محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني
المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠
من المجانيق ، وعقدها حنايا وحال بينها وبين المدينة بخندق ، وبنى عليها أبرجة شاهقة بطلاقات ، وبنى بها جامعا وكذلك بربضه ومساجد أيضا ، وجدد خان المحدثة وجدد فيه خفرا وحماما لنقل ما يتجدد من أخبار المسافرين ، وبنى من قصير القفول شرقي دمشق إلى المناخ إلى قارا ، إلى حمص عدة أبرجة رتب فيها الحمام والخفراء ، وكذلك من دمشق إلى تدمر ، والرحبة إلى الفرات ، وجدد سفح قلعة حمص ، والدور السلطانية بها وبالبلد ، وأنشأ قلعة شميميس بجملتها ، وأصلح قلعة شيزر ، وقلعتي الشغر وبكاس ، وقلعة بلاطنس ، وأنشأ بها جامعا ، وبنى في قلاع الاسماعيلية الثمان جوامع ، وبنى ما هدمه التتر من قلعة عين تاب ، والراوندان ، وبنى بأنطاكية جامعا موضع الكنيسة ، وكذلك ببغراس ، وأنشأ القلعة بالبيرة ، وبنى بها أبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها ، وأتقن بناءها وشيدها ، وأنشأ بالميدان الأخضر شمالي حلب مسطبة كبيرة مرخمة ، وأنشأ دارا لخبز القلعة ، وبني في أيامه ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين ، ولا الملوك من بني أيوب وغيرهم ، من الأبنية ، والرباع ، وغيرها والخانات ، والقواسير ، والدور ، والأساطبل ، والمساجد والحمامات ، وحياض السبيل من قريب مسجد التبر إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض الطبالة ، واتصلت العمائر إلى باب المقسم إلى اللوق إلى البورجي ، ومن الشارع إلى الكبش ، وحوض قميحة إلى تحت القلعة ومشهد الست نفيسة ـ رحمة الله عليها ـ إلى السور القراقوشي.
ذكر ما كان ينوب دولته من الكلف المصرية خاصة :
كانت عدة العساكر بالديار الصرية في الأيام الكاملية والصالحية عشرة آلاف فارس فضاعفها أربعة أضغاف ، وكان أولئك مقتصدين في الملبوس والنفقات والعدد ، وهو كان بالضد من ذلك ، وكانت كلف من يلوذ بهم من إقطاعه ، وهؤلاء كلفهم على الملك الظاهر ، وكذلك تضاعفت الكلف ، فإنه كان يصرف في كلف المطبخ الصالحي النجمي
ألف رطل لحم بالمصري كل يوم ، والمصروف في مطبخ الملك الظاهر عشرة آلف رطل في كل يوم عنها وعن توابلها عشرون ألف درهم نقرة ، ويصرف في خزانة الكسوة في كل يوم عشرون ألف درهم ، ويصرف في الكلف الطارئة المتعلقة بالرسل والوفود في كل يوم عشرون ألف درهم ، ويصرف في ثمن قرط دوابه ، ودواب من يلوذ به في كل سنة ثماني مائة ألف درهم ، ويقوم بكلف الخيل والبغال والجمال والحمير من العلوفات خمس عشر ألف عليقة في اليوم منها ست مائة أردب ، وما كان يقوم به لمن أوجب عليه نفقته وألزمها عليه بطنجير ، وتحمل إلى المخابز المعدة لعمل الجرايات خلا ما يصرف على أرباب الرواتب في كل شهر عشرون ألف أردبا ، وذلك بمصر خاصة ، وذلك الحال في العلوفات وكلف الرسل والوفود والاستعمالات في الخزائن ، والذخائر وأما الطوارىء التي كانت تطرأ عليه فلا يمكن حصرها ، وكذلك ما كان عليه من الجامكيات ، والجرايات ، لأرباب الخدم ـ رحمهالله تعالى.
