تاريخ الشّحر وأخبار القرن العاشر

محمّد بن عمر الطيّب بافقيه

تاريخ الشّحر وأخبار القرن العاشر

المؤلف:

محمّد بن عمر الطيّب بافقيه


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

سنة سبع وثمانين

فيها : توفي (١) السيد الشريف الولي الصالح شجاع الدنيا والدين عمر بن عبد الله بن عمر الهندوان باعلوي بتريم ، وسبب شهرته بالهندوان أنه كان لقوته في دينه وبدنه واجتهاده ، شبيها بالحديد الهندوان ، وكان صاحب عبادة وجد واجتهاد وله كرامات منها [ما](٢) أخبر سيدنا السيد الشريف عبد الله بن شيخ العيدروس عن شيء يقع في (٣) بعض الناس قبل وقوعه ، وذكر ذلك الشخص بعينه ، فكان كما كان بعد موته بيسير.

وفيها توفي (٤) : صاحب أحور (٥) حيدر بن حنش.

وفيها : توفي السيد الشريف الصالح شهاب الدين أحمد بن محمد مرزّق (٦) باعلوي صاحب زيلع بزيلع ، في سلخ شعبان رحمه‌الله.

__________________

(١) النور السافر : ٣٢٤.

(٢) ساقط من الأصول وأضفناه من عندنا.

(٣) النور السافر «من».

(٤) النور السافر : ٣٢٤.

(٥) في الأصول أحوره وأصلحناه من النور السافر.

(٦) السناء الباهر : ٧٥٥.

٤٢١

سنة ثمان وثمانين

فيها (١) : أجريت العين إلى مكة ، وكان سعى في ذلك السيد الشريف أبو نمي محمد بن بركات ، والقاضي حسين المالكي ، شكر الله سعيهما وجزاهما عن المسلمين خيرا ، وبذلا في ذلك مالا جزيلا ، وسبب ذلك إن عين مكة كانت انقطعت عنهم ومكثوا كذلك مدة من الزمان وتضرّر أهل مكة بسبب ذلك جدا وكان الرمل هو الذي سد الماء إليها ، فتوجه الشريف والقاضي إلى إصلاحها حتى عادت أحسن مما كانت ، وما أحسن قول بعض الفضلاء في ذلك مادحا للقاضي حسين المالكي رحمه‌الله تعالى :

أقضى القضاة الحسين أغنى

سكان أم القرى بعينه

وجاء بالعين بعد ياس

فشكرنا واجب لعينه

وفيها (٢) : توفي سلطان الدكن علي عدل (٣) شاه سلطان بيجافور قتلاه خصيين (٤) من عبيده بنقاليين الأمر ما (٥) رحمه‌الله تعالى وتجاوز عنه ، وكان رجلا شجاعا كريما شهما ، له مناقب وفتوحات كثيرة في بلاد

__________________

(١) النور السافر : ٣٢٥.

(٢) النور السافر : ٣٢٥.

(٣) كذا وفي النور السافر «عادل».

(٤) كذا في الأصول وفي النور السافر «خصيان» وهو الصواب.

(٥) كذا وفي النور السافر «لأمر ما».

٤٢٢

الكفار ، وتولى بعده ولد أخيه إبراهيم عادل ، وهو الآن متولي بيجافور أصلحه الله تعالى.

وفيها : توفي السيد الشريف سالم بن حسن باعلوي بالمخا.

٤٢٣

سنة تسع وثمانين

فيها (١) : توفي الشيخ الفاضل المحدث المعمر عبد المعطى بن الشيخ حسن بن عبد الله باكثير المكي الحضرمي بأحمد أباد ليلة الثلاثاء لثلاث بقين من ذي الحجة ، وكان مولده سنة خمس وتسعمائة ، وكان من الأدباء الفاضلين والشعراء المصقعين ، ولد بمكة ونشأ بها ولقي جماعة من العلماء الفاضلين ، وشارك في المنقول والمعقول ، وتفنّن في كثير من العلوم ودخل الهند وأقام بها ، وكان حسن المحاضرة لطيف المحاورة فكها له ملحا ونوادر ، ولم يزل على قدم التعفف إلى أن مات ، وحكى عنه أنه قرأ كتاب الشفا على بعض مشايخه في مجلس واحد وذلك بعد صلاة الصبح إلى أول الظهر ، ومن شيوخه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري ، كان سمع عليه صحيح البخاري بقراءة والده فهو يرويه عنه سماعا كما في اصطلاح أهل الحديث ، والشيخ زكريا يرويه عن شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني ، ولهذا اشتهر صاحب الترجمة بالسند العالي ، وتميز عن أقرانه بذلك فازدحم الناس على الأخذ منه ، وصار له من الحظ بسبب ذلك ما لا مزيد عليه ، ومن شعره مضمّنا للبيت الثاني :

__________________

(١) النور السافر : ٣٢٥.

