تاريخ صفد

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني

تاريخ صفد

المؤلف:

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

وكذلك الرّملة البيضاء ، وكذلك الجامع العمري الذي يظهر فيه النّور في ليالي الجمع ، وبها مقابر الشّهداء.

وبعمل عكّا قرية إكليل ، بها مشهد أولاد يعقوب من المزارات المشهورة ، وبقرية عاينين قبر الاسكندر ، والقطن ببلادها يفضل على قطن كثير من البلاد ويرغب فيه ، وبعكّا ميناء يقصدها تجّار الافرنج بالبضائع ، ويعبوا منها القطن يضمن بخمسين ألف درهم.

وببلاد عكّا أنواع من التّين المليح الذي يرغب فيه ، وبطّيخ أصفر سلطاني.

العمل السادس : ولاية عثليت ، وهي بلاد مباركة ، وبها جبل الكرمل من المزارات ، وإليه ينسب العسل الكرملي الذي يرغب فيه ، وبهذه الولاية بحرة صغيرة بقرب قيسارية يوجد بها التماسيح ، ويتخوّف النّاس منها ، وبها قريتان حسان بها فواكه وخيرات ، وهما : الطيرة ، والسوامر ، وتتصل بلادها بقاقون ، وهي آخر البلاد الصّفدية طولا.

العمل السابع : مرج بني عامر ، وبه ولايتان : اللجون ، وجينين ، فاللجون بلد قديم ، وهو قاعدة المرج ، وهو من عشيريمن ، وكذلك جميع مرج بني عامر ، وبه مقام الخليل إبراهيم عليه‌السلام من المزارات ، وبه مصطبة السلطان ، وخان سبيل عظيم الشّان ، يأوي إليه المسافرون.

وأمّا جينين فبلد قديم أيضا وبه خان سبيل عظيم الشّان ، لا يكاد يوجد مثله في الحسن وكثرة المياه ، وبه سوق كبير ، وبالمرج قرى أمهات ، هي عمدة البلاد الصفدية في الغلات ، كزرعين ، والفوله ، ولها قلعة حسنة وبتيتين ، وبجبلها مقام دحية الكلبي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي‌الله‌عنه ، من المزارات المقصودة ، وبجينين مركز درب الشام ومصر ، لا يكاد يخلو من البريديّة في كلّ يوم ، يمر ، على جينين من التجّار والمسافرين أنواع كثيرة.

١٢١

العمل الثامن : ولاية النّاصرة ، وهي بلاد مباركة ، وأهلها منسوبين إلى الخير والدّين ، والنّاصرة بلدة قديمة عبرانيّة ، تسمّى ساعير ، وهي مذكورة في التوراة ، يقال أنّ السّيد المسيح عيسى بن مريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر منها ونشأ ونصره الحواريون بها ، ولذلك سمّيت بالنّاصرة ، وبها حمّام قديم به جرن كبير يقال إنّ عيسى عليه‌السلام اغتسل منه ، والمقام الذي هو موضع البشارة لأمّه عليها‌السلام من الملك عليه‌السلام ، بعيسى عليه‌السلام ، يقصد للزيارة ، وبه جماعة من الرّهبان وعبّاد النّصارى يتعبّدون فيه ، وبالكنيسة التي تحت جامعها اليوم عمودان كبيران ، وقد عمل المكان زاوية للفقراء الأحمديّة فإذا حصل اجتماع ، وعمل فيه سماع للفقراء عرق العامود حتّى يظهر البلل فيه ، وللنّصارى اعتقاد في ذلك العامود كل من قصده منهم اجتهد أن يأخذ من العامود شيئا ، وأهل النّاصرة كانوا في زمن قسطنطين مفتاح دين النّصرانيّة وأساسه ، وهم في هذا الزمان رأس عشير يمن ، كما أنّ أهل كفر كنا رأس عشير قيس ، وبلاد النّاصرة قرية فرعون بلد روماني قديم لا يعرف له باني ، به مغارة مهولة معدومة في عجائب الدنيا.

حكى الأمير الذكي العارف ناصر الدّين ابن العجلوني ـ وسيأتي ذكره في ترجمته ـ أنّه دخلها وأنّه لا يعرف منتهاها طولا وعرضا وارتفاعا ، ويسمع عبرها هدير هواء ، وعلى شمال الدّاخل قبور رومانية نواويس على ما قيل أنّه فوق الألف ، وأنّهم دخلوها بمشاعل نحو ثلاثين فقطعوا نحو ميل ، ثم فزعوا من طفي المشاعل والحيرة بعد ذلك فرجعوا ، وذكر أنّهم وجدوا بها من الوطواط ما لا يحصر في مقدار الدجاج وأكبر ، وقيل أنّها تصل إلى تحت مدينة النّاصرة ومقدار ذلك بريد ، وللنّاس عنها حكايات ، ويدخل إليها من سرداب حبوا ، مقدار ثلاثة أذرع فقط.

وببلاد الناصرة قرية جيّدة بها بطّيخ أخضر يضرب به المثل بحسنه

١٢٢

وحلاوته ، وقلّة بزره ، وبالنّاصرة والريفة (١٢) جماعة يقرؤون القرآن في جماعة على طريقة حسنة.

العمل التاسع : ولاية الشّاغور ومعليا ، فشاغور البعنة جبل به قرى عامرة كثيرة الخير ، والبعنة بها دير عظيم يقصده الناس بمن به جنون فيبيتون ليلة على مصطبة به ، فيشفى بقدرة الله تعالى ؛ وشاغور عرابه ، بلاد عامرة وبه زيت كثير ، وبقرية كابول مقام أولاد يعقوب عليه‌السلام ، من المزارات المشهورة المعظّمة.

وأمّا معليا فلها حصن ، يسكن به القاضي ، وبلادها جبال ، وقرية البقيعة منها بها مياه تجري وأشجار سفرجل كثير ، ومنها جبل الزابود يشرف على صفد ، يمتد حوله قرى كثيرة الفواكه ، وبهذه المعاملة قلعة القرين ، حصن جيد فتحه الملك الظّاهر ، وبوادي القرين بساتين وطواحين ، وفواكه لطيفة ، وثمار مختلفة.

