريب إلى نيابة طرابلس فكانت مدّة نيابته ثلاثة وخمسون يوما في أيام وقعة المقر السّيفي بيدمر بقلعة دمشق.

ثمّ حضر للنّيابة بصفد المقر الأشرف الزيني منكملي بغا الشّمسي ، بكرة نهار الأحد ثاني شوّال سنة اثنتين وستين وسبعمائة ، فظهر له من الشّهامة والشجاعة والنّزاهة والعلم والدّين والورع والعفة ، والصّيانة ، والمهابة ، واللطف ، والحزم والعزم ، وإصابة الرّأي ، وكمال العقل ، وصدق اللسان ، ووفاء الوعد ، والعفو والصّفح ، وإقامة الحدود ، وحسن السياسة واستغراق الوقت في دقائق العلوم ، وتجنّب المقت ، ورياضة النّفس بما ينفع في الحرب ، مع الفحص عن أحوال الخاصّة والعامّة ، والسؤال عن أولياء الأمور ، في هذه المملكة ، فهو رجل العالم في زماننا.

شعر :

وحيد المعاني والمعالي فريدها

يقصر عن امداحه النّظم والنّثر

فلا زال في عزّ وجاه ورفعة

وخدامه التأييد والسّعد والنّصر

فأقام في النّيابة بصفد نحو سنة ، فحصل به كل خير ، ثم نقل إلى نيابة

١٤٦

طرابلس في رمضان سنة ثلاث وستين وسبعمائة فكانت نيابته أحد عشر شهرا وثلاثة أيام ، ثم نقل إلى نيابة حلب ، ثمّ إلى نيابة الشام في مدّة يسيرة ، أبقاه الله تعالى للإسلام.

ثمّ عاد إلى نيابة صفد المقر العزي ازدمر الخزندار ، وهو أوّل نائب عاد إلى صفد بعد الخروج منها ، حضر في نهار الأحد سابع شهر رمضان المعظّم سنة ثلاث وستين وسبعمائة ، فسرّ الخلق بعوده ، واستبشروا برفوده ، فأحسن إليهم ، وتلطّف بهم ، وصار كواحد من أهل البلد أعظم من الأمير سيف الدين أرقطاي مع قصر المدّة ، واتّفق وقوع الطّاعون في شعبان ، ورمضان من سنة أربع وستين وسبعمائة بالبلاد المصرية والشّامية.

وفي رابع عشر شعبان من هذه السّنة خلع الملك المنصور ، فكانت دولته سنتان وثلاثة شهور ، وخمسة أيام ، وتسلطن بعده السلطان الأشرف شعبان بن حسن في أيام يلبغا ، بكرة نهار الثلاثاء منتصف شعبان سنة أربع وستين وسبعمائة ، ولم يقع بصفد شيء من الطّاعون في تلك المدّة ، ورأى النّائب تلك الرّؤيا الغريبة ، وملخّصها أنّه أمر في المنام بذبح بقرة ويفرق لحمها على النّاس ، وأنّ ذلك يدفع الوباء ، فذبحها وفرّقها على النّاس ، فعملت بذلك خطبة عجيبة ، وبقي أهل البلاد الصّفدية شامة بين البلاد في أمر الطّاعون ببركته وحسن نيّته.

حكى لي أنّه في كلّ ليلة يطلع إلى مكان يشرف على البلد فيعّوذ سائر أهل البلد.

ثمّ نقل إلى نيابة حماة نهار السبت تاسع شوّال سنة أربع وستين وسبعمائة ، وكانت نيابته ستة شهور وخمسة وعشرون يوما ، وبمجرّد ذهابه وقع الطّاعون بصفد.

ثمّ حضر المقر السّيفي قشتمر المنصوري من نيابة الشام في نهار

١٤٧

الإثنين ثامن عشرين شوّال سنة أربع وستين وسبعمائة ، ومتسفره الدّوادار اقبغا الحجازي ، وكان قشتمر رجل كبير القدر ، كثير الخير ، عديم الشرّ إذا وعد وفى ، كثير الإنعام والإحسان ملازما لمدارسة القرآن ، وفي أيامة عمرت المأذنة بالجامع الظّاهري ، حين وقعت الصّاعقة بها فاحترقت ، وكانت صاعقة عظيمة كتب بسببها إلى المقر السّيفي يلبغا نظام الملك الشّريف ، فجهّز لها ذهبا كثيرا ، وعمرت به أحسن ما كانت ، وأقام المقر السّيفي قشتمر من ماله بألف درهم لترميم الجامع ، فعمّر الجامع في أيامه ، ثمّ كتب إلى مصر يطلب له وقفا فاشترى نظام الملك يلبغا من ماله قرية من البلاد الصفدية يقال لها سعسع ، ووقفها على الجامع أن يرصد منها في كلّ سنة برسم القناة التي أنشأها بصفد ألفا درهم ، فحصل في أيامه لهذا الجامع خاصّة ، ولأهل صفد عامّة كل خير ، ثمّ قلق المقر السّيفي قشتمر ، وتولّع بالتوجه إلى مصر ، فطلب فأجيب ، فتوجّه في ثامن شعبان المكرّم سنة خمس وستين وسبعمائة ، وكانت نيابته تسعة شهور وعشرين يوما.