٤٢٤

يا رب يا من عليه مستندي

ومن على فضله العميم معتمدي

خذ بيدي قبل أن أقول لمن

ألقاه عند القيام خذ بيدي

فامنن إلهي في سمعي وفي بصري

بصحة دائما وفي جسدي

وما بقي لي من الحياة يكن

في دعة سيدي وفي رغد

ومنة في قواعد الإسلام الخمس :

هنيئا لمن صح إسلامه

ونال من الدين أو في نصيب

أقام الصلاة وآتى الزكاة

وصام وحجّ وزار الحبيب

ومنه أيضا :

فرّج هموم من استطعت

من منجد أو متهم

فالخير كل الخير في

تفريج همّ المسلم

ومنه أيصا :

يا آل بيت رسول الله حبكم

فرض وفضلكم قد شاع في الأمم

يا آل بيت رسول الله مدحكم

في الذكر جاء فما مدحي وما كلمى

ومنه في ميمات الدواة :

وميماة الدواة تعد سبعا

وسبعا عدهن بلا خفاء

مداد ثم محبرة مقص

ومرملة ومصمغة الغراء

ومكشطة ومقلمة مقط

ومصقلة ومموهة لماء

ومحمراك ومسطرة مسن

وممسحة لختم وانتهاء

ومنه أبيات كتبها للسيد شيخ بن عبد الله العيدروس وقد أوعده بإعطاء جارية :

يا سيّدا همته

فوق الدراري الجاريه

وجود كفيه غدا

مثل الرياح الجاريه

٤٢٥

تدوم في عزك ما

جرت ببحر جاريه

وكلما تريده

الأقدار فيه جاريه

انجز لعبد سيدي

وعد رجوع الجاريه

هباتكم مبرورة

من الزمان جارية

وسيل هامي فضلكم

كماء عين جارية

ولطفكم بعبدكم

كف الدموع الجارية

ومنه في القهوة :

أهلا بصافي قهوة كالأثمد

جليت فزانت كالخمار الأسود

لما أديرت في الكؤوس لحسنها

بيمين ساق كالقضيب الأملد

يحكي بياض أنائها وسوادها

طرفا كحيلا لا بكحل الأثمد

وله أبيات مقطعات في الألغاز والأحاجي وقصائد مطولات يمدح بها السيد الشيخ شيخ بن عبد الله العيدروس وغيره من وزراء الهند رحمه‌الله تعالى.

فائدة مفيدة تتعلق بأحمد أباد نقلتها من تاريخ (١) السيد الشريف عبد القادر بن شيخ العيدروس رحمه‌الله وهي : مدينة كبيرة من مدن الهند مشهوره قال السخاوي في ضوئه : أحمد أباد ، ومعنى أباد عمّر وكأنه قال عمارة أحمد الذي اختطها ، وهو أحمد بن محمد بن مظفر صاحب كجرات في سنة خمس وثلاثين وثمانمائة ، وتوفي قريبا من سبع وأربعين ، فاستقر بعده في كجرات إبنه غياث الدين محمد فأقام إلى سنة أربع وخمسين ، فاستقر بعده إبنه قطب الدين أحمد ومات في رجب سنة ثلاث وستين ، فخلفه أخوه داؤد وخلع بعد أيام ، فاستقر بعده أخوه أبو الفتح محمود شاه وهو ابن خمس عشر سنة وإقامته بأحمد أباد ، والذي اختطها جده وهو حي في سنة تسع وسبعين وهو ابن خمسين سنة انتهى كلام السخاوي.

__________________

(١) النور السافر : ٣٣١.

