تاريخ الشّحر وأخبار القرن العاشر

محمّد بن عمر الطيّب بافقيه

تاريخ الشّحر وأخبار القرن العاشر

المؤلف:

محمّد بن عمر الطيّب بافقيه


المحقق: عبد الله محمّد الحبشي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

الطرابلسي (١) المولد المكي نزيل مكة ، ويعرف هناك كسلفه بالحطاب (٢) ، ويتميز عنه شقيق له أكبر منه أسمه محمد أيضا بالرّعيني وذلك بالحطاب وإن اشتركا في ذلك لكن للتّمييز ، ويعرف في مكة بالطرابلسى ، ولد وقت صلاة الجمعة من العشر الأخيرة من صفر سنة إحدى وستين وثمانمائة بطرابلس ونشأ بها فحفظ القرآن والجزرية في الرّسم والضّبط ثم الرسالة ، وتفقه فيها يسيرا ، وسمع من الحافظ السّخاوي وجلس في الإقراء للفقه والعربية وغيرهما قال الشيخ جار الله بن فهد : وقد فتح عليه آخر عمره ، وصار من المعتمدين في الفقه والدين ، وبلغ من العمر تسعين سنة إلّا عاما وانقطع بمنزله عدة سنين ، وهو يدرس فيه واعتقده الناس من الآفاق رحمه‌الله تعالى ونفع به ، انتهى ملخصا من ترجمته من تاريخ سيدنا عبد القادر العيدروس.

وفيها في شهر شوّال : منها غلت الأسعار بالشّحر ، حتى أنه لم يوجد شيء من المأكول إلا السّمك.

وفي شوال منها : بنى آل عبد العزيز الخائف حصن بين هينن وحذية بناه خميس بن بدر ، ودخل معه عبد الله بن عمر بن عامر وأصحابه.

وفي آخر شوال : وصل عبد الله المذكور إلى السلطان وتبرأ من الخائف (٣) وبقي خميس وعكسوا على الناس وجبوهم وتولد منه ضرر عظيم.

وفي شهر رمضان منها : اصطادوا صيادين من أهل الشحر في البحر حوتا كبيرا وجّرهم الحوت وسنبوقهم إلى البحر ، فغابوا نحو شهر زمان وبعد شهر جدحوا (٤) على ساحل البحر ميتين في سنبوقهم مدرجين في

__________________

(١) الأصل : الطرانيسى.

(٢) في الأصل والنور السافر : الخطاب بالخاء المعجمه صوابه بالحاء المهمله أنظر ترجمته في الأعلام ٧ : ٥٨.

(٣) العدة ١ : ١٩٤ «الخانق».

(٤) من عبارات أهل السفن وهي بمعنى وصلوا إلى البر.

٣٠١

شراع السنبوق ، وهم ثلاثة جماعة ولا عاد في السنبوق شيء من العدة وهذا شيء عجيب رحمهم‌الله.

وفي شهر رمضان : عزل القاضي سالم بن محمد بامعيبد عن إمامة الجامع ، وأعطيت للفقيه عبد الله بن عباد.

وفي شهر رمضان : توفي الشيخ الأجل الفقيه العلامة صديق بن عبد الله باحميد ، رحمه‌الله.

وفيها بجمادى الأولى : توفيا الفقيهان الفقيه أبو بكر بن طرش ، والفقيه علي بامليك رحمهما‌الله.

وفيها ليلة التاسع وهي ليلة الحج من شهر ذي الحجة : توصّل الأمير الشريف عبد الله بن أحمد بن محمد بن الحسين البهال من زبيد من عند الباشه مصطفى النشار ، وحصل له من السلطان غاية التّبجيل والتكريم والتّعظيم ، وفيها رجع إلى زبيد وتوفي بزبيد بعد مدة يسيرة رحمه‌الله تعالى.

٣٠٢

سنة إحدى وخمسين

فيها : اصطلح الشيخ عثمان العمودي والسلطان بدر صلحا أكيدا وضمن به على نفسه جماعه من بني عمه آل كثير.

وفيها في شهر المحرم : اختلف أهل المسفلة على صاحب اللّسك عمر بن عبد الرحمن بن جسّار ، وصاحب العجز ابن الأشرف ، وقتل ولد عمر بن عبد الرحمن تحت العجز ، وعمر بن عبد الرحمن مصاب وبعد أيام توفي عمر بن عبد الرحمن باللّسك ، وانتقض صلحهم والسّلطان ، وكان ذلك في جمادى الأولى ، والسّلطان بالشحر ، وهناك الأمير أحمد وعلي بن عمر فصالوا على المسفلة وساعدهم ابن الأشرف فدقوا مشطة والصّبرات وأخذت عنوة ، وقتل فيها من أهلها جماعة ، وقتل من عسكر السلطان جماعة من الرماة من أشهرهم راجح الخولاني كان نقيبا في تريس وهاشوها الجميع وجعلوا أربعين راميا فيها ومنعوها ، ثم ساروا إلى تريم وبنوا على مشطه بنيانا يضرّها وكاتبوا أهل اللسك عبد الله بن يمين أن يحرب الساحل هو والأحموم ، وكان الأحموم قبل ذلك بينهم والسّلطان مواعدة وحلف وأرسل منهم جماعة ياتونه بجمال على أنه عازم إلى حضرموت فارتابوا وحثهم ابن يمين على الخلاف والنكث بالحلف فخالفوا وغاروا آخر يوم الثلاثا الثالث عشر من جمادى الأخرى من هذه السّنة ، ثم أن السلطان أمر بتعطيل حروث جميع نواحي الشحر وغياظها حتى لا ينتفعون (١) البادية منها

__________________

(١) كذا وقد سبق التنبيه على مثل هذا.

