أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

٨٦ ـ جعفر بن ورقاء الشيباني :

هو : جعفر بن محمّد بن ورقاء الشيباني وكنيته : أبو محمّد.

قلّده الخليفة (المقتدر) أعمال الكوفة وطريق مكّة في سنة (٣١٢) (١) للهجرة.

وجعفر بن ورقاء هو أمير من أمراء الدولة العباسيّة ، من بيت إمرة ورئاسة وأدب ، وكان شاعرا ، وكاتبا ، سريع البديهة.

ولد جعفر بن ورقاء في مدينة سامراء سنة (٢٩٢) للهجرة ، وتقلّد عدّة ولايات ، وكان الخليفة (المقتدر) يعامله معاملة بني حمدان (٢) ، وله مكاتبة مع سيف الدولة الحمداني نثرا وشعرا (٣).

وفي سنة (٣١٢) للهجرة ، جاءت جماعات كثيرة من الخراسانية إلى بغداد ، للذهاب إلى الحجّ عن طريق الكوفة ، فأمر الخليفة المقتدر ، أن يخرج جعفر بن ورقاء (وكان أمير الكوفة حينذاك) مع القافلة الأولى.

ولمّا سمع جعفر بن ورقاء بأنّ (القرمطي) يترصّد لقوافل الحجّاج ، أمر الناس بالتوقف والتريث ، حتّى يطلع على حقيقة الموقف (٤).

ولمّا وصل جعفر إلى (زبالة) وقد تبعه جماعة كبيرة من الحجاج ، حيث لم يسمعوا كلامه بالتأنّي والترّيث ، فلقيه أصحاب (القرمطي) فاقتتلوا ، حتّى قتل الكثير من الحجّاج ، وانهزم الباقون إلى الكوفة بعد أن تركوا جمالهم وأمتعتهم ، فتبعهم القرمطي إلى الكوفة ، وبعد معركة دارت بين

__________________

(١) البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٤٧.

(٢) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ١ / ٢٦ والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ٢٨٢.

(٣) الزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ٢٨٢.

(٤) القرطبي ـ صلة تاريخ الطبري. ص ١٠٧.

٦٨١

(القرمطي) وبين (جني الصفواني) و (ثمل الطرسوسي) وجماعة آخرين من بني شيبان ، فقتل خلال المعركة (جني الصفواني) وانهزم الباقون إلى بغداد ، وعند ذلك دخل (القرمطي) إلى الكوفة ، وأقام ستّة أيّام بظاهر الكوفة ، يدخل إليها نهارا ، فيقيم في مسجد الكوفة إلى اللّيل ، ثمّ يخرج ويبيت في معسكره ، ورجع بعد ذلك إلى بلده (هجر) بعد أن حمل من الكوفة ما قدر على حمله من الأموال ، والثياب ، وغير ذلك (١).

ولمّا سمع أهل بغداد بهذه الحادثة (المأساوية) انتقل أكثرهم إلى جانب الرصافة ، خوفا من القرامطة ، ولم يحجّ أحد في هذه السنة ، لا من أهل بغداد ، ولا من أهل خراسان (٢). وعند ذلك أمر الخليفة (المقتدر) مؤنس المظفر بالذهاب إلى الكوفة لطرد القرمطي.

ويحكى عن جعفر بن ورقاء أنّه قال : حينما أفضت الوزارة إلى عبد الرحمن بن عيسى وكان الخليفة (الراضي لله) قد حلف بأنّه لا يقبل من عبد الرحمن ، بأقلّ من مائة ألف دينار ، وكان كلّ ما عند عبد الرحمن هو عشرة آلاف دينار ، فقلت له (أي لعبد الرحمن) : دعني أدبّر لك الأمر ، فأخذت ورقة وكتبت فيها : (ضمن لمولانا أمير المؤمنين ، أطال الله بقائه ، جعفر بن ورقاء أن يصحح له لمن يأمره بتصحيح ذلك عنده ، عن عبد الرحمن بن عيسى مائة ألف دينار ، وأخذه إلى أيّ وقت أمره بتصحيحها). وقلت للوزير : أرسلها مع رسول ذكي ، يلاحظ ما يجري ، فعاد الغلام الّذي أرسل الكتاب بيده وقال : استدعاني الخليفة ، فدخلت عليه ، وهو جالس وفي يده الرقعة ممزّقة ، فقال : (من الّذي عند مولاك)؟ فقلت له : جعفر بن ورقاء.

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ١٥٦.

(٢) نفس المصدر السابق.

