الدرّ المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم

المؤلف:

السيد أمجد حمود بن أحمد بن سيف البوسعيدي


المحقق: محمّد المحروقي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عاصمة الثقافة العربية
الطبعة: ١
الصفحات: ١١٩

وقد أخبرني بعض من له خبرة بتلك الجهات أن حول الطائف من سائر جهاته الأربع جملة قرى محتوية على بساتين وأنهار متفجرة ومزارع وثمار متنوعة ، وكل هذه الثمار ترد إلى مكة المشرفة ، فلذا تجد بمكة دائما الفواكه في غير أوانها. قال فمن جملة الوديان والقرى المذكورة وادي المثناة ووادي الرهط ووادي السلامة ووادي العقيق ووادي الحال ووادي القيم ووادي العرج ووادي ليلة ووادي قرن ، وغير ذلك مما يشرح الخاطر ويسر الناظر.

وتوجهنا منها يوم سابع والسبت من جمادى الأولى إلى مكة المشرفة ، فمن يوم خروجنا من مكة إلى يوم رجوعنا إليها شهر كامل. ثم سافرنا من مكة المشرفة ليلة اثنتي عشرة والجمعة من جمادى الأولى من السنة المذكورة إلى جدة فدخلناها يوم السبت بعد طلوع الشمس. وفي يوم الأحد زرنا قبر أمنا حواء وطوله أربعون ذراعا على حد قولهم ، ووجدناه كما قالوا ، إن لم يزد لم ينقص. في وسطه قبة قيل إنها على سرتها.

ثم ركبنا البحر وسافرنا يوم خمسة عشر والاثنين الساعة الأولى من النهار في بابور الدولة العثمانية المسمى درابزان بودقلين ، طوله مائتان وثمانون فوتا ، واسم قبطانه ربوان بابا. ويوم ثمانية عشر والخميس أصبحنا مقابلين جبل طور سيناء ، وأمسينا آخر بركة فرعون ،

٤١

وهو الموضع الذي غرق فيه فرعون لعنه الله. وصباح تسعة عشر والجمعة في الساعة الأولى والنصف من النهار وصلنا إلى السويس ، وكرتنونا (١) أربعا وعشرين ساعة ، ونزلنا يوم السبت بعد تمام مدة الكرنتينة وصارت علينا من المشقة ما لا مزيد عليه من الزحام ، لأن المركب فيه جملة خلق من عسكر وغيرهم ، حتى اشترينا مغلقا فيه نسوان ونحن جملتنا خمسة أنفار ، نولنا (٢) ستون ريالا.

ونزلنا بالسويس عند الجودي ، وهو جودي فاخر ، ورأينا ما حوله من البناء والآلات ما لا يوصف ، ومسافته عن البلد مقدار نصف ساعة على الدواب (٣). وسافرنا من السويس في بابور الدخان (٤) على البر يوم الحادي والعشرين والأحد ، بعد مضي ساعة وعشرين دقيقة من النهار.

__________________

(١) يقصد به الحجز الصحي ، كما ذلك يفهم من السياق ومن موضع آخر في الرحلة.

(٢) النول : الأجرة.

(٣) في الأصل البهائم.

(٤) يقصد القطار البخاري.

٤٢

الباب الثاني

في ذكر مصر وعجائبها

٤٣
٤٤

ووصلنا مصر الساعة الحادية عشرة إلا عشرين دقيقة في يومه (١). وكان قد وقف بنا في خمسة عشر موضعا لأجل الاستراحة وقضاء الحوائج. ومنها رجوعه إلى بلد تسمى إسماعيلية مرسى المراكب التي تمر في البحر الجديد (٢). وتركنا مدة الإقامات (٣) فكان باقي مسيرنا من ذلك كلّه من السويس إلى مصر ست ساعات وعشرين دقيقة. وكان في سابق الأمر على الجمال سير ثلاثة أيام بجمال أهل مصر لأنها في السير أسرع من جمال الحجاز. والنهر من النيل ، والبحر الجديد بداية سايرناه من السويس إلى الإسماعيلية ، والسلك (٤) كذلك يسايرنا من جانبين وذلك مقدار نصف الطريق. الغاية إنها (البحر وخط الهاتف) مقابل المحطة التاسعة ، ثم انقطع عنا البحر الجديد والسلك من جانب واحد ، وسار البحر إلى جانب آخر إلى نبط سعيد وبقى معنا النهر الحالي والسلك من جانب واحد سايرنا إلى مصر.

