تاريخ الشّحر وأخبار القرن العاشر

محمّد بن عمر الطيّب بافقيه

تاريخ الشّحر وأخبار القرن العاشر

المؤلف:

محمّد بن عمر الطيّب بافقيه


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وفيها (١) : كانت وفاة أحمد شاه بأحمد أباد قتيلا.

وفيها (٢) : جاء جنكز خان إلى سرت ، وأحرق دورها وخربها وخرب أهلها ، ثم صالحه صاحب سرت خداوند خان وذهب إلى بروج.

__________________

(١) النور السافر : ٢٤١.

(٢) النور السافر : ٢٤١.

٣٦١

سنة ثمان وستين

فيها (١) : جاء جنكز خان ثانيا إلى سرت وأخرب جانبا من كوت سرت وأخرب جمعا من أهل سرت ومنير من التجار والرعية وغيرهما ثم ذهب إلى بروج في أواخر رمضان ، وكان صاحب سرت خداوند خان خرج من الكوت خفية ليلا فذهب إلى بلاد الكفار ، ثم وصل إلى أحمد آباد ثاني شوال فقتل يوم الثلاثاء بعد العصر آخر يوم من ذي القعدة ، قتله بجلي خان وأغاريخان ورستم خان مع عسكرهم ، وفي العسكر جمع من عبيد خداوند خان هربوا منه من رهبته ، وكان خداوند خان رحمه‌الله تعالى أميرا كبيرا جليل القدر رفيع المنزلة حسن الأخلاق كثير الإنفاق جيّد الصورة طيب السيرة ، جوادا سخيا شهما أبيا شديد البأس محبّبا إلى الناس متواضعا ممدحا ليّن الجانب مشهورا في المشارق والمغارب ، كثير الإحسان والإفضال مقصودا بشدّ الرّحال ، محبا لأهل الخير والصّلاح حسن العقيدة في الأولياء والصّالحين محسنا إلى الفقراء والمساكين عظيم الصدقة والمعروف كثير الإحتفال بالوفود والضّيوف وكان عريق الرئاسة ، حسن السياسة ظريفا لطيفا وفي آخر الأمر اعتراه نوع من الوسواس حمله على الاستيحاش من النّاس اختل به نظام تدبيره فخذله وزيره ومشيره وقل معاونه وناصره (٢) وتفرقت بسببه عساكره والكمال لله ، فكان هذا هو السّبب

__________________

(١) النور السافر : ٢٤١.

(٢) بياض في (س).

٣٦٢

في زوال الملك عنه وظفر العدو به ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ورثاه الشيخ العلامة أبو السعادات الفاكهي بقصيده عظيمة أولها (١) :

الدهر في يقظة والسهر للبشر

والموت يبدو ببطش البدو والحضر

وكان أبو السّعادات المذكور من المشمولين بعنايته والمنتظمين في سلك نعمته كغيره من الصّلحاء والعلماء فإن «سرت» في أيامه السعيدة كانت طافحة من المشايخ والفضلاء ، مشحونة بأكابر الناس من سائر الأجناس ، مملؤة بأعيان التجار الأكابر وبلغني أنه يجعل لكل من يدخل إليه من الغرباء مرتّبا بحسب حاله ، وإذا أراد الذهاب كذلك زوّده من ماله ، وبالجملة فمحاسن هذا الرجل كثيرة وأخباره معروفة شهيرة رحمه‌الله تعالى.

وفيها (٢) في سابع شهر جمادى الأولى : توفي السيد الشيخ الكبير القطب العارف بالله تعالى الشهير شهاب الدنيا والدين بركة الإسلام والمسلمين صاحب الولاية والتمكين الشيخ شهاب الدين أحمد بن الشيخ حسين بن الشيخ عبد الله العيدروس بتريم رحمه‌الله ونفع به آمين ، وكان من سادات مشايخ الطريقه المكاشفين بأنوار الحقيقة ، جمع الله له بين كمال الخلق وحسن الأخلاق ، وبسط المعرفة وصحّة النيه وصدق المعاملة مناقبه كثيرة وأحواله شهيرة وكراماته لا تحصى ، منها ما روى عن الشيخ الولي الصالح أحمد بن عبد القوي بافضل رحمه‌الله تعالى أنه رأى الشيخ أحمد عيانا واقفا بعرفات ، وشاهده مشاهده يطوف بالبيت العتيق ويسعى بين الصفا والمروة رحمه‌الله تعالى.

وفيها : في شهر رجب وشعبان ورمضان حصل غلاء في الجهة الشحرية والحضرمية وغيرها عظيم وجدب وجوع حتى أن النّاس يموتون

__________________

(١) أنظرها في النور السافر.