فهذا ذكر نوّاب مدينة صفد المحروسة من الفتوح وإلى آخر المدّة المذكورة أربعة وأربعون نائبا من الفتح إلى أرقطاي سبعة عشر نائبا ، ومن أرقطاي إلى آخر المدّة سبعة وعشرون نائبا.

وأمّا نوّاب القلعة المنصورة :

فقد تقدّم أنّ النيابة كانت أوّلا بالقلعة إلى أن فتحت عكّة وتمدنت صفد ، ثمّ استقرّ بعد ذلك نائبان أحدهما بالقلعة ، والآخر بالمدينة ، فمن أوائل نوّاب القلعة بمفردها الجوكندار سنة خمس وسبعمائة ، ثمّ بلبان الشّمسي سنة إحدى عشرة وسبعمائة ، ثمّ كانت نيابة ايدمر الشّجاعي في سنة أربع عشرة وسبعمائة ، ثمّ كانت نيابة الطنطاش سنة عشرين وسبعمائة ، ثمّ كانت نيابة طوغان سنة إحدى وعشرين وسبعمائة ، ثمّ كانت نيابة أقطوان سنة أربع وعشرين وسبعمائة ، ثمّ كانت نيابة تلكتمر

١٤٨

سنة تسع وعشرين وسبعمائة ، ثمّ كانت نيابة أراق سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ، ثمّ كانت نيابة قرمشي بن أقطوان سنة ست وأربعين وسبعمائة ، واجتهد في عمارة القلعة ، وتحرير حواصلها ، ولم يزل يجتهد في أمرها حتى جرت الفتنة بالشّام نوبة يلبغا اليحياوي ، فطلب قرمشي إلى دمشق ، وحبس بقلعتها ، ثمّ انقطع خبره بعد ذلك ، ثمّ كانت النّيابة للأمير بدر الدين حسن المرواني سنة سبع وأربعين وسبعمائة ، ثمّ استعفى فأعفي ، ثمّ حضر لنيابة القلعة شعبان السّلحدار سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، ثمّ عزله المقر الشّهابي أمير أحمد.

وكان أول المكيدة التي رتبها لأخذ القلعة ، وجعل في القلعة أميرا شيخا يقال له جركس سنة خمسين وسبعمائة ، ثمّ أخذ الأمير أحمد القلعة بمكيدة دبّرها ملخّصها : أنّه بدأ بإضافة البحريّة إلى عسكر المدينة ، ثمّ فرّق رجالها المستخدمين في الأشغال ، ثمّ خزن مغله بالقلعة على عادة النوّاب ، وجهّز طلب نائب القلعة في شغل ، وكان شيخا فانيا ، ثمّ جهّز استداره لبيع المغل ، ومعه جماعة من شداد مماليكه ، ثمّ جهّز جماعة في شغل إلى استداره ، ثمّ جهّز جماعة يطلبونه إلى المدينة ، واستمرّ أولئك بالقلعة ، ونزل استداره ، ثمّ طلع ومعه نحو عشرة ملبسين ، فشهروا السّلاح بباب القلعة ، ونزل أولئك الذين كانوا من قبل ، فلم يتمكن أحد من دفعهم ، فملكوا القلعة ، وأخرجوا منها أهلها ، فلمّا جرى ما جرى ، ونزل من القلعة حضر بلبان الحسامي في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ثمّ كانت واقعة بيبغا أروس وأمير أحمد ، وتوجّه نائب صفد البرناق وغيره من النّياب ، وصمّم بلبان الحسامي على طاعة مصر ، فكان النّصر لحزبه فناله الإكرام والشّكر والثّناء ، ثمّ توفي وهو أول نائب كان موته بالقلعة ، وكان من أهل الخير والصّلاح والعلم.