ترجمة حياة بيبرس
من كتاب عقد الجمان للبدر العيني
ذكر وفاة السلطان الملك الظاهر أبو الفتح الأسد الضاري ركن
الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي :
تغمده الله برحمته ، وأسكنه فسيح جنته ، والكلام فيه على أنواع :
الأول في ترجمته : هو بيبرس بن عبد الله ، قفجاقي الجنس ، وقيل هو من برج أغلي قبيلة من الترك ، حضر هو ومملوك آخر مع تاجر إلى مدينة حماة ، فاستحضر هما الملك المنصور محمد صاحب حماة يشتريهما فلم يعجبه أحد منهما ، وكان أيدكين البندقداري الصالحي ، مملوك الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الملك الكامل صاحب مصر قد غضب عليه الصالح المذكور ، وكان قد توجه أيدكين المذكور إلى جهة حماة فأرسل الملك الصالح من يقبض عليه واعتقله بقلعة حماة ، فتركه المنصور صاحب حماة في جامع قلعة حماة ، واتفق عند حضور الملك الظاهر صحبة التاجر ، فلما قلبه المنصور صاحب حماة فلم يشتره ، أرسل أيدكين البندقداري وهو معتقل ، فاشتراه ليخدمه ، وبقي عنده ، ثم أفرج الملك الصالح عن أيدكين البندقدار ، فسار من حماة وصحبته الملك الظاهر ، وبقي مع استاذه المذكور مدة ، ثم أخذه الملك الصالح نجم الدين أيوب من أيدكين المذكور ، فانتسب الملك الظاهر إلى الملك الصالح دون أستاذه ، وكان يخطب له ، وينقش على الدنانير والدراهم بيبرس الصالحي.
الثاني في صفته : كان الملك الظاهر أسمر ، أزرق العينين ، جهوري الصوت ، عليه مهابة وجلالة ، وكان إلى الطول أقرب.
الثالث في سيرته : كان شهما ، شجاعا ، سخيا ، عالي الهمة ، بعيد الغور ،
مقداما ، جسورا ، معتنيا بأمر السلطنة ، متحليا بها ، له قصد صالح في نصرة الإسلام وأهله ، وإقامة شعائر الملك.
وفي تاريخ النويري : وكان ملكا جليلا ، شجاعا ، حسن السياسة ، كثير التحيل ، وكان عسوفا جبارا ، كثير المصادرات للرعية والدواوين خصوصا لأهل دمشق ، وكان متنبها ، شهما ، لايفتر ليلا ولا نهارا عن مناجزة الأعداء ونصرة الإسلام ، وكان مقتصدا في ملبسه ومطعمه ، وكذلك جيشه.
وقد جمع له كاتبه محيي الدين بن عبد الظاهر سيرة مطولة ، وكذلك ابن شداد أيضا ، وهو الذي أنشأ الدولة العباسية بعد بقاء الناس بلا خليفة نحوا من ثلاث سنين ، وهو الذي جدد كل من مذهب قاضي قضاة مستقلا من غير مشاركة.
الرابع في فتوحاته : فتح في أيامه فتوحات كثيرة وهي : قيسارية التي على الساحل ، وأرسوف ويافا ، والشقيف ، وأنطاكية ، وبغراس ، وطبرية والقصير ، وحصن الأكراد ، وحصن عكار ، وحصن صفد ، والقرين ، وصافيتا ، وغير ذلك من الحصون المنيعة التي بأيدي الفرنج ، ولم يبق مع الإسماعيلية شيئا من الحصون ، وناصف الفرنج على : المرقب ، وبانياس ، وبلاد انطرسوس ، وسائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون ، وأخذ قيسارية الروم على ما ذكرنا ، وخطب له فيها ، واستعاد من صاحب سيس بلادا كثيرة ، واسترد أيضا من المتغلبين من المسلمين : بعلبك ، وبصرى ، وصرخد ، وعجلون ، وحمص ، والصلت ، وتدمر ، والرحبة ، وتل باشر ، والكرك ، والشوبك ، وأخذ بلادا كثيرة من التتار منها : البيرة ، وغيرها ، وفتح بلاد النوبة بكمالها ، واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة.
وقال النويري : وأول فتوحاته قيسارية الشام بالسواحل ، وآخر
فتوحاته قيسارية الروم ، وأما عدة فتوحاته فكانت تزيد على أربعين حصنا ، وكان بيده بمصر والشام ستة وأربعون قلعة.
