الدرّ المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم

المؤلف:

السيد أمجد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي


المحقق: محمّد المحروقي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عاصمة الثقافة العربية
الطبعة: ١
الصفحات: ١١٩

ومن مصر إلى الإسكندرية كله عمار ؛ بلدان وبساتين ومزارع ، والنهر والسلك معنا من جانبين. وقرب إسكندرية بنصف ساعة سايرنا البحر المالح ، ومشينا في أرض الملح ، والنهر والمزارع والبساتين دارت عنا في جانب والبحر في الجانب الثاني. وجميع المواضع التي يقف عليها البابور بلدان وفيها ما يؤكل من فواكه وغيرها ، فلا يحتاج المسافر لطبيخ ونفيخ ، ولا إلى حمل زاد ، وذلك من جميع أرض مصر حيث ما تصل البوابير برا وبحرا.

والمراكب والسواعي الصغار متفرقة في النهر من مصر إلى إسكندرية. وكذلك بساتينهم وزروعهم سقياها على ثلاثة أصناف كما تقدم ذكرها. وحد ما وصلناه من أرض مصر كله عمار ليس فيه شيء من الخراب.

وعند ما وصلنا الإسكندرية رأيناها مزينة لأجل وصول إسماعيل باشا من اسطنبول كما تقدم. وزينتها شيء عظيم لا يوصف. ويذكرون أن الزينة تتكلف عليهم بمبلغ عظيم أكثر من مصر ، والله أعلم بذلك. وفيها من جواري الدخان المزينة ما هو في غاية الحسن ، وكذلك جواري الخيل مزخرفة أحسن من الذي رأيناه في مصر.

٦١

وهي بلدة منظمة نظيفة وغالب طرقها منصوبة متسعة مفروشة بالحجارة ، وماء النهر يعلوا إلى أعلى طبقة من البيوت ، وأغلب بيوتها منظمة في غاية التنظيم. وهي بلد متوسطة ، وفيها بساتين فاخرة ، وبيوت في البساتين على أشكال لطيفة مسايرة النهر. وعلى النهر أشجار ، وتمر الجواري بين البساتين والنهر في ظل الشجر ، حدّ ما رأيناه من المسافة على هذه الصفة. وعليها سور وخندق عظيم من جانب البر وعلى السور قلاع ، وفي وسطها قلعة مدورة. الحاصل أنها بلد منيعة ، ومنظمة كثيرا إلى ما لا نهاية ، والبساتين المذكورة خارجة عن السور ، وفي وسطها بعض البساتين الصغار.

ورأينا الجودي وموضع صيانة المراكب ، وهناك عمال في الخدمة ، ووصلنا إلى الرأس وهو موضع العسكر ، وهم يسمونه رأس التين ، وبه سراية عظيمة لجلوس والي مصر إذا قدم إليها ، وفيها بعض البساتين الصغار للفرجة. وفيها بركة ماء ينصبّ من أعلاها ، وصور آدميين يغتسلون ، وعلى البركة أشجار. والحاصل أنها بلد ما عليها قصور ، يعجز الواصف عن وصفها ، وفيها فرضة عظيمة متسعة بها مواضع كثيرة ، والبندر فيه من المراكب الكبار والصغار والسواعي شيء كثير. وفيها مساجد منظمة بل إنها ليست كمساجد مصر.

٦٢

وأما سكانها فأغلبهم نصارى ويهود ، والمسلمون بها قليل بالنسبة إلى من سواهم (١). وهواؤها معتدل أحسن من هواء مصر. وزرنا نبي الله دانيال عليه‌السلام ، والإسكندر ذا القرنين صاحب الإسكندرية. وقبورهم نازلة في الأرض بدرج ينزل إليها من أراد الزيارة.

