أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

فرقّ له عثمان ، وقال له : قد وليتك العراق (١).

ونهج الوليد بن عقبة في الكوفة ، حياة خاصّة كلّها خلاعة ومجون ، والتفّ حوله من هو على شاكلته ، يقضون الليالي بشرب الخمور.

وقد زاره يوما" أبو زبيد الطائي" (٢) فأسكنه في دار عقيل بن أبي طالب" الّتي تقع في باب المسجد" ثمّ وهبه تلك الدار ، فكان أبو زبيد يخرج من منزله ويذهب إلى الوليد مارا بساحة المسجد ، فيسمر عنده ويشرب معه ، ثمّ يعود إلى منزله بنفس الطريق ، وهو سكران ، " فكان ذلك أول الطعن من أهل الكوفة على الوليد" (٣).

وعند ما ذهب الوليد بن عقبة إلى الكوفة (أميرا عليها) دخل على سعد بن أبي وقّاص وسلّم عليه بالأمرة ، وجلس معه ، فقال له سعد : ما سبب مجيئك؟ فقال الوليد : أحببت زيارتك. فقال سعد : وهل هناك من أخبار؟ قال الوليد : (... لكنّ القوم احتاجوا إلى عملهم ، فسرّحوني إليه ، وقد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة). فأطرق سعد رأسه مليا ثمّ قال : (والله ما أدري ، أصلحت بعدنا ، أمّ فسدنا بعدك؟!!)

وقيل إنّه قال : (ما أدري ، أحمقت بعدك ، أمّ كيّست بعدي) (٤). ثمّ قال (٥) :

خذيني فجرّيني ضباع وأبشري

بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره

وكان الخليفة عثمان بن عفّان قد نفى كعب بن ذي الحبكة عن الكوفة

__________________

(١) العراق : الكوفة.

(٢) أبو زبيد الطائي : نديم الوليد أيّام توليته الكوفة.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٣٥.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٨٢.

(٥) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٢٣ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٧ / ٢٢٨.

٨١

إلى الشام في منطقة (دبناوند) أيّام إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة ، فقال كعب للوليد (١) :

لعمري لئن طردتني ما إلى الّتي

طمعت بها من سقطتي لسبيل

رجوت رجوعي إلى ابن أروى ورجعتي

إلى الحقّ دهرا غال ذلك غول

وإنّ اغترابي في البلاد وجفوتي

وشتمي في ذات الإله قليل

وإنّ دعائي كلّ يوم وليلة

عليك بدبناوندكم لطويل

وعند ما عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة ، وجاء بعده سعيد بن العاص ، أرجع كعب بن ذي الحبكة إلى الكوفة وأحسن إليه (٢).

وخرج الوليد بن عقبة ذات يوم ليصلّي بالناس صلاة الفجر وهو سكران فصلّى بهم أربع ركعات ، ثمّ قال : أتريدون أن أزيدكم؟ فقال له أحد المصلّين خلفه : (ماذا تزيد؟ لا زادك الله من الخير ، والله لا أعجب إلّا من بعثك إلينا واليا ، وعلينا أميرا) (٣).

وقيل إنّ الوليد ، أطال في سجوده وقال أيضا (٤) :

علق القلب الربابا

بعد ما شابت وشابا

وقال عربيد (٥) الشعراء" الحطيئة" في عربيد الأمراء" الوليد" في هذه القصّة (٦) :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالعذر

نادى وقد تمّت صلاتهم

أأزيدكم" سكرا" وما يدري

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٢ / ٤٠٢.

(٢) المصدر السابق. ج ٢ / ٤٠٢.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٣٥.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٢٦ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٧ / ٢٣٠.

(٥) العربيد : ذكر الحيّة ، ظهره شديد السواد ، وبطنه أحمر.

(٦) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٢٥ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٧ / ٢٢٩.

٨٢

فأبوا أبا وهب ولو أذنوا

لقرنت بين الشفع والوتر

كفّوا عنانك إذ جريت ولو

تركوا عنانك لم تزل تجري

وقال الحطيئة أيضا :

تكلّم في الصلاة وزاد فيها

علانية وجاهر بالنفاق

ومجّ الخمر في سنن المصلّى

ونادى والجميع إلى افتراق

أزيدكم على أن تحمدوني

وما لكم ومالي من خلاق

ثمّ هجم عليه جماعة في المسجد ، وأخذوا خاتمه ، وذهبوا إلى الخليفة عثمان في المدينة وشهدوا عنده بأنّ الوليد قد شرب الخمر ، فقال لهم عثمان : (وما يدريكم أنّه شرب خمرا؟) فقالوا له : (هي الخمرة الّتي كنا نشربها في الجاهلية) ثمّ أعطوه خاتم الوليد ، فطردهم عثمان ، فذهبوا إلى الإمام عليّ عليه‌السلام وأخبروه بالقصّة ، فذهب إلى عثمان وقال له : (دفعت الشهود ، وأبطلت الحدود). فقال له عثمان : (وما هو رأيك؟) فقال الإمام عليّ عليه‌السلام : (أرى أن تحضر صاحبك ، فإن أقاموا الشهادة عليه بحضوره ولم يدفع بحجّة عن نفسه ، أقمت عليه الحدّ) ، ولمّا أحضر الوليد والشهود معا لم يتمكن الوليد من تكذيبهم ، عندها أقيم الحدّ على الوليد ، ثمّ عزله عثمان عن إمارة الكوفة ، وولّاها سعيد بن العاص ، كان ذلك سنة (٣٠) للهجرة (١) ، وقيل سنة (٢٩) (٢).

