شرح زيارة عاشوراء

الشيخ أبي المعالي الكلباسي

شرح زيارة عاشوراء

المؤلف:

الشيخ أبي المعالي الكلباسي


المحقق: الشيخ يوسف أحمد الأحسائي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-8438-50-5
الصفحات: ٢٩٦

فقال : دع هذا عنك ، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك؟» (١).

وهذا الحديث معروف ، وفيه إرشاد إلى مراسم التقوى ومسالك الصلاح ، وبه يتبيّن الرشد من الغيّ وينكشف شدّة أمر ضيق الخلوص.

في دفع ما يتوهّم من كون صفوان بن يحيى جمّالاً

وربّما يتوهّم : كون صفوان بن يحيى جمّالاً أيضاً بملاحظة ما ذكره النجاشي من أنّه حكى أصاحبنا أنّ إنساناً كلّفه [حمل] دينارين إلى أهله إلى الكوفة ، فقال : إنّ جمالي مكراة وأنا أستأذن الاُجراء (٢).

وهو مدفوع : بأن صفوان بن يحيى لم يكن جمالاً كما صرّح به الشيخ في الفهرست (٣) ، والمقصود بما ذكره النجاشي أنّ صفوان بن يحيى قد اكترى واستأجر جمالاً من الجمّال ولم يكن الجمال من نفسه فلابد من الإستيذان من الجمّال لأنه اكترى جماله ، فلابدّ من الاستيذان ممن اكترى ، كما ينطبق عليه توهم كونه جمالاً ، ويشهد به أن الأجير من يأخذ الأجرة ، فهو المؤجر لا المستأجر.

قال في الصحاح : «الأجر : الثواب ... والأجرة : الكراء ...» (٤) ، فالأجراء الذين

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٨/٨٢٨.

(٢) رجال النجاشي : ١٩٦ ، ترجمة ٥٢٤.

(٣) فهرست الشيخ : ٢٤١ ، ترجمة ٣٥٦ ، حيث قال : «وقال له بعض جيرانه من أهل الكوفة وهو بمكّة : يا أبا محمّد ، احمل لي إلى المنزل دينارين ، فقال له : إنّ جمالي مكراة حتّى استأمر فيه جمّالي».

(٤) صحاح الجوهري : ٢: ٥٧٦ ، مادّة «أجر» ، والمصنّف هنا اقتصر على مورد الحاجة من عبارته ، وإلّا فعبارته كالتالي : «الأجرُ : الثواب ، تقول : أجَرَهُ اللهُ يأجرُهُ ويأجُرُهُ أجْراً ، وكذلك أجَرَهُ اللهُ إيجاراً ، واُجِراَ فلانٌ خمسةٌ من وَلَدِهِ ، أي ماتوا فصاروا أجْرَهُ ، والأجرَةُ : الكِراءُ ، تقول : استأجرتُ الرجلَ فهو يأجُرُني ثماني حِجَجٍ ، أي يصير أجيري».

٢٦١

وقع عليهم الأجر والعوض ، ويشهد به أيضاً ما ذكره الكشي في نقل الواقعه : من أنّه قال بعض جيرانه من أهل الكوفة وهو بمكّة : يا أبا محمّد إحمل لي إلى المنزل دينارين فقال له : إن جمالي بكراء فقف لي حتى استأمر فيه جمّالي ، فإن المقصود بالجمّال صاحب الجمل ومن يؤجّره لا من يستأجر الجمل.

وربّما توهّم اتحاد مفاد عبارة النجاشي والكشي.

وضعفه ظاهر.

وقد ظهر بما سمعت أن الأجير من الأجرة لا الإجارة.

تذييلان

أحدهما : في أنّه لا حاجة في المقام إلى اعتبار السّند.

أنه لا حاجة في المقام إلى اعتبار السند بناء على التسامح في المندوبات ولا خفاء ، وكذا بناء على عدمه لكفاية الاحتمال في استحباب ارتكاب المندوب بداعي الاحتمال بناء على عدم التسامح في المندوبات ، غاية الأمر أنه لا بد للمجتهد من إعلام ضعف السند بالمقلد ، وأنّه لو أتى بداعي الاحتمال يكون مثاباً كما هو الحال في سائر موارد ورود الخبر الضعيف بالإستحباب بناء على عدم التسامح ، بل لابدّ للمجتهد أن يكون إتيان الفعل منه بداعي الاحتمال.

إلّا أن يقال : إنّ الفعل من المجتهد بعد اطّلاعه على ضعف الخبر بداعي الاحتمال لا محالة.

لكنّه مدفوع : بأن مقتضى كلام بعض أرباب التسامح صيرورة الفعل راجحاً بواسطة أخبار البلوغ.

وبما سمعت تدري أنه لا حاجة إلى الفحص عن السند ، إذ ليس الغرض من الفحص إلّا تشخيص الإعتبار وعدمه فإذا لم يكن حاجة إلى الإعتبار فلا حاجة

٢٦٢

إلى الفحص.

لكن إشباع المقال في السند بما تقدم من جهة زيادة البصيرة واستيفاء الكلام في تمام المراحل المتعلقة بالمقام.

ثانيهما : في اختلال حال ما في زاد المعاد وتُحفة الزائر في سند رواية زيارة عاشوراء.