٤٢٦

قلت : وعاش بعد السخاوي أربعة عشر سنة وقد مر تاريخه وتولى بعده ولده مظفر ، وتولى بعده ولده السلطان إسكندر وقتل ، ثم تولى بعده أخوه السلطان بهادر وهو الذي بنى قلعة سورت على يد وزيره صفر الرومي ، ثم تولى بعده ابن السلطان مظفر ابن محمود الشهيد ، وكانت الوزراء متغلبة عليها جدا خصوصا الأخير منهما فما كان له معهم من السلطنة إلّا الإسم والحل والعقد وجميع التصرفات للوزراء ، نظير ما وقع للخلفاء من بني العباس مع الأتراك حتى آل ذلك إلى انقراض ملكهم وزوال شوكتهم وانتقال الدولة عنهم إلى غيرهم ، فأخذ البلاد المغول على عهد السلطان مظفر ، وقد مر تاريخ ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فزالوا كأن لم يكونوا ، ولم يبق إلا آثارهم الجميلة ومآثرهم الجليلة فسبحان من يقلب الأمور ولا يتغير بتغير الدهور.

قال جامع هذا التاريخ : وفيها عزمت إلى مكة في شهر شوال لحجة الإسلام وكانت حجة الجمعة.

وفيها (١) : توفي قطب شاه سلطان فلكندة ، وكان عادلا كريما إلّا أنه كان غاليا في التشيع رحمه‌الله.

__________________

(١) النور السافر : ٣٣٢.

٤٢٧

سنة تسعين

فيها أول شهر محرم : توفي الفقيه العالم العلامه الحبر الفهامة الشيخ الإمام جمال الدين محمد الأشخر (١) رحمه‌الله ببيت الفقيه بن حشيبر ، وكان من العلماء الصالحين المتفنّنين في جميع العلوم.

وفيها (٢) ليلة السبت ثالث جمادى الأولى : قتل السلطان جعفر بن عبد الله بن بدر وتولى بعده ابنه.

وفيها (٣) ليلة الخميس خمس وعشرين مضت من رمضان : توفي الشيخ الكبير والمعلم الشّهير الشريف القطب العارف بالله شيخ بن عبد الله بن شيخ العيدروس بأحمد أباد ، ودفن بها في صحن داره ، وعليه قبة عظيمة ومن أحسن تاريخ وفاته ، تاريخ صاحبنا الفقيه العفيف عبد الله بن فلاح نظمه في بيتين :

أرخت نقلة سيدي

شمس الشموس العيدروس

فانظر تجد تاريخه

القطب هو شمس الشموس

__________________

(١) هو محمد بن أبي بكر الأشخر. النور السافر : ٣٤٩ في حوادث سنة ٩٩١.

(٢) العدة ١ : ٢٢٢.

(٣) النور السافر : ٣٣٣.

٤٢٨

ولجماعة من الفضلاء فيه تواريخ ، وكان مولده (١) سنة تسعة عشر وتسعمائة بتريم ، ونشأ بها ورحل إلى مكة وقرأ بها ، ومن شيوخه شيخ الإسلام الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي المصري ثم المكي ، والفقيه الصالح العلامة عبد الله بن أحمد باقشير الحضرمي ، له من كل منهما إجازة في جماعة آخرين يكثر عددهم ، واجتمع بالعلامة الديّبع بزبيد ، وأما مقروءاته فكثيرة جدا ، ومن تصانيفه «العقد النبوي والسر المصطفوي» «والفوز والبشرى» وشرحان على قصيدته المسماة «تحفة المريد» أحدهما أكبر من الآخر ، أما الكبير فالمسمى حقائق التوحيد والصغير سراج التوحيد وغيرها ، وله ديوان شعر ، وله مناقب وكرامات كثيرة.

قال : سيدنا السيد عبد القادر بن السيد شيخ صاحب الترجمة بعد أن أتى ببعض من كراماته وإشاراته قال : ومناقبه وكراماته ليس هنا محلها وقد أفردها غير واحد من العلماء بالتصنيف كالشيخ العلامه أحمد السندي في رسالة له ، والشيخ العلامة شهاب الدين أحمد بن علي البسكري المكي في كتابه نزهة «الإخوان والنفوس في مناقب شيخ بن عبد الله العيدروس» وقد ذكرت كثيرا منها في مقدمة كتابي «الفتوحات القدسية في الخرقة العيدروسية» [وإنما](٢) قصدنا الآن الإشارة إلى ذلك إجمالا ليستدل به على جلالة قدره وكفى بالنفحة دليلا على الزهر ، وبالغرفة معرفة بعذوبة النهر ، وبقلامة الهلال تنبيها على إقبال شخص الشهر ، انتهى.