وأهل هذه البلاد غالبهم حاكمية دروز دهريّة ، ينكرون الشّرائع ، ويعتقدون التّناسخ ، ولا يعتقدون صلاة ولا صوما ولا زكاة ، ولا حجّا ولا بعثا ولا نشورا ، ويستحلون المحارم ، ولا يغتسلون من جنابة ، ويزرعون الحشيشة المسكرة في قرية يقال لها الزّابود ويعتصرون الخمر حتّى يبقى عندهم مخازن ، في غالب السنين يجهز إليهم ملك الأمراء إذا كان متدينا يريق خمورهم ويكتب عليهم قسامة بأن لا يعصروا شيئا ، إلّا أنّ هؤلاء القوم في البيع والشراء والأخذ والعطى جيدين ، موثّق بهم ، لا يكذبون في أيمانهم.

العمل العاشر : ولاية طبريّة ومن عملها الآن كفر كنّا ، ومنها البطّيحة ، فكفر عاقب.

فأمّا طبريّة فهي من المدن القديمة العظيمة الشأن ، يقال أنّه كان بها ثلاثمائة حمّام ، وهي مستطيلة على شاطىء البحيرة المنسوبة إليها ، ويقال

١٢٣

إنّها أعظم بحرة حلوة في الدنيا ، ودورها نحو يوم ، وطولها اثنا عشر ميلا ، وهو بريد كامل ، وعرضها ستّة أميال ، والجبال تكنفها ، ومنها يخرج نهر الشّريعة ولا يزال يجري في الأغوار حتّى يصب ببحيرة زغر ، وهي المعروفة ببحيرة لوط ، ويقال إنّ قبر سليمان بن داود عليهم‌السلام في بحيرة طبريّة ، وبطبريّة من الحصون والأبراج والكنائس شيء غريب كثير.

وبطبريّة مشهد السّيّدة سكينة بنت علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

وبها الحمّامات المعدودة من عجائب الدنيا ، بها مياه سخنة تنبع من الأرض ، تنفع من الرّياح والبلاغم ، والدّماميل والقروح ، والجرب ، والاستقساء ، وغير ذلك ، ومن ترهّل البدن ، ومن افراط العبالة (١٣) ويقصدها الناس ، وكذلك الحمة التي بأطراف هذه المعاملة ، على الشريعة.

وبهذه المعاملة قرية حطّين بها قبر نبي الله شعيب عليه‌السلام ، والقرية وقف على مقامه ، وله مشايخ وخدّام ومباشرين ، وبه سماط للفقراء خبز ودشيشة دائما ، ومضيف للواردين من البريدية والأعيان ، ويأتي الناس للزيارة من سائر النّواحي ، لا سيّما يوم الجمعة ، كنت أتوقف في كون سيّدي شعيب هنا حتى رأيت كأنّي جئت للزيارة وجلست عند الضّريح ، فانفرج وخرج منه شيخ مهيب حسن ، قلت : أنت نبي الله شعيب؟ فقال : نعم ، ثمّ قال : وأنا أعرفك وأحبّك ، فإن خطيبي الخطيب إسماعيل يحضر فيثني ، ويدعو ، فقلت : كان خطيب ، الإنسان له عنده مودّة ، فقال : نعم ، فقلت : وأنا خطيبك أيضا ، فقال : نعم ، ولكن أنت خطيب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ حدّثني كثيرا.

وفي هذا العمل مدينة كفركنا ، لا تخلو من جماعة من الصالحين ، وأرباب الكشوف ، وسأذكر جماعة منهم في هذا التاريخ ، إن شاء الله تعالى ، فهي معدن الصّالحين ، وموطن الأولياء ، وبكفركنا مقام أولاد

١٢٤

يونس عليه‌السلام ، من المزارات المشهورة ، الدّعاء به مستجاب ، وخدامه صالحون وبكفركنا مقدّمين العشرانات أمير طبل خاناه ، وهم رأس قيس أهل فتن وأهواء ، وبقربها مكان يعرف بالبطوف ، به قرى حسان ، وبه أرض تعرف بمرج الغرق ، تجتمع فيها المياه ، وليس لها مخرج ، فإنّ تلك الأرض بها جبال محيطة بها ، وفي الشتاء يجتمع فيها من الأمطار ماء عظيم ، حتّى يصير بحيرة ، ثمّ تشربها الأرض قليلا قليلا ، وكلّما جفّ منها مكان زرعوه كما يفعل أهل مصر.

وبهذا العمل جبل الطّور ، عليه حصن بديع ، وبه حصن كوكب ، وبالبطوف مقام العزير وقبره ، وبالرّومة قبر روبيل ، مزار يقصده اليهود ، والمسلمون وعليه قبّة ومقام الشيخ علي البكّاء (١٤) بتوعان ، وبه قرية الشّجرة ، بها مقام عظيم ، عليه مهابة ، يقصد بالزيارة ، والدّعاء فيه مستجاب ، فهذه ولايات البلاد الصّفدية وأعمالها.

وفي الجملة فصفد مدينة لا بأس بها ، لكنّها ليست على ترتيب المدن ، كان خلاصتها حصنها الغريب ، ثمّ بني عليه ربض يسير ، ثمّ زيد فيه تلفيقا بلا ترتيب.

قال بعض أهل الطّرف في مقام المطايبة واللطف حين سئل عنها ، وقيل له : اشهد لنا بما تعلم منها؟ فقال : صفد وما أدراك ما صفد ، مدينة الحزن والنّكد ، والفقر والحسد ، والهم والكمد ، عيشها غير رغد ، وكان سرّها حصنها ففسد ، لكثرة الصواعق والأمطار ، وتواتر الزلازل في الليل والنّهار ، وأمطارها سيول ، وصواعقها تهول ، وشتاؤها لا يزول ، وساحتها معدن الفضول ، فرجتها ثلاثة : وادي في الدّرك الأسفل ، وميدان كالسّمك الأعزل ، وحواكير عن عقاربها لا تسأل ، وعجائبها ثلاثة : مآذن بلا جامع ، وحمّام بلا ماء ، ليس للكلاب عن مصنعه مانع ، وأسطحه لا تتميز من الشوارع ، خيرها من الجلب ، ومواشيها سريعة العطب ، وكثير فيها الحسد ، وقليل فيها الذّهب ، وجامعها بلا ميضأة