٦٨٢

فقال : قل له : (يا أعرابي ، أردت أن تري الناس أنّ نفسك تتسع ، لا تغرم غمرا ، لا حرمة له ، وهو خادمي ، ما ضاقت نفسي عن شرّ له عليه فتظهر بذلك أنّك أكرم منّي ، والله لا كان هذا ، قل لمولاك ، أطلق عبد الرحمن ، وتردّ خط هذا الأعرابي الجلف ، وإنّي أكفّر عن يميني) ورمى بالرقعة ممزّقة (١).

وعند ما بويع (القاهر بالله) بالخلافة سنة (٣٢٠) للهجرة ، بعد (المقتدر) وجلس يوم البيعة ، لم يكن عليه إلّا قميصان ورداء ، فنزع جعفر بن ورقاء ثيابه الّتي كان يلبسها ، فلبسها (القاهر بالله) ثمّ جلس في الخيمة ، وسلّموا عليه بالخلافة (٢).

وكان جعفر بن ورقاء الشيباني ، قد ذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ ولمّا عاد جاء الناس يسلّمون عليه ، ويهنّئونه بالسلامة ، وقد تأخّر القاضي (محمّد بن يوسف) (أبو عمر) عن تهنئته بمناسبة عودته ، وكذلك تأخّر ابنه عمر (أبو الحسين) قاضي القضاة ، فكتب جعفر بن ورقاء اليهما عاتبا (٣) ، وكان جعفر قد ذهب إلى الحجّ ولم يوّدعهما.

أأستجفي أبا عمر وأشكو

وأستجفي فتاه أبو الحسين؟

بأيّ قضية وبأيّ حكم

ألحّا في قطيعة واصلين

فما جاءا ولا بعثا بعذر

ولا كانا لحقّي موجبين

فإن نمسك ولم نعتب تمادى

جلاؤهما لأخلص مخلصين

نجلّ عن العتاب القاضيين

وإن نعتب فحقّ غير أنّا

__________________

(١) الهمذاني ـ تكملة تاريخ الطبري. ص ٣٩٠.

(٢) القرطبي ـ صلة تاريخ الطبري. ص ١٢٧.

(٣) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ١ / ٢٦ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٣٠٦ والزركلي ـ الأعلام. ج ٢ / ١٢٨.

٦٨٣

ولمّا وصلت الأبيات إلى القاضي (أبو عمر) قال لابنه (أبي الحسين) ردّ الجواب عليه يا ولدي ، فكتب أبو الحسين يقول :

تجنّ وأظلم فلست منتقلا

عن خالص الودّ أيّها الظالم

ظننت بي جفوة عتبت لها

فخلت أنّي لحبلكم صارم

حكمت بالظن والشكوك ولا

يحكم بالظنّ في الهوى حاكم

تركت حقّ الوداع مطّرحا

وجئت تبغي زيارة القادم

أمران لم يذهبا على فطن

وأنت بالحكم فيهما عالم

وكلّ هذا فعال ذي ثقة

وقلبه من جفائه سالم

وقال جعفر بن ورقاء مفتخرا (١) :

شيبان قومي وليس الناس مثلهم

لو ألقموا ما تفيء الشمس لألتقموا

لو يقسّم المجد أرباعا لكان لنا

ثلاثة وبربع تجتزي الأمم

ثلاثة صافيات قد جمعن لنا

ونحن في الربع بين الناس نقتسم

٨٧ ـ محمّد بن إسماعيل بن جعفر :

وهو : محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب.

ثار محمّد بن إسماعيل بالكوفة سنة (٣١٢) للهجرة (وهو رئيس الإسماعيلية) فتبعه جمع كبير من الأعراب والسواد ، واستفحل أمره ، في شهر شوال من هذه السنة ، فأرسل إليه جيش كبير من بغداد فقاتلوه ، فانهزم بعد أن قتل الكثير من أصحابه (٢).

وذكر ابن الجوزي بأنّ أبا القاسم الخاقاني أرسل حاجبه أحمد بن

__________________

(١) يحيى شامي ـ موسوعة شعراء العرب. ص ٤٩.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ١٥٧.

٦٨٤

سعيد ومعه خمسمائة فارس ، وألف راجل ، وأمره بمحاربه محمّد بن إسماعيل ابن جعفر ، ولمّا وصل أحمد بن سعيد إلى الكوفة ، أسرّ جماعة من أصحاب محمّد وانهزم الباقون (١).

٨٨ ـ أبو طاهر القرمطي :

هو : سليمان بن الحسن بن بهرام ، الجنابي ، القرمطي ، وكنيته : أبو طاهر.

دخل الكوفة واستولى عليها سنة (٣١٢) (٢) للهجرة. وأبو طاهر : هو زعيم القرامطة ، خارجي ، طاغية ، جبّار ، قال الذهبي يصفه (عدو الله ، الأعرابي ، الزنديق) (٣).