أنه قال العلّامة المجلسي قدس سره في زاد المعاد : «شيخ طوسي وابن قولويه وغير ايشان روايت كرده اند ، از سيف بن عميره وصالح بن عقبه ، وهردو ، از محمّد بن إسماعيل بن بزيع وعلقمة بن محمّد حضرمى ، وهردو ، از مالك جهنى كه حضرت إمام محمّد باقر عليه السلام فرمودند ...» (١) إلى الآخر.

وهذا المقال مشتمل على كمال اختلاف الحال ، حيث إن الشيخ روى عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن صالح بن عقبة عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام فساق بعض أجزاء الحديث كما تقدم إلى أن قال : قال صالح بن عقبة وسيف بن عميرة ، قال علقمة بن محمّد الحضرمي : قلت لأبي جعفر عليه السلام ... الخ.

ومن الواضح أنه لا ارتباط لما نقله بما نقله الشيخ ، وأما ما نقله عن ابن قولويه فقد تطرق الإشتباه في النقل عنه من وجوه ، حيث إن ابن قولويه قال في كامل الزيارة كما مرّ : حكيم بن داود وغيره ، عن محمّد بن موسى الهمْداني ، عن محمّد بن خالد الطيالسي ، عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة معاً ، عن علقمة بن محمّد الحضرمي ومحمّد بن إسماعيل ، عن صالح بن عقبة ، عن مالك الجهني ، عن أبي

__________________

(١) ترجمة المقطع الفارسي : «روى الشيخ الطوسي وابن قولويه وغيرهما ، عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة ، جميعاً ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع وعلقمة بن محمّد الحضرمي ، عن مالك الجهني ، أنّ الإمام الباقر عليه السلام ، قال : ... إلى آخره».

٢٦٣

جعفر عليه السلام ، وقد أتى بهذا السند في «البحار» ولا خفاء في أنه أسقط في العبارة المذكورة رواية حكيم بن داود وغيره ، عن محمّد بن موسي الهمْداني ، عن محمّد بن خالد الطيالسي من الصدر.

وأيضاً أسقط رواية صالح بن عقبة ، عن مالك الجهني من الذيل ، وأيضاً جعل محمّد بن إسماعيل معطوفاً على علقمة ، مع أنّ رواية محمّد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة تنافي ذلك لأنّ المفروض رواية صالح بن عقبة عن محمّد بن إسماعيل أيضاً فيلزم رواية محمّد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة مع أنّ طبقة صالح بن عقبة مقدمة على طبقة محمّد بن إسماعيل فلا مجال لروايته عنه ؛ إذ المقصود بمحمّد بن إسماعيل هو محمّد بن إسماعيل بن بزيع بشهادة التقييد بابن بزيع في بعض روايات كامل الزيارة ، فضلاً عن شهادة التقييد بابن بزيع في رواية «المصباح» ، مضافاً إلى تصريح النجاشي والكشي والشيخ في الفهرست بأنّ صالح بن عقبة له كتاب يروي عنه محمّد بن إسماعيل بن بزيع.

وقد عدّ الشيخ في الرجال نقلاً محمّد بن إسماعيل بن بزيع من أصحاب مولانا الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام وعدّ صالح بن عقبة من أصحاب مولانا الصادق والكاظم عليهما السلام أيضاً فلا مجال لرواية سيف بن عميرة وصالح بن عقبة عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع مع قطع النظر عن فساد جعل محمّد بن إسماعيل في رواية كامل الزيارة معطوفاً على علقمة.

وربما جعل بعض الأعلام محمّد بن إسماعيل معطوفاً على محمّد بن خالد الطيالسي ، إلّا أنه وإن كان العطف على محمّد بن موسى خالياً عن الواقع ، لكن يمكن أن يكون معطوفاً على حكيم بن داود ، ويرشد إليه رواية الشيخ ، كما مرّ عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن صالح بن عقبة ، ولو فرض عدم مساعدة الطبقة ، تكون الرواية عن الكتاب ، كما هو الحال في رواية الشيخ عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع.

٢٦٤

وبما مرّ يظهر حال ما صنعه في تحفة الزائر وهو على منوال حال زاد المعاد ، إلّا أنه لم ينسب إلى أحدٍ قال : «بسند معتبر منقول است از سيف بن عميرة وصالح بن عقبة وهردو از محمّد بن إسماعيل از مالك جهني كه حضرت امام محمّد باقر عليه السلام فرمود» (١).

في أنّ المدار في «تحفة الزائر» و «زاد المعاد» في باب سند زيارة عاشوراء على النقل عن «كامل الزيارة» وفي باب المتن على النقل عن «المصباح».

ثم إنّه يظهر بما مرّ هنا مع ما تقدم من متابعة العلّامة المجلسي قدس سره في «تحفة الزائر» و «زاد المعاد» لرواية «المصباح» في موارد اختلافها مع رواية «كامل الزيارة» في الغالب وربما وافق «كامل الزيارة» وربما خالف «كامل الزيارة» و «المصباح» أنه جرى في باب السّند على رواية «كامل الزيارة» وفي باب المتن على رواية «المصباح» وهو قد جرى على رواية «كامل الزيارة» في شرح مثوبات الزيارة وغيرها ، والله العالم.

__________________

(١) ترجمه المتن : «نقل بسند معتبر عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة ، جميعاً ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن مالك الجهني : أن الإمام الباقر عليه السلام ، قال : ...».