١٢٥

للطّهارة ، ومسلخها يرمي الطير من القذارة ، وهي مفرقة للعمارة ، في الشّرق حاره ، وفي الغرب حاره ، المغضوب عليهم يجهزون للإقامة في أكنافها ، والضّالون من الدّروز والرّافضة في غالب أطرافها ، أحسن حمّاماتها سفر طويل ، من ذهب إليه خجل بالغداة والأصيل ، وعند خروجه من حره إلى الهواء الوبيل يقول : هل إلى مرد من سبيل ، لا مدرسة ولا رباط ، ولا محل نزهة ولا انبساط ، من دخلها حزن ، وضاق صدره ، ومن خرج منها فرح وسرّ قلبه ، ويكفي من البرهان أنّها بيت الأحزان ، يعقوب عليه‌السلام فيها لفرط حزنه ذهب بصره ، ويوسف عليه‌السلام ألقي في الجب ، فلم يجد من ينصره ، ليس لها باب ولا سور ، وغالب بيوتها مبنية على القبور ، ولا بها مال جزيل ، ولا من يعين على نوائب الدّهر ، فصبر جميل.

أما سمعت قول ابن حلاوات في أبياته المشهورة ، شعر :

جهنّم أصبحت لا شكّ فيها

لها من كلّ ناحية عقاب

فنهض إليه بعض الإخوان وقال : مهلا أيّها الإنسان ، فما تلاطفت ولا أنصفت ، ولا خلوت من تحمّل من فيما وصفت ، تتفوّه بصفتها ولا تتنوّه ببهجتها ، أنسيت جامعها الأحمر ، وصحنه الأنور ، موطن الإنابة ، ومحل الإجابة ، ومنهل الأوطار ، ومعدن الأخيار ، هلا ذكرت ميدانها الذي يشفي رمد العين ، ويري من به مجمع البحرين ، يمنح ويرتع طرفه مزاين الجناين ، أنسيت هواها اللطيف ، وماءها الخفيف ، حتّى كان الافرنج من جميع الأنحاء يحملون من مرض إليها لطلب الشّفاء ، هلا ذكرت أترانجها (١٥) المتّفق عليها ، والحكي عنها ، والمشار إليها ، تحمل إلى البلدان ، وتهدى إلى ملوك الزمان ، هلا ذكرت التين الماروني ، والجبن العثروني ، والعسل الشقيفي ، والكرملي ، والتفاح الأحمر الفرعمي (١٦) ،

١٢٦

هلا ذكرت الساتورة وغرائبها المأثورة ، وحلزون البرج الكبير ، وكيف الفارس من أسفله إلى أعلاه يسير ، أنسيت رياض اليكرا ، وما عن شقائقها الملونة يحكا ، والحواكير وبديع أزهارها ، وما يطرب في السّحر من نغمات أطيارها ، هلا ذكرت عمارة الخليفة ، ومصطبتها اللطيفة ، ومنظرها الذي يشرح الصّدور ، ويروي من به البر والبحر ، حتّى يظن الغريب أنّ البحر منه قريب ، أنسيت بركة الدّجاج ، وماؤها الثجّاج ، وسفح القلعة في زمن الربيع ، وما يظهر به من الزّهر البديع ، هلا ذكرت مغارة نبي الله يعقوب ، التي تجلي الهموم ، وتزيل الكروب ، وقد شاع بلا ارتياب أنّ الدّعاء فيه مستجاب ، أنسيت النّابل وكنعان ، وكيف يظهر فيها الأولياء بالعيان ، هلا ذكرت وادي لبيه ونزهته ، ومقام سيدي محمد الكويّس وبهجته ، وحمّامها الجديد ، وعين السّاحة التي هي بيت القصيد ، أنسيت ما قال شرف الدّين حسين بن الكمال (هو جد المؤلف) : شعر :

صفد وطني وبها وطري

روى صفد أوبل المطري

بلد ما يعد لها بلد

في طيب هوى رطب عطر

تغدو الأبدان لصحّتها

ولها نور مثل القمر

تولى ، وهو يقول : هيهات : هيهات ، وحق منى وعرفات ، إنّ هذه الأسماء على غير مسمّيات.

وكان حصنها من أجلّ حصون الافرنج ، وأمنعها ، وأشدّها ضررا على المسلمين وأشنعها ، وكان به طائفة يقال لها الداوية ، نار موقدة وبلية ، عزبان فرسان ، معدودون للغارات على البلدان ، تصل غاراتهم من جهة دمشق إلى داريّا وما يليها ، ومن جهة بيت المقدس إلى كركمة (١٧) ونواحيها ، فيسّر الله عزوجل فتحها على يد الملك الظّاهر بيبرس رحمه‌الله تعالى ، ورضي‌الله‌عنه ، وأثابه الجنّة في رابع عشر شوّال سنة أربع وستّين وستمائة ، بعد أن حصره مدّة طويلة.

ومن محاسن ما اتفق أنّ المسلمين يوم الجمعة بجامع دمشق تضرّعوا

١٢٧

إلى الله عزوجل وسألوه فتح صفد ، وارتفع ضجيجهم ، وابتهل خطيبهم ، وفي تلك الساعة طلب الافرنج الأمان على أن ينزلوا بأثاثهم ويتوجّهوا إلى السّاحل مجرّدين من غير حمل عدّة ولا مال ، فلمّا نزلوا خانوا ونكثوا ونقضوا العهد ، فضربت أعناقهم على تل يعرف بجبل المقتلين ، وأنّ أهل عكّا لمّا بلغهم ذلك بعثوا رسولا ، وطلبوا من السلطان أذنا في نقل هؤلاء الشّهداء المقتولين ، ليدفنوا بعكّا تبرّكا بهم ، فقال للرّسول أقم إلى غد لتعود بالجواب ، ثمّ توجّه ليلا في جماعة من الفرسان ، فأصبح بعكّا صباحا ، فقتل من أهلها جماعة ، ثمّ عاد إلى صفد من يومه ، وطلب القاصد ، وقال أخبرهم بأنّه قد صار عندهم شهداء كثيرة وتوفر عليهم كلفة النقل.