(٢) النور السافر : ٢٤٢.

٣٦٣

في الطّرقات من الجوع ، والبوادي هلكوا ، هم ، ونشرهم ، وبلغ السعر مبلغ ولم يوجد ، وكان أوله من سنة ستين كما تقّدم وهلم جّرا كما يرى ويسمع في سنة السّبعين وبعدها.

وفيها (١) ليلة السبت خامس عشر صفر : توفي الشيخ الكبير القدوة الشهير العارف بالله تعالى أبو محمد معروف بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد موذن بن عبد الله بن محمد بن أحمد جمال بوادي دوعن ، وكانت ولادته بشبام ليلة الجمعة خامس عشر شهر رمضان سنة ٨٩٣ ، ثلاث وتسعين وثمانمائة وكان شيخا كبيرا عظيم الشّأن ذا كرامات ظاهره وأحوال وآيات باهرة ، وبلغني أن مناقبه أفردها بعض الفضلاء بتصنيف رحمه‌الله تعالى ، وكان من المشايخ المشهورين والأساتذه الكبار المذكورين بتربية المريدين وتخريج السّالكين وله جاه عظيم وقبول عند الخاص والعام ، وسبب خروجه من بلده إلى وادي دوعن أن واش وشى به إلى السّلطان بدر بن عبد الله الكثيري رحمه‌الله تعالى في أشياء ، منها فرط اعتقاد الناس فيه وامتثالهم لأوامره ونواهيه ، فأمر بنفيه من البلاد واهانته بين العباد وأن ينادى عليه عند خروجه : هذا معبودكم يا أهل شبام ، وجعل في عنقه حبلا وطيف به بين الأنام ، ومن غريب ذلك أن السّلطان أمر بعض أمرائه وحاشيته أن يتولى ذلك بنفسه ، وكان ذلك من معتقدي الشيخ المذكور فتوقف ذلك ، فأرسل إليه الشيخ معروف قدّس الله سره أن أفعل ما أمرت به وأنا ضمينك على الله بالجنة ، فانظر إلى مشهد هذا الشيخ الجليل العظيم الذي يرى الأشياء كلّها من الله الحكيم ، وما وقع عليه من الامتحان له فيه أسوة بغيره من الأعيان أراد الله أن يرفع به في درجاتهم ويضاعف بسببه في ثوابهم وحسناتهم ، على أن هذه الطائفة العلية كما قيل في نعوتهم السنيه أنهم رضي‌الله‌عنهم يتلذذون بالبلاء كما يتلذّذ

__________________

(١) النور السافر : ٢٤٦ وفي مناقبه «مواهب البر الرؤوف في مناقب الشيخ معروف» مخطوط.

٣٦٤

غيرهم بالنّعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشا رحمه‌الله ونفعنا به آمين.

وفيها في شهر رجب : توفي السيد الشريف جمال الدين الشيخ محمد بن عبد الله بن علوي العيدروس يريد الحج إلى بيت الله فانتقل قريب جدة في البحر فحمل إلى مكة ودفن (١) بالمعلاه وقبر قرب الشيخ عبد الرحمن بن عمر العمودي رحمهما‌الله.

وفيها : وصل ثلاثة غربان بأروام خرجت من عدن ومروا الشحر وقشن وظفار ، ووصلت إلى قلهات (٢) وأخذوا برشة من الهند فيها إفرنج أسروا قنبطانها وعشرة معه ، ودخلت الشحر يوم الثلاثاء ثامن شهر ربيع الثاني وجلس يومين فيي البندر وصروا إلى عدن ، وأميرها بيرى أمير التجريدة التي دخلت هرموز كما سبق في سنة سبع وخمسين.

في شهر شعبان : أخذ الباشة محمود الرومي حصن حب (٣) من النظاري بعد قتل النّظاري ، وقتل الخواجا عبد الله الريامي وولده علي الرّيامي ، وأخذ جميع أموالهم وأولاده ، وأخذ جميع أموالهم (٤).

وفيها : توفي الشيخ مزاحم بن حسن بن مزاحم ببروم في شهر شعبان.

وفي شهر رجب أو شعبان : التقى خمسه غربان وثلاث برش إفرنج فبرشة عظيمة خرجت من آشي فيها مسلمين جماعة من آل آشي ، وفيها : جماعة من الأورام تجار وتقاتلوا ثلاثة أيام حتى هلكوا أكثر الإفرنج والمسلمين الجميع واحترقن براش الإفرنج وبرشة المسلمين ، وقتل خلق وما سلم من المسلمين إلا نحو عشرين رجلا دخلوا عدن ، واحد منهم دخل أحور.

__________________

(١) في (س) ودفع.

(٢) قلهات : مرفأ في عمان شمال شرقي راس الحد (المنجد : ٥٥٦).