ونسبته إلى جنابة من بلاد فارس ، وكان أبوه قد استولى على (هجر) و (الأحساء) و (القطيف) وسائر بلاد البحرين ، ولمّا مات أبوه سنة (٣٠١) للهجرة ، عهد بالأمر إلى ابنه (سعيد) فعجز سعيد عن القيام بمهمته ، فتغلب عليه سليمان (أبو طاهر) (٤).

كان أبو طاهر (القرمطي) قد شنّ عدّة غارات على العراق ، ففي سنة (٣١١) للهجرة ، جاء أبو طاهر إلى البصرة فنهبها ، وسبى أهلها ، وكتب إلى الخليفة (المقتدر) أن يضمّ البصرة والأهواز إليه ، فرفض المقتدر ذلك (٥).

وفي شهر ذي القعدة من سنة (٣١٢) للهجرة ، ذهب الكثير من الناس إلى بيت الله الحرام (للحجّ) عن طريق الكوفة ، فترصد لهم القرمطي ، فأوقع

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ١٨٩.

(٢) القرطبي ـ صلة تاريخ الطبري. ص ١٠٧ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ١٥٥.

(٣) الزركلي ـ الأعلام. ط ٥ ج ٣ / ١٢٣.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ١٤٣.

٦٨٥

فيهم قتلا وسلبا ، عندها هرب الحجّاج عائدين إلى الكوفة ، تاركين جمالهم وأمتعتهم ، فتبعهم القرمطي إلى الكوفة وكان فيها آنذاك من قادة الخليفة (جني الصفواني وثمل الطوسي وطريف السبكري) فوقعت بينهم معركة ، قتل فيها الكثير من جيش الخليفة ، وانهزم الباقون إلى بغداد ، ثمّ دخل أبو طاهر القرمطي (لأوّل مرّة) إلى الكوفة فاستولى على ما في أسواقها من الطعام والأموال ، ثمّ عاد إلى البحرين ، ومعه عدد كبير من الأسرى ، مات أكثرهم في الطريق من الجوع والعطش ، وقيل إنّ عدد الأسرى قد بلغ (٢٢٢٠) رجلا و (٥٠٠) امرأة. وكان عدد جيش القرمطي ثمانمائة فارس ، ومثلهم من الرجّالة ، وكان عمر أبو طاهر حينذاك (١٧) (١) سنة. وقيل في هذه السنة أي سنة (٣١٢) للهجرة ، هجم أبو طاهر القرمطي على قافلة للحجّاج على طريق الكوفة ، وذلك عند رجوعهم من مكّة ، فقتلوا ، ونهبوا ، وأسرّوا ، وسبوا النساء والصبيان ، ثمّ عادوا إلى (هجر) وتركوا الحجّاج في أماكنهم ، فمات أكثرهم ، حيث لا ماء ولا طعام عندهم ، وكان من جملة الأسرى (أبو الهيجاء ، وأحمد بن بدر عمّ والدة المقتدر) وكان لتلك الحادثة الأثر الكبير على أهالي بغداد ، حيث خرجت النساء صارخات ، وهنّ يردّدن : (القرمطي الصغير (أبو طاهر) قتل المسلمين بطريق مكّة ، والقرمطي الكبير (ابن الفرات) (٢) قد قتل المسلمين ببغداد (٣).

وقيل عند ما دخل أبو طاهر القرمطي إلى الكوفة ، أقام في ظاهرها فيدخلها نهارا ، ويقيم في مسجد الكوفة إلى الليل ، ثمّ يخرج فيبيت في

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٣ / ٢٣٩.

(٢) ابن الفرات : وزير المقتدر.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ١٤٧ و١٥٦ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٣ / ٢٤٠.

٦٨٦

عسكره ، وبعد ذلك عاد إلى (هجر) (١).

ولمّا سمع الخليفة (المقتدر) بذلك أمر (مؤنس الخادم) بالذهاب إلى الكوفة ، ولمّا وصل مؤنس إلى الكوفة ، كان القرامطة قد غادروها إلى (هجر) وعند ذلك ذهب مؤنس إلى واسط ، واستخلف (ياقوت) على الكوفة (٢).

وفي سنة (٣١٥) للهجرة ، وردت الأخبار بأنّ أبا طاهر (القرمطي) قد تحرّك من (هجر) يريد الكوفة ، فكتب الخليفة (المقتدر) إلى يوسف بن أبي الساج (وكان آنذاك في واسط) يأمره بالذهاب إلى الكوفة ، قبل وصول القرمطي إليها ، إلّا أنّ (القرمطي) جاء ودخل الكوفة (للمرّة الثانية) قبل يوم من وصول أبو الساج ثمّ دارت معركة بين أبي الساج والقرمطي ، انتهت بأسر أبي الساج وانهزم جيشه ، فاستولى القرمطي على جميع ما كان في عسكر الخليفة.