٢٦٥
٢٦٦

خاتمة

يا أخي :

أشدد حيازيمك للموت

فإن الموت لاقيكا (١)

وهو يأتي بغتة والقبر صندوق العمل ، فلا تكن ممن بدنياه اشتغل قد غرّه طول الأمل (٢) ، وشدّ الوثاق والنطاق لأداء التكاليف الإلهيه فإنها على بعض التفاسير قد عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان أنه كان ظلوماً جهولاً (٣) ، فأيّ بيان بأي بنان (٤) يطيق لتحرير مراحل عسر نوع التكليف ، ومع قطع

__________________

(١) هذا البيت ضمن بيتين مشهورين عن أمير المؤمنين عليه السلام تمثّل بهما ليلة شهادته ، وهما :

اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ للموتِ

فإنَّ الموتَ لاقِيكَا

ولا تَجْزَعْ من الموت

إذا حَلّ بوادِيكَا

(٢) وهذا أيضاً إشارة إلى بيتين في الموعظة وذكر الموت ، وهما :

يا من بدنياه اشتغل

قد غرّه طول الأمل

والموت يأتي بغتة

والقبر صندوق العمل

(٣) أشار إلى تفسير قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) الأحزاب ٣٣: ٧٢.

(٤) البنان : الأصابع أو أطرافها على ما هو في القاموس ، وهو بالفتح على ما اُعرب في القاموس. منه رحمه الله.

٢٦٧

النظر عن التفسير المشار إليه نقول : إنّ مثل نوع التكليف إنما هو الأمر بصيرورة الجبل يتحمل المحنة كالرماد والأمر باستقامة شعلة السراج في يوم عاصف وريح قاصف والأمر يتحمل القطن النار في جوفه ، ولنعم ما قيل بالفارسية :

در ميان هفت دريا تخته بندم ميكني

باز ئى كه دامن تر مكن هشيار باش

ويرشدك إلى ذلك ضعف بنيان الإنسان في غاية ما يدخل تحت الإمكان ، كما هو مقتضى قول سيّد السُّجّاد وزين العُبّاد عليه آلاف التحيّة من ربّ العباد :

«اللّهُمَّ وَإِنَّكَ مِنَ الضَّعْفِ خَلَقْتَنا، وَعَلَى الْوَهْنِ بَنَيْتَنا، وَمِنْ ماءٍ مَهينٍ ابْتَدَأْتَنا» (١)

ومثل حاله في عدم التمكّن من حمل ثقل المجاهدة ، ورعاية التكليف جناح الذباب والبعوضة ، وانظر أيها اللبيب إن الإنسان من ضعف عنصره لا يطيق في حال المرض للصيانة والتحفظ عمّا يضره ، فكثيراً ما يقدم على الأكل أو الشرب ممّا يضرّه بل يوجب هلاكه ، بل كثيراً ما يأكل بعض السموم من جهة قليل من الغضب ، فمن طاقته في تحمل خلاف الميل على هذا السياق والمساق كيف يتمكّن من تحمّل الغضب الشديد وترك الشهوات الغليظة طول العمر.

ويرشدك إليه أيضاً : أنّ الله سبحانه جعل بعض أفراد الإنسان فتنة للبعض ، كما نصّ عليه في الكتاب العزيز (٢) ، وشرارة الإنسان (٣) على حسب الميزان في حدّ

__________________

(١) الصحيفة السجّادية : الدعاء ٩ من دعائه عليه السلام في الاشتياق إلى طلب المغفرة من الله جلّ جلاله.

(٢) قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) الفرقان ٢٥ : ٢٠.

(٣) وقد حكي في المجمع عن قائل من خاصّته : «أنّ الإنسان مركّب من صفات»

٢٦٨

لا يطيق إحصائها نطاق البيان ، ويظهر ذلك بمعاشرتهم لمن كان معاشرته على وجه الفطانة ، كيف وظالمو سيّد الشهداء روحي وروح العالمين له الفداء بالقتل أو الجرح أو أسر العيان أو نهب الأموال لم يكونوا إلّا من نوع الإنسان ، كما أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا من أبناء الأنبياء ، ومع هذا فعلوا فعلتهم التي فعلوا بيوسف مع كمال حسن وجهه الموجب لهلاك النفس له ، فضلاً عن الممانعة عن إيذائه ، ولم يكن إخوة يوسف عليه السلام من غير نوع الإنسان ، وعلى هذا حال سائر ما وقع من الكفّار بالنسبة إلى سائر الأنبياء.

وانظر أيّها اللّبيب ، أنّ جراحات اللّسان شديدة التأثير في روح الإنسان من جهة شدّة اللطافة أو ضعف البنيان ، بحيث كأنها توجب انقطاع الأرواح عن الأبدان ، وهذه الشدّة مع غاية اشتدادها وتطرّقها في عموم الأوان أهون سمومات الإنسان.

اين فولاد بى ا ميا

كز بريد تيغ را نبود حيا

لو خبرتهم جواز اخبري

لما طلعت مخافة ان تكادا

فكيف الحال في المعاشرة مع الإنسان في طول الزمان.

وقد سمعت أنّ في زمان الأفاغنة ضيّف شخص أشخاصاً ، فاجمع الأشخاص على أن يُضرَبَ رأسُ المُضيِّفِ من الخلف حال قيامه على وجهٍ موجبٍ للضحك.