وعند وصولنا إلى وادي مصر وهو معقل العسكر ، بعده عن البلد

__________________

(١) أي يوم الأحد الذي غادر في الساعات الأولى منه.

(٢) يريد قناة السويس.

(٣) أي الوقوف في المحطات المذكورة.

(٤) خط الهاتف.

٤٥

سبع محطات ، كلّه عمار من مزارع ونخل وأشجار ، وتفرع النهر في مواضع شتى يسمونها الترع ؛ منها ترعة إلى السويس تمر فيها المراكب عند جودي ، ومنها ترعة عند الإسكندرية ، وترعة تشق مصر. وكلها من البحر الكبير وتفاريعه في سائر أرض مصر من سائر البلدان. وجميع هذه الترع تجري فيها السفن من كبار وصغار ، ويأكلون من حيتانها. والحاصل أننا رأينا شيئا عظيما يقصر دونه الوصف.

والسويس بلدة صغيرة ولا عليها سور ، ولا فيها شيء من القلاع غير البوابير الحربية في مرساها. وفيها قلعة محكمة متكلفة بلك وخمسين ألف ريال (١). إنه هذا ما بلغنا. وليست هي بلدة مزارع إنما تجيء إليها الفواكه والمأكولات من مصر وغيرها.

وأما العجائب في مصر ـ وما سميت مصر إلا لأنها مصر كما قالوا ـ وفيها من البساتين آية وشيء يبهر العقول حتى في بعض الأماكن يمشي البابور ما بين الأشجار والأنهار. وتفرجنا على كارخانة (٢) طبع الكتب ، والذي يصحح الكتب في المطبعة عشرة من العلماء. وكذلك تفرجنا على كارخانة عمل القرطاس وهي تعمل أصنافا من القرطاس. وهو يعمل من الخرق البالية والجواني وورق الموز.

__________________

(١) اللك : كلمة من لغة الأردو مقدارها مائة ألف.

(٢) ماكينة الطبع.

٤٦

وأما طبع الكتب فهو على نوعين ؛ نوع بالحجر ونوع بالرصاص. وتفرجنا على كارخانة السراج التي تشتعل منها المصابيح في البيوت والطرقات. والحاصل أن ما رأينا من هذه الكارخانات شيء مما لا يناله الوصف.

ودخلنا بيت الفرجة وهو بمحل يقال له بولاق وهم يسمونه الانتيكة ، ومعناه العمل القديم. ورأينا فيه صور الفراعنة وغيرهم وحليهم السابقة من ذهب وفضة ، وبعض من حوائجهم وأسبابهم وسائر صنائعهم. وفيهم أموات على حالهم في صناديق ، أحدهم منذ ثلاثة آلاف سنة وثماني مائة سنة ، تواريخهم مكتوبة عليهم. أخرجهم النصاري من الأرض ، بعضهم في زمن محمد علي باشا والبعض من بعده. أصلها مقابر قديمة بمصر ، يحفرونها ويخرجون منها صورا من المتقدمين وأمواتهم وحوائجهم. هكذا أخبرونا والله أعلم. وفيهم صور هائلة موحشة ، أحد منهم يقارب سبعة أذرع طولا وأزيد ، والجرم على قدر الطول. وأحد من الأموات بأكفانهم وشيء من كسوتهم كذلك باقية لم تتغير ، واحد منهم كالأسد ، وغرائب لا تحصى ، يحتار فيها اللبيب ، ويهابها الطبيب ، وهي شكل غريب.