٣٠٣

بشيء ودخل أهلها الشحر.

وفيها : غلت الأسعار بالشّحر وعدن وتعطلت جميع المسالك في هذا الشهر من حرب الأحموم.

وفي تاسع وعشرين الحرام : أمر السلطان بدر بإخراج المهرة بيت محمد طواف وعيسى بن سليمان وأحمد بن علي بن خطران وسعد بن سليمان من البلاد ، فساروا تلك الليلة إلّا أن سعد بن أحمد رجع وجلس في البلاد.

وفي يوم الخميس الثالث والعشرون من المحرم : كان بناء حصن روكب بقوامة عظيمة تخوفا من سيبان.

وفيها في أول شهر رمضان : رضي السلطان على بيت محمد ، وثاني الشهر رجع أحمد بن علي خطران وجماعة.

وفي (١) يوم السّبت ثامن شهر ربيع الأول : توفي الفقيه العالم العلامة الفروعي جمال الدين محمد بن عمر باقضام أبو مخرمة ، ونسبه يجتمع مع الفقيه عبد الله بن أحمد بامخرمة في الأب السادس ، ولد ببلدة الهجرين ، ونشأ بها ثم ارتحل إلى عدن لطلب العلم ، وأخذ عن أماميها الفقيه عبد الله بن أحمد بامخرمة ، والفقيه محمد بن أحمد بافضل ، ثم ارتحل إلى زبيد ، وأخذ عن علمائها ورجع إلى عدن ولازم الفقيه عبد الله بامخرمة وولده الفقيه أحمد ، وانتفع بهما وتخّرج عليهما ، ولما أن وصل العلامة محمد بن حسين القماط قاضيا على عدن ، ثم بعده العلامة أحمد بن عمر المزجد قاضيا أيضا لازم كلّا منهما ، ولم يزل مجدا مجتهدا حتى فاق أقرانه في الفقه ، وصار في عدن بعد موت الإمامين عبد الله بن أحمد [بامخرمة](٢) ومحمد بن أحمد [فضل](٣) هو الإمام في الفقه المشار إليه

__________________

(١) النور السافر : ٢١٤.

(٢) زيادة من النور السافر.

(٣) كسابقه.

٣٠٤

والعالم المعول عليه واحتاج الناس إلى علمه وقصدوه بالفتاوى من النّواحي البعيدة رحمه‌الله تعالى لكنه قد يتساهل في الفتاوى ، ويترك المراجعة لا سيّما في أواخر عمره ، فاختلفت أجوبته وتناقضت فتاواه ، وكان ذلك مما عيب عليه والله أعلم.

وفيها (١) توفي الشيخ الصالح شهاب الدين أحمد بن علي الحلبي تلميذ سيدنا الشيخ أبو بكر بن عبد الله العيدروس وأخذ عنه وتخرج به واختصّ بنظره ، وكان مكث في ملازمته نحو من عشرين سنة ، ثم أمره بالدخول إلى الهند والإقامة بها فدخلها ، وأخذ عنه جماعة كثيرون ، وانتفع به خلائق لا تحصى ، وكان قبل دخوله في هذه الطريق من أعيان التجار فآثر زيّ الفقراء ، وترك ما كان عليه من أسباب التجارة ، وكان حسن الخط حكي أنه كان بمكة وكان يتعانى تعلم الخط فلقيه رجل بالمسعى ، وقال له : إذهب فقد أعطيناك الخط [والحظ] ، قال : فلما لقيت الشيخ أبا بكر وتلمذت له ، قال لي : تذكر ما قال ذلك الشخص وتدري من هو وما عنى بذلك ، فالرجل أبو العباس الخضر وما أشار إليه من الحظ فهو نحن نفع الله به.

وفيها يوم الأربعاء والعشرين من شهر رجب : توصلوا أربعة غربان أروام فيها نحو مائة رجع منها واحد إلى عدن وبقوا ثلاثة ، والسلطان بدر بريدة المشقاص لأنه سار يوم الأحد ضحى والأروام توصلوا يوم الأربعاء وما سار حتى علم بهم في المكلا واستقوا واستخلصوا المجيمر (٢) بالمكلا ، ثم مروا بالشحر وإلى المشقاص فدخلوا حيريج ، ووقع بينهم وبين أهل حيريج محاربة وكان فيها ربعين بن عفرار وعبود بن خردان ، ثم صروا إلى قشن وطلبوا منهم قطعة مثل صاحب الشحر فامتنعوا فأحربوه وضاربوه ، وذلك بعد تقدم الهدية والسّقاء فلما خالفوا عليه رجع إلى جهة

__________________

(١) النور السافر : ٢١٤.

(٢) كذا وفي العدة «الحيمر». ولعله موضع بالمكلا.

٣٠٥

خلفات (١) ورجع إلى قشن ، وقبض عبود بن خردان ، وأحمد بن علي بن حقيبة المحمدي وجدهم في سنبوق حوالى سيفة (٢) عتاب قبضهم وقيدهم ، وقبضوا طرادا فيه حريم لآل كثير يريد ظفار ، ومعهم خط من السلطان بدر ، فلما وقفوا على الخط تركوهم وعلم السلطان بقبض المهرة فأرسل إليهم عبده يوسف التركي على أنهم يفكوهم.