الخامس في عمائره : قال ابن كثير : وعمر شيئا كثيرا من الحصون ، والمعاقل ، والجسور ، والقناطر على الأنهار في بلاد الشام ومصر ، وبنى بقلعة الجبل دار الذهب ، وبنى قبة على اثني عشر عمودا ملونة مذهبة ، وصور فيها صور خاصكيته وأشكالهم ، وحفر أنهارا كبارا ، وخلجانات ببلاد مصر منها : بحر السردوس ، وبنى جوامع كثيرة ومشاهد عديدة ، وجدد مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين أحرق ، ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، وعمل فيه منبرا وسقفه بالذهب ، وجدد المارستان بالمدينة ، وجدد قبر الخليل عليهالسلام ، وزاد في رواتبه وما يصرف إلى المقيمين ، وبنى على المكان المنسوب إلى قبر موسى عليهالسلام قبة قبلي أريحا ، وجدد بالقدس أشياء حسنة من ذلك قبة السلسلة ، ورمم شعث الصخرة وغيرها ، وبنى خانا هائلا بالقدس ، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين ، وعمل فيه طاحونا وفرنا وبستانا ، وجعل للواردين أشياء تصرف إليهم نفقة وإصلاح الأمتعة ، وبنى قبر أبي عبيدة رضياللهعنه بالقرب من عمتا مشهدا وأوقف عليه شيئا للواردين ، وجدد جسر فامية ، وجدد عمارة جعفر الطيار رضياللهعنه بالكرك ، وأوقف على الزائرين شيئا ، وجدد قلعة صفد وجامعها ، وجدد جامع الرملة وغيرها في كثير من البلاد التي كانت الفرنج قد عدت عليها ، وبنى بحلب دارا هائلة ، وبدمشق : القصر الأبلق ، والمدرسة الظاهرية قبالة العادلية ، وبنى بالقاهرة أيضا : المدرسة الظاهرية ، وبنى جامعا هائلا بالحسينية ، وله من الآثار والأماكن ما لم يبن في زمن الخلفاء وبني أيوب.
السادس في وفاته : قال بيبرس ـ رحمهالله ـ : وكان القمر قد كسف كسوفا كاملا أظلم له الجو ، وتأول ذلك المتأولون بموت رجل جليل
القدر ، نبيه الذكر ، فقيل : إن السلطان لما بلغه هذا الإرجاف حذر على نفسه وخاف ، وقصد أن يصرف التأويل إلى غيره لعله يسلم من شره ، وكان بدمشق رجل من أولاد الملوك الأيوبية يسمى الملك القاهر ، بهاء الدين عبد الملك من ولد الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن السلطان الملك العادل أبي بكر ابن نجم الدين أيوب ، وكان يسكن البر ، وتزوج من العرب ، وأقام بينهم ، يسير معهم حيث ما ساروا ، وإذا غزوا غزا معهم ، فحضر من الغزاة إلى دمشق ، فأراد على ما قيل اغتياله ، فأحضروه في مجلس شرابه ، فأمر الساقي أن يسقيه كأس قمز كان ممزوجا فيما يقال بسم ، فسقاه الساقي ذلك الكأس ، فأحس منه بالبأس فخرج من المقام وعلقت به مخاليب الحمام ، وغلط الساقي لاصابة المقدور ، وملأ على إثره الكأس المذكور وأداره ، والدائرات تدور ، فوقع في نوبة السلطان ، فشربه ولم يشعر حتى أحس بالنيران ، فكتم أمره عن الأطباء ، وأخفى حاله عن الأحباء ، ومكث أياما يشكو الليل والنهار من توقد وهج النار ، ثم اضطر إلى إطلاع الطبيب بعد استحكام دائه ، طمعا في دوائه ، فلم ينجع العلاج ، ولا نهضت قدرة الإساءة لإصلاح المزاج.
وأما القاهر فإنه حمل إلى منزله وهو مغلوب ، فمات من ليلته ليلة السبت خامس عشر المحرم من هذه السنة.
وتمرض السلطان بعده أياما حتى كانت وفاته يوم الخميس بعد صلاة الظهر السابع والعشرين من المحرم بالقصر الأبلق ، فكان ذلك يوما عظيما على الأمراء.