وكذلك تفرجنا على نيل مصر الكبير وما فيه من المراكب والسفن ، ورأينا مجاري الترع منه إلى باقي البلدان من السويس وغيره ، والسفن

٤٧

الجارية فيها تحمل أشجارا وخضرة وفواكه وحبوب وغير ذلك من مهمات العالم إلى سائر الجهات. وكل هذه الفرجة ببولاق ، وهي حارة من حوائر مصر شهيرة. والآن هم مجتهدون في حفر ترعة إلى السويس غير الأولى للمراكب. ورأينا القناطر الصغار ورأينا القناطر الدورانية على النيل.

ورأينا الموضع المسمى الإسماعيلية ، الذي يعمره إسماعيل باشا بمصر من بولاق في محل يقال له الجزيرة ، وبما فيه من البناء الفاخر. ورأينا بستانه المسمى الجنينة وبما فيه من القباب المزخرفة والأنهار الجارية والأشجار المظلة الدانية ، والجبل المصور والماء ينحدر من أعلاه إلى بحيرة في وسط البستان ، وعليها القناديل دائرة على صفة بيض النعام ، وكلها تسرج في يوم الزينة بالجاز.

والجاز حل (١) الولاية ، وفي وسطها قبة صغيرة للطير ، وفيها من الأشجار الفاخرة ما لا نهاية. وفيه قبة مخصوصة تضرب فيها المزيقة (٢) ، وهي آلة الطرب الافرنجية. وكذلك باقي القباب بها أنواع من الآلات الملهية ، وفيهن من القناديل والسرج ما لا نهاية.

__________________

(١) زيت الوقود.

(٢) الموسيقى.

٤٨

وعلى الأنهار والأشجار قناديل. ويصير فيه مجمع كبير في الأسبوع مرتين ، لأنه مجعول للفرجة مما يؤدي لكل متدين بدينه أن ينكر.

ورأينا الجامع الأزهر وهو مقر العلماء والمتعلمين ، إنه جامع كبير ، وفيه مواضع ومحاريب جملة ، ومدارس وخلوات للمتعلمين. ومن جملة المحاريب ، محراب في وسطه ما بين العواميد ، وعواميده كلها حجر رخام. والذي وافقناهم (١) فيه من المتعلمين وغيرهم بقدر ثلاثمائة إلى أربعمائة ، وذلك في غير وقت الصلاة ، عند الإشراق.

وفيه جملة من علماء يدرّسون في حلقات عديدة ، يسمع لهم دويّ عظيم. وأخبرونا أن الذي رأيناهم أناسا قلة ، أكثرهم في هذه الأيام ساروا إلى زيارة الشيخ البدوي ، ومعهم اجتماع عظيم. وجميع المتعلمين في هذا المسجد لهم جوائز من الدولة. الحاصل أنه مسجد عظيم وفيه خلق كثير. وفيه جملة صناديق تضم كتبا كثيرة ، وهي في التحري بقدر مائتي صندوق ، قد تزيد قليلا وقد تنقص. والحاصل أننا لا نستطيع وصف كل ما رأيناه ، بل وصفنا البعض فقط.

ثم زرنا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهم يذكرون أنه جاء به أحد ملوك مصر بعد وفاة يزيد بن معاوية ، وعليه قبة عظيمة

__________________

(١) أي وجدناهم أثناء زيارتنا.

٤٩

بها مسجد عظيم. وزرنا الأمام الشافعي ، والسيدتين نفيسة وسكينة نفيسة بنت الحسين بن علي ، والسيدة زينب بنت سيدنا علي بن أبي طالب. وهذه المزارات كلها عليها قبب صغار ، وفي الوسط قبة كبيرة وفيها من النقوشات والكتابات. وفي مصر مساجد كثيرة من جوامع وغيرها ، قيل لنا إنها تحوي ثلاثة آلاف مسجد.