وفيما بين مصر والإسكندرية بلد يسمى طنطا ، بها مقام الشيخ أحمد البدوي يعملون له في كل سنة ثلاثة موالد كبار ؛ منها المولد الرجبي في شهر رجب ، والمولد الكبير عند طلوع الليل (٢) ، والمولد الصغير في شهر شوال. ويذكرون انه في كل مولد ينتظم سوق عظيم مدة المولد خمسة عشر يوما فيأتي الزوار من سائر أقطار مصر جميعا ، ويقدم التجار من الشام والروم وغيرهم من سائر أجناس الأمم ويصير موسم وبيع وشراء أصناف التحف والأقمشة والألعاب وغيرها. وأهل الأذكار والناس أفواجا يأتون من كل فج عميق ، حتى أخبرونا أن اجتماع الخلائق في المولد الكبير يقارب عددهم في منى وأيام التشريق.

وهم يذكرون أن هذا الشيخ البدوي صاحب هذا المولد كان حيا في القرن السادس ، ثم ظهرت له جملة كرامات مذكورة في كتب

__________________

(١) لا نعلم كيف توصّل الكاتب إلى هذه النتيجة ، وهو للأسف لا يذكر المصدر الذي اعتمده.

(٢) ربما أراد زيادة طوله.

٦٣

وشهيرة على ألسنتهم ، حتى أنه كان يخطف الأسرى من بلد الإفرنج ، فلهذا تجدهم يعتقدونه من أولياء الله تعالى. ولم نر هذا البلد إلا مرورا عليه ولم ندخله غير أن بعض الناس يخبرنا أنها بلد (رائعة) (١) الشكل لطيفة الهوى بها أصناف التجارة ، وأبنيتها متناهية الجمال ، وبحر النيل في وسطها وهي منظمة ، والله تعالى أعلم.

وهي من جملة المحطات التي يقف عليها البابور. والفواكه في الإسكندرية أكثر من مصر وأحسن ، وأما الزينة التي يعملونها في مصر والإسكندرية ليس هي باختيارهم بل يجبرون عليها ، هكذا بلغنا. والحد الذي بين أرض مصر والشام اسمه العريش (٢). وبندر إسكندرية حصين يحيط بالبلد من ثلاثة جوانب ، ورأينا فيها الجودي الجديد ، ينزلون في البحر ويدخلون المركب في وسطه ، ثم يرفعونه والمركب في جوفه ، هكذا اخبرونا. وقد بلغنا أن سكان بلد مصر تسعة لكل نفر والإسكندرية ثلاثة لكل نفر ، الذين هم في هذين البلدين خاصة (٣) غير سائر الأقاليم ، والله أعلم (٤). ورأيناهم يجمعون

__________________

(١) ورد في الأصل «مريفة بالشكل» ، ولم نعرف لكلمة مريفة معنى.

(٢) وردت في الأصل العرش.

(٣) خاصة يستخدمها كثيرا بمعنى فقط ،

(٤) ربما كان يقارنهم بسكان زنجبار وأنهم يزيدون في مصر أي القاهرة تسع مرات وفي الإسكندرية ثلاث مرات.

٦٤

حجرا منحوتا (١) على بندر إسكندرية ، مرادهم يحصنونه زيادة.

ثم سافرنا من الإسكندرية يوم رابع والجمعة من شهر جمادى الآخر في أربع ساعات من النهار في مركب النّيمسا ، وهو منظم كثيرا وفي غاية الحسن ، وهو يعمل بالدخان وبه دقلان ، وفيه شرخان للسكان واحد في التفر (٢) والثاني قرب الدقل الأمامي (٣) ، فوصلنا نبط سعيد يوم ثاني بعد طلوع الشمس بأربعين دقيقة. وهي بلدة مستجدة صغيرة ، منفذ البحر المقطوع أوله من السويس وآخره في نبط سعيد ، وفرع النيل متصل بها في تل من الحديد ، وهذه البلد مجعولة مرسى للمراكب. والبيع والشراء بها قليل ماعدا الأكل وما تحتاج له المراكب. وليس فيها شيء من البساتين ، وأغلب بيوتها خشب وقصب ، وأغلب سكانها نصارى ويهود ما فيها غير مسجد واحد للمسلمين.

ورأينا فيها منارة للسراج ليهتدي إليها أهل المراكب ، ويذكرون أنها صب حجر طولها مائتان وخمسة وتسعون رفصة (٤). ورأينا فيها بيتا

__________________

(١) ربما أراد أنهم يضعون صخورا تحجز المياه.