وفيها (٣) : توفي العلامة المفنن الشيخ الصالح عبد النبي الهندي شهيدا رحمه‌الله ، وكان من العلماء الأكابر المتبحّرين في العلم ، وكان معظما عند السلطان أكبرين همايون المغل جدا بحيث يقال أن السلطان

__________________

(١) في (س) تاريخه ثم أصلح بالهامش.

(٢) ساقط من (س).

(٣) النور السافر : ٣٣٩.

٤٢٩

المذكور كان يتولىّ خدمته بنفسه في بعض الأحيان ، وبعد ذلك لما حصل على السلطان أكبر ما حصل من سبق الشقا والعياذ بالله ، امتحن العلماء وأهل الإيمان فثبت صاحب الترجمه رحمه‌الله في الدّين وصبر على الامتحان ، حتى كان بذلك مشهورا ، وأضحى به مذكورا مشكورا ، وحكي إن السلطان يرسل إليه وهو في السجن وقد عذب بأنواع العذاب : أن أترك ما أنت عليه من الصلابة في الدين وتكون كما كنت في أوج العظمة ، فرد عند ذلك من الجواب ما يزداد به غيظ السلطان عليه ، وحكي أن السلطان أمر بعض الكفار أن يقتله فمكث زمانا يحاول ذلك وما يصل إليه إلّا ويجده في صلاة أو تلاوة ، فتوقف في ذلك عن قتله ، وقال للسلطان : أمرك مطاع ولو أمرتني بقتل مائة نفس من مشايخنا يعني الكفار لفعلت ، وأما هذا المسلم فما قط جئت لقتله إلّا وجدته مشغولا بطاعة ربه وأنا أتحاشى عنه لذلك فاعذرني ، وقرب إليه كأس فيه سم فأبى أن يتناوله وقال أنا أعلم بالذي فيه ولا أعين على قتل نفسي أي للمحذور في ذلك من جهة الدين ، ثم إن السلطان بعد ذلك أمر بخنقه رحمه‌الله ففعل به ذلك ، ومات ، وكان ذلك ليلة اثنتى عشرة من ربيع الأول ، وهي ليلة المولد الشريف ، فلقد أبقى رحمه‌الله ذكرا جميلا وثبت ثباتا عظيما قل أن يتّفق مثله إلّا لمن وفقه الله ، أعاد الله علينا من بركاته آمين.

وفيها (١) يوم عاشورا : توفي السيد الشّريف سلطان مكة أبو نمي محمد بن بركات رحمه‌الله تعالى ولبعض فضلاء مكة في تاريخ وفاته :

يا من به طبنا وطاب الوجود

قد كنت بدرا في سما السعود

ما صرت في الترب ولكنما

أسكنك المولى جنان الخلود

وكان مولده سنة عشر وتسعمائة.

وفيها (٢) : تاسع صفر توفي السّيد الشريف الفاضل القاضي حسين

__________________

(١) النور السافر : ٣٣٩. وخلاصة الكلام : ٥٥.

(٢) النور السافر : ٣٤٠ وفي هذه الترجمة زيادات لا توجد في المطبوعة.

٤٣٠

المالكي المكي رحمه‌الله تعالى ومن غريب الإتفاق أن تاريخ يوم موته كان تاريخا له فتقدّم أنه مات في تاسع صفر وجاء تاريخه تسع في صفر رحمه‌الله ، وكان من أعيان مكة وفضلائها معظما فيها عند سلاطينها وكذلك عند الأروام وشهرته عند سلطان الروم ونوابه ووزرائها ، ولم يكن مثله في زمانه ولا قبله ولا بعده ، وكان جوادا مفضالا على رؤساء مكة وأكابرها وفقرائها ، لم يخلفه مثله وحزن على موته خصوصا أهل مكة ، ولبعض الفضلاء من أهل مكة هذا التخميس على هذين البيتين :