وصعدنا القلعة ، ورأينا مسجد محمد علي باشا الذي ليس له نظير ، كلّه من رخام مثل الكهرب ، وعليه قبب صغار ، وفي وسطه قبة كبيرة وفيه من النقوشات بالذهب وغيره ما لا يوصف ، وبجانبه عن يمين الداخل قبره وهو في بطن القلعة على جبل ، وحوله البساتين وفيه موضع للنزهة ، شيء لا يوصف.

وإذا كنت بجانب المسجد ستكشف مدينة مصر كلها. وفي هذا المسجد من ثريات وقناديل وفرش ما لا يوصف ، والماء صاعد للمسجد والجبل ، وكذلك القلعة كلها على الجبل كاشفة على مصر الجديدة والقديمة. فيه جملة أبواب ، وكل باب عليه عساكر وفيها جملة بيوت. والحاصل أنها حلّة تامة ، تطلع إليها عربات الخيل من غير مشقة.

٥٠

ونظرنا البلد كلها من القلعة فوجدناها بلدة عظيمة على الوصف وزيادة. وزنجبار كلها بيوتها في السعة والقيمة عن محلة من مصر على القياس ، الحاصل أنها بلدة يكلّ البليغ عن وصفها ، وليس الخبر كالعيان.

ورأينا بيت فرعون موسى وهو قد خرب ، بل باق شيء من حيطانه وموضع جلوسه للبروز للناس في دكة مرتفع ، علّوها من الأرض في بناء نحو عشرين ذراعا ، قياسا على التحرّي.

وأخبرنا شيخ من شيوخ الأزهر أن جملة علماء جامع الأزهر المدرسين مائتان ، وتلاميذهم خمسة آلاف وثمانمائة ، والجملة ستة آلاف نفر ، الذين لهم جوائز من الدولة المصرية ، وهم مكتوبون في دفاترهم. وعند الدرس يمتلئ المسجد الأزهر المتقدم ذكره كله مع الأماكن التي حوله حتى لا يقدر أحد أن يجوز في وسطه من كثرة الخلق ، لاصقين ببعضهم بعضا. وأخبرني غير الشيخ المذكور بذلك ، كما أخبرني الشيخ تصديقا لقوله (١).

وأخبرونا عن قبور أهل مصر ، يجعلون سراديب في الأرض

__________________

(١) هكذا في الأصل يخرج عن وصف الأزهر ثم يعود إليه ، ولعلها مادة تهيأت له لاحقا بعد أن خرج عن وصف الأزهر فأضافها في غير محلها.

٥١

ويبنونها وينوّرونها ويجعلون على أبوابها الحجر المنحوت وإذا مات لهم ميت كشفوا الحجر وأدخلوه ، وتجتمع أموات كثيرة في كل سرداب. وطوارق (١) النساء يزينونها ويجعلون على رأس الميتة عودا مستمرا بالنعش ، وفيه شعر يزينونه بالحلي ، ويلقون في الشعر مشاخص ذهب وشيئا من زينة النساء. رأيناهم يمرون بطارقة على هذه الصفة ، وأخبرونا بذلك وعندهم تخرج النساء خلف الجنائز ، يكون الرجال أمام الطارقة والنساء خلفها. وطوارقهم بخلاف طوارقنا يحملها ثلاثة أنفار ؛ اثنان قدام وواحد خلفها ، والنساء نائحات خلف الجنازة مخالفين للسنة.

وأيضا دخلنا بيت النزهة الذي هو في بستان القلعة مزخرف مما لا نهاية ، وفيه ديوان المناصب إذا تولى حاكم يقعد فيه للتهنئة ، وكذلك أيام الأعياد يقعد فيه والي مصر. وفيه مواضع إذا دخلت موضعا تراه أحسن من الآخر. والحاصل أنه محل مملكة. وقد بلغنا أن السلطان عبد العزيز حين قدم إلى مصر سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف نزل فيه.

__________________

(١) جمع طارقة ، وهي آلة خشبية يحمل عليها الميت.