ثمّ دارت معارك أخرى بين الطرفين ، قتل خلالها يوسف بن أبي الساج ، وقتل كافة من كان معه من الأسرى.

وفي سنة (٣١٧) للهجرة ، وقيل سنة (٣١٨) للهجرة ، ذهب أبو طاهر القرمطي إلى مكّة فدخلها يوم التروية ، والناس محرمون ، فنهب أموال الحجّاج ، وقتل الكثير منهم ، قيل بلغ عدد القتلى ثلاثين ألف. وكان يقول :

أنا بالله ، وبالله أنا

يخلق الخلق وأفنيهم أنا

ثمّ أخذ أستار الكعبة ، وخلع باب الحرم ، وردم بئر زمزم ، وأخذ الحجر الأسود من الكعبة ، وذهب به إلى البحرين ، وبقي الحجر الأسود فيها

__________________

(١) الكامل. ج ٨ / ١٤٧ و١٥٦ والمنتظم. ج ١٣ / ٢٤٠ نفس المصدرين أعلاه.

(٢) نفس المصدر اعلاه.

٦٨٧

(٣٠) سنة (١).

وقيل إنّ القائد التركي (بجكم) قد أعطى إلى القرامطة مبلغا قدره خمسين ألف درهم لقاء إعادتهم الحجر الأسود إلى الكعبة ، إلّا أنهم رفضوا ذلك وقالوا : (أخذناه بأمر ، وسنرده بأمر) (٢).

وفي سنة (٣٢٠) (٣) للهجرة ، جاء أبو طاهر القرمطي إلى الكوفة ، وكانت بينه وبين (ابن رائق) مكاتبات ، إلّا أنّهما لم يتّفقا على شيء ، فعاد أبو طاهر إلى (هجر) وذهب ابن رائق إلى واسط.

وفي سنة (٣٢٣) (٤) للهجرة ، ذهب الناس إلى الحجّ ، فاعترضهم أبو طاهر القرمطي فقتل منهم الكثير ، وسلب ونهب أموالهم ، ورجع من نجا منهم إلى بغداد ، وقد بطل الحجّ في هذه السنة ، وقيل استولى القرامطة على ألف بعير ، وعليها الأمتعة والأموال.

مات أبو طاهر القرمطي في مدينة (هجر) سنة (٣٣٢) (٥) للهجرة ، وبقي من أخوته ١) أبو القاسم (سعيد) ، ٢) أبو العبّاس ، ٣) أبو يعقوب ، وكانت الرئاسة للجميع ، وكلمتهم واحدة ، ولهم سبعة وزراء.

وقيل مات أبو طاهر القرمطي بمرض الجدري ، ولم يذهب أحد للحجّ في هذه السنة من أهل بغداد ولا من أهل خراسان ، فرحا وابتهاجا بموت أبي طاهر القرمطي.

__________________

(١) آدم ميتز ـ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. ج ٢ / ٦٩ وبركلمان ـ تاريخ الشعوب الإسلامية. ص ٢٣٠.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٤ / ٨٠ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ٤٨٦.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ٣٣٤.

(٤) الصولي ـ أخبار الراضي والمتقي. ص ٦٩.

(٥) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٣٣٦ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ٤١٥.

٦٨٨

٨٩ ـ يوسف بن أبي الساج :

وهو من كبار رجال الدولة العباسيّة ، ومن قادتها المشهورين ، وكان حسن السيرة ، مشهورا بالكرم والاستقامة ، قلّده (المقتدر بالله) أعمال المشرق كلّها (وبضمنها مدينة الكوفة) سنة (٣١٤) (١) للهجرة ، وقيل سنة (٣١٣) (٢) للهجرة ، وكنّاه : بأبي القاسم. وهذا اللّقب يتكّنى به على جميع القادة ما عدا الوزراء ، وأعطاه المقتدر خلعا سلطانية ، وخيلا سروجها من ذهب ، وطيبا ، وسلاحا ، وكان يوسف آنذاك في واسط (٣).

وعند ما وصل يوسف إلى واسط ، جعل له (مؤنس المظفر) أموال الخراج في نواحي : همدان وساوة وقم وقاشان وماه (٤) البصرة وماه (٥) الكوفة وماسنبذان ليصرفها على مائدته ، ويستعين بها على حرب القرامطة (٦).