(٢) هكذا ، ولا يتضح المقصود.

(٣) في الأصل القدامي.

(٤) أي درجة من أدراج السلم.

٦٥

صبا ، كله حجر واحد. وذلك أنهم يأخذون الرمل ويعملونه ويصبونه ويكون كالحجر لا فرق بينه وبين الحجر. وطرقها جميعها منصوبة ، وأسواقها على قدرها ، وهي في زيادة من العمارة. وكل مركب بمر في البحر الجديد يسلم دراهم على قدره تبعا للمركب في الصغر والكبر. ومدخوله في الشهر مائتا مليون فرنك. والفرنك الواحد خمسة ريالات ، والمليون ألف ألف ، وذلك يأخذه الفرنسيس ، الذين يقطعون البحر ، في كل شهر ، هكذا أخبرونا.

ثم سافرنا منها في عشر ساعات وعشرين دقيقة من يومنا. ومع خروجنا رأينا الكراكة (١) التي تحفر البحر ، تكفي الحكمة ، تحفر بالدخان وتعزل الطين وحده والماء وحده يخرج للبحر ، ويبقى الطين فيها.

__________________

(١) الحفار.

٦٦

الباب الثالث

في صفة أرض الشام وعجائبها

وقبور الأنبياء وبيت المقدس

٦٧
٦٨

ووصلنا يافا ثاني يوم ، الساعة الثانية إلا اثنتي عشرة دقيقة في النهار يوم الأحد سادس من شهر جمادى الآخر. وهي بلدة صغيرة عليها سوران على بعضهما بعض ، ومن بعدهما خندق. وهي متفردة بشكلها فوق جبل. والبيوت فوق بعضها البعض ، وشيء من الطرق يوصل للغرف العالية. وبنيانها أغلبه بالحجارة المنحوتة. وفيها مدافع على الأسوار ، وبنيان الأسوار مصفح بالحديد. وهي بلد قديمة وطرقها غير منصوبة وضيقة ووسخة ، وفيها صعود وهبوط ، وأغلب البيوت والأسواق سقوفها زج ، وكثير من بنائها قوي. وعلى البحر عند الفرضة جبل دائري على البندر وله طرق لدخول المواشي (١) ، وما تدخل المواشي إلا من مواضع معلومة ، والنزول من الماشوة إلى النبط (٢). والمراكب ترسو بعيدا عن البلد.

وفيها بساتين خارج الخندق ، وأغلبها نارنج ، وهو البرتقان (٣) وغيره من الفواكه. وفيها جملة بيارق للنصارى لأنها بندر القدس. ولابد من كل فريق أن يكون لهم بيرق (٤). ورأينا المحل الذي نزلت

__________________

(١) المواشي السفن ومفردها الماشوة.

(٢) الماشوة السفينة ، والنبط الميناء فهو يذكر بور سعيد ويسميها نبط سعيد.

(٣) هكذا وردت ، وواضح أنه يقصد البرتقال.

(٤) علم.

٦٩

فيه المائدة لبني إسرائيل ، عليه قبة وفيها مسجد جامع كبير يقال له جامع أبي أيوب ، فيه أروقة وخذاوي (١). وباقي المساجد صغار. والفواكه فيها رخيصة فالذي في مكة بعشرين في يافا بعشر الثمن.

وفيها كنيسة خارج البلد يدّعون أنها موضع الخضر عليه‌السلام. ورأيناهم كيف يصلون في كنائسهم ، أعني النصارى. صلاتهم قيام لا سجود لهم ولا ركوع ، فبعضهم قيام على الأقدام يضعون متكئا (٢) تحت إبطهم الأيمن ، وبعضهم يجثون على الركب. وصيامهم في السنة ثلاث مرات ، مرتان من أربعين يوما ، ومرة خمسة عشر يوما. والفواكه عندهم إذا أكلوها لا تنقض الصيام ، ولا بأس بها. والمذكورون نصارى الشام من العرب ليس بينهم افرنج بل إنهم ملة واحدة ، ولباسهم مثل المسلمين. ويتعجب الإنسان من أقوالهم وأفعالهم أغلبها موافقة للمسلمين.