وقال بيبرس في تاريخه : توفي في اليوم المذكور وقت الزوال ، وحضر نائب السلطنة عز الدين أيدمر وكبار الأمراء والدولة ، فصلوا عليه سرا ، وجعلوه في تابوت ، ورفعوه إلى القلعة في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته تجاه العادلية الكبيرة ليلة الجمعة خامس رجب من هذه السنة ، وكتم موته فلم يعلم جمهور الناس به حتى كان العشر الأخير من
ربيع الأول ، وجاءت البيعة للملك السعيد من مصر ، فحزن الناس عليه وترحموا ، وكان يوما شديدا على الناس ، وجددت البيعة ، وجاء تقليد النيابة مجددا لعز الدين أيدمر.
وقال بيبرس : فكتم الأمير بدر الدين بيليك الخزندار نائبه موته عن العساكر ، وأظهر أنه مستمر المرض ، ورتب حضور الأطباء ، وعمل الأدوية والأشربة على العادة ، وحمل جسده إلى قلعة دمشق ، فبقي فيها مصبرا إلى أن بنيت له التربة المذكورة ، ثم إن الأمير بدر الدين الخزندار رحل بالعساكر المنصورة [والخزائن مصونة موفورة ، والأطلاب مرتبة منتظمة] والمحفة محمولة في الموكب [محترمة] كأن السلطان فيها مريض ولا يجسر أحد يتفوه بموته [إلا أن الظنون ترجمت ، والأفكار تقسمت ، وغلب الناس أمر وفاته على مرضه وحياته ، ولم تزل الحال مرتبة في النزول والترحال إلى أن وصلوا إلى القاهرة المحروسة ، وحصلت الخزائن ، والبيوتات والخيول والاسطبلات في قلعة الجبل] فأشيع مماته ، وأظهر للناس وفاته ، واستقر ولده الملك السعيد مكانه.
وقال المؤيد في تاريخه : وفي سنة ست وسبعين يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم توفي السلطان الملك الظاهر بيبرس الصالحي بدمشق ، وقت الزوال ، عقيب وصوله من جهة بلاد الروم إلى دمشق ، وقد ذكرنا أنه دخل دمشق في اليوم الخامس من محرم هذه السنة ، ومات في السابع والعشرين منه ، فتكون مدة إقامته بدمشق من بعد دخوله ثلاثة وعشرين يوما.
السابع في مدة سلطنته : قال بيبرس : مدة مملكته ثمانية عشرة سنة وشهرين [وعشرة أيام].
وقال النويري : وكانت مدة الملك الظاهر نحو سبع عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام لأنه ملك في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان
وخمسين وستمائة ، وتوفي في السابع والعشرين من محرم سنة ست وسبعين وستمائة ، وكذا قال المؤيد في تاريخه.
الثامن في أولاده وما رثي به : قال النويري : وخلف من الأولاد : الملك السعيد ناصر الدين بركة خان ، ونجم الدين أمير خضر ، وبدر الدين سلامش ، وثلاث بنات.
وقال غيره : خلف من الأولاد عشرة ، ثلاثة ذكور وهم المذكورون وسبع بنات.