ولمّا حصل الفتح سرّ السلطان وابتهج ، ورمّم شعث الحصن ، وما فسد منه بالقتال ، ثمّ بنى على الحصن هذه الباشورة البرانيّة ، ونصب محرابا في الكنيسة ، وجعلها جامعا ، وصلّى بهم والعصابة الحرير التي بمنبر القلعة ، على رأس الخطيب اليوم ، هي التي كانت على رأس الملك الظّاهر يوم الفتح.

وقدم العلماء والصالحون من الشّام إلى صفد يهنّئون السلطان بالفتح من جملتهم الإمام النووي رحمه‌الله تعالى ، وصل وهو يبني على باب السّر شمالي الحصن ، وكان مجيئه ماله نظير إلّا فتح القلعة.

أخبرني بذلك من حضره ممّن أثق به.

ولمّا تمّ ما قصد من هذا الفتح الجليل ، وعزم على التّوجّه والرحيل ، رتّب جماعة من خواص مماليكه العزيزة عليه ، وأعطاهم الاقطاعات الثقيلة ، وعرضهم بين يديه ، وقرر لأرباب القرآن الذين أحضرهم من سائر الجهات جزيل النّفقات ، فبلغ المصروف في كل شهر ثمانين ألف درهم ، وأرصد لهذا الحصن حواصل كثيرة من القرى ، كان يخزن منها في

١٢٨

الحصن في كل سنة اثني عشرة ألف غرارة غلة بالدمشقي ، وتستمر مخزونة حتّى يتحصّل المغل الثاني ، ثم تصرف الغلّة المخزونة ، وتخزن الغلّة الجديدة ، حتى لا يخلو الحصن عن اثني ألف غرارة مخزونة به دائما ، والماء بالحصن كثير في آبار وصهاريج ، ولا يكاد يفرغ ، وبه ماء ينبع في مكان يعرف بالسّاتورة ، معدودة من عجائب الدنيا ، عمقها مائة وعشرة أذرع في عرض ستّة أذرع بالنجار ، مركب عليها مرمة هندسية من الخشب : بسقال ، يلتف عليها حبل سرباق مركّب فيه بتيتين (١٨) خشب ، تسع كل واحدة نحو راوية ماء ، وكل ما وصلت بتيتة إلى الماء وصلت الأخرى إلى رأس البير ، وعلى رأس البير ساعدان من حديد بكفّين وأصابع تتعلق الأصابع في حلقة البتية الملآنة ، وتجذبها الكفّان ، فينصب الماء إلى حوض ، وهذا الماء نبع ، ويذكر أنّ عمق الماء بها ستّون ذراعا.

ولمّا تمّ بناء الباشورة رسم أن يعمل برج غريب في وسط القلعة يعرف ببرج الظّاهر ، ووصفه بصفات عظيمة منها كبر الآلة جدا بحيث أنّ بابه الأسفل نحو ست حجارة ، فبني على تلك الصفة كثير منهم ، وأنّه كتب إلى السلطان الملك الظّاهر في أثناء البناء أنّ القنّب بالشام فقد ، ونقل الآلة يستدعي سرباقات كثيرة ، ولا تعمل إلّا من القنّب ، واستأذنوه في تخفيف الآلة فأجابهم بأنّ الحرير عندنا كثير ، فكبّروا الآلة ، وسيصل إليكم من الحرير ما يعمل مكان القنّب ، فرحمه‌الله ورضي عنه وأثابه جنّة النعيم ، آمين.

وارتفاع هذا البرج مائة وعشرون ذراعا ، وقطره سبعون ذراعا ، وهو ثلاث مساكن ومخازن ومنافع وطاحون تدور بالخيل ، وبير ماء جمع ، يكفي لمن يكون في هذا البرج طول الحول ، وله حلزون بغير درج ممشا عجيبا يسع ثلاث فرسان صفّا واحدا ، يصعد منه إلى سطحه ، ثمّ توجه إلى مصر المحروسة مسرورا بما منحه الله عزوجل ، وجهّز إلى نيابة صفد نائب عجلون.

١٢٩

النّائب الأوّل كيكاري العلائي ، وكان رجلا ديّنا خيّرا عفيفا عزيزا على الملك الظّاهر ، وكان حصن قلعة عجلون عند السلطان الملك الظّاهر من أجلّ الحصون قبل صفد ، فجهّز العلائي لمنزلته عنده ، فأقام بالقلعة ولا يستطيع أحد البناء بالمدينة ، خوفا من الافرنج من أهل عكّا وصور وعثليت ، وأقام العلائي مدّة ثمّ رحل إلى رحمة الله تعالى.

فحضر للنّيابة بصفد الأمير سيف الدين طغريل ، الرّجل الصّالح الولي صاحب الترّبة المعروفة ، والقيساريّة العتيقة الموقوفة في سنة خمس وستّين وستمائة ، فأقام مدّة يقصده النّاس للزيارة ، وطلب الدّعاء ، ثم مات ودفن في ترتبه في قبّة تجاه الجامع.

ثمّ حضر للنيابة الأمير سيف الدين بلبان العلّائي في سنة ثلاث وسبعين وستمائة ، فأقام بها مدّة ، وفي أيامه تكاملت عمارة الجامع الكبير الظّاهري سنة أربع وسبعين وستمائة ، بعد الفتح بعشر سنين ، ثمّ بنيت دار الخطابة بفضلات حجارة الجامع ثمّ بني بعض بيوت بالمدينة تلفيقا بحارة الصّواوين وأطراف حارة الجامع.

ثم مات السلطان الملك الظاهر رحمه‌الله تعالى ورضي‌الله‌عنه في المحرّم سنة ست وسبعين وستماية بدمشق المحروسة ، فتملّك بعده ولده السعيد ، وسلامش كل واحد منهما نحو سنة.

ثمّ تملّك السلطان الملك المنصور قلاوون الصّالحي أبو السلاطين إلى الآن ، حفظ الله نعمتهم ، وأدام ملكهم في شهر رجب سنة ثلاث وسبعين وستمائة.

ثمّ خرج سنقر الأشقر على الملك فتملّك بالشام ، فخرج إليه الملك المنصور فكسره وهزمه ، ثمّ توجه السلطان إلى التاتار فهزمهم وكسرهم (١٩) ومثّل بهم في شهر رجب سنة ثمانين.