واطلعت على تفسير كتبهم بها أحوال كثيرة موافقة للشريعة ، وبها مواعظ وحكم. وعرفت الفرق بين القسيسين والرهبان ، القسيسون يخالطون الناس في الكنائس وغيرها ، والرهبان المنقطعون في

__________________

(١) الأروقة جمع رواق ، والخلاوي جمع خلوة وهي أماكن العبادة المنعزلة.

(٢) ربما كان الحامل الخشبي الذي يستخدم مسندا للكتب ، ويسمى أحيانا بالمرفع.

٧٠

الصوامع ولا يخالطون الناس. وأخبروني عن صفة ماء المعمودية فلا يكون نصرانيا من لم يغتسل بماء المعمودية ، وذلك إذا ولد المولود أتاه القس بماء في إناء وقرأ عليه الإنجيل وما شاء من الأدعية ، ووضأه كو ضوء الصلاة ثم يغسله بذلك الماء ، يفعل ذلك ثلاث مرات وبعد ذلك يكون نصرانيا طاهرا لا ينجسه شيء أبدا على زعمهم الفاسد. وعلى كل رأس شهر ، يدخل القسيسون الكنيسة ، وبعد صلاتهم يجعلون ماء في إناء ويقرؤون عليه ويدورون به على المنازل يرشون المنازل ، ومن لم يحضر الكنيسة من النساء والأطفال وغيرهم.

وأعلى درجة معهم البطارقة وهم أكبر القسيسين والرهبان ، وجميع أحكامهم في مذاهبهم ترجع إلى البطارقة. والنصارى المذكورون يذكرون أنهم يستنجون من البول والغائط ، وكذلك الجنابة لها استنجاء خاص وليس غسل تام. وهم ينكرون على باقي النصارى ويخطئونهم لأنا اجتمعنا بواحد من المتفقهين في دينهم ورأينا منه الإحسان التام ، ليته كان مسلما. ورأينا عندهم جواري سود ، وسألناهم عن ذلك ، فقالوا : معنا جائز البيع والشراء في الرقيق. قلنا : كيف يمنع الإنجليز ذلك؟ قالوا : فعلهم مخالف للإنجيل ، لأن الإنجيل محلل بيع الرقيق ، بل الذي يدخل في ديننا نكره بيعه لأنه قد

٧١

دخل في الدين وصار مثلنا ، وذلك لا يخرجه من الرق بل نكره بيعه وهو ليس بحرام مطلقا.

سافرنا من يافا إلى بيت المقدس على خيل في يوم الثلاثاء تاسع شهر جمادى الآخر وأخذنا في الطريق اثنتي عشرة ساعة وربعا ، مدة السير. وكراء الدواب ثمانية ريالات ونصف ينقص قليلا. وأغلب الطريق عمار ومزارع وشجر وزيتون ، آية من كثرته حتى في الجبال. والسلك يسايرنا في الطريق إلى بيت المقدس. والطريق كلها مخدومة (١) تصعد الجبل كما تصعدها الدواب والبهائم ، حيث يحملونها إلى جبال عالية جدا. والطريق فيها مقامات ومهاوي للاستراحة. وجبال المقدس أغلبها بيض بيرة مخضرة بخلاف جبال الأماكن الباقية ، إلى أن وصلنا مدينة المقدس. وهي مدينة كبيرة عليها سور كبير ، وأرضها طلوع ونزول ، ليست مستحبة ، وخارج البلد فيها بساتين وشيء من البيوت المنظمة الجديدة ، وأما بيوت البلد بنفسها فهي قديمة وطرقها ليست على كل حال وهي بلد قديمة وأغلب سكانها يهود ونصارى والمسلمون بها قليل. وبلغنا أن المسلمين سكان المدينة ألفان والنصارى أربعة وعشرون ألفا ، واليهود أكثر من عدد النصارى. وفيها جملة كنائس.

__________________

(١) معبدة ومهيأة.