فلاحظ كيف جرى الأشخاص في جزاء الضيافة ، وكيف جرؤا على القتل بواسطة شهوة خفيفة أعني الضحك القليل ، وحال الطبيب غالباً على أنه لو عالج بعض الأطباء بمعالجةٍ وأتى بعض آخر للمعالجة فيعالج الثاني بما يضاد معالجة الأوّل ، ولا يبالي بهلاك المريض ولو كان نبيّاً ، كما أنّه يمسك عن المعالجة طلباً لحقّ القدم

__________________

«بهيميّة وصفات سبعيّة وصفات شيطانيّة ، وقد عجنت تلك عجناً محكماً لا يكاد يتخلّص منها». منه رحمه الله.

٢٦٩

ولو علم بهلاك المريض لولا المعالجة ولو كان المريض نبيّاً ، بل لو سقطت كلمة من لسانه غفلة فيعالج به ولو هلك المريض ولو كان نبيّاً ، ولا يرضى بصدور الغفلة عنه ، بل الإنسان لا يرضى بالإمساك عن كلمة في مقام حكاية واقعة ولو كانت الكلمة موجبة لهلاك نفسٍ ولم يضرّ الإمساك بحاله بوجه من جهة مجرّد الميل إلى الاستيفاء في نقل الواقعة ، والظاهر بل بلا إشكال أن الله سبحانه أدرج جميع الفتن في قالب الإنسان بواسطة الابتلاء والافتتان وليس الإنسان إلّا كالسّبع الضعيف عنصره المتقلب حاله وخياله كل آن يهوى ، ولنعم ما في المثنوي :

ما همه شيران ولى شير علم

حمله مان از باد باشد دم بدم

فمع ما ذكر ما أشقّ رعاية التكليف في المعاشرات ولا محيد للإنسان عن المعاشرة.

ويرشدك إليه أيضاً : أنّ غالب أفراد الإنسان صرف الجنون ، وناهيك في الباب ما في الكتاب من أنّ كثيراً منهم : (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنُ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (١) ، وفي كلام بعضٍ : إنّ عقل أربعين رجلاً يوازن عقل شاة ، ومن نظر في أحوال غالب أفراد الإنسان بعين البصيرة يصدِّق هذا المقال ، فوا شّدتاه ، ثمّ وا شدّتاه من مشقّة رعاية التكليف في المعاشرات.

ويرشدك إليه أيضاً : عداوة الأزواج والأولاد ، كما نصّ عليه في القرآن في قوله سبحانه : (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢) بناءً على كون (من) زائدة ، حيث إنّ المقصود

__________________

(١) الأعراف ٧: ١٧٩.

(٢) التغابن ٦٤: ١٤.

٢٧٠

بالعدواة في الآية هو العدواة الدنيويّة لا العدواة الاُخرويّة ، أي المانعة عن الاشتغال بما يتعلّق بالآخرة ، ولا سيّما مع قلّة العقل في الأزواج بالنسبة إلى الرجال بعد قلّة عقلهم وكذا اعوجاج السليقة فيهن ، كما هو مقتضى ما في بعض الأخبار من : أنّ إبراهيم خليل الرحمن شكى إلى الله عزّ وجلّ من خُلُقِ سارة ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن مثل المرأة مثل الضّلع إن أقمته انكسر وإن تركته استمتعت بها (١).

ويرشدك إليه أيضاً : أنّ الله سبحانه قد بالغ في وجوب مراعاة الوالدين حتى نهى عن التأفيف ، والحق دلالته على حرمة ما يساوي التأفيف وما دون التأفيف في الأذيّة بناء على كونه كناية عن حرمة مطلق الأذية من باب التنبيه بالخاص على العام ، كما حرّرناه في الاُصول ، وقال سبحانه : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (٢) ، بل ربّما يستفاد من قوله سبحانه : (رَبَّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) (٣) بعد أن نهى عن التأفيف وأوجب مراعاة الوالدين التهديد على إضمار الكراهة فإنّه لولا هذا لبعد الاقتران.

وانظر أيّها اللبيب ، أنّ المرأة المسبوقة بالتوصيف ، المحشورة مع الإنسان في اليوم والليل ، أعني الوالدة كيف يعسر الوفاء بخيالاتها ، ولا سيما مع وجود الزوج ، فإنه حينئذٍ تتزايد وتتأكّد شهوات الوالدة ، ولاسيّما مع فوت الوالد ، فإنه حينئذٍ تنصرف حاجاتها إلى الولد وتشتد الشدة ، وقد كان بعضٌ في حداثة السنّ صاحب الحرفة الدنيّة أو المتوسطة ، وكان له قطرة حسنة وتطرق عليه وسعة المعيشة وتأهل ولم يتمكّن من الازدواج مع الوالدة فخرج عن بيته ذبّاً عن المخالفة فكانت والدته تبكي وتضرب رأسها على الأرض وتدعو عليه إلى أن تدانى أمر معيشته ومات في

__________________

(١) فروع الكافي : ٥: ٥١٣ ، باب مداراة الزوجة ، الحديث ٢.

(٢) لقمان ٣١: ١٤.

(٣) الإسراء ١٧: ٢٥.

٢٧١

حداثة سنة ، فانظر أيّها اللبيب كيف يعسر أداء التكليف.