ثمّ حضر ابن لاقي الأمير شهاب الدّين أحمد من أهل دمشق (أيضا ابن لاقي جدي) ، في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة ، وهو من أهل الخير

١٤٩

والدّين والرئاسة فأقام مدة مكرها ثمّ أعفي ، وكانت نيابة طيبغا الإبراهيمي سنة خمس وخمسين وسبعمائة ، وكان من أهل العلم والدّين كثير الصّدقة ، فأقام مدّة ، ثمّ كانت نيابة الأمير صلاح الدّين القرمشي ابن الخشّاب ، واجتهد في عمارة القلعة على طريق خاله قرمشي ، وجدّه أقطوان ، وجدّد جامع القلعة ، وعمل به مدرسة للمشتغلين في العلم : مدرّس وعشرة فقهاء ، وميّز لذلك معلوما جيّدا ، واستقرّ الأمر كذلك إلى آخر وقت ، وفرغ في أيامه برجين من أبراج القلعة ، وميّز جهات القلعة وغيرها ، ولم يزل مجتهدا في عمارتها ليلا ونهارا حتّى أحيى ما دثر منها ، وأثر فيها آثار الخير المشهورة ، ومكارمه المأثورة ، وهمّته العالية المشكورة وأمانته التي حكمت له باسعافه وعفته التي ورثها عن أسلافه أشبه والده في شهامته وجدّه ، وحوى عدل خاله ومعرفته ، وإحسان جدّه ، فاجتمع فيه ما تفرّق في غيره عمّه الله بإنعامه ، وخيره إلى أن طلبه المقر السّيفي بيدمر نائب الشام ، وسلّمه نابلس.

واستقرّ في نيابة القلعة طاجار شيخ كبير ، شهر الحجّة سنة إحدى وستين وسبعمائة ، فمات بها ، ثمّ كانت نيابة قطلوبغا الإبراهيمي في سنة اثنين وستين وسبعمائة ، فلم يزل بها إلى أن مات في طاعون سنة خمس وستين وسبعمائة ، ودفن بحطّين.

فهؤلاء نوّاب القلعة المنصورة إلى آخر المدة المذكورة.

وأمّا الحجّاب بصفد :

فكان أولا علاء الدين الصايغ أمير عشرة ، ثمّ حسام الدين بن درباس أمير عشرة ، ثمّ الصارم باني الحمّام ، ثمّ أقطوان أمير طبلخاناه ، وكان قبل ذلك شاد الدواوين ، ثمّ شجاع الدين غرلو ، ثمّ اقطوان مرة ثانية ، ثمّ بيبرس العلاوي أمير طبلخاناه ثمّ أمير محمود بن خطير ، ثمّ قرمشي ، ثمّ دقماق ، ثمّ ابن الخازن.

١٥٠

وأمّا أرباب الوظائف الدينية :

من : القضاة ، والخطباء ، ووكلاء بيت المال المعمور ، فعقيب الفتح كان بصفد القاضي جلال الدين النهاوندي ، نيابة عن قاضي القضاة إمام الدين أخي قاضي القضاة جلال الدين الخطيب الحاكم بدمشق ، فأقام مدّة طويلة ، ونهاوند بضم النّون ، ثمّ مات فولي القاضي فتح الدين العسقلاني سنة ست وسبعمائة ، نيابة عن قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة الحاكم بدمشق ، ثمّ استقرّ القاضي شرف الدين النّهاوندي قام مدّة ثمّ تنقل في جهات كثيرة : نابلس ، وعجلون ، وطرابلس ، وفي تلك المدّة تولى قاضي القضاة حسام الدين القرمي استقلالا ، ورد على صفد فقيرا صوفيا مجرّدا ، فعرفه نائبها ، فكتب فيه إلى مصر ، فاستقرّ وأقام مدّة ، ثمّ نقل إلى طرابلس وتولّى فتح الدين القيلوني ، وكان كبير القدر ، وله مصنّفات ، فأقام مدّة ، ثمّ توجه إلى مصر رغبة عن القضاء باختياره ، ثمّ تولى قاضي القضاة ناصر الدين الزّرعي ، فأقام مدّة ، ثمّ نقل إلى طرابلس.

فتولى صفد شيخنا قاضي القضاة جمال الدين التبريزي سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، وكان من العلماء الفضلاء المتّقين ، له مصنّفات ، فأقام مدّة ، ثمّ توجه إلى مصر ، ثمّ عاد قاضي القضاة النهاوندي إلى القضاء بصفد ، واستمر إلى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.