٥٢

ورأينا كرخانة القروش في القلعة ، وكذلك سجن النبي يوسف عليه‌السلام ، وهي بئر كبيرة عميقة في القلعة ونزلنا إلى بعضها ، ورأينا الموضع الذي كان يجلس فيه النبي يوسف عليه‌السلام ، وهو في جانب من البئر. وطريقها مظلمة ينزلونها إليها بالشموع ، وهم يجذبون الماء منها للقلعة على راسين من الخيل ، لأنها بئر عظيمة هائلة ، وماؤها عذب. وفي بستان القلعة المذكور بركة عليها صور سباع يخرج الماء من أفواهها ، وفي وسطها كذلك يخرج الماء كمثل الشجرة.

وجواري الدخان في بر مصر كثيرة متفرقة في بلدان شتى ، وكذلك السواعي (١) من كبار وصغار شيء كثير لا يحصى ولا يعد ، نجدها حيثما سرنا ، في الشط بنفسه وفي فروعه تحمل الأمتعة إلى مصر وباقي البلدان. ومن العجائب أننا رأينا أناسا في بر مصر عراة مثل البهائم ، وهم مع الناس ولا أحد ينكر عليهم ، كيوم ولدتهم أمهاتهم. والبهائم معهم كثيرة من كل صنف ، ورأيناهم يركبون على الجاموس. وأكثر أحمالهم على الجمال والسواعي والبوابير. والبابور الواحد يجر مائة عربة تحمل أثقالا كثيرة من أموال وحيوان

__________________

(١) هي المراكب النهرية الصغيرة. تعرف في بعض اللهجات العربية بالبلم.

٥٣

من خيل وغيرها. والبوابير المخصوصة للركاب لا تقطر شيئا ، وربما تأخذ نصف المقدار في مسيرها في الساعة.

وقد ركبنا في المقطورات ، وهن مثل الطير الذي يساير العربة ولا تتبين صورته من قوة السير وقد مر علينا طائران ولم يستطيعا أن يجاوزانه من قوة جريانه. وشط النيل ينفذ في دمياط ورشيد وإسكندرية والسويس ، هكذا أخبرونا. ويذكرون في دمياط أنه في كل سنة وفي النصف من شهر شعبان يفترق البحران بقدر مذبح جزور ، ويذبحون له جاموسا بين البحرين فيلتئم بقدرة الله تعالى ، والله أعلم.

ومدخول مصر كل يوم ، كما يذكرون ، لكا ريال ، والذي يسير اسطنبول في كل سنة لك وثلاثون ألف كيس ، والكيس فيه خمسمائة فون ذهب. والفون عن خمسة عشر ريال ، هكذا أخبرنا شيخ التجار وغيره عن المدخول. وبلد مصر بنفسها وخيمة ، هواؤها غير محمود ، وهي بلد قديمة فيها جملة بيوت قديمة وخربة ، والآن يعمرونها ثانية بيوتا كبيرة فاخرة على صفة بيوت النصارى. وما عمروا منها سوى القليل ، والعمار كل يوم في زيادة. وأخبرنا شيخ التجار وغيره عن بلد مصر أن طولها ثمانية أميال وعرضها أربعة ، وهذا غير العمارة

٥٤

الجديدة التي ربما تقارب المناصفة.

وفي يوم الخميس ، في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سافرنا إلى البهنسا لزيارة الشهداء ، وأخذنا من البيت إلى خارج البلد عند مواضع جواري الدخان ساعة وعشرين دقيقة راكبين في عربة براسين خيل ، وركبنا في بابور البر إلى بلد تسمى مغاغة ، وأخذنا في الطريق خمس ساعات وخمس دقائق التي هي مشي البابور فيها غير مدة الإقامات. ومن مصر إلى مغاغة سبع مقامات ، ومنها ركبنا على خيل إلى أرض البهنسا أخذنا ست ساعات. وهذا كله عمار ؛ بلدان جملة لا تعد ولا تحصى ، وكلها مزارع من سكر وبرّ وبقولات وغير ذلك ، وفيها نخيل جملة ، والنيل معنا إلى البهنسا.