ولمّا عزل الوليد ، وجاء بعده سعيد بن العاص ، كانت الولائد قد أعلنت الحداد ويقلن (٣) :

يا ويلنا قد عزل الوليد

وجاءنا مجوعا سعيد

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٤٢.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ١٦٩.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٤٥.

٨٣

ينقص في الصاع ولا يزيد

فجوع الإماء والعبيد

وعند ما طعن (١) الخليفة عمر بن الخطاب طلب إحضار عليّا ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص ، ولمّا حضروا عنده ، خاطب عليّا وعثمان فقط ، ومما قاله لعثمان : (يا عثمان ، لعلّ هؤلاء القوم ، يعرفون صهرك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشرفك ، وسنّك ، فإن وليت هذا الأمر ، فاتقي الله ، ولا تحملنّ بني أبي معيط على رقاب الناس) (٢) ، وقيل إنّ عمر قال لعبد الله بن عبّاس : (إنّ عثمان إن ولّي الأمر حمل بني أبي معيط ، وبني أميّة على رقاب الناس ، وأعطاهم مال الله ، والله لإن فعل لتسيرنّ العرب إليه حتّى تقتله في بيته) (٣).

وقيل : بينما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي في الكعبة ، إذا أقبل عقبة بن أبي معيط" أبو الوليد" فوضع ثوبه في عنق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخنقه بشدة ، فأقبل أبو بكر فدفعه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

وقال الوليد بن أبي معيط لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : (أنا أحد منك سنانا ، وأبسط لسانا ، وأملأ للكتيبة طعانا) (٥). فقال له الإمام عليّ عليه‌السلام : (أسكت فإنّما أنت فاسق). فنزلت الآية الكريمة : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ)(٦) ، فقيل إنّ هذه الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب والوليد ، فالمؤمن هو عليّ ، والفاسق هو الوليد.

وقال قتادة : (لا والله ما استووا ، لا في الدنيا ، ولا عند الموت ، ولا في

__________________

(١) طعن : أي عند ما ضربه أبو لؤلؤة المجوسي بخنجره.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ٣٤١.

(٣) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٣٦.

(٤) صحيح البخاري. ج ٥ / ١٣٦.

(٥) ابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٤ / ٤١٥.

(٦) سورة السجدة ـ الآية ١٨.

٨٤

الآخرة) (١).

وعند ما كان الوليد بن أبي معيط بالروم" وهو أمير الجيش" فشرب الخمر ، وأراد المسلمون إقامة الحدّ عليه ، قال لهم حذيفة بن اليمان : (أتحدّون أميركم وقد دنوتم من عدوكم ، ويطمعون فيكم؟!).

وأما الوليد فقد قال (٢) :

لأشربنّ وإن كانت محرّمه

وأشربنّ على رغم أنف من زعما

وعند ما قتل الخليفة عثمان بن عفّان ، سمع الوليد يندبه ويقول (٣) :

بني هاشم ، إنّا وما كان بيننا

كصدع الصفاما يومض الدهر شاعبه

بني هاشم ، كيف الهوادة بيننا

وسيف ابن أروى عندكم وحرائبه

بني هاشم ، ردّوا سلاح ابن أختكم

ولا تنهبوه ، لا تحلّ مناهبه

غدرتم به كيما تكونوا مكانه

كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فأجابه الفضل بن العبّاس بن أبي لهب :

فلا تسألونا سيفكم ، إنّ سيفكم

أضيع وألقاه الروع صاحبه

سلوا أهل مصر عن سلاح ابن أختنا

فهم سلبوه سيفه وحرائبه

وكان ولي الأمر بعد محمّد

عليّ ، وفي كلّ المواطن صاحبه

عليّ ولي الله أظهر دينه

وأنت مع الأشقين فيما تحاربه

وأنت امرؤ من أهل صفواء (٤) نازح

فما لك فينا من حميم تعاتبه

وقد أنزل الرحمن أنّك فاسق

فما لك في الإسلام سهم تطالبه

وكان الوليد بن أبي معيط ، قد شارك في حرب صفّين مع معاوية بن

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن ـ الطبرسي. ج ٨ / ٣٣٢.

(٢) ابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٤ / ٢١٤.

(٣) الأصبهاني أبو الفرج ـ الأغاني. ج ٥ / ١٤٩ وباقر القرشيّ ـ حياة الإمام الحسن. ج ١ / ٣٤٣.

(٤) صفورية : وهي قرية في الأردن بين عكا واللجون ، ذكر أن أباه كان يهوديا منها.

٨٥

أبي سفيان ضدّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولمّا استولى أصحاب معاوية على شريعة النهر في بدء القتال ، منعوا أصحاب الإمام عليّ من الماء ، فأرسل الإمام عليه‌السلام صعصعة بن صوحان إلى معاوية ، وطلب منه أن يكفّ جيشه عن الشريعة ، فقال الوليد بن عقبة لمعاوية : (إمنعهم من الماء ، كما منعوه عن عثمان بن عفّان ، أقتلهم عطشا ، الكفرة ، الفسقة ، وشربة الخمور) (١).