وكان يوسف بن أبي الساج ، قد أسّر (غلاما للطائي) في مكّة سنة (٢٧١) للهجرة ، وأراد أن يعتدي على الحجّاج ، إلّا أنّ الحجّاج تمكّنوا من فكّ أسر غلام الطائي ، ثمّ حاربه الطائي بمعاونة الحجّاج (وكانت الحرب على أبواب المسجد الحرام) وتمكّنوا أخيرا من أسر يوسف فأرسلوه إلى بغداد مقيّدا (٧) ، ثمّ حبس في دار القهرمانة سنة (٣٠٤) (٨).

__________________

(١) الهمذاني ـ تكملة تاريخ الطبري. ص ٢٤٩ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ٣٨٥. والقاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ١ / ٣٢٢.

(٢) تاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٣١٤.

(٣) الهمذاني ـ تكملة تاريخ الطبري. ص ٢٤٩.

(٤) ماه البصرة : نهاوند.

(٥) ماه الكوفة : الدينور.

(٦) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ١٦٢.

(٧) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٨٠.

(٨) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٥ / ٥٤.

٦٨٩

وفي سنة (٣١١) للهجرة ، أطلق سراح يوسف ، وذهب إلى دار الخلافة ، فعقد له الخليفة (المقتدر) على أعمال الصلاة والمعاون والخراج بالريّ والجبال وأذربيجان على أن يرسل إلى السلطان خمسمائة ألف دينار في كلّ سنة (١).

وفي سنة (٣١٥) للهجرة ، وردت الأخبار بأن أبا طاهر القرمطي قد تحرك من (هجر) (٢) يريد الكوفة فكتب الخليفة (المقتدر) إلى يوسف بن أبي الساج يأمره بالذهاب إلى الكوفة لمحاربته ، ومنعه من دخول الكوفة ، كما أنّ الوزير عليّ بن عيسى أمر (عمّال الكوفة) بإعداد الميرة ليوسف.

ولمّا وصل يوسف إلى الكوفة ، كان القرمطي قد وصلها قبله ، فاستولى على جميع ما أعدّ ليوسف من مؤونة.

وعند ما التقى يوسف بالقرمطي عند باب الكوفة ، استهزأ يوسف بالقرمطي وجيشه ، وذلك لقلّة جيش القرمطي ، وكثرة جيشه ، وقال : (إن هؤلاء الكلاب بعد ساعة يكونون في يدي) وأراد أن يكتب إلى الخليفة كتاب الفتح والبشارة بالظفر ، قبل التقاء الجيشين تهاونا بهم ، ثمّ دارت المعارك بينهما من الصباح حتّى المساء ، ولمّا رأى يوسف شدة الحرب وضراوتها ، باشر الحرب بنفسه في اليوم الثاني ، وعند ما بدأت الحرب ، كانت أشد ضراوة من اليوم الأول وقد تمّ أسر يوسف بعد أن أصيب بعدّة جراحات ، وانهزم جيشه.

وجيء بيوسف إلى خيمة في معسكر القرمطي لمعالجته ، فقال الطبيب : (سألني يوسف عن أهلي وعن أسمي ، فأخبرته ، فوجدته عارفا بهم ، أيّام

__________________

(١) الهمذاني ـ تكملة تاريخ الطبري. ص ٢٢٥.

(٢) هجر : مدينة كبيرة ـ عاصمة الأحساء ، تكثر فيها زراعة النخيل ، وبها يضرب المثل المشهور (كناقل التمر إلى هجر).

٦٩٠

توليته إمارة الكوفة ، فعجبت من ذاكرته ، وعدم اكتراثه لما هو فيه) (١).

ولمّا وصل الخبر إلى بغداد ، خاف الناس من القرامطة خوفا شديدا ، ففرّوا وقرّروا الهرب إلى حلوان وهمذان ، ثمّ وصل المنهزمون (من القرمطي) إلى بغداد وهم عراة ، حفاة.

وحاول (مؤنس المظفر) تخليص يوسف بن أبي الساج من الأسر ، فأرسل جيشا من ستّة آلاف مقاتل ، بقيادة (بليق) ولمّا وصل الجيش ، التقى مع جيش القرامطة ، فكانت معركة شديدة ، أسفرت عن انهزام جيش (بليق).

وعند ما كانت المعركة مستمرّة بين الطرفين ، خرج يوسف من خيمته لينظر إلى المعركة ، فناداه أصحابه : (أبشر بالفرج).

فلمّا سمع القرمطي بذلك ، ورآى خروج يوسف من الخيمة ، قال ليوسف : أتريد أن تنهزم؟ وهل ظننت أنّ قومك يخلّصونك؟ ثمّ قال له : (ما دمت حيّا فلأصحابك طمعا فيك) (٢). فأمر بقتله ، وقتل كلّ من كان معه من الأسرى ، كان ذلك في سنة (٣١٥) (٣) للهجرة.