٧٢

ووصلنا مسجد الأقصى بفضل الله وكرمه فرأينا حرما كبيرا متسعا عظيما وفيه المسجد ، وهو مسجد عظيم لا مثيل له ، يعجز الوصف عن وصفه. وفيه محاريب الأنبياء عليهم‌السلام. ونزلنا أسفله ورأينا بناءه القديم الذي بناه النبي سليمان بن داود عليهما‌السلام ، وهو بالحجارة. والبناء الثاني وضع على أساسه السابق ، وكل محراب في محله على أساسه ، هكذا اخبرونا. والمسجد فيه أبواب كبار وفي وسطه عال مثل البندان على طوله ، وآخر البندان قرب المحراب ، فيه قبة عظيمة غاية في الزخرفة. وفيه جملة أعمدة بالرخام الملون وفيه شباك ورخوت ومدارج. ومقطوع منه جانب للنساء ، وفي جوفه صريح ماء. وبعض مفروش بحجر الرخام ، وبعضه بحجر غيره ، وهو في جانب الحرم.

وفي وسط الحرم الصخرة ، وعليها قبة عظيمة في غاية الحسن ، وفي جوف القبة شباك ، وفي وسط الصخرة ، ولها درج تنزل تحتها وهي عظيمة وتحتها محرابان أحدهما لسيدنا داود عليه‌السلام ، والثاني لسيدنا النبي سليمان عليه‌السلام ، وموضع صلى فيه سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويذكرون أنها كانت متعلقة ، والآن حولها بناء خفيف إذا ضربته يرتج ، والله أعلم. وذكر سبب البناء أن

٧٣

النساء الحوامل إذا دخلن تحتها يضعن حملهن من الخوف ، فبنوا هذا البناء لأجل الاطمئنان.

وفي القبة آثار الأنبياء كثيرة من محاربيهم ومقاماتهم وغير ذلك على ما أخبرونا. وبجانب القبة قبة صغيرة غيرها في غاية الحسن ، يذكرون أنها موضع السلسلة التي كانوا يقعدون عليها وفيها محراب. وهو موضع الحكومة الذي كان يقعد فيه نبي الله داود عليه‌السلام للحكومة.

ورأينا مهد سيدنا عيسى عليه‌السلام كذلك في الحرم ، وهو في الأرض ينزل إليه من أراد زيارته في جانب من الحرم ، على طوله مدارس ومواضع للمجاورين وفيه صهاريج ماء ، وأخبرونا أنه كان فيه عين ماء تجري والآن انقطعت. وفي وسطه مواضع صغار للمتعلمين ، وفيه جملة شجر زيتون وغيره. والحاصل أنه مسجد مبارك وحرم كبير غير أنه خراب ، والمسجد مهجور كله وسخ من روث الحمام ، إلا ما شاء الله تجده محلا نظيفا تصلي فيه.

ورأينا شيئا من البناء القديم من زمن سيدنا سليمان وداود عليهما‌السلام ، وهذا البناء هو عبرة لمن اعتبر. ورأينا مربط البراق لما

٧٤

آتي به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء ، هكذا أخبرونا. وكل موضع وأثر قديم فهو نازل في الأرض لا بد من النزول له. وأغلب الآثار التي رأيناها هكذا.

وأما القبة التي فيها الصخرة فهي في وسط المسجد وفيها أربعة أبواب مصفحة ، وهو كبير وفي وسطه القبة وفيه الصخرة ، وعليه الشبابيك كما تقدم ولا تدخل من واحد إلا وتنزل ، والثاني هو دائر على الصخرة. وهذا المسجد لا يبلغه الوصف لما فيه من الزخارف والنقوش وإتقان البناء القديم ، وذلك من بناء بني أمية ، كما بلغني فمن يرى تاريخ البناء من الزوار يجده مكتوبا على القبة سنة ٢٨٣ سنة (١) ، فيكون من مدة البناء إلى الآن ألف وست سنين. ورأيت مصابيح في هذا المسجد ما رأيت مثلها فيما رأيت من المساجد ، إذا أشرقت عليها الشمس ترى العجب من الألوان والأشكال.