وجهّز إلى نيابة صفد حين مات العلائي ، الأمير علاء الدين

١٣٠

الالدكزي في سنة ثمانين ، ثمّ كبرت صفد حينئذ ، واتّسعت قليلا في أيامه وبنى الحمّام المعروفة به ، وسكن بالمدينة ، وبقي الحكم بدار العدل في باب القلعة ، واستمر الحال وأهل عكّا وصفد بينهما هدنة ، إلى أن فتحت طرابلس بالسّيف عنوة سنة ثمان وثمانين وستمائة ثمّ حصل من الافرنج خيانة ونقض عهد ، فعزم الملك المنصور على غزوهم ، فمات قدّس الله روحه بمصر سنة تسع وثمانين وستمائة ، وعهد إلى ولده السلطان الملك الأشرف خليل ، وأوصاه بفتح عكا وغزوها قبل كل شيء ، فلما تملك لم يكن له دأب ألّا التّوجّه إلى عكّا بجيوش عظيمة ، واحتفل لذلك احتفالا بالغا ، ولم يتخلّف عن غزو عكّا أحد ممّن أمكنه التوجّه ، وحصل الاجتهاد التّام والمصابرة على القتال حتّى يسّر الله عزوجل فتحها بالسّيف ، يوم الجمعة رابع عشر جمادى الأوّل سنة تسعين وستمائة ، ثمّ هدمها بوصيّة والده ، وظهور المصلحة في ذلك ، واجتماع الآراء على ترجيحه.

فلمّا فتحت عكّا ، ورأى الفرنج الغلبة ، وقع في قلوبهم الرّعب ، وخافوا على أنفسهم من الهلاك ، فسلّم أهل الحصون والثّغور التي بالسّواحل جميعها : أهل صور ، وحيفا ، وعثليت ، وقيساريّة ، وغير ذلك ، وطلبوا الأمان ، ودخلوا البحر ، وخلا ساحل الشام المبارك من الافرنج ، وطهّر الأرض المقدّسة منهم ، وقطع دابرهم ، وقلع آثارهم (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٠).

فلمّا صارت السواحل للمسلمين ، ومحيت آثار الكافرين ، اطمأنت الخواطر ، وطابت القلوب وابتهجت النفوس وطابت أنفس الناس على الإقامة بصفد ، وقصدوها من البلاد لطيبها وصحّتها ، وما بها من الخير في ذلك الوقت ، لقرب العهد بالفتح المبارك ، وعمل بها موضع مبارك للنيابة بها ، واستقرّ في المدينة نائب بمفرده ، وبالقلعة نائب بمفرده ، فأوّل النوّاب بالمدينة الأمير علاء الدين الالدكزي سنة تسعين وستمائة ، واستمرّ إلى سنة إحدى وتسعين وستمائة ثمّ مات.

١٣١

فحضر ايدكين الصّالحي ، ثمّ مات الملك الأشرف رحمه‌الله تعالى ورضي عنه ، وتملّك أخوه السّلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ، والد الملوك والسلاطين ، ومن دان له العباد والبلاد ، وأطاعه كل حاضر وباد ، تغمّده الله برحمته ورضوانه ، ثمّ مات ايدكين الصّالحي ، ودفن بتربة جدّه [المؤلف] الشيخ كمال الدين لصحبة كانت بينهما ، ورغبة في مجاورته.

ثمّ حضر الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار يوم الجمعة سابع ربيع الأول سنة اثنين وتسعين وستمائة ، كان من أهل الخير ، الراغبين في القربات ، وهو باني الجامع بحارة الأكراد ، والحمّام بعين الزيتون ، الرّبع منه وقفا للأكفان ، ثمّ خلع السلطان الملك الناصر من الملك سنة أربع وتسعين وستمائة ، وتسلطن جماعة ، ثمّ أعيد السلطان إلى الملك سنة أربع وتسعين وستمائة.

وحهز للنيابة بصفد المحروسة الأمير فارس الدين الالبكي وكان كبير القدر عظيم الحشمة ، فأقام بصفد مدّة يسيرة.

ثمّ حضر للنّيابة بصفد الأمير سيف الدين كراي المنصوري ، وكان نائب الشّام في ذلك الوقت الأمير جمال الدين أقوش الأفرم ، وكان كراي من الدّينيين ، صاحب سخاء ومروءة ، وموفاة في الصّحبة ، انتفع بصحبته قبل نيابته جماعة منهم عمّي الشّيخ نجم الدين بن الكمال ، ولمّا نقل إلى نيابة الشّام أخذه معه ، وفوّض إليه أمور الشام ، وفي تلك الأيام كانت وقعة غازان سنة تسع وتسعين وستمائة ، وكان رجلا عظيما عفيفا ديّنا يحب الخير وأهله ثمّ طلب إلى مصر.

وحضر للنّيابة الأمير سيف الدين بتخاص ، وكان ظالما غاشما تجاوز الحد في الظّلم ، حتّى كان يرمي الخلق في المنجنيق ، وكان بقلعة صفد مؤذن من الصّالحين الأخيار قد جلس للفطر ، وكان صائما فرمى بتخاص رجلا في المنجنيق ، فوقع الرّجل بدار المؤذّن فتقطّع وانتشر رأسه ،

١٣٢

وانفجر جوفه ، فصرخ المؤذن من هول ما شاهد ، وبكى وتوجّه في بتخاص إلى الله ، فأخذه الله ، وكانت نيابته مشقة عظيمة على الخلق.

وفي تلك الأيام كانت وقعة مرج الصفر ، وذكيان وكسرت التاتار بشقحب ، وقطع دابرهم وأسلم غالبهم بعد ذلك ولله الحمد والشّكر (٢١).

ثمّ حضر للنّيابة بصفد الأمير شمس الدّين سنقر شاه ، كان يحب الفقراء ويكرمهم سنة ثلاث وسبعمائة ، وهو الذي بنى زاوية الشّيخ قليبك بعين الزيتون ، وأقام في النّيابة مدّة.

ثمّ حضر علم الدين سنقر الجوكندار النامي سنة خمس وسبعمائة ، وكان رجلا صالحا عفيفا تقيّا خيّرا ، فيه حدّة ، نقل عنه مخالفة ، فأقام بصفد إلى أن مسك بها في سنة إحدى عشرة وسبعمائة.