وعبرنا نحن وخيلنا في سفينة والسلك معنا إلى مغاغة ، وصرنا إلى موضع آخر والمراكب والسفن الكبار معنا إلى مغاغة ، وكذلك فروع الشط فيها سفن صغار ، والنيل له فروع شتى لا تحصى ولا تعد حيث ما سرنا وهن معنا. والذي عبرناه في السفينة هو نهر يوسف عليه‌السلام وهو فرع من النيل ، وهذه المزارع التي رأيناها يعمها الماء عند امتلاء الشط في كل سنة مرة لا يبقى منها شيء غير محل البيوت خاصة. ويعبرون في سفن صغار من بلاد إلى بلاد.

٥٥

وهذه المزارع تبلغ حدا لا يبلغه نظر الإنسان ، فلا يرى أقصاها ، ربما أنها مسير أشهر ، وهي صحن واحد ما فيها مكان موضع مرتفع غير موضع البيوت والنخل ، وفيها جملة شجر ، وفي بعض الطرقات يعملون جسورا يمشون عليها ، وهي دكاك (١) من تراب مرتفعة ممتدة من بلد إلى بلد بغير بناء.

وهذه المزارع ثلاث أصناف ؛ صنف منها يسقيها الشط في الحول مرة ، وصنف منها يسقونه من فروع الشط متى ما أرادوا ، وصنف منها يسقونها على البهائم من الشط. وفيها جملة معاصر دخان وغيره ، ويحصل منها خير كثير. أخبرنا إنسان اسمه علي أغا ، سلحدار المرحوم الشريف محمد بن عون ، والآن هو القائم على الأراضي التي بتلك الجهات في حدوده من أرض البهنسا ، أخبرنا أنه باع تبن البر بسبعمائة وخمسين فونا. والفون عشرة ريالات عن ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين ريالا. فإذا كان إنسان واحد يبيع من التبن بهذا المقدار ، فكم من غيره ، وكم وكم مثله وأشكل منه ، فالملك لله الواحد القهار. رأينا شيئا لا يقاس ولا يكيّف ولا تسعه العقول.

__________________

(١) مفردها دك ، أي الجسر الصغير من التراب.

٥٦

ورأينا بروجا بنوها للحمام مثل ما رأينا ، ويذكرون أنهم يبيعون من روثها بمقدار كل شهر يبلغ ألف ريال ، وذلك يأخذه الزرّاع. فلما وصلنا البهنسا زرنا الشهداء بفضل الله وكرمه ، ورأينا موضع القتال ومسجد الصحابة وهو لم يبق إلا أثره ، ورأينا بين المسلمين المكان الذي استشهدت فيه نساء المسلمين ، ورأينا موضع كلب الروم على كثيب عال ، حيث ما كان يحرض أصحابه على القتال. ورأيت في ذلك الموضع جماجم على حالها لم تتغير بشعورها ، يذكرون أنها جماجم المسلمين متوارية بالأحجار.

والشهداء المعروفون عليهم قبب كل جماعة في قبة ، والذين غير معروفة أسماؤهم عليهم علامات من الحجارة. ويذكرون أن الوادي كله مليء بالقتلى ، جاعلين علامة بين قتلى المسلمين وقتلى المشركين حجرا على طول محل الوقائع التي صارت. وهو واد متسع ، ورأينا موضع الكنيسة وشيئا من آثارها ، وهو من الحجر الرخام.

والبلد على نهر يوسف عليه‌السلام والنهر يجري في وسط البلد. وهي قديمة كلها خراب بيوتها خربة. وأما حدودها فعلى ما رأينا كبيرة.

٥٧

قال شعرا :

لقد جاهدوا في الله حقّ جهاده

وفازوا بجنات ونالوا مكارما

ولم يبق شيء من الأسوار والقلاع التي عمها الآن الخراب. وليس بها كثرة سكان ، وفيها مساجد قديمة ، واحد منذ سبع مائة سنة ، وواحد من فوق الألف سنة وهو على النهر ، وقد خرب ، وهم الآن يعمرونه ثانية.