لهفي على بدر الوجود وسعده

ومغيبه تحت الثرى في لحده

مات الحسين المالكي بمجده

يا دهر بع رتب العلا من بعده

بيع الهوان ربحت أم لم تربح

وارفع مرادك يا زمان كما ترى

وارفع من الغوغا وحط ذوي الذرا

لا تعتذر لذوي النهى عما جرى

قدم وأخر من أردت من الورى

مات الذي قد كنت منه تستحي

وكانت له عقيدة أكيدة في السادة والصالحين ، وسببها أن والدته كانت تعتقد الولي الشهير السيد الشريف عبد الله بن الفقيه باعلوي فمرض ولدها صاحب الترجمة مرضا أشرف منه على الهلاك ، فطلبت من الشريف حصول الشفاء له وألحّت في ذلك ، وكان عنده الشيخ الصالح عبد الرحمن بن عمر العمودي ، فقال السيد عبد الله للشيخ عبد الرحمن ، عساك تتحمل عنه فإن الناس ينتفعون ببقائه ، فمن ذلك الوقت ابتدأت العافيه في القاضي حسين ، ومرض الشيخ عبد الرحمن من وقته ومات بعد أيام وشهد جنازته القاضي المذكور ، قلت : نظير هذه الحكاية ما حكاه الشيخ محي الدين بن عربي في فتوحاته عن بعض شيوخه : أن امرأة من بنات الملوك ممن كان النّاس ينتفعون بها وكان لها اعتقاد في هذا الشيخ فوجّهت إليه ليدخل عليها والملك الذي هو زوجها عندها ، فقام إليه فنظر إليها وهي في النزع ، فقال الشيخ : أدركوها قبل أن تقضى ، فقال بماذا فقال بديتها اشتروها فجيء إليه بديتها كاملة فوقف النزع والكرب الذي كانت فيه ،

٤٣١

وفتحت عينها وسلّمت على الشيخ ، قال لها الشيخ : لا بأس عليك ولكن ثم دقيقة بعد أن حل الموت لا يمكن أن يرجع خائبا ، فلا بد له من أثر ونحن قد أخذناك من يده وهو يطالبنا بحقه فلا ينصرف إلا بروح مقبوضة وأنت إذا عشت انتفع بك الناس وأنت عظيمة القدر فلا نفديك إلا بعظيم ولي بنت من أحّب الناس إلي أفديك بها ، ثم رد وجهه إلى ملك الموت فقال لا بد من روح ترجع بها إلى ربك هذه بنتي تعلم محبتي فيها خذ روحها بدلا من هذه الروح فإني قد اشتريتها من الحق وباعني إياها وابنتي تلك حق مجيئك ، ثم قام وخرج إلى بيته وقال لابنته وما بها بأس يا بنيه هبيني نفسك فإنك لا تقومي للناس مقام زينب بنت أمير المؤمنين في المنفعة ، فقالت : يا أبت أنا بحكمك قد وهبت نفسي ، فقال للموت : خذها فماتت من وقتها انتهى ، وهذا من العجائب والتسليم أولى بنا وبكل مسلّم لهؤلاء الأولياء الأكابر ، ومن شعر القاضي حسين صاحب الترجمة وقد أهدى إليه قطب الدين الحنفي سمكا

يا أيها القطب الذي

بوجوده دار الفلك

لو لم تكن بحر الندى

ما جاءنا منك السمك

ولما ابتنى القاضي بيته وجعل فيه التخريجة ، قال صلاح الدين القرشي المكي في ذلك أبياتا منها :

ما عرش بلقيس وما مقداره

ما تخت كسرى والذي مثله

أنا نادر والحكم لي ولما لكي

ومن العجائب نادر والحكم له

وله أيضا تاريخ بيت أنشأه القاضي :

شرف العلا لك منزل

يا بدر فيه فاحلل

والسعد قال مؤرّخا

للبدر أشرف منزل

وفيها (١) : توفي العالم الفاضل مفتي مكة الشيخ قطب الدين الحنفي

__________________

(١) النور السافر : ٣٤٢. وانظر ترجمته في البدر الطالع ٢ : ٥٧ والأعلام ٦ : ٧.

٤٣٢

المكي النهروالي نسبه إلى نهرواله من أعمال الهند بمكة المشرفة ، وكان من الأعيان المذكورين والفضلاء المشهورين ، وكان مجللا محترما معظما بمكة عند الخاص والعام ، وله شعر عظيم متين مليح السبك سلس ، فمن شعره هذه القصيدة :