(٣) حب حصن من عزلة سير في بعدان. من أمنع حصون اليمن.

(٤) أنظر خبر استيلاء محمود باشا على حصن حب في مطالع النيرين : ١٠٧ ـ ١١٠.

٣٦٥

سنة سبعين وتسعمائة

بشهر شوال ليلة الثّلاثاء الثاني منه وآخر ليلة من نوء الاكليل : حصل على الشحر ونواحيها غيث عظيم هائل مع ريح عاصفة مزعجة نسأل الله اللّطف أن لا يبلي المسلمين بمثل ذلك ، واستمر ذلك ليلا ونهارا إلى ليلة الخميس ، فحصل مطر عظيم غزير من غير ريح أكثر واغزر من الأول ، فخربت البيوت والمساجد وعمّ ذلك جميع نواحيها وقراها واتصل الخراب بجميع الجهة ووقع الخلق في حالة يعجز عنها الوصف ، حتى إن الناس خرجوا من بيوتهم وعرّشوا (١) لأنفسهم وأولادهم في الطرقات أمام بيوتهم خوفا من انهدام البيوت عليهم وعلى حريمهم وأطفالهم ، وذلك شيء لم يعهد ولم يسمع بمثله ولا اتفق عمومه بجميع جهة الشحر ونواحيها ، وكان ذلك مهول ذهلت فيه الألباب والعقول ، فإنّا لله وإنا إليه راجعون وأخذ سيل حضرموت جملة خلائق من النساء والرّجال من المسفلة فمنهم من ظهر ميتا في البحر نحو حيريج وسواحل جوانبها رجال ونساء بحليهن لأنه كان يوم زينة عيد الفطر وقليل منهم تعلق بخشب النّخل وسلم وأخربت أسوار كثيرة ، وأخذ من النخيل شيء لا يحصى وأخذ جميع ذبر المسيله بوادي بالحاف والغيظ وجعله رحبة ، وأخذ أجمل نخل غيل «الأسفل» وغيل «الأعلى» وعلوب (٢) وأخذ نحو مائة (٣) وسبعين في ميفع ، وأخذ في

__________________

(١) عرشوا : بتشديد الراء للتكثير من عرّش بمعنى صنع عريشا (معروف).

(٢) علوب : جمع علب ، قال أبو زيد : العلوب منابت السدر والواحد علب (اللسان ١ : ٦٢٩).

(٣) هنا سقطت أوراق من نسخة (ح).

٣٦٦

شبام حضرموت جميع وادي ذهبان وقد ضمن تاريخه صاحبنا الفقيه الفاضل عبد الله بن أحمد بن فلاح الحضرمي في بيتين وهما (١) :

سيل بوادي حضرموت أذاه عم

في (٢) نحو اكليل النجوم أخذ نسم

وضعوا له تاريخ ناسب جوره

يلقاه من يطلب في أحرف «ظلم»

وأخذ جملة من المراكب في نواحي جهة الهند وهرموزة نحو بضع وثلاثين مركبا شيء منها شاحنة في البحر ، وشيء في البنادر ، وأخذ السيل مراكب في خلفات معليّه في البر أدخلها البحر ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد قال النّاس في هذا الحادث العظيم أشعارا كثيرة توضح أخباره.

وفيها : سابع عشر جمادى الأولى توفي الفقيهء العالم القاضي سالم بن محمد بامعيبد بغيل باوزير رحمه‌الله تعالى.

وفيها : ولي القضاء الفقيه عبد الله بن عقيل بافضل رحمه‌الله.

وفيها : كانت غارة الجرادف من أصحاب العمودي ونهب بيت السيد محمد بن عبد الله عيديد باعلوي وهو جوره (٣) وذلك ليلة السبت لست عشرة ذي الحجة.

وفيها : كان مولد مؤلف هذا التاريخ ، بلّغه الله من الخيرات أمله وختم بالسعادة عمله ، آخر السنة المذكورة.

__________________

(١) البيتان في النور السافر : ٢٤٧.

(٢) النور : سنو.

(٣) جوره : كأنه في جواره أو مستجير به.