ثمّ تولّى شيخنا قاضي القضاة شمس الدين الخضري ، وكان فقيها عظيما جليل القدر ، جميل الذكر ، حسن السّيرة من أجلّ من لقيت ، ومن أكمل من صحبت ، لزمته نحو عشر سنين انتفعت به ، وكان مفننا في العلوم ، آية في التدريس ، دربا بالأحكام موفقا فيها ، فأقام إلى أيام بلك ، ثمّ رغب عن القضاء ، وتوجه إلى دمشق ، وكان سببه أنّ بلك طلب منه قرضا من حر مال الأيتام ، فقال : لا بد من رهن منقول ، فلمّا تحقق أنّه يأخذ منه بلا رهن ، ركب بغلته وتوجّه إلى دمشق ، ورغب عن وظيفته

١٥١

ابتغاء وجه الله ، وخوفا من عقوبته ، لا جرم كان له بصفد في الشّهر أربعمائة ، فعوّضه الله كل شهر بنحو ألف وخمسمائة.

ثمّ حضر بعده للقضاء بصفد قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن عبد اللطيف القرشي من بيت علم ورئاسة لكنّه من القضاة المتساهلين ، وقع في أيامه أمور تخشى عاقبتها يوم الدين ، وفي آخر أيامه ، كنت عنده يوما فجاء فقير يسأله ، فردّه ونهره ، فأعاد سؤاله فزبره : فقال أنا فقير ، وقد أمسيت مضرورا ، فغضب فأمر به فضرب ، فشفعت فيه ، وتعلّقت به ، وهو من الغضب لا يعقل ، فتركته ومضيت وقد تأذيت ممّا سمعت ورأيت ، فرأيت في تلك الليلة بالمنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقفا تجاه دار القاضي ، وهو غضبان غير راضي ، وكان من باب القاضي إلى طرف الشارع حبلا مشدودا فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقطع حبله فعالجته فوجدته قويا شديدا ، فلما فهم الرسول أن فعلي لا يجري ، جاء إليّ ووضع يده الشّريفة فوق يدي ، فجذبت الحبل فتقطّع ، وأشار الرسول بيده ، وجعل يقول ، وأنا أسمع : قال فقير ، قال فقير ، يحكي قول القاضي وإلى بابه يشير قطعه الله ، قطعه الله ، قطعه الله ، فتيقظت مرعوبا ، وكان عزله بعد ذلك قريبا.

ثمّ حضر إلى قضاء صفد الشّيخ صدر الدين بن الخابوري ، فأفادنا عجائب ، وعلقنا عنه غرائب ، وكان حسن الخلق ، كريم النّفس ، غزير العلم عمدة الفتوى ، قدم رجل من الصفديين فتوى بدمشق إلى شيخ الإسلام فخر الدين المصري ، فقال : من أين أنت؟ فقال : من صفد ، فقال : عندكم الشيخ صدر الديين الخابوري وتسألني! فأقام مدّة ، ثمّ نقل إلى طرابلس.

وحضر إلى قضاء صفد شيخ الإسلام زين الدين عمر بن البليغاني ، فقيه المصريين ، وأجل من تولى صفد ، بل أفضل من دخلها في العلم إلى

١٥٢

بحثه وتدقيقه وتحقيقه المنتهى ، لزمته أنا وأخي علاء الدين ، فانتفعنا به ، وأذن لنا ، وكان وروده في المحرّم سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، وفي ربيع الآخر من هذه السنة وقع الطّاعون العظيم فاستشهد به ومات فيه بعد ما صلّى الصّبح قائما ، ثمّ جلس يذكر الله ، ثمّ استند إلى صدري فمات لوقته ، وماتت زوجته قبله ، فلمّا دفنها قام يصلي فطوى فراشها وصلّى على الأرض ، فقيل له في ذلك ، فقال : بقي لي فيه شريك ، ولمّا مات حضر ملك الأمراء بصفد ، وأهلها وتكلّموا في دفنه ، ودفنته بتربة جدّي الشيخ كمال الدين طلبا لبركته ، وسهول زيارته.

ثمّ تولّى بعده القاضي شمس الدين قاضي الناصرة في جمادى الأول سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، وكان من أهل الخير والدين والعفّة عن أموال المسلمين ، كثير الصّدقة ، ظاهر الحشمة ، مأمون القايلة ، وهو باق إلى آخر المدّة المذكورة.