بسيف الحجى عند اهتزاز النوائب

تقلدت فاستغنيت عن كل قاضب

وجردت من رأسي (١) الشديد عزائما

أفل بها حدّ السيوف القواضب

ولي همة تسمو بصارخ عزمها

إذا السيف قد أعيى صدور الكتائب

وما فاتني فضل أردت إقتناؤه

علي وما عزّت صعاب المطالب

وكم خطب العليا غيري ولم ينل

ونلت لأنيّ كنت أكرم خاطب

ولو شئت أدنت لي رقاب كثيرة

ولكن رأيت الدهر أغدر صاحب

وما الدهر إلّا مقبل مع ساعة

وما العمر مع طول المدى غير ناهب

وما النّاس إلّا حاسد ومعاند

وما الدّهر إلا راجع في المواهب

وما شاد بنيان العلا متهور

وما ساد من لم يفتكر في العواقب

أخالط أبناء الزمان بعقلهم

لأنظر ما يبدونه من عجائب (٢)

__________________

(١) الأصل رابي وأصلحناه من النور.

(٢) النور : لأنظر ما يبدى به من عجائب.

٤٣٣

وأظهر أني منهم تستميلني

عذاب الثنايا سود شعر الذوائب

وإن أليم الهجر مما يسؤني

وإن لذيذ الوصل أسنى مآربي

وما علموا أن الهوى دون رتبتي

وأن مقامي فوقه بمراتب

ألا في سبيل المجد قوما علمتهم (١)

يرون إكتساب الفضل أزرى المكاسب

وما عندهم فضل سوى كثرة الغنى

ولا المجد إلّا أخذ بعض المناصب

فضائلهم محصورة في ثيابهم

وأورادهم إتقان هزّ المناكب

رماني زماني بينهم يستهينني

وليس محلي غير هام الكواكب

ومن شعره أيضا :

أقبل الغصن حين يهتز

في حلل دون لطفها الخز

مهفهف القد والمحيا

بعارض الحد قد تطرز

ومن شعره أيضا :

الدّن لي والكأس والقرقف

وللفقيه الكتب والمصحف

شمس الضحى بعد العشا

زارت فزال تلهفي

واستقبلت بدر السما

فنظرت للقمرين في

__________________

(١) النور : عهدتهم.

٤٣٤

سنة إحدى وتسعين

استعاد (١) السلطان مظفر بن السلطان [محمود] (٢) كجرات من المغول ، وذلك في آخر شعبان وقبض أكثر بلادهم مثل أحمد أباد وبروج وبرود له وكنباية (٣) فهزم عسكر المغول ونهبهم وقتل بعض الوزراء الكبار ، وأخذ ماله ولم يزل يعظم أمره ويكثر عسكره إلى مستهل المحرم من سنة اثنتين وتسعين فاختلف عسكره فيما بينهم ، وكان ذلك هو السبب لهزيمتهم واختفى المذكور في بعض الأماكن ورجع أمير كجرات إلى المغول ، وأما بروج فكانت قلعتها حصينة متغلبه وكان فيها جماعة من أصحاب مظفر فمنعوها مدة وحاصروها جماعة من وزراء المغول إلى أن أخذوها في آخر رمضان من تلك السنة ، ورأى بعض الأخيار في المنام رجلا فسأله عن مدة مظفر فكتب له ست واوات ، قال الراوي : فأولها بستة أشهر فكان كذلك ، فدخلها في شعبان وخرج منها في المحرم.

__________________

(١) النور السافر : ٣٦٠.

(٢) ساقط من الأصل وأضفناه من النور السافر.

(٣) النور السافر : كبنايت.

٤٣٥

سنة اثنتين وتسعين

توفي (١) الشيخ الصالح العلامة شهاب الدين بن الشيخ بدر الدين العباسي المصري الشافعي بأحمد أباد وعمره نحو التسعين ودفن بتربة العرب بالقرب (٢) من تلميذه وصديقه الشيخ محمد بن عبد الرحيم العمودي رحمهم‌الله ، وكان بينهما في حياتهما اتحاد وصحبة عظيمة حتى كأنهما كانا روحان في جسد ، وكان مولده سنة ثلاث وتسعمائة بمصر ، وكان من العلماء العاملين وعباد الله الصالحين ومن مشايخه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري ، والشيخ العلامة برهان الدين بن أبي شريف ، والشيخ الإمام نور الدين المحلى والشيخ كمال الدين الطويل والشيخ زين الدين المغربي ، والشيخ نور الدين المليجي بالجيم ، واجتمع بشيخ الإسلام أبي العباس الطنبداوي البكرى بزبيد سنة ست وثلاثين وتسعمائة وأخذ عنه ، ومن محفوظاته المنهاج في الفقه للنّووي والشاطبية في القراآت والعمدة في الحديث القدسي والأربعين النووية والأجرومية في النحو ومختصر أبي شجاع ، وكان له اليد الطولي في علم الحرف والفلك والميقات ، وكان شديد الورع قليل الاختلاط بالناس متمسكا بالكتاب والسنة ، وطريقة السلف الصالحين مع التقوى المفرط والخمول الزائد ، ومن شعره في تاريخ ميلاد البخاري ومدة عمره وتاريخ موته قوله :

__________________

(١) النور السافر : ٣٦٠.