وفي يوم الخميس خامس وعشرين من رمضان : توصلوا الثلاثة الغربان من المشقاص إلى الشحر واجتمعوا بالسّلطان بدر ، ثم عزموا إلى المشقاص ثاني عيد الفطر فلحقوا طرادا لمحمد بن عبد الله بن عفرار صاحب سقطرى فيه جماعة أسروهم ، وبعضهم أطلقوهم ، ووجدوا برشه إفرنجي فيها بعض حمل وفيها ثمانية إفرنج فجحبوا (٣) البرشة إلى الساحل فقتلوا واحدا من الإفرنج وأسروا واحدا قلت : وأظنها ساقطه من بعض بنادر الإفرنج.

وفيها : وقع خلاف في برّ سعد الدين وقتل العباس بن الإمام أحمد المجاهد قتله الحطى وجماعة من الماخضه وأخذوا دواروا (٤) ، وبعد أن عثمان جهّز خلف الحطى إلى دواروا فأخذها وهزم جماعة الكفرة وأخذ بثأر العباس وأصحابه.

وفيها : توفي الشيخ اللبيب الأديب الشاعر الفطن جمال الدين محمد بن أحمد باوزير البيتي ، نسبة إلى مكان من أعمال غيل باوزير في شهر ربيع الثاني ، وله شعر غالبه جيّد ، وكان بينه وبين الفقيه عبد الله بن عمر بامخرمة صحبه أكيدة ومكاتبات لما أقام الفقيه بعدن ، فمن شعره قصيدة يمدح بها الفقيه عبد الله أرسلها إلى عدن أولها :

__________________

(١) في العدة : خلفائه. وفي معجم بلدان حضرموت «خلفوت».

(٢) كذا وفي العدة «سيف».

(٣) أي وصلوا بها إلى الساحل.

(٤) دواروا : بلدة من الصومال أنظرها في فتوح الحبشة : ٨ ..

٣٠٦

خانت يد الدهر يا عليا ولم أخن

وكان في الكون تكوينا ولم أكن

كأنه قد قضى الرحمن فرقتنا

كما يفرق بين الروح والبدن

لم أرتض شطنكم لكن بغير رضى

مني وأي محب يرضى بالشطن

أقوت ديارك يا عليا فبت أسى

أبكي بها وحمام الأيك تسعدني

ومن مديحها :

باجيرة بربى سمعون معذرة

الجسم عندكم والروح في عدن

طابت محلا بمحيي العلم ناشره

مؤسس الحلم والآداب والسنن

فتى يبرز للفتوى وأي فتى

له فتوة أهل الشام واليمن

ومنها وهو في آخرها :

من لي بفتح خفيات مكتمة

منهن سرا وباقيهن في العلن

يعّز إدراكها من غيره وله

تأتي على رسنها طوعا بلى رسن

فلما وصلت إلى الفقيه بعدن جوب عليها بقصيده أولها :

أهلا بشعر كدر في النظام سني

ما ان له وأبيك الدهر من ثمن

حكى الفصاحة في ألفاظه وغدا

من البراعة في أعلى ذرا القنن

من كل معنى عجيب مطرب عجب

صعب المرام على الأذهان والفطن

وفي تغزله لله ناظمه

ذوق برقته قد كاد يسكرني

وكدت أسمع من أطرابه نغما

كأنما ناطقات العود في أذني

من سيّد من بني السادات أفضلهم

أعنى الجمال حباه الله بالمنن

وافى فهيج لي شوقا أكتّمه

وزاد تذكاره شجوا على شجن

وذكّر الصب شجوا ما نسيه وهل

ينسى الفتى صحبة الأخيار والوطن

يا نازحين رعى الرحمن ودّكم

وقصر الله طول البعد والشطن

الروح عندكم ما أن تفارقكم

وإنما الجسم فرد حل في عدن

والدّهر من طبعه الأضداد فهو إذا

ما سر أبدله في الحال بالحزن

وإن يجمع أحباب يفرقهم

وإن يؤلف أغرى القوم بالفتن

٣٠٧

وغير مستغرب من أمر عادته

رفع النذول ووضع الفاضل الحسن

وكيف لا وأمور الطبع غالبة

وأمر دهرك مبني على دخن

أنظر إلى قول قوم قد مضوا سلفا

في أحسن الأعصر الغراء والدّمن

أتى الزمان بنوهم في شبيبته

فسّرهم وأتينا الدّهر حين فني

غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت

مسافة الخلف بين الفعل واللسّن

وشان صدقك عند الناس كذبهم

فهل يطابق ذو عدل بمفتتن

يا دهر زد إن (١) تشا ضري معاندة

فلست أرجع عن طبعي وعن سنني

ولو أردت أرى فوق النجوم علا

ما فاتني ذاك في شام ولا يمن

وكنت أسحب ذيل التيه منتصبا

فوق السما وأقود الدهر بالرسن

لكنني لست ممن يلهه طمع

يذله أو يبيع الدين بالثمن

إني أقاتل أهل التيه إن نظروا

بالتيه مني وأهل الوهن بالوهن

ولا أرى الذّل لي خذنا وإن بعدت

بي النوى عن الأوطان والسكن

__________________

(١) تشا من كلام أهل اليمن «معروف».