ويرشدك إليه أيضاً : أنّ الله سبحانه قد أوجب صلة الرحم في آيات متعدّدة وبالغ في الباب حيث قال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) (١) ، مضافاً إلى تصدير السورة به وتشبيه الأرقاب بالعقارب معروف ، فيا لله في مراعاة التكليف في المعارشة مع أشباه العقارب ، فمع هذا ما أشدّ طول مسافة المجاهدة المحتاج إليها في رعاية التكليف في الإزدواج بالأزواج والأولاد.

ويرشدك إليه أيضاً : تسليط الشيطان على الإنسان كما هو مقتضى قوله سبحانه : (وَاسْتَفْزِرْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) (٢) ، وكذا الأخبار ، وهذه الجهة أشدّ من اخواتها السابقة واللاّحقة في الممانعة عن مراعاة التكاليف بل هي العمدة.

ويرشدك إليه أيضاً : ما جرى عليه الله سبحانه من كون الإنسان في المشقّة ، كما هو مقتضى قوله سبحانه : (لَا أُقْسِمُ بِهٰذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (٣) ، أي المشقّة ، ولا سيّما مع التأكيد الأكيد فيه وتقدير تماطر المحن على صحن دار الدنيا التي أصلها مخلوق من المحنة ، كما هو مقتضى ما في الأخبار من أنه لو وقع الغريق في البحر على جزيرة ، أو أوى شخص إلى رأس جبل يخلق الله سبحانه من يؤذيه ، فمع هذا ما أشدّ المجاهدة المحتاج إليها في رعاية التكاليف.

ويرشدك إليه أيضاً : أنّ السلوك سبيل المجاهدات بعد تيسّره لأندر نادر كثيراً ما

__________________

(١) النساء ٤: ١.

(٢) الإسراء ١٧: ٦٤.

(٣) البلد ٩٠: ١ ـ ٤.

٢٧٢

يوجب الانجرار إلى الكفر ، بل الاعتدال ليس إلّا من قبيل خطّ موهوميّ يوجب الموصول إليه التجاوز عنه ، وكلّ ما تجاوز عن حدّه انعكس إلى ضدّه فالأمر دائر بين الإفراط والتفريط ، فمع هذا ما أشدّ اشتداد تحصيل النجاة.

ويرشدك إليه أيضاً : حرمة طائفة من الأمور النفسانية نحو الكبر والحسد والعجب بناء على حرمة تلك الأمور بنفسها لا حرمة إظهار آثارها ، فإن خَلْعَ تلك الأمور عن النّفس والمجاهدة في إزالتها عن القلب في كمال الإشكال ، فما أشكل رعاية التكاليف الشرعية.

ويرشدك إليه أيضاً : أنّ اللّسان سهل الحركة ، وحركته توجب الغِيبَةَ كثيراً ، فما أشقّ المواظبة على ترك الغيبة ، بل من أعظم محن الدنيا أنّه ربّما تكون كلمة تأتي بحركة اللّسان توجب مفاسد كثيرة والمواظبة على صيانة اللسان فيها مشقّة كاملة ، ولا سيّما مع كون حرارة ما يوجب التكلّم بحيث كأنها توجب احتراق القلب ، فانظر أن الإنسان ربّما يرضى بأن يتكلّم بكلمة ولو صارت الكلمة موجبة لقتله ، ولا يعرف ما ذكرناه من لم يضبط لسانه ، وعلى هذا المنوال الحال في سائر المجاهدات فإنه لا يعلم بشدّتها على ما هي عليه من لم يأت بها ، وكذا الحال في المشقّات الدنيويّة فإنّه لا يتفطّن بها على ما هي عليه من لم يتّفق له الابتلاء بها ولو قصّ عليه القصّة ما بلغ بيان.

مَنْ لمْ يَبتْ والحبُّ حشو فؤادِهِ

لم يَدرِ أينَ تُفَتتُ الأكبادُ

بل ليس كلمة تخرج على وفق ميل الطبيعة إلّا وهي توجب المفسدة ، فوا شدّتاه ، ثمّ وا شدّتاه من دار هذه حالها ، فهل سجن أضيق وأصعب على النفس من هذه الدار ، فإن المسجون في شيءٍ من السجون لا يمانع عن التكلّم بوفق الميل ، بل الرّوح في البدن ممنوع من أكثر شهواته بل متابعة أكثر الشهوات توجب المفسدة

٢٧٣

الدنيويّة ، ولو كانت الشهوة خفيفة فيا لله من هذا الشجن لهذا المسجون.

فنقول : إنّ كلاً ممّا ذكر من المرشدات كافٍ في الباب وإن تضايقت عن كفاية البعض ، فلا ريب في كفاية المجموع فلات حين مناص عن الصبر وأي صبر :

صَبْرٌ بما لو تَحملُ بعضَهُ جبالٌ

برضوى أصبحتْ تتصدّعُ

ولنعم ما في الأخبار من أنّه لولا مراعاة الصبر يتطرّق الكفر ، لكن مرارة الصبر في كلّ آن أمرّ من الصبر (١) فيكف الحال بمدّة العمر ، إلّا أنّه لو لم يكن الأمر في غاية العسر والمرارة لما كان للصالحين أن يدخلوا جنات عدن والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار (٢) ، فلا حول ولا قوة إلّا بالله ، ولا محيص ولا مخلص عن سؤال التوفيق والتسديد من الله سبحانه.