وأمّا الخطباء بصفد :

فعقيب الفتح كان جدّنا الشيخ كمال الدين العثماني حضر صحبة العلائي ، ثمّ توجّه إلى مصر فأقام مدّة يسيرة وخطب في تلك المدة جمال الدين عبد المنعم ، وكان رجلا صالحا متقشّفا ، ثمّ عاد الشيخ كمال الدين العثماني إلى وظيفته ، جهّزه الملك الظّاهر لذلك حين طلبه نائب صفد العلائي ، وأثنى عليه بين يديه ، وأخبر أنّه من الأولياء الأكابر ، فأحضره وعظّمه ووقره ، وأكرمه ، وطلب دعاءه رجاء بركته ، وأعاده إلى وظيفته ، وفوّض إليه أمر القلعة ورجالها ، وقرّر ولده شرف الدين حسين بن الكمال ناظرا على أموالها ، فلمّا أعاد الشيخ كمال الدين دخل إلى الجامع ، فوجد الشيخ جلال الدين فخجل ، واستحيى فتغيّب بخجله فقام إليه وعانقه وقال : الخجل بي أليق ، لأنّي تهجّمت على وظيفتك ، وإنّما كنت أنوب عنك فرحمهما‌الله ، فاستمرّ الشيخ كمال الدين خطيبا دهرا طويلا إلى أن مات في سنة احدى وسبعمائة ، فاستقرّ ولده الشيخ نجم الدين

١٥٣

فأقام إلى أن تولّى كراي المنصوري نيابة الشام ، فتوجّه معه واستقرّ جلال الدين البصري ، وكان رجلا صالحا عالما ، ثمّ عاد الشيخ نجم الدين إلى وظيفة الخطابة ، وكاتب السرّ ، ثمّ انقطع في الخطابة في المدينة ، وبالقلعة أيضا ، فيقيم من جهته في القلعة من يختاره ، ورغب عن كتابة السرّ ، وجدّ في العبادة ، ونفع الناس بالاشتغال في العلم ، فتخرّج به جماعة ، وصاروا أئمّة إلى أن مات في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، فاستقر ولده كمال الدين محمد العثماني ، إلى أن مات في ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وسبعمائة ، صلّى بالنّاس الصّبح بالجامع ، ثمّ دخل إلى بيته فمات من ساعته ، فاستقرّ في الخطابة مؤلفة محمد بن عبد الرّحمن الحسيني العثماني ، فهو الخطيب إلى تمام المدّة المذكورة.

وأمّا خطباء القلعة :

فالقاضي جلال الدّين النّهاوندي ، ثمّ ولده شرف الدّين ، ثمّ زين الدّين أبو حلاوات ، ثمّ الشيخ زين الدين عبد السلام ، ثمّ الشيخ نجم الدين مع خطابة المدينة ، ثمّ أخوه برهان الدين بن الكمال ، ثمّ العبد مؤلّفه ، ثمّ أخوه شرف الدين حسين إلى آخر المدة المذكورة.

وأمّا وكلاء بيت المال :

فالشّيخ علاء الدين بن طرخان ، ثمّ جمال الدين حسين البصري ، ثمّ علاء الدين بن طرخان ثانيا ، ثمّ الخطيب شمس الدين بن العماد ، وانتقل منها إلى خطابة القدس الشريف ، ثمّ الشيخ علاء الدين بن الرسّام ، ثمّ الشيخ ناصر الدين البلبيسي ، ثمّ الشيخ علاء الدين بن النّهاوندي إلى آخر المدة المذكورة.

وأمّا أرباب الوظائف الديوانية :

فأول من استقر في كتابة السرّ عمّي الشيخ نجم الدين بن الكمال ، عملت له في أيام الألبكي ، وكان قبل ذلك كتب لكلّ نائب كاتبه ،

١٥٤

فعمل الشيخ نجم الدين وهو شاب كلّ شهر مائة درهم ، ثمّ زيدت له قليلا حتّى صارت خمسمائة درهم ، وتخرّج به جماعة في ذلك الفن منهم : زين الدين بن حلاوات كان تاجرا ، فلزمه وانتفع ، ومهر في كتابه الأشياء ، ونظم ونثر ، فلمّا توجّه الشيخ نجم الدين إلى دمشق ، استقرّ ابن حلاوات في الوظيفة ، ثمّ عاد الشيخ نجم الدين مباشرا مع الخطابة ، ثمّ اشتركا في التوقيع والخطابة ، ثمّ انفرد الشيخ نجم الدين مباشرا مع الخطابة بسؤاله ، واستمرّ زين الدين بن حلاوات في كتابة السرّ بمفرده ، ثمّ بعده بهاء الدين بن غانم ، وكان فاضلا كبيرا ، ثمّ شمس الدين ابن منصور موقع غزّة ، ثمّ جمال الدين بن رزق الله وكان كبير القدر ، جميل الذّكر كثير الأريحيّة ، عظيم العصبية ، ما قصده أحد إلّا قام معه.

رأيته بمنامي بعد وفاته ، وهو يكتب ورقة لفقير فقلت له : لم تكتب؟ فقال : والله ما نفعني إلّا كتابة هذه الأوراق ، ثمّ رأيت رجلا من أعز أصحابي من أهل القرآن ، فأخبرني عن القاضي جمال الدين بن رزق الله أنّه من أهل الجنّة.