٣٦٧

سنة إحدى وسبعين

فيها (١) في شهر جمادى الأولى : توفي الشيخ الكبير والعالم الشهير تاج العارفين وبقية الأولياء الكاملين وجيه الدين السيد الشّريف عبد الرحمن بن حسين بن الصديق الأهدل اليمني قدس الله روحه بمدينة زبيد وقبره بها ، مشهور يزار وعليه قبة ، وكان من أكابر المشايخ أرباب الأحوال الفاخرة والكرامات الظاهرة وحيد عصره وفريد دهره ، ولم يخلفه مثله في مصره ، وشهرته تغني عن ترجمته ، ومن ببعض كراماته أنه جاء إليه مريض وقد عظم بطنه من الإستسقاء فقرب اليه طعاما وأمره أن يأكله جميعه ، فحسب أن فعل ما أمره زال عنه ذلك المرض في الحال واستوى بطنه وكراماته كثيرة ، وأنشد لوالده الحسين :

قد كان من سنّة خير الورى

صلّى عليه الله طول الزّمن

إن لا يرد الطيب والمتكى

واللّحم والتمر كذا واللبن

ومنه :

لا تعتب الدهر ولا أهله

في حط مقدار ولا منزله

نحن قسمنا بينهم قاله

إلهنا والفضل والعدل له

والحمد والشكر لمن قد جرت

أحكامه بالقسمة العادله

وفيها (٢) : توفي السّيد الشريف العالم الفاضل الكامل النسابة مؤلف

__________________

(١) النور السافر : ٢٤٧.

(٢) النور السافر : ٢٤٩. المشرع الروي ٢ : ٢١٩.

٣٦٨

الشجرة العلوية نور الدين علي بن أحمد باجبهان باعلوي بتريم رحمه‌الله تعالى ، والسيد الشريف الولي الصالح بدر الدين حسين الملقب الكربي بقشن بلاد المهرة في آخر شعبان رحمه‌الله تعالى ، والمعلم الصالح وجيه الدين عبد الرحمن بن عبد الله باعزان يوم الاثنين ثمان وعشرين شهر رجب رحمه‌الله تعالى.

وفيها (١) : فاضت أودية مكة المشرفة بسيول عظيمة ودخل السّيل الحرم الشريف وعلا على الركن اليماني ذراع ، فكان ذلك تاريخا ، فنظمه الأديب صلاح الدين القرشي رحمه‌الله تعالى فقال :

إني رأيت السّيل في مكة

قد أخرب الدور وأخلى البقاع

لاذ بباب الله مستعصما

وطاف بالبيت طواف الوداع

تاريخ ان رمت تعريفه

علا على الركن اليماني ذراع

__________________

(١) النور السافر : ٢٤٨.

٣٦٩

سنة اثنتين وسبعين

فيها (١) : توفي الشيخ الإمام العالم العلامة الفاضل الكامل الشيخ عبد الله بن أحمد الفاكهي الشافعي المكي رحمه‌الله تعالى ، وكان مولده سنة تسع وتسعين وثمانمائة ، وكان من كبار العلماء الفضلاء مشاركا في جميع العلوم ، وله فيها مصنّفات كثيرة [منها شرح الأجرومية وشرح على متممتها للحطاب](٢) أجاد فيها كل الأجادة وشرح على قطر بن هشام في غاية الحسن صنفه سنة ستة عشر وتسعمائة ، وكان عمره حينئذ ثمانية عشر سنة ، وشرح على «الملحة» واستنبط حدودا للنحو وجمعها في نحو كراسة ثم شرحها أيضا في كراريس ، ولم يسبق إلى مثل ذلك ، وبالجملة فإنه لم يكن له نظير في زمانه في علم النحو وكان فيه آية من آيات الله ، حتى قيل إنه سيبويه عصره رحمه‌الله ، وحكى أنه حضر في الجامع الأزهر وقارىء يقرأ شرح القطر على بعض المشايخ فأشكل عليهم بعض العبارات فيه فحلها المذكور ، وذكر انه هو الشارح فلم يصّدقوه حتى أقام البيّنة على ذلك وشهد له من كان من أهل مكة بذلك.

وفيها (٣) في ليلة الاثنين لعشر ليال مضت من شهر رجب الحرام : توفي الإمام العالم العلامة مفتي اليمن وعلامة الزّمن عفيف الدين

__________________

(١) النور السافر : ٢٤٩.

(٢) ساقط من الأصل.

(٣) النور السافر : ٢٥٠.

٣٧٠

عبد الله بن عمر بن أحمد بامخرمة بعدن وعمره خمس وستون سنة ، وكان آية في العلم خصوصا الفقه والفلك أخذ عن والده الولي عمر وعمه العلامة الطيب والقاضي العلامة عبد الله بن أحمد باسرومي ، وكان يقول حال قراءته عليه : إني استفدت منه أكثر مما استفاد مني ، وجّد واجتهد حتى برع وانتصب للتدريس والفتوى ، وصار عمدة يرجع إلى فتواه. وانتهت إليه رئاسة العلم والفتوى في جميع الجهات وقصد بالفتاوى من الجهات النازحة والأقاليم البعيدة ، وكان عمه الطّيب يقول : لا أستطيع على ما يستطيع عليه ابن أخي في حلّ المشكلات وتحرير الجوابات على المسائل الغامضات ، وكان الشيخ الإمام العلامة جمال الدين محمد بن الإمام عبد القادر الحباني يعظمه جدّا ويرجحه على والده وكان معظم تحصيله وانتفاعه به ، وممن أخذ عنه من العلماء الأعلام شيخنا الفقيه جمال الدين محمد بن عبد الرحيم الجابري رحمه‌الله تعالى ومدحه الأديب أبو زكريا الدمشقي ببيتين :