٣٠٨

سنة اثنتين وخمسين

في ربيع (١) الأول الرّابع عشر منه : توفي الشيخ الكبير العارف بالله الأستاذ قطب الوجود أبو الحسن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عوض بن عبد الخالق بن عبد المنعم بن يحيى بن يعقوب بن نجم الدين بن عيسى بن داؤد بن نوح بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديقي الشافعي الأشعري المصري رحمه‌الله ، وأم جده الأعلى أحمد بن محمد فاطمة بنت السيد الشريف تاج الدين القرشي بن عبد الملك بن يزحم بن سليمان بن حسان بن محمد بن علي بن الحسين بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ، وكان من أكابر أهل العلم بل قيل أنه كان مجتهد زمانه والمجدّد على رأس المائة التاسعة ، وكان أحق النّاس بالقضاء ، وقد عرض عليه فامتنع منه فولى (٢) تفا المجمع على أنه فريد عصره علما وولاية وحالا وأفصح أهل زمانه قلما ومقالا ، وأعظمهم سؤددا وجلالا ورفعة وكمالا ، عالم المسلمين دون نزاع وشيح مشايخ الإسلام الذي انقطعت عن مضاهاته الأطماع وانتشرت مصنفاته كالآخذين عنه إلى سائر البقاع ، واشتهرت كراماته ومكاشفاته حتى روتها الألسن وأوعتها الأسماع ، خاتمة المحققين ولسان المتكلميّن حجة

__________________

(١) النور السافر : ٣٦٩. وانظر ترجمته في : شذرات الذهب ٨ : ٢٩٢ وجامع كرامات الأولياء للنبهاني ١ : ١٨١ والأعلام : ٧ : ٥٧.

(٢) كذا وفي النور : قولا باتا.

٣٠٩

المناظرين بقية السّلف الصالحين ، وكان شيخ الطريقة وأحفظ من على وجه الأرض بالحقيقة ، وأفصح أهل زمانه على الإطلاق وأعظمهم نورانية (١) بالاتفاق ، أعماله أغلبها قلبية ، وعلومه أكثرها وهبية ، لا يتكلّم في المحبة إلّا رأيته ذا شوق شديد ، ولا يذكر بالله إلّا ألان قلوبا في القساوة كالحديد ، تخال من حضر مجلسه من القوم بسماع كلامه سكارى ، وقلوبهم في شهود جماله عند تنزل التجليّات عليه والهة حيارى ، لا يرتاب ناظره مع سماع كلامه أنه من أرباب القلوب ، وأن المتنزل عليه من العلم اللدني قريب عهد برّبه بارز من حضرة علّام الغيوب ، كيف لا وقد تربى في حجر الجلال وارتضع من ثدي الكمال ، واتصل نسبه بالذروة الصّديقية والشجرة المحمدية الحسنية ، ولعمري أن الناظر إليه إذ ذاك يشهد طلعته عند ذلك نورا محضا بل ذاته وملابسه كلها كذلك ، وذلك من أثر التجليّات الإلهية عليه ، وكان مع ما هو عليه من الإشتغال بالتّصنيف والإفتاء لا يزال يتكّلم على طريق الإملاء ، وكان يجلس بالمسجد الحرام ، وبالمسجد النّبوي ، وفي المسجد الأقصى ، وفي الجامع الأزهر بمصر ، وناهيك بهذه المواضع التي كان يجلس فيها ، وكان نفع الله به كأنما يغترف من بحر.

وحكى : أنه كان لا يملي القرآن والحديث حتى يطالع المحل الذي يتكلّم عليه كعادة غيره ، قال : فبينما أنا أطالع في الكراس ، وأنا قاصد إلى الجامع إذ نوديت في سّري : يا أبا الحسن أما القرآن والحديث فإلينا وأما غيره فإليك ، فمن ذلك العهد إلى تاريخه ما طلعت لاملاء (٢) عليهما فلي على ذلك تسع وثلاثين سنة ، أو قال بضع وعشرين وإنما أجي إلى محل الإلقاء ، ولا أدري ما يلقى على لساني ، فيجري الله تعالى عليه نحو ما يسمعونه ، وله تصانيف كثيرة لا تحصى من جملتها : تفسير القرآن العظيم ، وإسمه تسهيل السبيل في فهم معاني التنزيل ، وشرح العباب الفقهي

__________________

(١) في الأصل نورية وأصلحناه من النور السافر.

(٢) الأصل : الأملي.

٣١٠

بشرحين مبسوط ومختصر ، وشرح روض ابن المقري في حجم نصف شرح شيخه زكريا وزاد فيه على شيخه اثنى عشر ألف فرع على كل فرع منها علامة على الحاشية بصورة «ف» وشرح منهاج النووي بخمسة شروح منها الكنز (١) والمغنى والمطلب ، وشرح البهجة الوردية في النحو ، إلى غير ذلك من المؤلفات الجامعة النافعة الدّالة على كمال إحاطته وعلو شأنه نفعنا الله ببركاته آمين ، ويقال إن مؤلفاته تنيف على أربعمائة تأليف ، وما أحسن قوله نفع الله به في كتابه نتائج الذكر في حقائق الفكر في أثناء كلام له : ألا ترى الحداد إذا أدخل حديدة ليحميها في النار لانت بعد أن كانت قاسية وبرزت محمرة اللّون بعد أن كانت سوداء مظلمة وأضاء نورها وقوي إشراقها وانقدح شرارها فالاستغراق في المذكور بالتخلي عن السوى والتجلي بشهود نعوت ذي الجلال مستغرقا فيها تذهب أوصاف البشرية ما يكسبه الذاكر من أنوار المعارف القدسية ، فيتبدل وصفه ويتغير جلاه ، وتشرق أنوار علاه ، فهناك تذهب الرّسوم ويتجلّى الحي القيوم ، وإلى ذلك الإشارة [أشرت] بقولي :