ثمّ ولده القاضي بدر الدين بن رزق الله العمري ، الرئيس المشهور ، والجواد المذكور ، ولم يباشر هذه الوظيفة أحد كمباشرته ، وكان له حرمة كحرمته ، النوّاب يكرمونه ، والمصريون والشّاميون يعظّمونه ، فأقام فيها زمانا طويلا حتى عرفها جملة وتفصيلا ، وله صدقات وهبات ومكارم وصلات.

ثمّ شمس الدين قاضي شهبة ، فريد وقته ، وعلامة زمانه ، ثمّ عاد القاضي بدر الدين بن رزق الله ، واستمرّ إلى آخر المدة.

وأول نظّار بيت المال :

جمال الدين بن الكريدي ، ثمّ عماد الدين ابن النويري ، ثمّ جمال الدين ابن ريّان ، ثمّ كريم الدين الصغير ، ثمّ شمس الدين بن سكرة ابن عم

١٥٥

ناظر الجيش ، أسن منه ، وكان فاضلا ديّنا ، ثمّ شرف الدين كسيرات لم ير مثله في زمانه في حسن الشكالة ، ثمّ فخر الدين بن المنذر ، ثمّ جمال الدين بن ريّان ثانيا ، ثمّ شرف الدين بن عطيّة ، ثمّ ناصر الدين بن مقبل ، ثمّ علاء الدين بن الموصلي ، ترك نظر الجيش ، وتولى نظر المال لأجل ابن الصّيرفي ، ثمّ عمل عليه وأفسد حاله ، ثمّ معين الدين بن الكريدي ، ثمّ تاج الدين بن مشكور ، ثمّ ناصر الدين منهال ، ثمّ علاء الدين بن مزهر ، ثمّ صلاح الدين بن المعين ، إلى آخر المدة المذكورة.

وأول نظائر الجيش :

علاء الدين علي بن محمد بن أحمد بن ظاهر المدني العباسي ، كان جدّه أحمد مؤذّن الحرم الشّريف النّبوي ، فأخذه نور الدين الشهيد عند توجهه للحكاية المشهورة التي رآها بالمنام (٢٨) ويعرف بابن المرستاني ، لأنّ نور الدين فوض إليه أمر المرستان في عمارته ، ثم في مباشرته ، ثم شمس الدين بن الحافظ ، ثم عماد الدين ابن المنذر ، ثمّ بهاء الدين بن سكره ، ثمّ نقل إلى وزارة الشام ، ثمّ شرف الدين حسين بن ريان ، وكان من الفضلاء ، ثمّ عماد الدين بن الموصلّي ، ثمّ بدر الدين بن رزق الله العمري ، ثمّ صلاح الدين أخوه ، قد تخرّج بأخيه ، وسار على سيرته وسيرة أبيه في الجود ، والفتوّة والعصبية ، والمروءة ، ثمّ بدر الدين بن أحمد ، ثمّ صلاح الدين العمري ثانيا إلى آخر المدّة المذكورة.

١٥٦

فصل لبيان الأعيان من الصفديين

إلى آخر المدّة

وهو قسمان : الأول منسوبون إلى الصّلاح والزّهد ، الثاني منسوبون إلى العلم والسيادة.

القسم الأوّل

منهم الشيخ الصالح العارف القدوة الولي عبد المحسن ، كبير القدر والسّن ، كان هنا عقيب الفتح ، واستمرّ مدّة طويلة يقصد للزّيارة والبركة ، وكان عظيم المهابة مجاب الدعوة ، أخبرني والدي رحمه‌الله تعالى قال : شاهدت له كرامات غزيرة ، وحفظت من لفظه استغفارا وجدت بركته ، وهو : «اللهم إنّي أستغفرك من كلّ ذنب تبت إليك منه ، ثمّ عدت فيه ، وأستغفرك من كلّ عمل أردت به وجهك فخالطه غيرك ، وأستغفرك من كلّ نعمة أنعمت بها عليّ فعصيتك بها ، وأستغفرك يا عالم الغيب والشهادة من كلّ ذنب أتيته في ضياء النّهار وسواد الليل في ملاء وخلاء ، وسرّ وعلانية ، يا حليم».