يا عمري الأصل أنت مالكي

ونافعي بفضله بين البشر

ها قد رفعت سندي إليكم

لمالك لنافع لابن عمر

وبالجملة فكلامه وأبحاثه في كتبه وأجوبته تدلّ على قوّة فطنته وغزارة مادته ، وكان مع ذلك تغلب عليه الحرارة حتى على طلبته والكمال لله ، وكان بليغا فصيحا كاملا فاضلا في الأدب نادرة الوقت في النّظم والنثر ، فمن المقطّعات الغراب التي تحتمل قافيته معنيين ويسمى أيضا الإكتفاء عند أهل البديع :

قلت سلام الله من مغرم

ما إن سلا عنكم فقالوا سلا

فقلت هل ترضون لي وقفة

قالوا فما تطلب قلت الكلا

وله أيضا في المعنى :

يا بدرتم ماله مشبه

ومن الحسن البديع الجلي

اثقلني بعدك غبّ الهوى

فامنن بوصل لي أكون الخلي

٣٧١

ومن مقاطيعه :

قالت لأترابها لما عرضت لها

يوما وقد سفرت في الحلي والحلل

بالله تعرفن من هذا فقلن لها

صبّ عميد بذات الغنج والكحل

قالت وتعرفن من يهوى فقلن نعم

رفقا به خلق الإنسان من عجل

قالت وقد عرفت أن قد فطن لها

وساها (١) فهي بين الخوف والخجل

أكتمن ذاك فأني قد شغفت به

وقد بليت بما مني الحبيب بلى

ومنه :

وزارني طيف من أهوى مستترا

عني وليس ما أدريه من صفته

فقلت يا عجبا الرؤيا ورؤيته

شتان في منع ما ابغيه من جهته

وهبه في يقظة يدري وكيف به

في النّوم أن يهتدي صّبا بمعرفته

وله أيضا في المعنى قاله وهو في بدر الموضع المبارك المشهور وهو راجعا من المدينة بعد زيارة نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول سنة خمسين وتسعمائة :

ذكرت في بدر بدري عندما غربت

شمس النهار وضاء البدر في الأفق

فقيل يدرك هذا قلت بينهما

فرق وشاهده في الليل والشفق

وكان السلطان بدر بن عبد الله بن جعفر الكثيري وقف على آخر بيتين من الشعر في رقعة قد أكلها العث الأول منها «كيف حاله» والثاني «لاكراله» فطلب من الفقيه المذكور إن يعمل له من نظمه ما يناسب ذلك فقال (٢) :

وقائلة بالله صف لي متيّما

أضّر به طول النّوى كيف حاله

فقلت على نوعين أما نهاره

فيبكى وأما ليلة لا كرى له

وله في الفتوة والأبوة والكرم :

__________________

(١) كذا في الأصل. ولعله وساءها.

(٢) النور السافر : ٢٥٢ وهذا الشعر ليس لأبي مخرمة.

٣٧٢

فو الله ما جانبت أرضي عن قلا

ولكن لعجزي عن حقوق لوازم

وما العذر لي أن كنت عند قرابة

يرجّون نفعي من فقير وعادم

وما اشتهي طول الحياة للذة

فعيش ذوي اللّذات عيش البهائم

ولكن لكسب ، المجد ما عشت والثنا

ونفع الورى طرا وبذل المراحم

فأما أنل هذا وأما منيّة

تعد لمثلي مثلها في المغانم

ومنه هذان البيتان وفد ضمنهما قول إلى تمام :

الواو من صدغه في العطف يطمعنى

والسيف من لحظه يومي إلى العطب

فحين ما حرت قام الهجر ينشدني

السيف أصدق انباء من الكتب

وله هذان البيتان وقد ضمنها قوله أيضا «سيّد قومه المتغابي».

قالت أراك من الذكا في غاية

جلت عن الإسهاب والإطناب

وأراك تبدي في الأمور تغابيا

فأجبت «سيد قومه المتغابي»

وأيضا هذين البيتين ضمّنها قول المتنبي «لكل امرء من دهره ما تعودا».