وفي اليوم الخامس من حرب صفّين ، خرج عبد الله بن عبّاس للقتال ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثمّ اقترب عبد الله من الوليد بن عقبة ، فأخذ الوليد بسبّ وشتم بني عبد المطلب ، وقال : (يا ابن عبّاس ، قطعتم أرحامكم ، وقتلتم إمامكم ، فكيف رأيتم الله صنع بكم ، لم تعطوا ما طلبتم ، ولم تدركوا ما أملتم ، والله إن شاء مهلككم ، وناصر عليكم) (٢).

فطلب منه ابن عبّاس مبارزته ، فرفض وانصرف.

ولمّا قتل الإمام عليّ عليه‌السلام قال الوليد بن عقبة (٣) :

وكنّا إذا ما حيّة أعيت الرقى

وكان زعافا يقطر السمّ نابها

دسسنا لها تحت الظلام ابن ملجم

جريا إذا ما جاء نفسا حسابها

أبا حسن ذقتها على الرأس ضربة

بكفّ كريم بعد وقت ثوابها

أمات ابن عفّان فلم تبق دمنة

ونحن موالي غمرة لأنّها بها

فألقى على المصريّ ثوب ظلامة

كما سلخت شاة فطار انكعابها

وذهب الوليد بن عقبة (بعد عزله) إلى الكوفة زائرا للمغيرة بن شعبة في خلافة معاوية بن أبي سفيان ، فأتاه أشراف الكوفة يسلّمون عليه ، فقالوا له : (والله ما رأينا بعدك مثلك) فقال : خيرا ، أمّ شرا؟

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٥٧٢.

(٢) المصدر السابق. ج ٥ / ١٣.

(٣) التوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٨ / ٢٠٠.

٨٦

فقالوا : بل خيرا. فقال لهم : (بعض ما تثنون به فو الله إنّ بغضكم لتلف ، وإنّ حبّكم لصلف) (١).

مات الوليد بن عقبة سنة (٦١) للهجرة (٢) ، ومات أيضا (أبو زبيد) نديمه ، فدفنا في موضع واحد ، فقال أشجع السلمي ، وقد مرّ بقبريهما ، (وقبرهما قرب الرقّة) (٣). (٤) :

مررت على عظام أبي زبيد

وقد لاحت ببلقعة صلود

وكان له الوليد نديم صدق

فنادم قبره قبر الوليد

وما أدري بمن تبدأ المنايا

بأحمد أو بأشجع أو يزيد

١٣ ـ سعيد بن العاص

هو سعيد بن العاص بن أحيحة بن سعيد بن العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، القرشيّ ، الأمويّ ، المدنيّ (٥). ويلقب بعكة العسل. ولّاه الخليفة عثمان بن عفّان إمارة الكوفة سنة (٣٠) للهجرة ، وذلك بعد عزل الوليد بن عقبة بن أبي معيط (٦).

نشأ سعيد فقيرا في حجر عثمان بن عفّان ، وقيل في حجر عمر بن الخطاب ، ثمّ رحل إلى الشام عند معاوية بن أبي سفيان ، ثمّ دعاه الخليفة عمر بن الخطاب فزوّجه إحدى بنات سفيان بن عوف ، ثمّ تزوّج أيضا

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٤٦ والقرطبي ـ بهجة المجالس. ج ١ / ٩٨.

(٢) الزركلي ـ الأعلام. ج ٨ / ١٢٢.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٤٦ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤١٤.

(٤) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٧ / ٢٤٣.

(٥) العسقلاني ـ نزهة الألباب. ج ٢ / ٣١ والزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ٩٦.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٧١ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٤٢ وباقر القرشي ـ حياة الإمام الحسن. ج ١ / ٢٤٠.

٨٧

بإحدى بنات مسعود بن نعيم النهشلي (١).

وكتب عثمان بن عفّان إلى أهل الكوفة حين ولّاهم سعيد بن العاص فقال : (أما بعد ، فإنّي ولّيتكم الوليد بن عقبة ، غلاما حين ذهب شرخه ، وشاب حلمه وأوصيته بكم ، ولم أوصيكم به ، فلمّا أعيتكم علاميته ، طعنتم في سريرته ، وقد وليكم سعيد بن العاص ، وهو خير عشيرته ، وأوصيكم به خيرا ، فاستوصوا به خيرا) (٢).

وعند ما خرج سعيد من المدينة إلى الكوفة ، أخذ يرتجز في طريقه فيقول (٣) :

ويل نسيات (٤) العراق منّي

كأنّي سمعمع (٥) من جنّ

ولمّا وصل سعيد إلى الكوفة ، ودخل المسجد ، أمر بغسل المنبر ، وقال : إنّ الوليد كان رجسا ، نجسا ، ولم يصعد المنبر حتّى غسلوه ، وذلك انتقاما من الوليد وانتقاصا من شخصيته ، لأنّ الوليد كان أسخى نفسا ، وألين جانبا ، وأرضى عند أهل الكوفة من سعيد ، وقال بعض شعراء الكوفة (٦) :

فررت من الوليد إلى سعيد

كأهل الحجر (٧) إذ جزعوا فباروا

ولمّا صعد سعيد المنبر ، ذمّ أهل الكوفة ، متهما إيّاهم بالشقاق والخلاف ، وقال أيضا : (والله بعثت اليكم ، وإنّي لكاره ، ولكنّي لم أجد بدّ إذ أمرت .. ألا إنّ

__________________

(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣١.