وسور البلدة عال بني بالحجر المسحول العظام ويذكرون أن فيه شيئا من بناء نبي الله سليمان بن داود عليهما‌السلام. وأغلب البيوت مبنية بالحجر المسحول ، والطرق كلها مفروشة بالحجر. وفيها جملة أسواق وعليها زج ، وكذلك البيوت أغلبها زج.

__________________

(١) هكذا في الأصل. ومن المعلوم أن عصر بني أمية انتهى قبل هذا التاريخ بسقوط مروان بن محمد ومبايعة أبي العباس السفاح خليفة عام ١٣٢ ه‍ ، ليبدأ عصر الدولة العباسية.

٧٥

وخارج السور في جانب البلد واد عظيم ، يذكرون أنه وادي النار وفيه مقابر اليهود ، ما رأيت مقبرة أكبر منها. وفي الوادي بناء قديم وآثار قديمة لم يعطنا خبرها أحد. ومن جملة ذلك فيه قبة عالية متطاولة ، وفيها باب أعلى من الأرض بمقدار قامتين يأتيها النصارى ويرمون في جوفها الحجارة ، من غير تشبيه كرمي الجمار ، وإذا امتلأت فرغوها ، يذكرون أن طرطور (١) فرعون بأخبارهم.

ومن جملة هذه الآثار مواضع منحوتة في الجبل بعض منها كالمساكن. وطلعنا جبل الزيتون وهو بعد وادي النار ، جبل عال سهل الطلوع ، ورأينا فيه قبة يذكرون أن الله رفع سيدنا عيسى عليه‌السلام من هذه القبة ، وفيها موضع في الوسط هو علامة لمحل رفعه منه. والنصارى لم يزالوا يترددون في ذلك الموضع تبركا به ، وفي بعض الأيام يفعلون عيدا عظيما عند القبة هكذا أخبرونا. وعلى الجبل المذكور آثار قديمة فوارات (٢) ، منها فوار السيد محمد المعلم حامل رأية المسلمين ، وسيدتنا رابعة العدوية رضي‌الله‌عنها ، وسيدنا سلمان الفارسي والشهداء الأربعين.

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) هي الينابيع.

٧٦

وما بين الجبل والبلاد في ناحية عن وادي النار من أعلاه قبر سيدتنا مريم بنت عمران ، والآن في أيدي النصارى طلبوه من الدولة وعملوا عليه كنيسة وهو نازل في الأرض نحو خمسين درجة في القياس ، وجعلوا فيه من الزينة شيئا يفوق الوصف من أواني الذهب والفضة ومن قناديل ومغارز وغير ذلك. والقبر عليه حجر مثل الكهرب ومصورين صورة سيدتنا مريم وسيدنا عيسى عليهما‌السلام ، ما شاء الله تلك الصور قاصر عليها الروح ، وعليهم من اللباس ما شاء الله والشموع والقناديل مسروجة ليلا ونهارا. وفي بعض الأيام يصنعون عيدا عظيما عندها.

وقبر سيدنا داود عليه‌السلام خارج عن السور من جانب الحرم في موضع فيه على صفة القبر كبير ، قول أنه قبر سيدنا سليمان بن داود عليهما‌السلام ، وقول آخر انه محل كرسيه ، مختلفون في ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم بصحة ذلك. وقول أنه دفن في غار قرب الصخرة ، وقول عند أبيه وحجة من قال عند كرسيه أن الأنبياء يدفنون حيث ما كانوا ودليله الآية.

ودخلنا كنيسة النصارى القديمة التي هي من زمن الجاهلية المسماة بالقيامة وإذا فيها موضع ، ورأينا فيها من الزينة والزخارف

٧٧

وأواني الفضة والذهب من قناديل ومغارز مصفحة ، وغير ذلك والتصاوير والتماثيل شيء عظيم. وزعمهم أنه الموضع الذي قتل فيه سيدنا عيسى عليه‌السلام ، ما تركوا شيئا من ذلك حتى الدم مصور ، وموضع ما دفن صورة قبر على حجر مثل الكهرب وعليه شيء كثير مما ذكرته. وصورة سيدتنا مريم في صباها وعليها من اللباس والحلي والجواهر ما لا يوصف. الحاصل أن العقل لا يسع ما رأينا ويعجز الواصف عن وصفه.