ومما رثي به ما قاله محيي الدين ابن عبد الظاهر يرثي الملك الظاهر :
أبدا عليك تحية وسلام |
|
يا قبر من فجعت به الإسلام |
يا تربة لولا الحياء من الحيا |
|
أمسى سجال الدمع فيك سجام |
يا دمع عيني مثل دمع سحابة |
|
هيهات بين الدمعتين زحام |
فسبقت كل سحابة هطالة |
|
يثني عليها مندل وبشام |
تنهل منك نوال ساكنك الذي |
|
من كفه فوق السماح يسام |
الظاهر السلطان من بمصابه |
|
هد الهدى وتضعضع الإسلام |
وغدت دمشق بقبره وحلوله |
|
فيها تتيه على الوجود شام |
قبر به تتضاعف الأقسام من |
|
بركاته وتوكد الأقسام |
قبر به تتوسل الآمال في |
|
حاجاتها وتصرف الأحكام |
قبر الذي لو أنصفته قلوبنا |
|
ما أصبحت لمسرة تستام |
قبر الذي قلع القلاع |
|
سكانها وله الحصون خيام |
قبر الذي قهر التتار فأصبحوا |
|
ولهم إذا ناح الحمام حمام |
وقال بيبرس : قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر يرثيه أبياتا أولها :
ما مثل هذا الرزء قلب يحمل |
|
كلا ولا صبر جميل يجمل |
الله أكبر إنها لمصيبة |
|
منها الرواسي خيفة تتقلقل |
ما للرماح تخولتها رعدة |
|
التي كنها أن ليس تعقل تعقل |
لهفي على الملك الذي كانت به |
|
الدنيا تطيب وكل قفر منزل |
الظاهر السلطان من كانت له |
|
منن على كل الورى وتطوّل |
لهفي على آرائه تلك التي |
|
مثل السهام إلى المصالح ترسل |
لهفي على تلك العزائم كيف قد |
|
غفلت وكانت قبل ذا لا تغفل |
سهم أصاب وما رئي من قبله |
|
سهم له في كل قلب مقتل |
أنا إن بكيت فإن عذري واضح |
|
ولئن صبرت فإنني أتمثل |
خلف السعيد لنا الشهيد |
|
فأدمع منهلة في أوجه تتهلل |
تاريخ صفد للعثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحكم الوجود وأتقنه ، ونقل آدم إلى الأرض وأسكنه ، وبثّ ذريته فيها ونشرهم عليها ، فكلما مضى منهم قرن وذهب غيره ووقب (١) إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ، ومن جملة حكم الله تعالى التاريخ الموضوع لحفظ الأمم ، ومعرفة من غبر منهم ونجم ، وما مرّ من الأعوام وتصرّم من الأنام تبصرة لمن اذّكر ، وعبرة لمن اعتبر.
أحمده على ما منح من الفضل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة أدّخرها ليوم الفصل ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الحاشر (٢) ، العاقب (٣) ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر أولي المناقب ..
أمّا بعد فهذه فائدة مستظرفة ، وتحفة منتخبة ، تشتمل على تاريخ مدينة صفد ، ممّا لم يسبق إلى تدوين ذلك أحد ، نقلت بها أمورا مجملة لعدم الظّفر بها مفصّلة ، وإذا فتح باب في أمر لم يتيسر لفاتحه الأقل ، ثم يتبعه أهل الفضل وينمّقونه بغرائب النقل.
وكان السبب في تأليفها ، والباعث على تصنيفها مذاكرة حصلت في ضبط نوّابها (٤) ، اقتضت تعليق هذه الفائدة ، وفتح بابها بين يدي من جعله الله تعالى في محبّة العلم الشريف وأهله علما ووهبه من فضله سيفا وقلما ، ومنحه اليمن في آرائه وتدبيره ، وقرن السعادة بثغور أساريره ، عمر لهذه المملكة بفضله وإنعامه ، وزيّنها في المجالس بوجهه ، كما شرّفها بوطىء أقدامه ، وأثر فيها آثارا محمودة ، واستضىء حكّامها في مهماتهم السعيدة سبل أن ينور فأنار ، فظهر من حسن سيرته ماسر أولو الألباب ، وكان طول ليله في الحراسة ، وجميع نهاره في السياسة ، مع المواظبة على أوراده ، والملازمة لاجتهاده.
شعر :
فياليت أنّ الله أسعد خلقه |
|
فصيّره طول الزّمان ينوب |
المقر الأشرف السّيفي علمدار ، بلّغه الله جميع الأوطار فذكرت فتحها أولا إلى أن فتحت عكا ، وتمدنت صفد ، وتوطّن أهلها وزال النّصب والنّكد ، ثم اذكر النواب على محجّة حسنة إلى آخر سنة أربع وستّين ، مدة مائة سنة ، ثم أذكر أرباب الوظائف الدينية على هذا المنوال من القضاة والخطباء ووكلاء بيت المال ، ثم أذكر من أرباب الوظائف الديوانية من يفتقر إليه من في انتظام الأمور ، من كتّاب السر ، ونظر المال ، والجيش المنصور ، من أول الفتح إلى آخر المدة على الولاء ، ولم يتيسر لي غير ذكر هؤلاء.