وعاذلة أبدت لفقري توجعا

فقالت أتاك الفقر من جانب الغنا

فقلت لها لا تطمعي في تغيري

«لكل امرء من دهره ما تعودا»

ومنه أيضا :

لا تنس من لم ينس ذكرك ساعة

وانظر إليه بعين ود واعطف

أو ليس منسوبا إليك وإنه

فرض عليك عرفت أم لم تعرف

ومنه أيضا :

يا سادة عودوني كل مكرمة

لا تقطعوا الود عن مملوككم وصلوا

٣٧٣

وجملوا الحال [فالدنيا مجاملة](١)

والخير أبقى وكل المال ينتقل

ومنه ايضا :

يا قريب الفرج

عبدك على الباب واقف

كلما آيس ترجّى

من جنابك لطائف

وله أشعار غير هذه مقطّعات وقصائد عظام حكمة ومواعظ ومدائح في السّلطان بدر بن عبد الله الكثيري طنانات جسام ، وقد ولي القضاء في الشحر مرّتين ، وفي آخر عمره قام بعدن ووليّ بها مشيخة التّدريس في مواضع متعدّدة ، ومن تصانيفه حاشية ينكت فيها على شرح المنهاج للشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي في مجلدين وفتاوى كثيرة في مجلدين وكتاب «المصباح لشرح العدة والسلاح» وشرح الرحبية وذيل على طبقات الشافعية للإسنوي كان تركه مسوّدّة فبيضه ولده الطّيب في حدود ثلاث وثمانين وسماه «رشف الزلال الروي في التكميل والتذييل لطبقات الأسنوي» وله منظومات في الفلك كثيرة وجداول وأشياء عجيبة مفيدة في طبقات الأسنوي رحمه‌الله ، وتأليف لطيف في علم الحساب ، وتأليف لطيف في علم «المساحة» وتأليف في الرّبع المجيّب ، وله مؤلفات لطاف كثيرة مفيدة والله أعلم.

وفيها (٢) بيوم الأربعاء السّابع من جمادى الآخرة : سار السلطان عبد الله وأخوه عمر ، والأمير سعيد بن عطيف بجيش عظيم الى القبلة نصرة الشريف محمد بن ناصر بن أحمد وأخذوا الزاهر والجوف ، ورجعوا سالمين واستفتحوا الدّرب أيضا وعسيلان.

وفيها : وصل القنبطان صفر الرومي من الروم في عشرة غربان كبار وجملة عدة وعساكر وكان مسيره من السّويس ثاني شهر رمضان من السنة

__________________

(١) بياض في الأصول.

(٢) العدة ١ : ٢١١.

٣٧٤

المذكورة ، ودخل المخا ولبث يوما واحدا ، وكذلك عدن وقيل ، أكثر وطرح فيها جملة مدافع وصروا إلى جهة برّ العجم يريد الإفرنج الذين بفيلك المرابطين لموسم جدة الواصلين من جزيرة آشي (١) ، فوصلوا إليها وقد عزم عدو الله إلى جهة هرموز ، ودخلت منهم برشه إلى قشن ، وصروا يوم تسع وعشرين في شهر رمضان المذكور ، فرجع إلى بروم يوم ثاني شوال من السنة المذكورة ، وحصل عليه بعض مرض فرجعوا إلى عدن فلبث أياما قلائل وتوفي يوم الثامن والعشرين في شهر شوال المذكور وجعل كخيته (٢) وصيه على العسكر والخشب والعدد في عدن حتى يصل الجواب من الأبواب ، ودفن في قبة الشيخ أبي بكر بن عبد الله العيدروس في قبر الأمير مرجان الظافري رحمه‌الله تعالى.

وفيها : عزل الباشة محمود من اليمن ، ووصل الباشة رضوان باشة على اليمن.

وفيها ليلة الأحد الثامن والعشرين من شعبان : توفي الصدر الأجل فضل بن محمد الهمداني رحمه‌الله تعالى.

وفيها : ليلة الأحد أول شهر شعبان توفي الفقيه عبد القادر بن حاتم رحمه‌الله تعالى.

وفيها : توفي الفقيه العلامة سعيد بن يعقوب بالرّعية ليلة الجمعة رابع شهر رمضان رحمه‌الله تعالى ، وكان إمام الجامع ومدرّس به وولي إمامة الجامع في مرض الفقيه سعيد المذكور الفقيه القاضي عبد الله بن عقيل بافضل ، يوم الأحد الثاني والعشرين من شهر شعبان.

__________________

(١) آشى : أقصى بقاع جزيره سومطرا في الشمال (المنجد : ٤).

(٢) مصطلح عند الأتراك بمعنى وكيل أعمال.