(٢) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٤ / ٣٠٧.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٤٥.

(٤) نسيات : وقيل شباب.

(٥) سمعمع : السريع الخفيف ، والخبيث اللبق.

(٦) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٥ / ١٤٥ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ١٠٨.

(٧) الحجر : اسم ديار ثمود في وادي القرى بين المدينة والشام.

٨٨

الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها ، ووالله لأخزينّ وجهها حتّى أقمصها أو تعييني وإنّي لرائد نفسي اليوم (١).

ومرّت الأيّام بسعيد في الكوفة ، فاستبدّ بالأموال ، وسبّب ضررا كبيرا لأهل الكوفة وظهرت منه أمور منكرة ، حتّى قال في بعض الأيّام : (إنّما هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش) (٢). مما جعل أهل الكوفة يشكوه إلى الخليفة عثمان بن عفّان ، فذهب سعيد إلى المدينة ، واستخلف على الكوفة (عمرو بن حريث) (٣) وقيل استخلف (ثابت بن قيس بن الخطيم الأنصاري) (٤) ، وذهب في نفس الوقت جماعة من أهل الكوفة فيهم الأشتر النخعي ، يطلبون من الخليفة عزل سعيد عن الكوفة ، فرفض عثمان طلبهم ، وأمر سعيد بأن يرجع إلى إمارته.

فرجع مالك الأشتر إلى الكوفة (قبل رجوع سعيد إليها) فاستولى عليها ، وصعد المنبر وخطب الناس قائلا : (هذا سعيد بن العاص ، قد أتاكم ، يزعم أنّ هذا السواد ، بستان لأغيلمة من قريش ، والسواد : مساقط رؤوسكم ، ومراكز رماحكم ، وفيؤكم ، وفيء آبائكم ، فمن كان يرى الله عليه حقّا ، فلينهض إلى الجرعة (٥) ، وبايعوني على أن لا يدخل سعيد للكوفة ، فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة) (٦).

ولمّا رجع سعيد بن العاص من المدينة إلى الكوفة ، منعوه من دخولها ، ولم يمهلوه حتّى لشراء ما يحتاجه من طعام وعلف ، وهدّدوه بالقتل إن لم

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٨٨.

(٢) عبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ دمشق. ج ٦ / ١٣٦.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٣ / ١٤٨.

(٤) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٢ / ١٩٢.

(٥) الجرعة : أسم مكان ما بين الكوفة والحيرة.

(٦) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٣٨.

٨٩

يرجع في الحال ، فرجع سعيد والتحق بعثمان ، وبقي معه إلى أن حوصر عثمان فدافع عنه (١). ثمّ كتب مالك الأشتر إلى عثمان : (إنّنا والله ما منعنا عاملك من الدخول إلى الكوفة لنفسد عليك عملك ، ولكن لسوء سيرته فينا ، وشدّة عذابه ، فابعث إلى عملك من شئت) (٢).

وقيل إنّهم عينوا أبا موسى الأشعري" أميرا عليهم" وبعثوا إلى عثمان ابن عفّان يخبرونه بذلك ، ويطلبون موافقته ، كان ذلك سنة (٣٤) للهجرة (٣).

وقال عتبة بن الوعل ـ شاعر أهل الكوفة (٤) :

تصدّق علينا يابن عفّان واحتسب

وأمّر علينا الأشعري لياليا

فقال عثمان : نعم ، وشهور ، وسنين ، إن أنا بقيت

وعند ما آل الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان عيّن سعيد بن العاص أميرا على" المدينة" بعد عزل مروان بن الحكم ، وفي تلك الفترة ، حصل نزاع وخلاف بين عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت الأنصاري ، وبين عبد الرحمن ابن الحكم بن العاصي ، حتّى تشاتما وتفاحشا ، ولمّا علم معاوية بذلك ، كتب إلى سعيد بن العاص ، يأمره أن يجلد كلّ واحد منهما مائة سوط ، غير أنّ سعيدا لم ينفّذ الأمر ، لأنّ ابن حسّان كان صديقا له وابن الحكم هو ابن عمّه (٥).

وعند ما عزل سعيد بن العاص عن المدينة ، وأعيد مروان بن الحكم اليها ، أمر بضرب ابن حسّان مائة سوط ، ولم يضرب أخاه ، فكتب ابن

__________________

(١) تاريخ ابن الخياط. ج ١ / ١٨٠.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣٤.

(٣) المصدر السابق. ج ٥ / ٣٤ وعبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر. ج ٦ / ١٣٧.

(٤) نفس المصدرين السابقين.

(٥) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٣٨.

٩٠

حسّان إلى النعمان بن بشير الأنصاري في الشام" وكان من المقرّبين من معاوية" بقصيدة طويلة نقتطف منها الأبيات الآتية (١) :

ليت شعري أغائب ليس بالشا

م خليلي أمّ راقد نعمان!!