لكنّي أذكر بعد الفراغ من هؤلاء المذكورين فصلا لبيان الأعيان من الصفديين ، ثم أبتدي التاريخ مفصلا بالسنين على عادة المؤرخين ، من استقبال سنة خمس وستين وأختصر في مقالي لاشتغالي بمهمات أحوالي ، وما توفيقي إلا بالله ، وهو حسبي ونعم الوكيل.
مدينة صفد
أما صفد نفسها ، فحصن منيع بقمّة جبل كنعان ، كان قرية قديمة فبني عليها هذا الحصن ، وهو صفد ، وأما اليوم فالمدينة نفسها هي التي تسمّى صفد.
ولذلك معنيان : المعنى الأول إنّ الصّفد العطيّة ، وهذا هو المناسب لتسميتها عند الافرنج لأمرين : أحدهما أنّ ملوك الافرنج أعطوها لطائفة يقال لها الدّاويّة (٥) ، لا يشاركها فيها أحد فسمّوها لذلك بصفد ، الثاني أنّهم سمّوها أيضا صفت بالتّاء ، فلمّا وصفت بالصّفاء صلحت للعطاء.
المعنى الثاني أنّ الصّفد المغارة ، ومنه قوله تعالى :
(مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٦) أي في الأغلال ، وقد يكون لهذا الاسم مناسبة إمّا لأنّ صاحب الغل يمتنع من الحركة ، ويلزم موضعه ، وهذه المدينة كذلك لأنّها جبل عال وعر لا يتمكّن ساكنها من الحركة كلّ وقت ، إن ركب تعب ، وإن مشى على قدميه اختلط لحمه بدمه لصعود الرّبوة وهبوط الوهدة ، فهي لعلوّها أعظم مشرف ، فضياع الحركة فيها من السّرف ، ويستقر ساكنها بأي مكان ويقتنع فيها بالنظر وسنان.
واعلم أنّها لطيفة الهواء ، طيّبة الماء ، لها منظر بهج ، ومشرف أرج ، لا سيّما في أيّام الربيع ، فلها رونق بديع ، ومن أبيات لشيخنا قاضي القضاة جمال الدّين التبريزي (٧) رحمهالله تعالى :
لما قضى الفرد الصمد |
|
أنّي أسير إلى صفد |
فدخلتها متيمّنا |
|
فوجدتها نعم البلد |
ورأيت منظرها الذي |
|
يشفي العيون من الرّمد |
وهواؤها مع مائها |
|
فأصح شيء للجسد |
يا حسنهالو لم يكن |
|
للنّاس موردها ثمد |
والله يعلم السّر لي |
|
بفراق عجلون جلد |
وأهليها في مهجتي |
|
كل أضرّ من الولد |
جمر اشتياقي نحوهم |
|
بشغاف قلبي قد وقد |
وفي الجملة فهي أبيات طويلة لا ضرورة إلى إيراد ما بقي منها.
وقوله «موردها ثمد» يشير إلى قلّة مائها ، وكان ذلك قديما في أيامه ، أمّا الآن فقد كثر ماؤها ، وتجدد بها آبار وعيون.
قال القاضي الفاضل شهاب الدّين بن فضل الله العمري ، صاحب دواوين الإنشاء الشّريف بالممالك الإسلامية ، تغمّده الله برحمته في تاريخه ، المسمّى مسالك الأبصار ، وهو سبعة وعشرون مجلدا : وصفد مدينة صحيحة الهواء ، خفيفة الماء ، لها أعين ، لو أنها دمع لما بلت الآماق ، ولا ملأت الأحداق ، ولها حمامات يأنف أهلها من دخولها لقلّة مائها ، وسوء بنائها ، ولها قلعة قلّ أن يوجد لها شبيه كأنّما عليها من الذهب تمويه ، لا تروم السّحب إلا من صبب ، ويطوف عليها من الشّفق مدام عليه من مواقع النّجوم حبب ، ولا تجاوز الأرض إلا وهي إذا رامت السّماء لا يعوقها سبب.