وفي رجوعنا من البهنسا زرنا سيدنا أبا هريرة وولده ، وهما في مصر عند كانية البابور عند المسجد. ومن مصر إلى البهنسا كانوا يسيرون إليه على الجمال في أربع أيام بجد السير.

ولما رجعنا إلى مصر رأيناهم يزينون البلد لأجل قدوم إسماعيل باشا والي مصر من اسطنبول ، ويذكرون أن هذه الزينة تتكلف على أهل البلد بين لك وحتى خمسة لك ريال ، حتى أن إنسانا أجّر إنسانا لزينة بيته بستة آلاف جني ، هذا واحد من عالم ، وكم غيره. الحاصل انه شيء مفرط ، ومن الجملة يؤجرون جارية تغني بثلاث مائة ريال في الليلة الواحدة. ومررنا على تلغراف وهو السلك الموصل الأخبار من جهة إلى جهة وكيف يصنعون به ، وذلك في طريق البهنسا.

٥٨

ورأينا أهرام مصر وهي من عجائب الدنيا ، وأعجبها الهرمان القريبان لمصر المنسوبان لشدّاد بن عاد ، وقد رأينا في بعض التواريخ أن الذي بناها هو سوربد أحد ملوك مصر قبل الطوفان بثلاث مائة عام ، لأنه كان قد رأي في منامه كأن الأرض انقلبت بأهلها ، وكأن الناس قد هربوا على وجوههم ، وكأن الكواكب تتساقط ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة. فأهمل ذلك ولم يذكره لأحد وعلم أنه سيحدث أمر عظيم. ثم إنه رأى من بعد ذلك في الليلة الثالثة بأن الكواكب الثانية نزلت إلى الأرض في صورة طيور بيض وكأنها تخطف الناس وتلقيهم بين جبلين عظيمين ، وكأن الكواكب المنيرة مظلمة مكسوفة ، فأنتبه بعد ذلك فزعا مرعوبا ، فأمر بعد ذلك بعمل الأهرام.

ولما شرع في بنائها أمر بقطع الأسطوانات العظام واستخراج الرصاص بأرض المغرب وإحضار الصخور من ناحية أسوان ، فبنى بها أساس الأهرام الثلاثة الشرقي والغربي والملوّن. وكانوا يمدون البلاطة ويثقبونها ويجعلون بوسطها قضيبا من حديد إلى أن أكملت. وجعل ارتفاع كل هرم مائة ذراع ملكي ، والذراع الملكي خمسة أذرع بذراعنا الآن. وجعل جهاته مائة ذراع بذراع العمل ،

٥٩

فلما فرغ من بنائها كساها ديباجا ملونا من أسفلها إلى أعلاها ، وأنشد بعضهم :

خليليّ ما تحت السما من بنيّة

تماثل في إتقانها هرمي مصر

بناء يخاف الدهر منه ، وكلّ ما

على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

ويذكر القبط في كتبهم أن عليها كتابة منقوشة تفسيرها بالعربية «أنا سوربد الملك بنيت هذه الأهرام في سنة كذا وكذا وأتممت بناءها في ست سنين ، فمن أتى بعدي وزعم أنه ملك مثلي فليهدمها في ستمائة سنة ، وقد علم أن الهدم أهون من البناء ، وأني كسوتها الديباج فليكسها بالخضر».

ثم سافرنا من مصر إلى الإسكندرية يوم تسعة وعشرين والاثنين من جمادى الأولى سنة ١٢٨٩ في الساعة الثالثة إلا ربعا من يومنا هذا المذكور ، وركبنا في بابور البر فوصلنا إلى الإسكندرية في تسع ساعات وخمس دقائق من يومنا المذكور ، ووقف بنا البابور في تسعة مواضع ، ومدة الإقامة من ذلك ساعة وعشر دقائق. وكان السير في ثماني ساعات إلا ثمان دقائق. ويذكرون أن السفر كان سابقا على الجمال من مصر إلى الإسكندرية في ستة أيام.

٦٠