أية ما يكون فقد يرجع الغا

ئب يوما ويوقظ الوسنان

إنّ عمرا وعامرا أبوينا

وحراما قدما على العهد كانوا

إنهم مانعوك أمّ قلّة الك

تّاب أمّ أنت عاتب غضبان؟

أم جفاء أمّ أعوزتك القراطي

س أمّ أمري به عليك هوان؟

فنسيت الأرحام والودّ والصح

بة فيما أتت به الأزمان

إنّما الرمح فاعلمنّ قناة

أو كبعض العيدان لو لا السنان

فذهب النعمان بن بشير إلى معاوية وقال له : (يا أمير المؤمنين ، إنّك أمرت سعيد بن العاص بأن يضرب ابن حسّان وابن الحكم مائة سوط ، إلّا أنّه لم ينفذ أمرك ، ثمّ ولّيت أخاك ، فضرب ابن حسّان ، ولم يضرب أخاه ، فقال معاوية : وماذا تريد؟ قال النعمان : أن تكتب إلى مروان بن الحكم ، لينفذ أمرك في أخيه ، كما نفذه في ابن حسّان. فكتب معاوية إلى مروان أن يضرب أخاه مائة سوط ، فضربه مروان خمسين سوطا ، وأرسل إلى ابن حسّان" حلّة" وطلب منه أن يعفو عن خمسين ، فأشاع ابن حسّان في أهل المدينة بأنّ مروان ضربه" حد الحر" مائة سوط ، وضرب أخاه" حد العبد" خمسين سوطا. وسرعان ما انتشرت هذه الكلمة بين الناس ، حتّى وصلت إلى عبد الرحمن بن الحكم ، ذهب إلى أخيه مروان ، وقال له : لا حاجة لي فيما عفا عنه ابن حسّان ، فبعث إليه وضرب أخاه خمسين سوطا بحضوره (٢).

وعند ما كان سعيد بن العاص أميرا على الكوفة كان الشعراء

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٣٨.

(٢) المصدر السابق. ج ١٦ / ٣٩.

٩١

ينشدون في مجلسه ، فهذا ينشد من شعره ، وذاك يقرأ شعر غيره ، والحطيئة (١) جالس مطرق برأسه لا يتكلّم ، وأخيرا تكلّم الحطيئة فقال : (والله ما أصبتم جيد الشعر ، ولا شاعر الشعراء). فقال له سعيد : ومن هو أشعر العرب يا هذا؟ فقال الّذي يقول (٢) :

لا أعدّ الإقتار عدوا ولكن

فقد من قد رزئته الإعدام

من رجال من الأقارب باتوا

من جذام هم الرؤوس الكرام

سلط الموت والمنون عليهم

فلهم في صدى المقابر هام

وكذاكم سبيل كلّ أناس

سوف حقا تبليهم الأيّام

فقال سعيد : ويحك ، من أنت؟!! قال : الحطيئة. فقال سعيد : لعمر الله ، لأنت عندي أشعر منهم فأنشدني ، فقال الحطيئة (٣) :

سعيد وما يفعل سعيد فإنّه

نجيب ، فلاه في الرباط نجيب

سعيد فلا يغررك قلّة لحمه

تخدّر عنه اللحم فهو صليب

إذا غاب عنّا غاب عنا ربيعنا

ونسقى الغمام الغرّ حين يؤوب

فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره

إذا الريح هبّت والمكان جديب

فأعطاه سعيد عشرة آلاف درهم.

ودخل الفرزدق يوما على سعيد بن العاص ، وكان عنده الحطيئة فقال (٤) :

إليك فررت منك ومن زياد

ولم أحسب دمي لكما حلالا

فإن يكن الهجاء حلّ قتلي

فقد قلنا لشاعركم وقالا

نرى الغرّ الجماجم من قريش

إذا ما الأمر في الحدثان عالا

__________________

(١) الحطيئة : واسمه : جرول بن أوس ، شاعر ، هجاء ، غني عن التعريف.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٣٩.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) الشريف المرتضى : غرر الفوائد ودرر القلائد. ج ١ / ٢٩٧.

٩٢

قياما ينظرون إلى سعيد

كأنّهم يرون به هلالا

وعند ما كان الفرزدق مقيما في المدينة قال (١) :

هما دلتاني من ثمانين قامة

كما انقض باز أقتم الريش كاسره

فلمّا استوت رجلاي في الأرض قالتا

أحيّ فيرجى؟ أمّ قتيل تحاذره؟

فقلت : ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا

وأقبلت في اعجاز ليل أبادره

أحاذر بوّابين قد وكّلا بنا

وأسود من ساج نصرّ مسامره

فلمّا سمع أهل المدينة هذه الأبيات ، ذهبوا إلى مروان بن الحكم (٢) ، وقالوا له : إنّ هذا الشعر ، قد أساء إلى أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ الفرزدق بشعره هذا ، قد أوجب عليه" الحدّ" فأمر مروان بإخراج الفرزدق من المدينة ، ولمّا سمع الفرزدق ، هرب وذهب إلى سعيد بن العاص ، وكان عنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر "عليهم‌السلام" فأخبرهم بقصته ، فأعطاه كلّ واحد منهم مائة دينار ، ثمّ ذهب إلى البصرة (٣).