ولنعم ما يستفاد من بعض فقرات نهج البلاغة من أنّ الإنسان من شدة تغوّره في الشهوات لا يمكنه ولا يتمكن من الانتفاع بنفسه والخروج عن مفاسده ، إلّا بإعانة الله سبحانه وتوفيقه للانتفاع والخروج ، ولعمري إنّ غالب أفراد نوع الإنسان يأتي بالعصيان المناسب لشأنه على وجه العيان ، مثلاً بعضٌ يشرب الخمر بالمجاهرة ولا يأبى عن السياسة ، وهذا أخس درجات الإنسان ، وبعض يأتي بالقضاء جهراً مع عدم القابلية.

فويلٌ ثمَّ ويلٌ ثمَّ ويلٌ

لقاضِ الأرضِ من قاضِ السماءِ

__________________

(١) قوله : «من الصبر» قال في القاموس : «الصبر ككتف ، ولا يسكّن إلّا في ضرورة شعر ، عصارة شجر مرّ». منه رحمه الله.

(٢) إشارة لقوله تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِن آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الرعد ١٣ : ٢٣ و ٢٤.

٢٧٤

وبعض يأتي بالإجازة مع عدم القابلية لها لغير القابل ولا يأبى القاضي والمجيّز عما يقع عليهما من سنان اللسان ، فضلاً عمّا يتعقّب في الآخرة من الخسران ، وليس الباعث إلّا حبّ الرياسة وانتشار الاسم ، وهذا حال أعلى درجات نوع الإنسان ، فهل يبقى مجال الصّلاح لأحد ، ولنِعم ما قيل بالفارسية :

خلق همه مستند ولى هركه بصهبائى

بُلبل خون از جائى از جائى

وأيم الله إنّ ورع غالب أفراد الإنسان ، من قبيل ما حكي من أن جماعة كان يزني كل واحد منهم مع امرأة في الخلوة ، فقال أحدهم للمرأة : إني لا أزني وأخبري الرّفقاء بالزناء وأعطاها خمسة دراهم.

فقالت : إني لا أكذب لخمسة دراهم.

وكذا ما حكى من أنّ شخصاً رأى شخصاً يأتي باللّواط في المسجد ، فألقى عليه ماءً من فيه ، فقال الشخص اللاطي : ألم تسمع أنّ إلقاء الماء من الفم في المسجد مكروه.

وكذا ما حكى من أن شخصاً رأى شخصاً يزني في المسجد ، فقال : ما هذا العمل فربّما ينعقد نطفة حرام ويأتي ولد الزناء.

قال : لولا كراهة العزل لما جرئت على الإنزال.

والوجه فيما ذكر أنّ الإنسان غريق بحر التكاليف ، فربّما كانت بعض التكاليف سهلاً أو كانت النفس غير مائلة إليه وكان حسن الفطرة وقوة النفس على مقدار يقتضي امتثاله ، وأما بعض آخر فربّما كان عسراً أو كانت النفس شائقة إليه ، أو كان حسن الفطرة وقوة النفس على مقدار غير وافٍ بامتثاله فيخالف جهراً كما يرتكب شرب الخمر جهراً من يرتكبه بواسطة سوء الفطرة وضعف النفس ، وربّما كان بعض في صورة الورع وهو كان قد كتب مسألة فذاكرتُ معه وسألتُ عنه فلم يتمكن

٢٧٥

من الجواب ، فأجاب بأن زيادة تعميق النظر في المسألة لم يكن متعارفاً في أزمنة الحضور ، وحال أكثر الناس في أداء التكاليف حال المفطرين في يوم الصوم من البدو إلى ما قبل الانتهاء بالتدريج.

ومع ما سمعت نقول : إن كثيراً من أفراد الإنسان قد بلغوا مبلغاً عظيماً من التقوى والمجاهدات ورعاية التكاليف وتحمّل شدائد الزّهد فليس الأمر من باب التكليف بما لا يطاق ، بل لا بدّ من شدة السّعي في المجاهدة ولا تتوحّش من شدّة عسر أداء التكليف ، فإنها من باب تكاليف أرباب التربية ، على ما حرّرناه في الاُصول ، وكلّما كانت صفات كمال المربي أزيد وأعلى كانت تربيته أشقّ ، فكيف لا يكون أداء التكاليف الإلهية في غاية المشقة مع عدم تناهي صفات كماله وبلوغ كلّ من صفات كماله حدّ الكمال مضافاً إلى أنّ التكاليف الإلهيّة على حسب المصالح والمفاسد الواقعية وحال المصالح والمفاسد الواقعيّة في اقتضاء الأمر والنهي غير مربوطة بجعل الشارع وتعسيره.

وبعد ذلك أوصيك بتقوى الله سبحانه والتفرغ إليه ، وهو حسبك ونعم الوكيل والكفيل ، ولا يذعن بمواظبته سبحانه على التأثير في القضايا الشخصيّة من باب مجازاة الأعمال من لم يحصل له التجارب ، فتجارب حتى يزيد في تقواك وتفرغك إليه سبحانه.