وكان عدد أصحاب القرمطي : ألف فارس ، وخمسمائة راجل ، وعدد أصحاب يوسف بن أبي الساج أكثر من عشرين ألف مقاتل.

وقيل لبعض أصحاب القرمطي : كيف تغلبون ، وأنتم قلّة؟! فقالوا : (نحن نقدر السلامة في الثبات ، وهؤلاء يقدرونها في الهرب) (٤).

ولمّا سمع الخليفة (المقتدر) بعدد عسكره ، وعسكر القرمطي قال : (لعن

__________________

(١) الهمذاني ـ تكملة تاريخ الطبري. ص ٢٥٣.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٢١٠ والتنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ١ / ٣٢٢.

(٣) نفس المصدرين أعلاه.

(٤) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٣ / ٢٦٤.

٦٩١

الله نيفا وثمانين ألفا ، يعجزون عن ألفين وسبعمائة)!!.

٩٠ ـ أحمد بن عبد الرحمن :

تولّى أحمد بن عبد الرحمن إمارة الكوفة سنة (٣١٥) للهجرة ، ولّاه إيّاها الوزير عليّ بن عيسى ، وذلك بعد عزل ياقوت عنها ولحين مجيء يوسف بن أبي الساج إليها (١).

٩١ ـ عيسى بن موسى :

كان هناك جماعة من السواد (٢) ، يؤمنون بمذهب القرامطة ، ولكنّهم كانوا يكتمون اعتقادهم ذلك ، خوفا من السلطة.

ثمّ بعد ذلك أظهروا اعتقادهم ، فاجتمع منهم في (سواد واسط) أكثر من عشرة آلاف رجل ، وولّوا أمرهم (حريث بن مسعود) (٣).

واجتمعت طائفة أخرى في (عين التمر) ونواحيها في جمع كثير ، وجعلوا رئيسا لهم (عيسى بن موسى) (٤) ، وكانوا يدعون إلى (المهدي) (٥).

ثمّ ذهب عيسى بن موسى إلى الكوفة فنزل بظاهرها ، فجبى الخراج ، وعزل العمّال عن السواد (٦).

فأرسل الخليفة (المقتدر بالله) على حريث بن مسعود جيشا بقيادة

__________________

(١) القرطبي ـ صلة تاريخ الطبري. ص ١١٤.

(٢) السواد : سواد الفرات.

(٣) حربث بن مسعود : وهو من بني رفاعة.

(٤) عيسى بن موسى : وهو ابن أخت عيدان القرمطي.

(٥) المهدي : هو محمّد (المهدي) الإمام المنتظر عليه‌السلام وهو الإمام الثاني عشر عند الإمامية.

(٦) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ١٨٦.

٦٩٢

هارون بن غريب الخال ، وأرسل إلى عيسى بن موسى جيشا آخر بقيادة (صافي البصري). وبعد معارك بين هارون بن غريب وبين حريث بن مسعود من جهة وبين صافي البصري وعيسى بن موسى من جهة أخرى ، انهزمت القرامطة وأسّر الكثير منهم ، وقتل أكثر مما أسر ، وأخذت أعلامهم (وكانت بيضاء) مكتوب عليها : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(١). ثمّ جيء بهم إلى بغداد وأعلامهم منكوسة ، فقتلوا وصلبوا (٢) ، وانتهى أمر القرامطة في السواد ، وكفى الله العباد شرهم ، كان ذلك سنة (٣١٦) للهجرة (٣).

٩٢ ـ هارون بن غريب الخال :

وهو ابن خال الخليفة (المقتدر بالله) ولمّا مات أبوه (غريب) سنة (٣٠٥) للهجرة ، عقد له (المقتدر) ما كان لأبيه من امتيازات وصلاحيات ، كما ولقبه سنة (٣١٦) للهجرة (بأمير الأمراء). ويخاطب بالأمره (٤).

قلّده الخليفة (المقتدر بالله) إمارة الكوفة سنة (٣١٦) (٥) للهجرة ، وقلّده كذلك كور الجبل كلّها ، وضمّ إليه وجوه القادة عند وصوله إلى الكوفة.

وكان هارون مسيطرا على الدولة أيّام المقتدر ، فهو يشترك في ترشيح الوزراء وتعيين الأمراء ، وكان له دور كبير في إخماد ثورة العامّة ، الّتي قامت

__________________

(١) سورة القصص : الآية ـ ٥.

(٢) القرطبي ـ صلة تاريخ الطبري. ص ١١٩.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ١٨٧ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٣ / ٢٧٣.

(٤) الزركلي ـ الأعلام. ج ٩ / ٤٣ والهمذاني ـ تكملة تاريخ الطبري. ص ٢٥٨.