ورأينا في هذه الكنائس نصارى الحبشة ، ورأيناهم يصلون منهم القائم ومنهم المجافي على ركبتيه ، وهم صموت على كثرتهم لم نسمع لهم حسا غير صوت القراءة. أما حراس هذه الكنيسة فهم مسلمون متوارثون لها من سابق ، من مدة سيدنا عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه على هذه القاعدة. هو الذي أقامهم وأبقى هذه الكنيسة لهم كرامة لهم ، لأنهم سلموا له البلد من غير حرب وأمر المسلمين أن يحرسوها لهم ، وثبت ذلك على ما كان ، هكذا أخبرونا. والقناديل والشموع لم تزل موقدة فيها ليلا ونهارا ، وفيما أظن ليس عندهم كنائس أفخر من الذي رأيناها في القدس ولا أكثر مالا منهن لأن جميع ملوكهم يهدي إليهم الأموال الجزيلة ، هكذا أخبرونا. وكنائس

٧٨

كثيرة في القدس ولكن الاعتماد عندهم على الذي ذكرناها.

واتفق لنا يوم الجمعة في القدس ورأينا المسلمين في صلاة الجمعة قليلين نحو أربعمائة إنسان يزيدون أو ينقصون ، والمسجد خاو ، كأنها ليست بصلاة جمعة من قلة المسلمين في ذلك المحل ، والله المستعان. بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ. وقبر نبي الله العزير صلوات الله عليه خارج البلد ، بعده عن البلد مقدار ساعة إلا ربع ، وأن كهفه الذي كان يتعبد ويسكن فيه على حد قولهم قرب قبره.

وسيدنا موسى نبي الله الكليم ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، قبره بعيد عن البلد بمقدار أربع ساعات ونصف إلى خمس ساعات ، وطريقه صعبة ومخيفة ، والسير إليه بعسكر. ورأينا من كراماته حجرا في الموضع الذي هو فيه يشتعل مثل الفحم ويطبخون به ، لأن تلك الجبال التي حوله عديمة الشجر ولا يتيسر الحطب للزوار ، وربما لأجل ذلك صارت هذه الكرامة لمن أراد أن يوقد نارا يأخذ بعض الحطيبات الصغار بقدر ما يشعل الحجر ويطبخ به ما شاء من المأكولات ويشوي به اللحم ، والمراد إنه مثل الفحم وله رائحة النار. ورأيناه يشتعل عيانا ومع ذلك فإنه إذا خرج عن أرض القدس بطل عمله ، والله تعالى أعلم.

٧٩

وبالقرب من قبره قبر الراعي الذي كان يرعى غنم سيدنا موسى عليه‌السلام ، وقبورهم في جوف المسجد في محل واحد ، عليهم شبّاك.

وإذا طلعت جبل الزيتون ترى بحيرة ماء كبيرة جدا. ويذكر أنها هي التي أهلك الله فيها قوم لوط عليه‌السلام ، وحولها موضع المدائن المذكورة ، والنصارى يقصدونها لأخذ الماء منها يتبركون به ، ويصطحبونه إلى منازلهم.

ودخلنا كنيسة اليهود التي بالقدس وهي بخلاف كنيسة النصارى ، رأينا فيها كراسي جملة وصناديق للكتب وفي وسطها مثل التابوت ، وهو موضع القارئ. وفيها مثل المنبر وفي وسطه محراب وعلى المحراب ستارة مرخيّة. ويذكرون أنه في باطن هذا المحراب صورة النبي موسى عليه‌السلام. وأردنا أن نكشفه للتفرج عليه فمنعونا ، يذكرون أنهم يكشفونه يوم السبت عند عبّادهم. وليس في هذه الكنيسة كثرة من الزينة مثل كنيسة النصارى.

ثم سافرنا من بيت القدس في ثماني ساعات إلا ربعا إلى الخليل ، فمر بنا في الطريق قبر نبي الله راحيل عليه‌السلام ابن يعقوب وهو

٨٠