أنوار ذاتك أشرقت في ذاتي

فمحيت عن كوني وكل صفاتي

وخرجت عن كل الوجود حقيقة

فجمال وجهك فائق اللذات

انتهى ، ومن شعره أيضا :

قد كان لي أرب قبل الوصول بكم

فمذ تجليتم صرنا بلا أرب

أدهشتموني عن الإحساس قاطبة

فصرت فردا لكم في سائر الرتب

وهو الذي أفتى بحليّة القهوة حتى قال في ذلك :

[يا فهوة تذهب همّ الفتى

أنت لحاوي العلم نعم المراد

شراب أهل الله فيها الشفا

لطالب الحكمة بين العباد

فطبخها قشرا فتأتي لنا

في نكهة المسك ولون الزباد

__________________

(١) هنا سقطت نحو كراسة من (ح).

٣١١

ما عرف الله سوى عاقل

يشرب في وسط الزبادي زباد

حرمها الله على جاهل

يقول في تحريمها بالعناد

فيها لنا بر وفي حانها

صحبة أبناء الكرام الجياد](١)

كاللبن الخالص في حله

ما خرجت عنه بغير السواد

[وقال أيضا :

يقولون قوم قهوة البن حرمت

مقالة معلوم المقال فقيه

لعمرك لو نيطت بأدنى كراهة

لما شربت في مجلس أنا فيه](٢)

وله أيضا في القهوة :

أقول لمن قد ضاق بالهم صدره

وأصبح من كثر التّشاغل في فكر

عليك بشرب الصالحين فإنه

شراب طهور سامي الذكر والقدر

فمطبوخ قشر البن قد شاع ذكره

عليك به تنجو من الهم في الصدر

وخل بن عبد الحق يفتي برأيه

وخذها بفتوى من أبي الحسن البكري

وكان مولده سنة تسع وتسعين وثمانمائة رحمه‌الله ونفعنا به آمين ، لخصت ترجمته من تاريخ السيد عبد القادر رحمه‌الله ، ذكرها استطرادا في ترجمة ابنه الشيخ محمد بن أبي الحسن المتوفي في عام ثلاث وتسعين ، ولما وقفت على تاريخه جعلتها ترجمة مستقلة من هذه السنة المتوفى فيها.

وفيها (٣) يوم السبت وعشرين ذي القعدة : توفي الفقيه الصالح شجاع الدين عمر بن عبد الله بن أحمد بامخرمة رحمه‌الله ودفن بمقبرة سيؤون في بلاد حضرموت قريب من قبر السلطان بدر بن عبد الله الكثيري رحمه‌الله ، وكان مولده ليلة الثلاثاء وقت المغرب ثالث عشر رمضان سنة أربع وثمانين

__________________

(١) ساقط من النور السافر.

(٢) ساقط من النور السافر.

(٣) الدر الفاخر في أعيان القرن العاشر لمحمد بن عبد الرحمن سراج باجمال (خ).

السناء الباهر : ٥٠٢.

٣١٢

وثمانمائة ، وكان من أهل الأحوال والحقائق والأسرار والدقائق ، وكان له كرامات خارقه ومنامات صادقة ، وكان مخرّقا في الظاهر معمور الأسرار ومعمور السرائر ، اشتغل بطلب العلم الظاهر على والده واجتهد في العبادة والتقشف وأخذ الطّريقة عن الشيخ العارف بالله تعالى الشيخ عبد الرحمن بن عمر باهرمز نفع الله به ، قال رحمه‌الله : وقفت بين يدي شيخي وسيدي عبد الرحمن بن عمر باهرمز عشية الاثنين ثاني رجب وقال لي : قد حكمتك وأنا شيخك فيها وفي علوم لم يطلع عليها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وأنت نائب عني بل أنت أنا ، قلت أن لي وردا من أول آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم وهو ألف كل يوم ، قال : ابق عليه وإن زدت منه فهو خير لك وأبشر فإنهم معطينك أكثر مما توهم ما غير ما يجيئك إلا في العرض من غير ما تأمله ، قال : وكان كثيرا ما يأمرني بالتّلبس بأفعال العامة ، ويدلني على الظهور بما لا ينسب فاعله إلى طريقة القوم نفع الله به ، قال : واستأذنت شيخي في دخول الأربعينية فقال لي أربعينيتك أن تحفظ لسانك وعينك وأذنك من المحّرمات أربعين يوما ، وأما الأربعينية المعروفة فلا تدخلها انتهى.

قال الفقيه عبد الله باسنجلة : أخبرني الشيخ عبد الله بن محمد بن عمر عباد قال : اجتمعت بالفقيه عمر بامخرمة عند الشيخ محمد عباد وحصلت مذاكرة بينهم في علم التّصوف ، وكان ذلك اليوم رابع شهر شوال سنة اثنتين وخمسين فقال الفقيه عمر بامخرمة :

أعط المعية حقها

وألزم له حسن الأدب

واعلم بأنك عبده

في كل حال وهو رب

وأشار إلى بعض الحاضرين ، وقال : أتعرف معنى هذين البيتين فقال : لا ، فقال : أنتم تضحكون على التصوف ، ثم قال رضي‌الله‌عنه : أما المعية فهي الإجلال والتعظيم وعلم التصوف في هذين البيتين ، قال : ولم يعش الفقيه بعد هذا الكلام إلّا ستة وأربعين يوما ، وتوفي رحمه‌الله تعالى ،