٣٧٥

سنة ثلاث وسبعين

فيها (١) يوم الثلاثاء عند طلوع الشمس ثامن عشر شهر رمضان : توفي السّيد الشريف الولي الصّالح العابد الزّاهد القطب الفرد شهاب الدين أحمد بن علوي بن المعلم محمد بن علي باجحدب بن عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن الشيخ علوي بن الشيخ الفقيه القدم محمد بن علي بتريم رحمه‌الله تعالى ، وكان يعّد في حكم رجال الرسالة القشيرية لشدة ورعه وتقشفه واستقامة طريقته ، روى ذلك عن الشيخ الولي عبد الرحمن بن عمر العمودي نفع الله به ، وكانت له الكرامات الخارقة للعادة ، فمن ذلك أنه لما عزم بنيّة الحج في البحر رئي يشرب من مائه فقيل له في ذلك ، فقال : أليس كل أحد يشربه فأخذ بعضهم ما بقي في الإناء فشريه ، فإذا هو حلو ، وكف بصره آخر عمره وحصل عليه قرب انتقاله جذبة من جذبات الحق فاندهش بها عقله وتحيّر لبه وانغمر بها سرّه وأخذ عن نفسه ، فكان يقوم إلى الصلاة بطريق العادة وهو مأخوذ عن حسّه ، وربما صلى إلى غير القبلة ، وذلك لما استولى عليه من سلطان الحقيقة ، وتلاشت العبدية في كعبة العندية ، ونودي بفناء الفنا من عالم البقاء ورفعت القبلة ، وما بقي إلّا الله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(٢) ومكث على ذلك أربعة أيام وتوفي

__________________

(١) النور السافر : ٢٥٤. والمشرع الروي ٢ : ٧٠.

(٢) الآية : ١١٥ سورة البقرة.

٣٧٦

رحمه‌الله تعالى ، وبالجملة فإنه كان سيدا كامل الأوصاف فكيف وفضائله وكراماته بين الأنام باهرة كالشّمس في الآفاق سائرة رحمه‌الله ونفعنا به آمين.

وفيها (١) ليلة الاثنين خامس عشر شوال : توفي السيد الشريف السيد الكبير والعلم الشهير العالم العلامة الشيخ الفقيه جمال الدين محمد بن الشيخ حسن بن الشيخ علي بن أبي بكر السّقاف باعلوي رحمه‌الله ونفعنا به بتريم ، وكان من العلماء العاملين والفقهاء البارعين ، وكانت له اليد الطولى في جميع العلوم سيّما الفقه والنحو ، وجاور بمكة لطلب العلم سنتين ، ومن محفوظاته الإرشاد للمقري والألفيه في النحو وقرأ على الشيخ العارف بالله علامة الوقت أبي الحسن البكري التيمي القرشي ومقروآته كثيرة ، وكان متحليا بالعبادة والنسك سالكا منهاج السلف الصّالح مع السمت والصّلاح وحسن الأخلاق وله كرامات ظاهرة باهرة ، وبالجملة فإنه كان وحيد عصره وفريد دهره ولم يخلفه بعده مثله رحمه‌الله تعالى.

وفيها ثامن شهر شوال : توفي السيد الشريف فخر الدين أبي بكر بن عبد الله بن شيخ العيدروس نفع الله به.

وفيها ثاني ذي القعدة : توفي السيد الشريف الولي الصّالح الشيخ فقيه بن عبد الرحمن باعلوي رحمه‌الله ونفع به.

وفيها : آخر ذلك اليوم توفي السيد الكبير الشهير الفقيه النبيه نور الدين علي بافرج باعلوي رحمه‌الله تعالى.

وفيها : توفي شيخ المهرة سعيد بن عيسى بن عفرار بقشن فجأة في ربيع الأول.

وفيها (٢) : توفي الشهاب القبّاني الحادي ، وكان له اليد الطولي في

__________________

(١) النور السافر : ٢٥٥.

(٢) النور السافر : ٢٥٦.

٣٧٧

علم الموسيقي وقد أرخ نقلته صلاح الدين القرشي :

الأنس من بعد الشهاب

لقد توفي شيخه

والبسط قال لموته

«القبض في تاريخه»

وفيها (١) : عمر القاضي حسين المالكي رحمه‌الله تعالى ، سبيلا بأعلى مكة شرفها الله تعالى وأرخ ذلك بعض الفضلاء فقال :

عين هذا الزمان أنشأ محلا

وسط روض الجنان عالى مكه

فيه كرم وروض أنس وورد

ومياه كالبحر تحمل فلكه

وقلال تجري بوسط سبيل

سلسبيل لا يسع الناس تركه

هو بدر العلا حسين ابن طه

مالكي المليكي (٢) سيد مكه

المنى والأمان ما بين فكيه (٣)

فكم معشر من العسر فكه

جاء تاريخ ما بناه مليكي

«يملك المجد خلّد الله ملكه»

__________________

(١) النور السافر : ٢٥٧.