(٥) القرطبي ـ صلة تاريخ الطبري. ص ١٢٠.

٦٩٣

في بغداد سنة (٣٠٧) (١) للهجرة في وزارة حامد بن العبّاس ، وكان هارون من خصوم الوزير (ابن الفرات) ومن أنصار الوزير (عليّ بن عيسى).

وهارون هذا هو : أحد القادة الذين اشتركوا في حرب أبي طاهر القرمطي وتخليص البلاد من شروره سنة (٣١٥) (٢) للهجرة.

وقد حدثت خصومة بين هارون وبين القائد التركي (نازوك) وكذلك خاصم (مؤنس المظفر) ، فطلب قادة الجيوش من الخليفة العباسي (المقتدر) أن يبعد هارون خارج بغداد ، فقلده (المقتدر) عند ضغط القادة الثغور الشامية والجزيرة ، ولكن هارون ذهب إلى (قطربل) وأقام بها (٣).

ثمّ خلع الخليفة (المقتدر) وبويع (القاهر بالله) بالخلافة سنة (٣١٧) للهجرة. فأعيد (المقتدر) للخلافة بعد ثلاثة أيّام ، وأرسل هارون إلى الجبل لمحاربة (مرداويج) ، ثمّ عاد إلى بغداد ، فغضب (مؤنس المظفر) لعودته إلى بغداد ، فأرسل هارون إلى الموصل ، ثمّ كرّ راجعا إلى بغداد ، وحارب المقتدر ، فقتله.

وبعد قتل الخليفة (المقتدر) ذهب هارون الخال إلى واسط ، ثمّ تقلّد أعمال المعاون بالكوفة ، ولمّا تولّى (الراضي بالله) الخلافة سنة (٣٢١) (٤) للهجرة ، كتب هارون الخال إلى قادة الجيش في بغداد وأعلمهم ، بأنّه أحقّ (بالحضرة السلطانية ورئاسة الجيش) لذا جاء هارون إلى بغداد ، وقبل وصوله بيوم ، كتب إليه (ابن مقله) (٥) بأن يرجع إلى الدينور ، فقال له

__________________

(١) الزركلي ـ الأعلام. ج ٩ / ٤٣.

(٢) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٨ / ١٨١.

(٣) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٨ / ١٨١.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) ابن مقله : وزير الخليفة الراضي.

٦٩٤

هارون : إنّ واردات الدينور قليلة جدا ، وهي لا تكفي رواتب جنده لكثرتهم ، عندها أرسل الخليفة (الراضي بالله) إليه (محمّد بن ياقوت القراريطي) وأمره أن يبلغ هارون بالذهاب إلى خراسان ، حيث قلده عليها.

فقال له هارون : بأنّ جنوده لا يرضون بهذا ، كما أنه لا يوجد شخص أحقّ منه في خدمة الخليفة ، فقال له ابن ياقوت : لو تراعي أمير المؤمنين ما عصيته ، فحصلت بينهما مشادّة كلامية.

ثمّ تقدم هارون بجيشه نحو بغداد ، فالتقى بجيش محمّد بن ياقوت ، فكانت معركة بينهما ، انتهت بمقتل هارون بن غريب الخال ، وذلك في شهر جمادي الآخر سنة (٣٢٣) (١) للهجرة.

وقيل سقط هارون من على فرسه ، فلحقه خادمه ، وقيل خادم أبيه ، فضربه ضربة مميتة ، ثمّ جاء بعده غلام أسود فذبحه ، وأرسل برأسه وبرؤوس أصحابه إلى الخليفة (الراضي) فنصبت الرؤوس على باب (٢) العامة ببغداد. وقيل إنّ الّذي قتله هو محمّد بن ياقوت ، يوم الثلاثاء في السابع والعشرين من شهر رجب سنة (٣٢٢) (٣) للهجرة.

وقيل عند ما ثار قادة الجيش على الخليفة (المقتدر) سنة (٣١٧) فخلعوه ، ودخلوا قصره فنهبوه ، وأرادوا قتله ، إلّا أنّ مؤنس المظفر قد تمكن من إخراج المقتدر مع ابنه (عبد الواحد) وأمّه ، وأرسلهم إلى قصره ، فذهب الجند بعد ذلك إلى قصر هارون بن غريب الخال فنهبوه ، حتّى صارت بغداد

__________________

(١) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٨ / ١٨١.

(٢) الهمذاني ـ تكملة تاريخ الطبري. ص ٢٨٧.

(٣) الصولي ـ أخبار الراضي والمتقي. ص ٧ والزركلي ـ الأعلام. ج ٩ / ٤٣ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٧ / ٢٨٩. والذهبي ـ التاريخ الإسلامي. ج ٢٤ / ٢٦.