ولمّا فتحها الملك الظّاهر عظّمها ، وهي تستحق التّعظيم ، وتستوجب الرّفعة بما رفع الله من بنائها العظيم.
وقد ذكرها ابن الواسطي الكاتب فقال : وقلعة صفد بنتها الأفرنج ، وكانت أولا تلا (٨) عليه قرية عامرة تحت برج اليتيم ، بنتها الداوية في سنة خمس وتسعين وأربعمائة. انتهى كلام ابن فضل الله.
ولصفد عشرة أعمال لكل عمل قاض ووال ، العمل الأوّل : عمل المدينة ، ويسمّى الزّنار ، لاختلاطه بالمدينة من كلّ جانب ، وبهذا العمل أرض تشبه أرض العراق يزرع فيه : الأرز ، والبطيخ ، ومغله جيد ، وأرضه مثل العنبر ، وبه بحيرة قدس يوجد فيها اللينوفر ، والسمك
المليح ، والبابير ، وهو نبت يعمل منه الحصر ، وبه قصر يعقوب عليهالسلام ، وهو بيت الأحزان ، وجبّ يوسف عليهالسلام ، وبهذا العمل قرية تسمى ميرون بها نواويس وأحواض في مغارة يرشح فيهم الماء قليلا قليلا ، فإذا كان يوما معلوما من السنة وهو نصف أيّار ، يجتمع إليها خلق كثير من اليهود من البلاد القريبة والبعيدة ، ويقيموا حول ذلك المكان نهارهم ، ويرشح الماء في ذلك النهار أكثر من عادته ، وتحمل اليهود من ذلك الماء إلى البلاد البعيدة ، وبالقرب من صفد بوادي دلبية عين الجن ، تفور من الأرض ، وتجري مقدار ساعة ثمّ ينقطع ويذهب ماؤها ثمّ تجري حتّى تصير نهرا ، ثم ينقطع ثمّ يجري في النّهار مرّات ، هذا دأبها دائما ، واعتقاد العوام أنّ الماء إذ انقطع وقالوا : يا مسعود عطشنا يخرج الماء.
العمل الثاني : بلاد عمل الشّقيف ، والنّحارير ، ومرج العيون ، وهي أكبر أعمال صفد وأصحّها وأطيبها ، وبها قرى عظيمة ، وبلادها عامرة ، وبها قلعة حصينة لطيفة عامرة ، حسنة البناء ، بالقرب منها تربة الشّرفاء من أحسن الأماكن وأنزهها ، وهذه القلعة فتحها الملك الظاهر ، ونهر ليطة (٩) يمرّ تحت جبلها ، وهو من الأنهار العظام ، وبهذه المعاملة قلعة هونين على حجر واحد ، وببلاد الشّقيف أشياء لطيفة منها : العسل ، ومنها المنّ ، ومنها الشّيح ، ومنها الفخار ، ومنها الجوز الفرك ، ومنها الحديد ، ومنها الخشب الصّنوبري والسّنديان السّواد ، وبها تراب الجبر ، يعمل منه كيزان ، يجبر منه الكسر في عظم الآدميين ، والخيل والطّير إذا شرب منها ، وتحمل إلى البلدان البعيدة ، وبها قرية تول بها عين يخرج منها سمك صغار ، إذا أخذ منه في شهر شباط واستعمل الذكر منه ، وله علامة ، نفع في الباه نفعا عظيما ، وهذا السّمك ذكره الأطباء في كتبهم ، وعبّروا عنه بسميكة صيدا ، وقالوا : هو بقرية من قراها ، ولكن القرية اليوم من عمل الشّقيف ، قالوا : وأجود ما يصاد في منتصف شباط ،
قالوا : وهي صنف من صغار السمك يشبه الوزغ (١٠) حار عظيم في تهييج شهوة الجماع ، وشدة الانعاظ جدا ، حتى لا يطيق مستعمله الصّبر عن الجماع لشدّة الشهوة ، وقوة توتير القضيب ، قالوا : ومقدار ما يؤخذ منه إلى مثقال مدقوق مضروب في عسل نحل.