وعند ما كان سعيد بن العاص أميرا على الكوفة كتب إلى عثمان بن عفّان يخبره بأن جماعة من أهل الكوفة : (يعيبوني ، ويعيبوك ، ويطعنون في ديننا ، وقد خشيت أن يكثروا فيثبت أمرهم). فكتب إليه عثمان : (سيّرهم إلى معاوية) ، وكان معاوية آنذاك أميرا على الشام ، فسيّرهم سعيد إلى معاوية ، وكانوا تسعة أشخاص فيهم : مالك الأشتر ، وثابت بن قيس بن منقع ، وكميل بن زياد النخعي ، وصعصعة بن صوحان.

وعند ما ذهب طلحة والزبير وعائشة ومؤيدوهم إلى البصرة كان سعيد بن العاص معهم فخطب فيهم وقال : (أما بعد فإنّ عثمان عاش حميدا ،

__________________

(١) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٦ / ٩٠.

(٢) مروان بن الحكم : كان أميرا على المدينة" آنذاك" من قبل معاوية بن أبي سفيان.

(٣) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٤ / ٩٠.

٩٣

وذهب فقيرا ، شهيدا ، وقد زعمتم أنّكم خرجتم تطلبون بدمه ، فإن كنتم تريدون ذا ، فإنّ قتلته على هذه المطيّ فميلوا عليهم). فقال مروان بن الحكم : لا بل نضرب بعضهم ببعض (١).

وقال المغيرة بن شعبة : الرأي ما قاله سعيد.

ولمّا رأى سعيد بن العاص إصرارهم على الذهاب إلى البصرة ، تركهم وذهب إلى" الطائف" مع من تبعه من أهل مكّة ، إلى أن انتهت معارك الجمل وصفّين.

وعند ما صار الأمر إلى معاوية ، وصفا له الجوّ ، ذهب سعيد إليه ، فرحّب به معاوية ، وأعطاه مالا كثيرا ، ثمّ عيّنه أميرا إلى أن مات (٢).

وعند ما كان سعيد بن العاص أميرا على المدينة أمره معاوية أن يهدم دار مروان بن الحكم ، فكان سعيد يحتفظ بالكتاب ، ولا ينفّذه ، حتّى كثرت كتب معاوية بهذا الشأن ، ثمّ إنّ معاوية عزل سعيد بن العاص عن المدينة ، وولى مكانه مروان بن الحكم ، فكتب إليه معاوية يأمره بهدم دار سعيد بن العاص ، ولمّا سمع سعيد بذلك ، جاء بجميع الكتب الّتي سبق وأرسلها إليه معاوية ، والّتي يأمره بهدم دار مروان فسلمها إلى مروان ، عندها كتب مروان إلى معاوية قائلا (٣) :

كتبت اليّ تأمرني بعق

كما قبلي كتبت إلى سعيد

فلمّا عصاك أردت حملي

على ملسا وتزلف بالصعيد

لأقطع واصلا وأخا حفاظ

فرأيك ليس بالرأي السديد

وقيل قال عمر بن الخطاب لسعيد بن العاص ذات يوم : (مالي أراك

__________________

(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤٤٦.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣٤ والزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ٩٦.

(٣) عبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر. ج ٦ / ١٤٢.

٩٤

معرضا عني ، كأنّك ترى أنّي قتلت أباك (١)؟ ما أنا قتلته ، ولكنه قتله عليّ ابن أبي طالب ، ولو قتلته ، ما اعتذرت من قتل مشرك ، ولكنني قتلت خالي" العاصي بن هشام بن المغيرة" بيدي".

فقال له سعيد : (يا أمير المؤمنين ، لو قتلته ، كنت على حقّ ، وكان على باطل) (٢).

مات سعيد بن العاص في قصره" بالعرصة" على بعد ثلاثة أميال من المدينة سنة (٥٨) للهجرة (٣) ، وقيل سنة (٥٩) (٤).

ولمّا مات سعيد بن العاص ، ذهب ابنه" عمرو الأشدق" إلى معاوية بن أبي سفيان ، فباعه قصر أبيه الّذي في" العرصة" بثلثمائة ألف درهم ، وقيل بألف ألف درهم (٥).

١٤ ـ عمرو بن حريث

هو عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن مخزوم بن يقضة ، المخزومي ، القرشيّ ، وكنيته : أبو سعيد (٦).

استخلفه سعيد بن العاص على إمارة الكوفة سنة (٣٤) (٧) للهجرة ، وذلك عند ذهاب سعيد إلى المدينة بناء على استدعائه من قبل الخليفة عثمان

__________________

(١) قتل أبوه في معركة بدر الكبرى ، " مشركا" قتله الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣١.

(٣) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤٤٨.

(٤) تاريخ خليفة ابن خياط. ج ١ / ٢٧٢ والذهبي ـ العبر في خبر من غبر. ج ١ / ٧٠ وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٢٦٨ والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ١٣٨.

(٥) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤٤٨.

(٦) النووي ـ تهذيب الأسماء. ج ٢ / ٢٦ والمصدر السابق. ج ٣ / ٤١٨.

(٧) تاريخ الطبري. ج ٣ / ١٤٨.

٩٥

ابن عفّان ، ثمّ طرده أهل الكوفة ، كما طردوا" أميرهم" (١) سعيد.