ثم حضر للنّيابة بصفد الأمير سيف الدين بهادراص ، في السنة المذكورة فأقام مدّة.

ثمّ حضر للنيابة بصفد المحروسة الأمير سيف الدين طرنطاي بمتسفر أرقطاي أخوه.

ثم حضر للنيابة الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر ، من مصر المحروسة في نهار الأحد العصر ثالث عشرين المحرّم سنة سبع ثلاثين وسبعمائة ، من طريق حطّين ، وأقام إلى سنة أربعين وسبعمائة ، فبنى الحمّام المعروف به ، ووسّع اسطبل النّيابة ، وكان جبّارا قليل الشّفقة ، لكنّه كثير الصّدقة ، ومما يدل على عدم شفقته ، أنّ عم الشّيخ برهان الدين خطييب القلعة مرض بالفالج ، وبقي على جنبه أربع سنين ملقى ، حتّى تقوّرت أجنابه وأفخاذه ولا قوّة له ، وعائلته في تلك الحالة غير معلوم الخطابة يتقوتون به يوما بيوم ، فسعى إنسان عند طشتمر ، فكتب إلى مصر إلى ذلك ، فلمّا وصلت مطالعته اتفق حضور الأمير سيف الدين أرقطاي بين

١٣٣

يدي مولانا السلطان ، فقام وبكى وقال : يا مولانا السلطان هذا الخطيب من بيت صالح وفقير ، وله خمسون سنة على رؤوس المسلمين يدعو لمولانا السلطان ، وهو الآن مبتلى ، فكيف تقطع رزقه في أيامك؟ فغضب السلطان ، وكتب بأنكار ذلك إلى طشتمر ، وبعد أيام يسيرة رسم له بالتوجه لمسك تنكز.

وجاء بعده اقسنقر السلاري فولّاني الخطابة لساعته ، تغمّده الله برحمته ، وأسكنه فسيح جنته ، ومن جبروته وعدم شفقته أنّه كان مغرم بقتل الكلاب ، بالغ في ذلك وزاد ، وكان في كلّ ليلة من ليالي رمضان يذبح بقرا وغنما ، ويتصدّق على كل من يطلب ، وأمّا أيّام الأعياد والمواسم فكان يغمر الناس بالعطايا ، ويذبح هو شيئا كثيرا ، ولمّا ورد عليه المرسوم الشّريف صحبه حلاوات البريدي لمسك تنكز (٢٢) ، خاف على نفسه ، فظنّ أنّ الأمر بالعكس ، فلمّا وصل واطمأنّ ومسك تنكز تغمّده الله برحمته ورضوانه ، وكان له في نيابة الشام نحو ثلاثين سنة ، وأمّا طشتمر فإنّه رسم له بالتوجه إلى نيابة حلب المحروسة ، فكانت نيابته بصفد أربع سنين وتسعة وعشرون يوما.

ثمّ حضر للنّيابة بصفد المحروسة الأمير سيف الدين أقسنقر السّلاري ، الرّجل الصالح الدين ، العفيف اللطيف ، رحمه‌الله تعالى ورضي عنه في نهار الإثنين خامس عشر صفر سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ومتسفره طاجار الدوادار فأقام بصفد سبعة شهور ونصف ، ثمّ نقل إلى ناحية السّلطنة الشريفة بالباب الشريف.

ثمّ حضر بعده للنّيابة من مصر المحروسة ، الأمير بهاء الدين اصلم في نهار الجمعة وقت التّذكير ، رابع شوّال سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ، ومتسفرة محمود ابن أخت قوصون.

ثمّ مات السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان قلاوون قدّس الله روحه يوم الأربعاء عشرين الحجّة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ، ودفن

١٣٤

بالمدينة المنصوريّة ليلة الجمعة بعد ما دانت له العباد والبلاد ، فسبحان الدائم بلا زوال وكانت مدة ملكه اثنتان وخمسون سنة وتسلطن بعده ولده الملك المنصور أبو بكر يوم الخميس ؛ ولم يقم في الملك إلّا قليلا ، ثمّ قتل ، وكانت دولته ثمانية وخمسون يوما ، ثمّ تسلطن أخوه الملك الأشرف صلاح الدين كجك أقامه قوصون في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ، والأمير بهاء الدين اصلم في نيابة صفد ، ثم توجّه إلى دمشق لقتال طشتمر والفخري ، بمرسوم قوصون ، فوصل إلى قارا ثم ردّه الفخري إلى دمشق ، وحلفوا جميعا للسلطان الملك الناصر أحمد صاحب الكرك ، وجهّزوا أصلم إلى مصر ، وكانت سلطنة أحمد في نهار الخميس ثامن عشرين رمضان سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.

ثمّ حضر للنّيابة من مصر الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي الكبير ، قبل صلاة الجمعة تاسع عشر القعدة سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ، ولم يدخل صفد مثل طلبه قط ، كأنهم نار موقدة بأعلام كلها حمر ، ولبس خيولا ورجالا ، فسبحان الملك العظيم ، ومتسفرة تكا الخضري ، فأقام بصفد نحو سبعة وثلاثين يوما ، ثمّ بلغه أنّه سيمسك ، فخرج بمماليكه في نهار الإثنين سادس عشرين الحجّة ، وهم دون المائة لابسين عدّة الحرب ، فركب العسكر الصّفدي خلفه ، فقال لهم : ارجعوا فلا ضرورة لكم باتّباعنا ، فتشاوروا وخافوا من الرجوع دركا ، فردّ عليهم جماعة يسيرة من غير علم الأحمدي فجرحوا جماعة منهم ، وقتل الحاجب الصغير عمر البتخاحي ، فهرب الباقون ، ورجعوا عنه شر رجوع ، فتوجه إلى دمشق على حميّة ، فلم يقف في وجهه أحد من عسكرها ، فندم الصفديون وقالوا : يا ليتنا فعلنا كما فعلوا.

ثمّ حضر نائب غيبة الأمير علاء الدين مغلطاي المرتيني من دمشق المحروسة ، فأقام ثمانية وأربعين يوما ، وكانت دولة السلطان الملك الناصر أحمد تسعة وتسعون يوما ، ثمّ هرب إلى الكرك.