ومنهم الشيخ كمال الدين محمد العثماني جدّي الخطيب ، كان من الأولياء الزهّاد العبّاد ، عظيم الهمّة والاجتهاد ، كافل الأرامل والأيتام ، متحرّي في طلب الحلال ، وترك الحرام ، ورزق ذريّة مباركة ، وكان عظيم المهابة ، مجاب الدعوة ، عظيم ما له نظير في زمانه ووقته في التّواضع ، ولين الجانب والشّفقة ، والرّحمة ، لا يمسك شيئا من الدّنيا ولا يبيت إلّا على فاقة ، مع سعة الرّزق لكن لكثرة أتباعه وعظيم سخائه ، ولد بدمشق سنة ست وعشرين وستمائة ، ونشأ بها ، فلمّا كانت نوبه هلاؤون ، خرج بنيّة قصد الدّيار المصرية ، فأسره التتار مع جماعة من أصحابه ، فربطوهم ولم يربطوه حياء منه ، لحسن شكله ، وظهور نوره ، وقالوا : لا تهرب ، فلمّا كان الليل نام التتار والأسارى ، وقام هو يتهجّد ويتضرّع ، فقالوا : اذهب

١٥٧

لشأنك ، فقال : لا إلّا أن تطلقوا أصحابي معي ، فلامه أصحابه وقالوا له : انج بنفسك ، فقال : أرجو أن نذهب جميعا ، فناموا وقام يتضرّع ، فلمّا كان آخر الليل جاءت صرخة عظيمة تفرّق التتار منها ، وهربوا على وجوههم ، ولم يعلموا السّبب ، فقام الشيخ كمال الدين فحلّ بعض الأسارى ، ثمّ حلّ بعضهم بعضا ، وانصرفوا جميعا ، وتحققوا أنّ ذلك ببركته.

ومن زهده وقناعته أنّ أخاه مجد الدين كان قاضيا بقونية ، من بلاد الرّوم فمات وخصّه من إرثه بحكم الرّبع ، والثّمن مع بنت وزوجه نحو ثمانين ألف درهم ، وجاء مملوكه بمال ، وقال : تجهّز به وتوجّه معي لتقبض ما تستحقه ، فأبى وقال كيف أترك أرض الشام ، وأتوجّه لطلب الدّنيا ، ولعلّي أموت هناك ، فكرّر عليه فقال : وهبتك ما أستحقه ، فقال :

خذ ما جاء معي من المال ، فقال : لا حاجة لي به فإنّي بخير ، وما أعلم هذا المال من أين أصله ، ولا كيف جمع.

أخبرني أبي رحمه‌الله تعالى قال : رأيت الشيخ شرف الدين المنجنيقي ، وكان من الصالحين بعد موته ، فقلت : ما فعل الله بك؟ قال سامحني ، وغفر لي ، وأدخلني الجنّة ، فقلت : رأيت جدّي الشيخ كمال الدين؟

فقال : نعم ، فقلت : أين هو؟ فقال ذاك في الفردوس الأعلى ، لقيامه بالليل ، وكان الشيخ عبد المحسن الذي تقدّم ذكره يقول : الشيخ كمال الدين مقدّم الرّجال في قيام الليل.

ومن فضيلة شرف الدين نسبه واتصاله بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، فإنّه : محمد بن الحسن ، بن مفرج ، بن عمرون ، بن عبد الله ، بن عقيل ، بن يحيى ، بن علي ، بن عبد العزيز ، بن علي ، بن الحسين ، ابن محمد ، بن عبد الرحمن ، بن القاسم ، بن الوليد ، بن عبد الرحمن ، بن أبان ، بن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي‌الله‌عنه.

ومنهم الشيخ يوسف بن شمخ الحمراوي رجل كبير القدر ، مقيم بزاوية الحمراء من أيام الإفرنج وكانوا يعتقدوه ويزوروه ، بلغني أنّ

١٥٨

صاحب القلعة كان يحبّه ويزوره ، وسببه أنّه جاء إليه وقال : بلغني أنّكم تدخلون النار فلا تضرّكم ، فقال : لا إله إلّا الله تطفىء النار ، فسأله أن يظهر له آية ذلك ، فأمر بإيقاد نار ، ثمّ طلب ولد له في غاية اللطف ، والتوقر ، وحسن السمت ، يخجل الإنسان من النظر إليه ، فأمره بالدخول في تلك النار ، وقد تأجّجت ، فدخلها غير مكترث ولم يأبه بها ، يذكر الله حتّى طفيت ، فبهت الإفرنجي ، وصار يعتقدهم ويزورهم.