وفي سنة (٥٠) للهجرة ، جمعت ولاية" المصرين" (٢) إلى زياد بن أبيه من قبل معاوية بن أبي سفيان ، فذهب زياد إلى الكوفة ثمّ رجع إلى البصرة ، واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث (٣).

وفي سنة (٦٠) للهجرة جاء عبيد الله بن زياد أميرا على الكوفة من قبل يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، ثمّ ولّاه يزيد" المصرين" أيضا ، فكان عند ما يذهب عبيد الله بن زياد إلى البصرة ، يستخلف عمرو بن حريث على الكوفة (٤).

وفي سنة (٧٣) للهجرة ، جمع عبد الملك بن مروان لأخيه بشر بن مروان إمارة" المصرين" فذهب بشر إلى البصرة ، واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث (٥).

وكان عمرو بن حريث يميل إلى بني أميّة ، كما أنّهم أي" بنو أميّة" يميلون إليه ويثقون به ، ولذلك كانوا يولّونه إمارة الكوفة عدّة مرّات ، فأصبح عمرو بن حريث من أغنى أهل الكوفة ، حيث اشترى دارا بالكوفة إلى جانب المسجد ، وكانت كبيرة ، ومشهورة ، وقيل إنّه أوّل قرشيّ اشترى دارا بالكوفة (٦).

وكان عمرو بن حريث يشتغل بالتجارة ، إضافة على ما تدر عليه إمارتي" الكوفة والبصرة" من هدايا ورواتب وعطايا. وقد اشترى غنائم

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ١٨٠ وتاريخ الطبري. ج ٤ / ٣٣٠.

(٢) المصران : الكوفة والبصرة.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ١٣٤ والبلاذري ـ فتوح البلدان. ص ٢٧١.

(٤) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤١٩.

(٥) تاريخ الطبري. ج ٦ / ١٩٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٣٦٣.

(٦) النووي ـ تهذيب الأسماء. ج ٤ / ٢٧ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤١٨.

٩٦

" معركة نهاوند" بألفي ألف درهم عند ما كان في البصرة ، ثمّ باعها في الكوفة بضعف ما اشتراها (١).

وعند ما دخل عبد الملك بن مروان إلى الكوفة سنة (٧١) للهجرة ، وذلك بعد مقتل مصعب بن الزبير ، أقام له عمرو بن حريث ، مأدبة كبيرة في" قصر الخورنق" (٢) قدّم فيها ما لذّ وطاب من أنواع الطعام والشراب ، وعند ما دخل عمرو بن حريث إلى القصر ، أجلسه عبد الملك معه على سريره ، وبعد ما فرغوا من الطعام ، قال عبد الملك لعمرو بن حريث :

(ما ألذّ عيشنا لو دام ، ولكنّنا كما قال الأول (٣) :

وكلّ جديد يا أميم إلى بلى

وكل امرئ يصير يوما إلى كان

ثمّ أخذ عبد الملك يتجول في القصر ، ومعه عمرو بن حريث ، وهو يسأله : لمن هذا القصر؟ ومن بناه؟ وعمر بن حريث يجيبه على أسئلته ، فقال عبد الملك :

إعمل على مهل فإنّك ميّت

واكدح لنفسك أيّها الإنسان

فكأنّ ما قد كان لم يك إذ مضى

وكأنّ ما هو كائن كان

وقيل : تزوج عمرو بن حريث ابنة أسماء بن خارجة ، فقالت له ذات يوم : (ما أحسبك وأبي تقرآن من كتاب الله إلّا حرفين). قال وما هما؟ قالت : (كان أبي يقرأ : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٤) وأنت تقرأ : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ)(٥).

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٤ / ١١٧ وأحمد صالح العلي ـ التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة. ص ٢١٩.

(٢) قصر الخورنق : بناه النعمان بن امرؤ القيس بظهر الحيرة ، واستغرق بناؤه ستين سنة ، بناه رجل رومي ، ولمّا أكمل بناءه قذفه النعمان من أعلى القصر فمات ، فضرب به المثل المشهور : (جزاء سنمار).

(٣) تاريخ الطبري. ج ٦ / ١٦٧ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٣٣٢.

(٤) سورة سبأ : الآية ٣٩.

(٥) سورة الإسراء : الآية ٢٧.

٩٧

وكان عمرو بن حريث من الّذين شهدوا على حجر بن عدي الكندي (١) وجماعته ، أمام زياد بن أبيه ، وكانت تلك الشهادة مما سببت في قتل حجر وجماعته من قبل معاوية بن أبي سفيان ، وكان عمرو بن حريث آنذاك أحد رؤوس الأرباع في الكوفة ، وكان على ربع أهل المدينة (٢).

ولمّا مات يزيد بن معاوية بن أبي سفيان سنة (٦٤) للهجرة (٣) ، وكذلك مات ابنه معاوية الثاني ، كان الأمير على العراق عبيد الله بن زياد ، وكان آنذاك في البصرة ، وعلى الكوفة خليفته عمرو بن حريث. فخطب عبيد الله بن زياد في أهل البصرة قائلا : (إنّ يزيد بن معاوية قد مات ، وقد لحقه ابنه معاوية فمات أيضا ، ولم يستخلف أحدا للخلافة ، وبقي الأمر شورى) (٤).