وأوصيك أيها الطالب للعلم والتقوى بتصفية الأخلاق ، وتخلية الطبيعة عن الرّذائل ، وحسن المعاشرة ، فإنّه لولا ما ذكر لما أثمر العلم والتقوى إلّا مهانة وسفاهة في الدنيا وخسراناً في الآخرة ، وحسن المعاشرة أمر دقيق في غاية الدقة ، ولم يدوّن له علم ، بل لا يمكن تدوينه في علم لابتناء الأمر على خصوصيات الموارد والكافل تصرّف الطبيعة. نعم ، علم الأخلاق والأخبار يكفل كثيراً من مراحله.

ثمّ إنّ معاشر الأخوان والخلان قد بذلتُ الجدّ والجهد ، وكابدتُ الكبدَ في هذه

٢٧٦

الرسالة ، بحيث لا يستطيع جوادٌ (١) بعد غايته ، ولا يطير طير إلى نهايته ، خدمةً لملاذ الخافقين ، وشفيع الثقلين ، مولاي ومولى الكونين روُحي وأرواح العالمين له الفداء ، ولعن الله أمة قتلته أو ظلمته أو سمعت بذلك ورضيت به ، وأرجو منه الشفاعة في يوم الجزاء.

وقد طال الاشتغال بتلك الرسالة إلى سنتين تقريباً ، بل تحقيقاً ، وقد كتبت طريقة الاحتياط خمس عشر مرّة من باب تجديد النظر وإصلاح ما فسد ، هذه اُصول المرات وإلّا ففي كلّ مرة لعلّه جاء مرّات.

ولقد جريتُ في كل ما جرى عليه قلمي إلّا أقلّ قليل على غاية من التعب والنصب ، وربما طالت مدّة الفكر في صفحة أو صفحتين إلى شهر أو شهرين ، وربّما امتدّت مدّة الفكر في بعض المطالب إلى شهرين أو أربعة أشهر ، وربّما كنتُ في التفكّر في عبارة لكن لا على وجه الاستغراق متمادياً إلى ستّة أشهر ، وا شدّتاه من حرارة الفكر وحالاته يخترق القلب بحراراته.

مَنْ لمَ يَبِتْ والحُبّ حشوَ فؤادِهِ

لم يدرِ كيفَ تُفتتُ الأكبادُ

وليس شيء من ذلك إلاّ من عناية الله سبحانه جلّ وعلا ، قال الله سبحانه : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) (٢) ، وقد صبرتُ في محنِ هذه الدار دار النار ومنها محنة الفكر وتعميق النظر بعد محن أصل التحصيل (على طخيات (٣) عمياء ، يشيب فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، ويكدح فيها مؤمن ، حتّى يلقى ربّه ، وفي العين قذى ، وفي الحلق

__________________

(١) قوله : «بحيث لا يستطيع جواد بعد غايته» هذا مأخوذ من بعض أشعار الفرزدق في مدح مولانا سيّد السجّاد وزين العباد عليه آلاف التيّة من ربّ العباد إلى يوم التناد. منه عفي عنه.

(٢) النور ٢٤: ٢١.

(٣) قوله : «طخيات عمياء» مأخوذة من الخطبة الشقشقيّة. منه عفي عنه.

٢٧٧

شجى) (١) ، ولعلّه لم يتّفق ما اتّفق عليّ من الصبر على المرارات لأحدٍ بعدَ العصمة ، وليس الصبر إلاّ من عناية الله سبحانه ، قال الله سبحانه خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وآله : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) (٢) ، وكان كثرة اشتغالي بحيث كنتُ استصحبُ أسباب الكتابة في الحمام ، وكتبتُ فيه فصلاً عن صرف الزّمان فيه في الفكر غالباً ، بل كنتُ متشاغلاً بالفكر في المشي حتى في الليالي ، وكذا في المكالمة الغير معي ، بل كنتُ كلّما تيقظتُ من النوم أتوجه إلى الفكر بمجرّد التيقّظ ، بل كنتُ كلّما انقلبتُ في النوم من شقّ إلى شقّ أتوجه إلى الفكر وكنتُ في بعض السنوات في أيام الشتاء صائماً من جهة اختلال المعيشة بملاحظة قوله سبحانه : (وَاسْتَعِينُوْا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (٣) ، لتفسير الصبر بالصوم وكنت أصلّي صلاة العشائين بوضوء صلاة الفجر مع الاشتغال من الصباح إلى الرّواح ، وقد انجرّ الأمر إلى ضعف القلب ، ثمّ بعدَ البُرءِ في الجملة عدّتُ إلى السيرة الاُولى ، ثمّ عاد ضعف القلب ، ثمّ بعدَ البرءِ في الجملة قد اكثرتُ الاشتغال أيضاً بحيث ما أفطرت في شهر الصيام في سنتين إلّا بعد كتابة ما ألزمتُ على نفسي أن أكتبه كلّ يوم ، ثمّ انجرّ الأمر إلى جفاف المعدة من زيادة السهر ، وكان الأمر بحيث لو خليت المعدة توجع الودجات وعسر التكلّم وذلك باق إلى الحال ، وقد مضى عليّ سنوات بتلك الوتيرة ، ولله الحمد ، وله الشكر فوق ما يحمده الحامدون ويشكره الشاكرون على عنايته بالتوفيق.