(٢) الأصل المالكي.

(٣) النور : يديه.

٣٧٨

سنة أربع وسبعين

وفيها (١) ثامن شهر جمادى الأولى : توفي السيد الشريف الولي الصالح المحبوب المجذوب عبد الله بن الفقيه محمد بن عبد الرحمن الأصقع باعلوي بمكة رحمه‌الله ونفع به ، وكان يوم موته مشهودا وقبره بالشّبيكه معروف يزار ، وكان من الأولياء العارفين والأئمة المقربين السّالكين المجذوبين المخطوبين أولي الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة والمقامات العلية والأحوال السنيه ، انتشرت مناقبه وعمت مواهبه وفاضت على الخليقة أسراره ونفحاته ، ووسعت البرية بركاته ، انتقل بأهله وولده إلى مكة وجاور بها إلى أن توفي بها ، وقد تقدم تاريخ انتقاله إلى مكة من حضرموت ، وكان له بمكة جاه عظيم وقبول عند الخاص والعام تام جسيم ، وحكي عن الشريف شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن خرد باعلوي أن السيد الشريف عبد الرحمن بارقبة كان يصحب السيد أحمد بن حسين العيدروس والسيد أحمد بن علوي باجحدب والسّيد عبد الله بن الفقيه الأصقع رضي‌الله‌عنهم ونفعنا بهم ، وربما كان يأمره بعضهم بضد ما يأمره به الآخر فشق ذلك عليه وتحير فيه ، فخرج إلى ضريح الشيخ عبد الله بن أبي بكر العيدروس وآلى على نفسه أن لا يذهب من عنده حتى يعلمه بأحوال الثلاثة وبمن يقتدي به منهم ، فنام فكلّمه الشيخ وقال له : جئت تسأل عن أحوال الثلاثة أما الشيخ أحمد بن علوي فأفرده الله ، وأما

__________________

(١) النور السافر : ٢٥٨. والمشرع الروي ٢ : ١٩٦.

٣٧٩

عبد الله بن الفقييه فله توبة تضرب في السّماء ونوبة تضرب في الأرض وشرب من كأس الحمّيا حتى روي أو كما قال.

وفيها (١) : في شهر رجب توفي الشّيخ الإمام شيخ الإسلام خاتمة أهل الفتيا والتدريس ناشر علوم محمد بن إدريس الحافظ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري بمكة ، ودفن بالمعلاة في تربة الطبريين (٢) وكان بحرا في علم الفقه وتحقيقه لا تكدرّه الدلاء ، وإمام الحرمين كما أجمع على ذلك العارفون ، وانعقدت عليه بخناصرها الملا ، إمام اقتدت به الأئمة ، وهمام صار في إقليم الحجاز أمه مصنفاته في العصر آية يعجز عن الإتيان بمثلها المعاصرون ، وفتاويه في الدّهر غاية يقصر عن بلوغ مداها العالمون ، فهم عنها قاصرون ، وأبحاثه في المذهب كالطّراز المذهب ، طالماطاب للواردين من منهل تدريسه صفاء المشارب ، وطالما طاف حول كعبة مناسكه من الوافدين من يريد وفاء المآرب ، ولد في رجب سنة تسع وثمانمائة ، ومات أبوه وهو صغير فكفله الإمامان الكاملان علما وعملا العارف بالله شمس الدين بن أبي الحمائل وشمس الدين الشّناوي ، ثم إن الشمس الشناوي ، نقله من بلده محلة أبي الهيتم إلى مقام القطب الشريف سيدي أحمد البدوي نفع الله به ، فقرأ هناك على عالمين به في مبادي العلوم ، ثم نقله في سنة أربع وعشرين وهو في سن أربع عشرة سنة إلى الجامع الأزهر مسلما له إلى رجل صالح من تلامذة شيخه الشناوي وابن أبي الحمائل ، فحفظه حفظا بليغا وجمعه بعلماء مصر في صغر سنه فأخذ عنهم ، وكان قد حفظ القرآن في صغره ومن مشايخه الذي أخذ عنهم شيخ الإسلام القاضي زكريا الشافعي ، والشيخ الإمام المعمر الزيني عبد الحق السنباطي ، والشيخ الإمام مجلى النفس الشافعي ، وجماعة لم أذكرهم خوف الإطالة ، وأذن له

__________________

(١) النور السافر : ٢٥٨. وانظر في ترجمته «ابن حجر الهيتمي» لعبد المعز الجزار طبع سنة ١٤٠١ ه‍.

(٢) الأصل : الضريس.

٣٨٠