وقال في خطبته أيضا : (لا أرض اليوم أوسع من أرضكم ، ولا عدد أكثر من عددكم ، ولا مال أكثر من مالكم ، ففي بيت مالكم مائة ألف ألف درهم ، ومقاتلتكم ستون ألفا ، وعطاؤهم ، وعطاء العيال ستون ألف ألف درهم ، فانظروا رجلا تنظرونه يقوم بأمركم ، ويجاهد عدوكم ، وينصف مظلومكم من ظالمكم ، ويوزع بينكم أموالكم) (٥).

فقام إليه أشراف أهل البصرة ، ومنهم : الأحنف بن قيس وقيس بن الهيثم السلمي ومسمع بن مالك العبدي ، وقالوا له : (ما نعلم ذلك الرجل غيرك أيّها الأمير ، وأنت أحقّ بهذا الأمر من غيرك).

__________________

(١) حجر بن عدي : سوف نتكلم عنه عند ترجمة زياد بن أبيه.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٢٦٨.

(٣) ابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٢٨٦.

(٤) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٨٤.

(٥) نفس المصدر السابق.

٩٨

فكتب عبيد الله بن زياد إلى عمرو بن حريث" خليفته على الكوفة" يعلمه بما قرّر أهل البصرة ، ويطلب منه أن يأمر أهل الكوفة أن يحذوا حذو أهل البصرة.

فصعد عمرو بن حريث" منبر الكوفة" وخطب في الناس ، وأخبرهم بما اتفق عليه أهل البصرة ، وطلب منهم أن يؤيدوا رأي البصرة.

فقام إليه يزيد بن رويم الشيباني وقال : (الحمد لله الّذي أطلق إيماننا ، لا حاجة لنا في بني أميّة ، ولا في إمارة ابن مرجانة) (١).

عندها ثار أهل الكوفة ، فطردوا عمرو بن حريث ، وجعلوا أميرا عليهم من قبلهم (٢) ، ثمّ بايعوا لعبد الله بن الزبير (٣).

مات عمرو بن حريث بالكوفة سنة (٨٥) للهجرة (٤) ، في خلافة عبد الملك بن مروان. وقيل سنة (٧٨) للهجرة (٥).

١٥ ـ ثابت بن قيس بن الخطيم الأنصاري

هو ثابت بن قيس بن الخطيم بن عمرو بن يزيد بن سواد ، وقيل هو ثابت بن قيس بن الخطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر الأنصاري الظفري ، وظفر بطن من الأوس (٦).

__________________

(١) مرجانة : هي أمّ عبيد الله بن زياد.

(٢) تاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ١٣٧.

(٣) عبد الله بن الزبير : وقد كتبنا ترجمته ص ١.

(٤) الطبقات ـ ابن سعد. ج ٦ / ٢٣ وذيل المذيل ـ تاريخ الطبري ص ٥٢٧ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٥١٦ والنووي ـ تهذيب الأسماء واللغات. ج ٢ / ٢٦ وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٣٤٩ ولويس ماسينيون ـ خطط الكوفة ص ٨٢.

(٥) خليفة ابن خياط ـ الطبقات. ص ٢٠.

(٦) ابن الأثير ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة. ج ١ / ٤٥٠.

٩٩

استخلفه سعيد بن العاص على إمارة الكوفة سنة (٣٤) للهجرة (١) ، وذلك عند ذهاب سعيد إلى المدينة لملاقات الخليفة عثمان بن عفّان. ثمّ ثار أهل الكوفة على سعيد بن العاص بزعامة مالك بن الأشتر النخعي ، فأمر الأشتر النخعي بإخراج ثابت بن قيس من قصر الإمارة ، فأخرجوه (٢).

وكان أبوه" قيس بن الخطيم" شاعر الأوس ، وأحد أبطالها وصناديدها في الجاهلية ، وأول ما اشتهر به هو أنّه تتبع قاتلي أبيه وجده حتّى قتلهما ، وقال في ذلك شعرا ، وقد أدرك الإسلام ، إلّا أنّه تريّث في إسلامه ، فقتل قبل أن يدخل فيه ، قتل قبل الهجرة بحوالي سنتين (٣).

شهد ثابت بن قيس مع الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حروب الجمل والنهروان وصفّين. ولثابت بن قيس ثلاثة بنين" عمرو ومحمّد ويزيد" قتلوا يوم الحرّة.

مات ثابت بن قيس في خلافة معاوية (٤).

١٦ ـ يزيد بن قيس الأرحبيّ

هو يزيد بن قيس بن تمام بن حاجب بن الأرحبي من بني صعب بن رومان من همدان ، وهو من رؤساء اليمانيين الكبار. أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسكن الكوفة (٥).

ولمّا ثار أهل الكوفة سنة (٣٤) (٦) للهجرة على سعيد بن العاص" أمير

__________________

(١) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٢ / ١٩٢.

(٢) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٣٨ والزركلي ـ الأعلام. ج ٦ / ٢٤١.

(٣) المصدر السابق الثاني. ج ٥ / ٢٠٥.

(٤) ابن الأثير ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة. ج ١ / ٤٥٠.

(٥) الزركلي ـ الأعلام. ج ٩ / ٢٤١.

(٦) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ١٨٠ وتاريخ الطبري. ج ٤ / ٣٣٠.

١٠٠