٣١٣

ونظمه كثير جدّا وهو مشتمل على كثير من إشارات الصوفية واصطلاحاتهم ومسائلهم الدقيقة وعليه حلاوة وفيه طلاوة ، على غناء أهل الجهة وأصواتهم ومواخذهم ، ويقال له عندهم الدّان ، ومن أكثر شعره من ذلك يحتوي على مجلّدات ، ولهذا يحفظه أهل تلك الجهة كثيرا ويتمثلون به ، وهو سلس الألفاظ قريب المعاني يفهمه كل أحد بحسب حاله في المحبة المجازية ونحو ذلك ، وهو مع ذلك مشتمل على كثير من الأمثال المتداولة بينهم ، ولا بد أن نأتي ببعض من شعره في آخر الترجمة ، وله مصنفات ووصايا ورسائل ، منها مصنفه سّماها «أنوار مضمون ورد الوارد القدسي في كشف مكنون آية الكرسي» وفي أسماء الله الحسنى مع إيجاز واختصار عجيب ، وجدتها بخط الفقيه الصالح المعلم عبد الرحمن بن عبد الله باغران الشحري.

ونقلت من خطه أيضا هذه الرسالة قال في آخرها : علّقها سيدنا وشيخنا وبركتنا الفقيه الصالح العلامة شجاع الدين عمر بن عبد الله بن أحمد بامخرمة كان الله له ، قبيل ظهر يوم السبت ثاني شهر ذي الحجة سنة تسع عشرة وتسعمائة من الهجرة على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام على سيدنا محمد أفضل المخلوقين وعلى آله وصحبه أجمعين وما توفيقي إلّا بالله عليه توّكلت وإليه أنيب : أعلم وفّر الله تعالى نصيبك وإياي ، من رحمته العندية وعلمه اللدنّي إن الطريق إلى الله أشرف الطرق والسّالك إليها أفضل السالكين المقاصد وفائدته أعظم الفوائد إذ كل علم له أجر وجزاء بحسب مقصده ونيّته (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(١) ومن كان في الله تلفه كان الله خلفه ، ففرق يا ولدي بين الثّلاث المراتب ، ويبن الثلاثة المريدين واستعن بالله واضرع إليه في أن تكون الثالث ، فإذا وصلت إلى مسام همتك نسيم المحبة الأزلية على متن رياح العناية الامتنانية ريا عطر أنس القرب الجذبي

__________________

(١) الآية ١٤٥ سورة آل عمران.

٣١٤

والاتصال الوهبي والاتحاد الحسبي فاشكر الله عزوجل وانطرح على باب إحسانه ، فإن نسيت حوت الإرادة النفسية عند صخرة التبّري من الحول والقوة ، ورجعت على سبيل الافتقار الحقيقي ، وجدت خضر التوفيق عند مجمع بحري مجانبة الدّعوى وتلقى «أنا عند حسن ظن عبدي بي» (١) بالتّصديق الجازم ، فيكشف عن قلبك حينئذ غلاف الأحسه (٢) وتنظر أهل الخصوصية نظر الارتياب فيه أجسامهم بين أهل الأرض تسعى ، وقلوبهم في غياض الملكوت ترعى ، فيأتيك جبريل سعادتك في غار حرا قباب عزة الولاية ، فتلقى إليك من وحي شرائع عبادات أهل التوحيد ومعاملات أهل التجريد ومناكحات محصنات التفريد ، ما يغنيك من عقوبات خيانات أيدي الشرك الخفي ، فإن كانت حوصلتك تحتمل الأغذية الثقيله من أطعمة الحقيقة ، أعطاك من ذلك ما رآك أهلا ، وإن كنت ضعيف المعدة واهي الطّبيعة غذّاك بلطائف الحقيقة في ظروف الطّريقة ، فلا تعد خطه المستقيم ولا تطلب منه غير ما مّد اليك فتستوجب العذاب الأليم ، ويحجبك قلّ أدبك عن نيل ثمرة الوصل الكريم ، في رياض روضات رب الفضل العظيم ، وعليك في غالب أحوالك بالتخلق بأخلاق الخاصة والتّزيي بزيّ العامة ، فإن الرجل من لا يقص له أثر ولا يقدر غير دليله أن يأتي للقوم من نار شجرة حاله بشي من الخبر ، واجعل قوتك تكرير هذه الكلمة الجليلة التي قيلت لسيدنا عبد القادر الجيلاني رضي‌الله‌عنه : ثبت قدميك بين أيدينا ، ولا ترى في الوجود تصريفا لسوانا ، يدم لك شهودنا ، واجعل شرابك بعد أكل هذا الطّعام تدبّر معناها واطراق عين النفس باصبع الوحدة عن رؤية الاثنينية يطيب لك العيش في جنات بنعيم المشاهدة ، ويقبل عليك أفراد الوجود حين تسعى زائد همتك بأنواع المساعدة ، والحذر كل الحذر من مجالسة من يجلو على عينك محاسن زينة الحياة الدنيا ومتابعة (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ الذهبي في مختصر العلو : ٩٤.

(٢) كذا ولعله الأحجبة.