(٢) الأصل بالهرب وأصلحناه من النور السافر.

٤٣٦

كان البخاري حافظا ومحدثا

جمع الصحيح مكمل التحرير

ميلاده صدق ومدة عمره

فيها حميد وانقضى في نور

وفيها (١) في يوم الجمعة الحادي والعشرين من جمادى الأولى : توفي الشيخ العلامة أبو السعادات محمد بن أحمد بن علي الفاكهي المكي الحنبلي ، وكان مولده سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة رحمه‌الله تعالى ، وكانت له اليد الطولي في جميع العلوم ، وأنه قرأ في المذاهب الأربعة ، ومن شيوخه الشيخ الكبير المحقق أبو الحسن البكري وشيخ الإسلام بن حجر الهيتمي والشيخ محمد الحطاب وآخرين من أهل مكة وحضرموت وزبيد يكثر عددهم ، ويقال أن الذي أخذ عنهم يزيدون على التّسعين وأجازوه ، ومقروءاته كثيرة جدا لا تنحصر ومن محفوظاته الأربعين النووية والعقائد النسفية والمقنع في فقه الحنابلة وجمع الجوامع في أصول الفقه ، وألفية بن مالك في النّحو وتلخيص المفتاح في المعاني والبيان والشاطبية في القراآت ، وكان يحفظ القرآن العظيم ويقرأ للسبعة مع التجويد ، ونظم ونثر وألف غير واحدة من الرسائل المفيدة ، منها الذي تكلم فيها على آية الكرسي وهي مفيده جدا ومنها شرح على نور الأبصار شرحا مختصرا وهو في فقه الشافعيه ، ومنها رساله في اللغة ، دخل الهند وأقام بها مدة ، ثم رجع إلى وطنه مكة شرفها الله تعالى في سنة سبع وخمسين ، فحج ذلك العام وزار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم حج في السّنة التي تليها ، وعاد إلى الهند في سنة ستين وتسعمائة فأقام بها إلى أن توفي رحمه‌الله تعالى ومن شعره (٢) :

طبعت على حب المعزة والثنا

وأرجوهما في طول عمري ديدني

وها أنا أوصي كل خل معزز

بأن لا يداني للدنا من يدي دني

ورزق الحظّ في زمانه والجاه عند الأكابر والوزراء ، وكان السيد شيخ بن عبد الله العيدروس يسمّيه شيخ الإسلام ، وقال بعضهم : ما رأيت

__________________

(١) النور السافر : ٣٦٣.

(٢) هنا سقطت ورقه من الأصل.

٤٣٧

أسخى منه وقال آخر : ما أظن أن أحد من الأشراف والعرب الذي دخلوا الهند في وقته إلّا وله عليه إحسان وكان لا يمسك شيئا ، وكان له عقيدة مفرطه في آل باعلوي ، وذهب إلى حضرموت لزيارتهم فلقي جماعة من أعيانهم ، وعادت عليه بركاتهم رحمه‌الله تعالى.

وفيها ليلة (١) الأحد السابع والعشرون من ذي الحجة الحرم : توفي الولي الكبير والقدوة الشهير الذي وقع على ولايته الإجماع والاتفاق وقصد بالزيارة من الآفاق فخر الدين الشيخ أبو بكر بن سالم بن عبد الله باعلوي بعينات ، وكان من المشايخ الأفراد المقصودين بالزيارة من أقصى البلاد ، وانتفع ببركته الحاضر والباد وانعمرت بنفحات أنفاسه العباد ، واشتهرت كراماته ومناقبه وولايته في الآفاق ، وسارت بها الركبان والرفاق ، وقصده الزوار من الهند والسند والروم ، وحصل له القبول التام عند الخاص والعام ، وعينات بكسر المهملة وسكون المثناة من تحت وقبل الألف نون وبعدها مثناة فوقيه ، من قرى حضرموت على نصف مرحلة من تريم كانت دار إقامته رحمه‌الله تعالى ونفعنا به.