١٣٥

ثمّ تسلطن أخوه الملك الصالح إسماعيل في خامس شهر المحرّم سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ، وجهّز لنيابة صفد الأمير سيف الدين طينال من نيابة طرابلس ، وكان جليل القدر عظيم الحشمة ، فأقام بصفد سبعة عشر يوما ، ثمّ مات ، ودفن بمغارة يعقوب عليه‌السلام يوم الجمعة سابع ربيع الأول.

ثمّ حضر للنّيابة بصفد الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي الصغير من مصر بمفرده ، في نهار الخميس عاشر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ، فأقام في النّيابة عشرة أشهر وستة وعشرين يوما ، ثمّ نقل إلى نيابة حماة.

ثمّ حضر للنّيابة بصفد الأمير سيف الدين بلك الجمدار من مصر ، في نهار الأحد سابع عشر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة ، ومتسفره قصرات ابن أخت بكتمر السّاقي ، فأقام مدّة ، ثمّ توجّه إلى حصار الكرك وهو حاضر وكان هناك للحصار الجاولي وأرقطاي ، فغاب بلك خمسين يوما ، ثمّ عاد إلى صفد ، ثمّ طلب إلى مصر يوم الجمعة والنّاس في الصلاة تاسع ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة وكان بلك ظالما غاشما لا يخشى عارا ، عظيم الطّمع لدناءته ، كثير الغفلة عن رعيته لا يفرّج لهم همّا ، ولا يكشف عنهم ضيما ، الحقوق في أيامه ضائعة ، والمنكرات شائعة ، لا حرمة له على حاشيته ، فكثر أذاهم لرعيته ، ولمّا حضر القاضي شهاب الدين البارزي ، بعد أن جرى ما جرى للخضري ، جاء مملوك من مماليك بلك يقال له ولنجي ، فدخل في دهليز القاضي ، وعيط وخبّط فشحطوه وأخرجوه بعد ما أزعجهم وأزعجوه ، ثمّ ركب القاضي وارتحل ، فاضطرب بلك وحصل له الوجل ، فجهّز جماعة من الامراء ولحقوه عليه وردّوه ولاطفه بلك ، واعتذر إليه ، وضرب مملوكه حتّى غشي عليه ، ومن أسباب فساد أحواله أنّه كان قد فوّض الأمر إلى استداره خضر بن اقبجا الفليحي ، وهو ميشوم ظلوم

١٣٦

غشوم ، وهو في الأصل عديم الدين والعقل ، تنوّع في الظّلم ، وتجاوز الحد فيه ، ولم يبق له من يردّه عن ذلك ولا ينهيه ، حتّى ألهم الله عزوجل جماعة من الصالحين أن يدعو عليه برؤيا رآها بعضهم أنّ فلانا وفلانا وسمّاهم يجتمعوا غدا يوم الأربعاء بين الظهر والعصر ، ويدعو على هذا الظالم فيستجاب فيه كما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأحزاب في ذلك الوقت واليوم فاستجيب له ، فدعوا فأجيبوا ، وكان الشيخ علي القرشي من الصالحين المكاشفين يقول في بيت بلك شاب لا يخرج منه ، ثمّ جاء في بعض الأيام وقال : خرج وجاء الفرج ، وكان من أسباب عزله حكاية القاضي الخضري ، وخروجه من صفد لأجله وكان لبلك فقيه من كبار الصالحين ، لمّا رأى ما هو عليه فارقه رب العالمين ، وكان دواداره سيف الدين قطلوبك ، من أهل الخير وأرباب مكارم الأخلاق ، يقضي حوائج الناس ، والفقراء ، والضعفاء ، ويفتقد المحتاجين جزاه الله خيرا ، وأعظم له أجرا ، ولمّا خرج بلك من صفد دعا الناس حين ركب ووقف بفرسه في الساحة ، وجعل يودّع الناس ويبكي ، ويقول : حاللوني فالذّنب كان لصاحبكم الاستدار ، هو منكم وناظر الديوان ، وأنا محجوب عنكم ، ولم أكن أطّلع على ما يفعلوه فبكى الناس وحاللوه ، وتوجّه بعد ما ودّعهم ، وهذا من سلامة صدورهم ، وحسن طواعتهم ، وقلة شرورهم ، فإنّ أهل المملكة الصفدية من أحسن رعية ، لا تعرف لهم شكوى ، ولا مرافعة ، ولا عارض أحد منهم حاكما ، ولا فازعه ، بل طاعة وقول معروف ، وإن ظلموا صبروا ، وإن عدل فيهم أظهروا ونشروا ، وإن أحسن إليهم مدحوا وشكروا ، ولا جرم أنّ الله عاملهم بألطافه الخفيّة ، وقلّ أن جاءهم نائب إلّا وفي قلبه الرحمة ، وكانت نيابته سنتان وأربعة شهور وخمسة وعشرون يوما.

وفي هذه السنة توفي الملك الصالح إسماعيل في يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر ، ثمّ تسلطن أخوه الملك شعبان ، فكانت دولة الملك

١٣٧

الصالح ثلاث سنين وشهران ونصف ، وكانت سلطنة الملك الكامل في نهار الخميس ثاني عشرين ربيع الأول سنة ست وأربعين وسبعمائة.

ثمّ حضر بعده المقر السّيفي الحاج ملك من نيابة حمص جريدة بلا طلب (٢٣) ، نهار الخميس مستهل جمادى الأول سنة ست وأربعين وسبعمائة ، وكان رجلا صالحا عالما ورعا ، متواضعا ، كبير القدر ، جميل الذّكر ، لا يحكم إلّا بالشّرع ، وكان يأخذ الحقّ من القوي للضعيف ، فعفّى آثار بلك ومحاها ، وكشف طرائق الحق والعدل وجلاها ، وهو في غاية اللطف والدين ، يمر على العامّة فيسلّم عليهم يمينا وشمالا ، إتّباعا للسّالفين فما أحقه بقول القائل : شعر :

إذا أردتّ شريف الناس كلّهم

فانظر إلى ملك في زيّ مسكين

ذاك الذي عظمت في الناس دولته

وذاك يصلح للدنيا والدين

وله محاسن كثيرة ، ومآثر غزيرة ، وكان له ولد يسمّى بالأمير شهاب الدين ، على طريق والده ، في العفّة والدين ، والتّواضع واللين ، يقوم مع الضعفاء والمساكين ، ويتصدّق على الفقراء والمحتاجين ، ينسب إلى المكارم ، فيقصد للمغانم ، فرحم الله والده ، وأبقاه ، ودفع عنه كلّ شر ووقاه ، وكانت مدّة نيابته سبعة أشهر ، واثنان وعشرون يوما ، ثمّ طلب إلى مصر صحبة المقر السّيفي منجك فوصل إلى بعض الطريق ، وخفي خبره رحمه‌الله تعالى ، وذلك في ثامن وعشرين الحجّة.