«إلهي إِنْ لَمْ تَبْتَدِئْني الرَّحْمَةُ مِنْكَ بِحُسْنِ التَّوْفِيقِ فَمَنِ السَّالِكُ بي إِلَيْكَ في وَاضِحِ الطَّرِيقِ؟» (٤) وقد وصل من جانب الله سبحانه جلّ وعلا عنايات دنيويّة بحيث

__________________

(١) هذا تمثّل بكلام أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين عليه السلام في خطبته الشقشقيّة.

(٢) النور ٢٤: ٢١.

(٣) البقرة ٢: ٤٥.

(٤) مقطع من دعاء الصباح.

٢٧٨

لم يمكن أن يتفق وقوعه بحسب المعتاد ولم يمكن وقوعه إلّا من جانب الله سبحانه ، وقد تفألتُ من القرآن بعد أن أصبتُ بموتِ الوالدِ الماجدِ وكنتُ حين موته غير بالغ حدّ البلوغ استعلاماً لما يصير إليه أمري فجاء : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ) (١) ورأتْ زوجةُ الوالد الماجد ـ غير الوالدة ـ في النوم مقارناً لتولدي أنّه جاء شخص بطفل من جانب السماء وقيل : هذا لوالدتي ، فذهبتْ إلى الوالد الماجد قدس سره وقالتْ : وضعتْ الزوجة الحاملة حملها لمّا رأت في حال النوم ، والوالد الماجد قد حكى أصل هذا النوم في صغر سنّي.

وقال بعض الثقات : إنّه رأى في النوم في أزمنة تولدي ـ سابقاً عليه أو لاحقاً له ـ أنه أتى شخص بطفل إلى الوالد الماجد قدس سره وهو قد أرضعه ثم نقله للوالد الماجد قدس سره فقال الوالد الماجد قدس سره : إنّه يتولّد لي ولد يتحمّل زحماتي.

ورأى بعض الطلاب في أزمنة تحصيلي أني صرتُ كوكب المريخ وارتفعتُ إلى السماء.

ورأت زوجتي قبيل التزويج أنه سقطَ القمرُ وتوجه إليها ، وقد كتب الوالد الماجد قدس سره عند كتابة تاريخ تولدي أني أودعته عند الله سبحانه فإنّه لم يبق من عمري شيء جدّا ، والظاهر أنّ توديعه لي عند الله سبحانه كان موجباً لعناية الله سبحانه ومَنّه بجوده وكرمه عليّ بحسن التوفيق ، فضلاً عن أن الظاهر أنّ ما وقع منه من الخدمة بالشريعة المقدسة المطهّرة لم يتفق لأحد ممن سبق عليه في زمان الغيبة ، حيث إن مقتضى الكتاب والسنة أنّ الله سبحانه يتفضّل على الأولاد بتوسّط الأعمال الصالحة الصادرة من الآباء فإن مقتضى قوله سبحانه حكاية عن خضر في باب إصلاح جدار غلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما حيث أقامهُ بعد أن أراد

__________________

(١) طه ٢٠: ١٣.

٢٧٩

أن ينقض (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِن رَّبِّكَ) (١) من باب دلالة التنبيه كون صلاح الأب علّة في إصلاح الجدار ، قضيّة أن أراد الله سبحانه أن يستخرج الغلامان كنزهما بعد أن يبلغا أشدهما رحمة منه سبحانه لهما

ونقل البيضاوي أنه قيل إن الفاصلة بين الغلامين والأب كانت سبعمائة سنة.

وفي بعض الأخبار أنّ الله سبحانه بصلاح المؤمن يصلح أولاده وأولاد أولاده وأهل بيته وأهل البيوت في حواليه ، وإلّا فإني كنتُ فاقد لمقتضي التحصيل مع وجود المانع بل الموانع ، وعلى ذلك جرى حال الوالد الماجد قدس سره فإنه كان ينقل أن والده استغاث إلى الله سبحانه في مرض موته لأجله وأودعه الله سبحانه ، وكان والده مع فضله وتموّله يشتغل بنفسه لأعمال البناء والعملة في تعمير بعض المدارس ، كما أنّ والدته كانت تقضي الصّلاة في المطبخ إلى أن يغلى القدر ويحتاج إلى المواظبة ، والوالد الماجد قدس سره قد بلغ في السموّ والعلوّ المعارج والنهاية والمنتهى ، كأن السماك الرامح (٢) أعزل لدى عزته والنسر الطائر (٣) واقعاً دون رفعته (جرّ مقام الرفع (٤) بالاضافة إذ نودى بالرفع مثل المفرد العلم وقدره القدر ولذا ليس

__________________

(١) الكهف ١٨: ٨٢.

(٢) اسم كوكب من الكواكب الطالعة شمالاً ، وفي قباله السماك الأعزل من الكواكب الطالعة جنوباً.

(٣) وهو أيضاً اسم كوكب من الكواكب الطالعة شمالاً ، وهو أوّل الكواكب ، وفي قباله النسر الواقع.

(٤) قوله : «جر مقام الرفع» هذا إلى اخراه مأخوذ من أشعار البردة في مدح سيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله روحي وروح العالمين له الفداء مع التصرّف في الأوّليّين لا سيّما ثانيهما بوجه حسن ، والغرض من جرّ مقام الرفع إنّما هو القهر على مقام الارتفاع والاستيلاء عليه ، فسمّى المرجع إلى كونه في غاية الارتفاع والعزّة ، والأمر من باب التجوّز في الجر»

٢٨٠