٣١٥

فُرُطاً)(١) وإياك ثم إياك أن تنظر أو تسمع إلى ما يحرم نظره واستماعه معتمدا على ما تراه من فعل من شهر بالولاية ويشار إليه بالأصابع ، فإن أكثر من يفعل ذلك كاذب في دعواه ، متخذ إلهه هواه ، وللصادقين من أهل التخريق أحوال لا يضبطها القياس ، ولا يجوز أن يدعيها أحد من الناس ، يضحك أحدهم سنه مما تبكي منه عيون أولي الألباب ، وفي قلبه من ذلك ما لو فاحت رائحته على الجلد لذاب ، وبإجماع أهل الطريقة لا يجوز الاقتداء بمخرق ، ولو كان صادقا في حاله ، فهو غير كامل ، ولا يقتدى إلا بالكمل من أهل الوراثة النّبوية ، فالسلامة كل السلامة في لزوم الباب والتقيد عند شرب سلاف الأنس بأضيق الآداب ، والتمسك من التحليل والتحريم بأوثق الأسباب ، جعلنا الله وإياك ممن اتعظ ، قبل أن يعظ ، وعمل قبل أن يعلم ، ولا جعلنا ممن قال بغير حال ، ودل على عوالي المناصب قبل أن ينال ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين.

وذكر الفقيه محمد بن عبد الرحيم الجابري ومن خطه نقلت قال : ذكر الفقيه عمر بن عبد الله بامخرمة في بعض وصاياه وسمى ذلك «المطلب اليسير من السالك الفقير» : ثم الذي لا بد منه في الأوراد أن يلازم دعا الصباح والمساء الوارد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن عجز فلا بد أن يقول في كل صباح ومساء : بسم الله الذي لا يضّر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات ، ثم يقول أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاث مرّات ، ثم حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم «تسع مرات» إلى آخر كلامه رحمه‌الله ، ومن مرائيه الصّادقة رحمه‌الله قال : رأيت ليلة الأستاذ أبا القاسم القشيري رحمه‌الله ، وسألته عن بعض المشايخ المشهورين ، فأجابني بما يدل على نقص ذلك الشيخ ، ثم ناولني كتابه الرّساله ، وقال السر في هذا الكتاب ، أو قال : في

__________________

(١) الآية ٢٨ سورة الكهف.

٣١٦

كتابي هذا وسر هذا الكتاب في هذا السطر ووضع إصبعه على سطر فيه ترجمة بنان الجمال وقوله سئل بنان الجمال عن أجل أحوال الصوفية فقال (١) : الثقه بالمضمون واتباع الأمر (٢) ومراعات السّر والتخلي من الكونين ، فانتبهت والكتاب في يدي ، وله من الوصايا والمرائى العجيبة شيء كثير جمعتها في كراريس ورأيت الاختصار في هذا أولى ، ومن شعره :

إذا نظرت بديع الصنع في الصّور

وكنت في ذلك المنظور ذا بصر

فلا يكن لك تدبير هناك وقل

ما ثم شيء سوى التسليم للقدر

فالله يفعل ما شا في بريته

كما يشأ فاستعن بالله واصطبر

وقل أنا العبد لا حول لدي ولا

لي قوة في وجوه النفع والضرر

وناج مولاك في سر وفي علن

بلا التفات إلى روح ولا بشر

فإن أتوك فقل أما إليك فلا

فيا لها كم لها بالصدق من أثر

فما سواه إليه فهو مفتقر

وإن علا شأنه أو كان ذو خطر

وإنما قام بالأمر العلي وما

له به من وجود عن سواه بري

فهذه هذه قف وانزلنّ بها

وحط رحلك هذا منتهى السفر

وها هنا في جهات الست بقي بقا

هو كل هو نالى هو بالبقا أشر

وقال رضي‌الله‌عنه :

أدار علينا كاس من لطفه الخفي

وقام يصافينا بذاك ويصطفي

وقال خذوها وأشربوها هنية

فإن لكم فيها الذي تطلبون في

فقلنا له لبيك سمعا وطاعة

وبات بها يبدوا علينا ويختفى

ويمزجها حينا وحينا يديرها

براحته صرفا بحسن تصرف

ويفرحنا طورا وطورا يريحنا

بنغمة داؤد وطلعة يوسف

فلما شربناها ودب دبيبها

إلى موضع الأسرار قلت لها تفي

__________________

(١) أنظر الرسالة القشيرية : ٢٤.

(٢) الرسالة «والقيام بالأمر».

٣١٧

فما فتحت للسر بابا ولا رقت

حجابا ولا حلت له رمز أحرف

فيا لك من روع شذاها لنا غنا

ويا لك من ساق حنون بنا حفي

ومن حضرة عنديه قادرية

ينادم فيها بالصفا الصوفي الصفي

فلا تك إلا في حماها وتحت ما

سماها فمن سامى بها واكتفى كفى

وقال مضمنا للبيتين الأخيرين :

يا عاذلي دعني فما

سمعي يعي قول الوشاة

إني شربت فطاب لي

ما طاب من عين الحياة

لي سادة من عزهم

أقدامهم فوق الجباه

إن لم أكن منهم فلي

في حبهم عز وجاه

وقال مضمنا لآخر بيت من هذه الأبيات :

خليلي حطّا بالمطايا هنا فما

لذي حاجة عما وصلناه مذهب

فهذا عذيب الما لمن يشتكي الظما

وذا المطلب الأقصى فلم يبق مطلب

أما زينب في خدرها قد بدت أما

نزلنا على ماها فيا قومنا اشربوا

فمأكل دار أقفرت دارة الحما

ولا كل بيضاء الترائب زينب

وقال رحمه‌الله لبعضهم هذا البيت :

وقفنا وسلمنا على المنزل الذي

تحلّ به ليلى فأرخت ستورها

فذيلت عليه بهذه الأبيات :