قال الشيخ فتح الدين في كتاب الجواهر : حكى لي بعض مستعملها : أنه في ليلته لم ينم لحاجته إلى تكرار الجماع ، وأنّه لم يزل يكرر الفعل إلى أن أنزل الدّم عوضا عن المني ، ودام عليه توتير القضيب حتى كاد يحسّ بعروقه تتقطع لشدة انتصابه.
قال فعالجته بأقراص من الكافور والأغذية المبرّدة ، كالبطيخ الأخضر ، والخيار ، والخس وما شاكلها ثلاثة أيّام حتى سكن ما به ، وهذا السّمك وكثرات الخير يحمل إلى البلاد.
وبها قرية بكوزا يوجد بها عنب كبار ، في داخل العنبة عنبة عنبة ، وفيها قرية عدشيت بها شجرة بلّوط ، يوجد البلّوط على الشجرة نصفها حجر ، إذا أخذ منه ، وسحق واستعمل نفع من حصا البول.
وبقلعتها ينبت في الحيطان نبات به زهرة حمراء ، تشبه رأس الكلب وفم الحيّة ، إذا أكل منها بالعسل أبرأت من عضّة الكلب الكلب ولذغ الحيّة ، وغالب سكان هذا العمل شيعة لا جمعة ولا جماعة.
العمل الثالث : بلاد تبنين ، وهي بالقرب من الشّقيف في المجاورة والصّحبة ، وبها آثار حصون عظيمة ، وهي من أعمر البلاد الصّفدية ، بها قرية يقال لها هونين ، بها جماعة من التّجار الأغنياء ، وبهذا العمل جماعة من مشايخ الشّيعة وجميع أهلها شيعة ، وبه قرية عثرون بها جبن الطيف ، يعدّ من طرف الهدايا الصّفدية.
العمل الرابع : ولاية صور ، بلد قديم بعضه في البر ، وبعضه في البحر ، وبناؤه من أعظم أبنية الدّنيا ، وبه الكنيسة التي لا نظير لها ، بهذه الكنيسة
عامود سماقي رخام عظيم ، يذكر أنّه لا يتملّك أحد من الافرنج حتّى يجلس عليه ، وهذا أمر مشهور.
وبالقرب من صور قناة عظيمة لا يعرف خبرها ، وهي من عجائب الدّنيا ، بالقرب من البحر المالح ، وماؤها عذب فوّارة ، ينبع من الأرض ، ثم يرتفع في بناء محكم قامات كثيرة ، بزخم عظيم ، فإذا انتهى إلى أعلى البناء خرج من القناة المذكورة نهر عظيم ، يزرع عليه أرز وقصب وبساتين ويدور منه طواحين ، ومعصرة وحمام ، ثم ما فاض منها دخل البحر المالح.
وبها قرية رشمون بها غابة زيتون تضرب بها الأمثال ، تسكن بها الوحوش لسعتها وغزارتها ، وعلى ذلك كله سور محكم من أيام الرّوم ، وهذا الزيتون مقطع للجند بأخباز في الحلقة المنصورة.
العمل الخامس : ولاية عكّا ، وعكّا بناها عبد الملك بن مروان ، ثمّ غلبت النّصارى عليها ، ثمّ فتحها الملك النّاصر صلاح الدين يوسف ، ثمّ غلبت عليها النصارى حتى فتحها الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك يوسف المنصور قلاوون (١١) ، وفتح صور وحيفا وعثليت ، واسكندرية ، وصيدا ، وبيروت ، وجبلة ، كل ذلك في سبعة وأربعين يوما.
وعكّا أعظم مدائن الإفرنج بالبرّ والبحر على ما نقل جماعة من الافرنج ، وهي عزيزة عليهم ، يتأسّفون عليها إلى آخر الدّهر ، وبها العمائر العجيبة ، منها كنيسة البنات ، التي تضرب بها الأمثال.
وبها عين البقر التي ورد فيها الأثر ، جاء أنّ من شرب من أربع أعين لم تمس النّار جسده : عين زمزم التي بمكّة ، وعين سلوان التي ببيت المقدس ، وعين البقر التي بعكّا ، وعين الفلوس التي ببيسان ، فلا بأس بالشرب منها ، والاغتسال منها.
وبعكّا مسجد نبي الله صالح عليهالسلام من المزارات المشهورة ،