ثمّ حضر للنّيابة بعده المقر السّيفي أراق من نيابة غزّة ، في نهار الخميس ، عاشر شهر صفر سنة سبع وأربعين وسبعمائة ، فأقام بصفد إلى سلخ جمادى الآخر ، فأحسن إلى الصفديين ، وأكرمهم ، لأنّه كان منهم ، تولى قبل ذلك نيابة القلعة عندهم زمانا طويلا ، وكان فيه خير وشفقة ، وبر وصدقة ، ومع عجم لسانه وانغتامه (٢٤) كان موفقا في أحكامه ، مسددا في كلامه.

١٣٨

وفي شهر رجب الفرد مات السلطان الملك الكامل ، نصف شعبان ، وتسلطن أخوه الملك المظفر حاجي في شهر رجب سنة سبع وأربعين وسبعمائة ، ثمّ طلب المقر السّيفي يلبغا اليحياوي نائب الشام المحروس أراق ، فحضر من صفد أكابرها ، فجرى لهم ما جرى ، ثمّ انهزم يلبغا ، وأقام أراق بدمشق ، فكانت نيابته ثمانية أشهر إلّا ستة أيام.

ثمّ حضر للنّيابة بصفد المقر السّيفي أرغون شاه من مصر ، في ثاني شوال سنة سبع وأربعين وسبعمائة ، وكان جبّارا شرسا ، يحكم بعقله مع جهله ، فأقام مدّة ، ثمّ نقل إلى نيابة حلب في عشرين صفر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، صحبة طنير ، وكانت نيابته خمسة شهور إلّا عشرة أيام.

ثمّ حضر للنّيابة المقر الفخري إياس ، من حجوبية الشام ، فأقام شهرا واحدا وثلاثة عشر يوما ، ثمّ نقل في ثالث ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.

ثمّ حضر للنّيابة المقر السّيفي ألاجا من نيابة حمص ، مريضا في محفة ، واستمر مريضا إلى أن توفّي في سادس شهر رمضان المعظّم سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، ودفن بمغارة يعقوب على نبينا وعليه‌السلام عند قبر الأمير سيف الدين طينال ، ولم يجلس بدار العدل الشريف ، ولا حكم بين اثنين.

ثمّ حضر بعده للنّيابة المقر السّيفي قطز اميرآخور ، من مصر على خيل البريد نهار الأحد ليلة عيد الفطر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ، وكان سيّدا عفيفا ، رجلا صالحا خيّرا ، فأقام بصفد مدّة يسيرة ، وهي إلى شهر صفر سنة تسع وأربعين وسبعمائة.

ثمّ وقع الطاعون العظيم ، الذي عمّ المشارق والمغارب ، ولم يسمع بمثله من قديم الزمان ، كان يموت بصفد مع صغرها كلّ يوم جماعة

١٣٩

فوق المائة ، حتّى كنت أمر من الجامع الكبير ، إلى القلعة فلا أجد أحدا ، ولقد ماتت عندنا امرأة فلم نجد من يحملها إلى المقبرة ، حتّى حملت معهم بنفسي بعض الطّرق ، وعمّ هذا الطاعون البر والبحر ، والبقر والحيوان ، والطّيور ، فكانت نيابته أربعة أشهر ، ثمّ توجّه إلى دمشق فأقام بها ، وفي تلك المدّة مات السلطان الملك المظفّر ، وتسلطن أخوه الملك الناصر حسن بن محمد.

ثمّ حضر للنّيابة المقر الشّهابي أمير أحمد مشد الشّربخاناه من مصر ، يوم الإثنين في مستهلّ ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبعمائة بالطاعون ، وكان سيّدا جليلا ، موقرا كثير المكارم عظيم الحياء صاحب همّة عالية ، وشجاعة مشهورة ، أحسن إلى الصفديين ، وتألفهم ، وبنى بصفد مدرسة لطيفة ، مشرف حسن ، أقام مدّة ، ثمّ توجّه لمسك الجيبغا نائب طربلس ببعض العسكر ، ثمّ دخل دمشق في رابع شهر ربيع الآخر سنة خمسين وسبعمائة ، ثمّ عاد إلى صفد فأقام بها إلى آخر سنة إحدى ، وخمسين وسبعمائة ، ثمّ جرى له ما جرى من طلوعه إلى القلعة ، ثمّ حضرت العساكر لقتاله ، ثمّ نزل طائعا في ثامن عشر المحرّم سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة ، فكانت نيابته سنتان وتسعة شهور ، وعشرون يوما.

ثمّ خلع السلطان الملك الناصر حسن وتسلطن أخوه الملك الصالح ابن محمد وهو ابن بنت تنكز ، الذي نزل إلى الشام في نوبة بيبغا روس ، وأمير أحمد ، وكانت سلطنته في ثامن عشرين جمادى الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة.

وكان قد حضر لنيابة صفد المقر العلائي الطنبغا البرناق في سابع المحرّم ، ومعه العساكر ونائب طرابلس ، ونائب غزّة ، وشيخون ، وتعابي وعساكر كثيرة ، فلمّا مسك أمير أحمد جهّز إلى مصر ، واستقرّ البرناق في النّيابة ، وفي أيامه بنى الدار المعروفة بعمارة الخليفة ، وعمّروا دار السعادة بصفد ، وجدّد بها أماكن حسنة ، وفي أيامه ظهر الشخص الذي ادّعى أنّه

١٤٠