ومن غرائب أحواله أنّه أقعد في آخر عمره ، فكان إذا عمل السّماع نهض قائما ورقص كالصّحيح ، فإذا فرغ من السّماع سقط مكانه ، قيل إنّ الرّجل الذي ذكره شيخ الإسلام برهان الدين بن القرداح في كتابه «حل القناع عند حل السّماع» هو هذا الرّجل : ومن ذرّيته السّنية ، وفروضه الزّكية ، الموقوف بمقالته ، والمبرز في عدالته ، والمجمع على جلالته ، معتمد الحكام والمرجوع إليه عند الخصام ، من سار ذكره واشتهر الشيخ زين الدين عمر الحمراوي ، الشّاهد الشّافعي ، لم تعرّف له كبوة ، ولا مين ، لا جرم شهادته عندي كشهادتين ، عقله رزين ، ودينه متين ، ومروءته غزيرة ، وفضائله كثيرة ، دأبه تلاوة القرآن ، وحوائجه الإخوان ، والصّيام والقيام ، وعدم المزاحمة على الحطام ، وحياته رحمة ، ومماته نقمة.

ومنهم الشيخ عمّار العكبري ، جد المشايخ بزاوية عكبرا اليوم ، كان كبير القدر ، مقيم بزاوية عكبرا ، ومن أهم أولاده الشيخ عبد الله ، كبير القدر ، صاحب كرامات ، وللشيخ عبد الله ولد يسمّى أحمد صالح خامل ، وهو إلى الآن موجود بالزّاوية ، ومن كرامات الشيخ عمار أن بيته انهدم ، ولم يكن له ما يعمره به ، وكان به جسران في غاية الحسن ، فعمّر صاحب عكبرا في ذلك الوقت عمارة احتاج إلى مثل الجسرين ، فرآهما فأخذهما ، فقيل له عنهما ، فلم يلتفت إلى القول ، فطفر الدّم من فمه ودبره في الحال ، وأشرف على الهلاك ، فأمر بحمل الجسرين إلى مكانهما ، وعمّر البيت بنفسه ، وبنى الزّاوية وهي الآن.

١٥٩

وهذا الشيخ عمار ، هو خادم الشيخ ضحيان ، وكان كبير القدر ، ومرّ على عكبرا ، أيام الافرنج عند مجيىء السلطان الملك الظّاهر لفتح صفد ، فتواطىء أهل عكبرا والحقاب مع الافرنج لإحسانهم إليهم ، فلمّا فرغ الفتح قصد السلطان قتل القريتين ، فجاء إليه الشيخ ضحيان يشفع ، فشفعه وأنزله وأضافه بأرض زاوية الشيخ عمار ، ولم تكن عمرت بعد ، فأعجب به ، ومال إليه كثيرا ، فعرض عليه أن يوقف عليه عكبرا ، فلم يوافق ، وبالغ معه ، وقال : لا بدّ من ذلك ، فقال إن كان ولا بد ، فهذه الأرض التي فيها السلطان ، ثمّ أعطاها لخادمه الشيخ عمار.

وكان معه فقير آخر كبير القدر ، يقال له الشيخ علي المجنون ، فعرض عليه الحقاب ، فقبلها فوقفها عليه وعلى ذرّيته ، وهي إلى الآن وقفا عليهم.

ومن الفقراء المشهورين بصفد الشيخ عبد أسود ، موله سليم الصّدر ، جاء مرّة إلى قاضي صفد ، وقال : قد فكرت في مصلحة أشاورك فيها ، فقال : ما هي؟ قال اتفقت مع امرأة أتزوّج بها ، وأنت تزن نقدها ، وتنفق عليها ، وتكسوها ، ما هذه مصلحة؟ فقال القاضي : لا ، فعزم على الترك ، فلاطفه القاضي وزوّجه بها ، ثمّ لم تنتفع به المرأة لاشتغاله بحاله ، ومن غريب حاله أنّه كان يطير من نخلة إلى نخلة بقرية الموسر عند المعصرة.

ومنهم الشيخ علي تختم العكبري الصالح بن الصالح ، كان له أحوال غريبة حكى بعض الفقراء أنّه قصد ليلا الدخول إلى جامع عكبرا ليتهجّد به ، فوجد الشيخ على المذكور فيه ، وللجامع ثلاث أبواب ، فبقى الفقير كلّما أراد أن يدخل المسجد من أبوابه وجد الشيخ على ملأ المسجد ، ولم يجد له مدخلا يدخل منه ، ومن غرائب أحواله أنّه خرج من بيته نهارا بحضرة الخلق وهو في عافية لا مرض ولا عرض ، فوقف على بابه ونادى بأعلى صوته إخوته الموتى : يا فلان ، يا فلان ، أنا الليلة عندكم ، فسمعه الناس من كلّ جانب ، فجاؤوا إليه فوجدوه ميتا رحمه‌الله تعالى.

ومنهم الشيخ منصور ، من أهل فراديه ، له أحوال ظاهرة ، وأمور

١٦٠