وفيها (٢) : توفي الحكيم شهاب الدين محمود بن شمس الدين العباسي السندي ، وكان آية في الحكمة والمعالجات ، وحكي أن بعض السلاطين أهدى إلى السلطان محمود صاحب كجرات أشياء نفيسة من جملّتها جارية وصيفه فأعطاها السلطان لبعض الوزراء واتفق أن الحكيم المذكور [جس نبضها](٣) فحذره من ذلك ، وقال أن من يجامعها سيموت فأراد تجربته في ذلك فجاء بعبده وأدخله عليها فمات لوقته ، فازداد تعجب الوزير بذلك وسأله عن السبب فيه فقال : إنهم أطعموا أمها في حال حملها

__________________

(١) النور السافر : ٣٦٨. وانظر في مناقبه الظفر والمغانم «مخطوط» وكتاب الجواهر (مطبوع).

(٢) النور السافر : ٣٦٩.

(٣) ساقط من الأصل وأثبتناه من النور السافر.

٤٣٨

بها أشياء أورثت ذلك وأن مهديها قصد هلاك السلطان ، قلت فلله دره من طبيب ماهر ما أحذقه ، فقد ذكر القزويني في «عجائب البلدان» ما يقرب من هذا فقال عند الكلام على عجائب الهند (١) ومن عجائبها البيش (٢) وهو نبت لا يوجد إلا في الهند سم قاتل أي حيوان يأكل منه يموت ، ويتولّد تحته حيوان يقال له فارة البيش تأكل منه ولا يضرها ، ومما ذكر أن ملوك الهند إذا أرادوا الغدر بأحد عمدوا إلى الجواري إذا ولدن وفرشوا من هذا النبت تحت مهودهن زمانا ثم تحت فراشهن زمانا ثم تحت ثيابهن زمانا ثم يطعمونهن منه في اللبن حتى تصير الجاريه إذا كبرت تتناول منه ولا يضرها ، ثم يبعث بهن مع الهدايا إلى من أرادوا الغدر به من الملوك فإذا غشيها مات.

__________________

(١) عجائب المخلوقات للقزويني ٢ : ٥١ بهامش حياة الحيوان.

(٢) في الأصل اليسر وأصلحناه من النور السافر وعجائب المخلوقات.

٤٣٩

سنة ثلاث وتسعين

في شهر (١) ربيع الأول توفي الأستاذ قطب العارفين الشيخ محمد بن الشيخ أبي الحسن البكري رحمه‌الله تعالى ، وقد تقدم ذكر سلسلة نسبه إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه في ترجمة والده ، وكان هذا الشيخ من آيات الله تعالى في الدرس والإملاء ، وكان [إذا تكلم] فيه تكلم بما يحيّر العقول ويذهل الأفكار بحيث لا يرتاب سامعه في إن ما يتكلم به ليس من جنس ما ينال بالكسب وربما كان يتكلم فيه بكلام لا يفهمه أحد من أهل مجلسه مع كونه كثير منهم أو أكثرهم على الغاية من التمكن في سائر مراتب العلوم الإسلامية والإحاطة بفنونها ، وكان إليه النهاية في العلم حتى كان بعض أئمة العلوم والمعارف هناك من افنى عمره في كتب العلوم الدينية والمعارف الربانية يقول : والله لا ندري من أين هذا الكلام الذي نسمعه من هذا الأستاذ ولا نعلم له أصلا يوخذ منه ، ولو لا العلم بسد باب النبوة لاستدلينا بما نسمعه منه على نبوته ، وأما مجالس التفسير وما يقرره فيها من المعاني الدقيقة والأبحاث الغامضة مع استيعاب (٢) أقوال أئمة التفسير من السلف والخلف وبيان أولاهما بالاعتماد عنده وذكر المناسبات بين السور والآيات وبين أسماء الذات المقدس والصّفات ومواضعها ، وما قاله أئمة الطريقه في كل آية من علوم الإشارة ، فإن القرآن نزل بها أيضا

__________________

(١) النور السافر : ٣٦٩. وانظر ترجمته في الأعلام ٧ : ٦٠.

(٢) هنا ينتهي النقص في الأم.

٤٤٠