فيا عجبا منا ومنها بدت لنا

فغابت بها عن شمس سلمى بدروها

وأعجب من ذا أن من نورها لها

حجابا ومن هذا خفاها ظهورها

فمن مبلغ مني إليها رسالة

بأقلامها أوحت إلي سطورها

فقد حرت فيها بل تحيرت عندما

تحير بها واستهترى في أمورها

وكنت أنا فيها ولكن بلا أنا

وكانت وما كانت فدر حول دورها

ترى عينها بالعين عينا لكل ما

تعانيه بالتعيين من نفخ صورها

٣١٨

وقل عند ذا سبحان من لم تحط به

عقول الورى في وردها وصدورها

ولم تدر ما كلا ولا كيف بل ولا

ترى أين جل الله مفنى دهورها

وله من هذا أشياء لا تحصى ، ورأيت بخط العالم العلامة الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن سراج باجمال في كتاب له سماه «مواهب الرؤوف في مناقب الشيخ معروف» (١) ذكر فيه من زاره وأثنى عليه من مشايخ عصره قال : ومنهم الشيخ العارف بالله الفقيه عمر بن عبد الله بامخرمة رحمه‌الله ونفع به كان له كرامات خارقة ومنامات صادقة ، منها أنه رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم يطيبه فأصبح في ثوبه وبدنه ظاهر اللّون والرائحة ، ورأى أن الشيخ القشيري صاحب الّرسالة نفع الله به ألبسه كوفية فأصبحت الكوفية على راسة ، وكان في بدايته كثير السلوك بالجدّ والإجتهاد ، قال : مشيت بساحل بحر الشّحر فالتقطت منه مما يرميه الصيادون من ردي الصّيد لأفطر عليه ، وعبرت على بئر في الطّريق وإذا بصوت منها يقول : وزعم أنه صوفي ويحمل إفطاره من النهار فرميته فيها ، ومضيت ، وكان سيدي الشيخ معروف يثني عليه ويقول : إن حاله أكبر من حال الشيخ عمر بن الفارض رحمه‌الله تعالى انتهى ، وطولّت في ترجمته كثيرا فلنختصر ، فهذا فيه كفاية وقليل من كثير رحمه‌الله تعالى ونفعنا به آمين وأعاد علينا من بركاته وبركات عباد الله الصالحين آمين.

وفيها (٢) : توفي الإمام العلامة أبو السعود المشهور قاضي السّلطان سليمان سلطان الروم ، وهو صاحب التفسير الجليل أتى فيه بأشياء غريبة ، وهو موجود بالروم (٣) ، وهو مفتي الرّوم في زمانه قال : ولماميه الانقشاري

__________________

(١) في مجلد مخطوط بحوزتي ، والترجمه في ملحق الكتاب المذكور المسمى «الدر الفاخر في أعيان القرن العاشر» مخطوط.

(٢) النور السافر : ٢١٤. وانظر ترجمته في شذرات الذهب ٨ : ٣٩٨ والعقد المنظوم في تراجم علماء الروم ٢ : ٢٨٢ ، وقد وهم صاحب النور السافر في وفاته صوابه سنة ٩٨٢ ه‍.

(٣) قلت : طبع عدة مرات.

٣١٩

في تاريخ وفاته :

أمسى بجوار ربه ذي الحلم

مفتي الإسلام بل سمّي الاسم

والعلم بكى مذ قيل في تاريخه

قد مات أبو السعود مولى العلم

هكذا نقلت هذه الترجمة من تاريخ السيد عبد القادر.

وفيها : جاء الخبر بوفاة السّلطان محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي الكثيري بصنعاء في شهر ربيع (١).

وفيها : تجهّز السلطان بدر لحرب المشقاص وقت العصر يوم الأربعاء العشرين من رمضان طريق البر ، فتقدم في نحو ست خيل إلى الريدة وتجهزت بعده العساكر أهل الخيل وجميع البادية وغيرهم ليلة الحادي والعشرين من رمضان بعد نصف الليل من أهل الكسر ووجوه آل عامر ، شيخهم ثابت بن علي بن فارس ، وأولاد حسان والشويع ، وجماعة نحو ست خيل ، وآل عقيل من آل عامر أيضا وشيخهم عقيل بن فارس بن عبد الله كذلك ، ومن آل شحبل أربعة عشر خيّالا ومن آل عبد الله نحو ست خيل ، وهولاء الذين توصل بهم الأمير عطيف من دوعن ووادي عمد ، وأهل الكسر ، المذكورين ثلاثة وستين خيالا ، والذين توصّلوا مع الأمير عمشوش من تريم والمسفلة ثلاثين خيّالا وخيل السلطان ، فالذي خرجت تلك الليلة نحو المائة خيّال ، وتجهيز البحر ثلاثة غربان وثلاث جلاب وثلاثة طراريد وعشرة سنابيق عدنية وثلاثين سنبوق وثلاثة سنابيق عبرية فيهن العدد والبنادق والثقلة والزّاد ، تجهّزت ليلة الخميس الثاني والعشرين من رمضان المذكور ، وبقية الخيل والحاشية والعسكر من الزّيدية ويافع وبني حبيش ، (٢) والبنادق ، سارت مع علي بن عمر والأمير أحمد ، والفقيه بحرق بعد صلاة الجمعة الثالث والعشرين من رمضان ، وكان تجهيزا عظيما لم يعهد مثله.

__________________

(١) كذا في الأصل والعدة ١ : ١٩٧.

(٢) العدة : بني حسن.

٣٢٠