٦٩٥

مسرحا للصوص ، والعابثين بالأمن والنظام (١).

٩٣ ـ محمّد بن ورقاء (أبو الفوارس)

في سنة (٣١٨) للهجرة ، ثار أعراب بني نمير بن عامر ، ومعهم بني كلاب بن ربيعة بظهر الكوفة ، فعاثوا فسادا وتطاولوا على المسلمين ، وقطعوا الطريق ، فخرج إليهم أبو الفوارس محمّد بن ورقاء أمير الكوفة ، مع جماعة من أهل الكوفة ، ومعهم بنو هاشم (من الطالبيين والعباسيين) ولم يكن معه جند سواهم.

فقاتل (أبو الفوارس) الأعراب بنفسه ، وبعد معارك دامية بين الطرفين وقع (أبو الفوارس) أسيرا في أيدي الأعراب ، وأسّر معه (ابن عمر العلوي) فأخذهم الأعراب إلى مخابئهم ، ولم يلحقوا أيّ أذى بالأسرى.

ثمّ طلبوا منهم الفداء ، ففدوا أنفسهم ، وتخلّصوا منهم ، وعادوا إلى الكوفة (٢).

٩٤ ـ محمّد بن يزداد :

كان أميرا على الكوفة سنة (٣٢٥) (٣) للهجرة.

لم نعثر على ترجمة لمحمد بن يزداد ، هذا ما تيسر لنا من مصادر.

__________________

(١) القرطبي ـ صلة تاريخ الطبري. ص ١٢٣.

(٢) القرطبي ـ صلة تاريخ الطبري. ص ١٢٧.

(٣) زامباور ـ معجم الأسرات الحاكمة في العراق.

٦٩٦

٩٥ ـ لؤلؤ :

وهو أحد غلمان محمّد بن هارون. خلع (١) عليه (الراضي بالله) إمارة الكوفة سنة (٣٢٥) للهجرة ، ثمّ قلّده بغداد يوم السبت في السادس من شهر رجب من هذه السنة أيضا ، فصارت تحت سيطرته من الكوفة إلى بغداد ، ومن الأنبار إلى بغداد ، ومن النعمانية إلى بغداد (٢).

وفي هذه السنة أي سنة (٣٢٥) للهجرة ، دارت الحرب بين ابن رائق والحجريّة فنصب لهم (بجكم التركي) كمينا ، فوضع السيف في رقابهم ، وولوا منهزمين بعد أن أسر جماعة من رؤسائهم ، ثمّ كتب الخليفة (الراضي) إلى لؤلؤ أن يقبض على من كان منهم في بغداد ، ويحرق منازلهم (٣).

ولؤلؤ هذا هو الّذي قتل (بدر) في خلافة (المكتفي) سنة (٢٨٩) (٤) للهجرة. وفي سنة (٣٢٣) للهجرة ولّاه الخليفة (الراضي بالله) طريق الكوفة ـ مكّة فاعترضه (أبو طاهر) بن أبي سعيد الجنابي القرمطي ، فوقعت بينهم معركة عنيفة ، جرح فيها لؤلؤ جراحات كثيرة ، فهرب واختفى بين جثث القتلى ، وبعد ذلك ذهب إلى الكوفة ، كما وقتل الكثير من حجّاج بيت الله الحرام ، وسبيت النساء ، والتجأ الباقون إلى القادسيّة ، ثمّ تسلّلوا بعد ذلك إلى الكوفة (٥). ثمّ عزل لؤلؤ عن طريق مكّة سنة (٣٢٨) للهجرة ، وعيّن مكانه حاجب بجكم (٦).

فأخذ أصحاب لؤلؤ يعاملون الناس معاملة قاسيّة ، حيث كثرت الجبايات والغرامات عليهم ، عندها عزل لؤلؤ عن رئاسة شرطة بغداد في

__________________

(١) خلع وقلّد : أي كرّم ، وهو اصطلاح جديد بدلا من (ولى) أو (عيّن).

(٢) الصولي ـ أخبار الراضي والمتقي. ص ٨٧ و٨٩.

(٣) الصولي ـ أخبار الراضي والمتقي. ص ٨٦.

(٤) تاريخ الطبري. ج ١٠ / ٩٣.

(٥) الذهبي ـ التاريخ الإسلامي. ج ١٤ / ٣٣.

(٦) الصولي ـ أخبار الراضي والمتقي. ص ٩٨ و١٣٤.

٦٩٧

يوم الأثنين الثاني عشر من شهر صفر سنة (٣٢٦) للهجرة ، وعين مكانه محمّد ابن بدر الشرابي (١).

٩٦ ـ بجكم التركي :

وهو : أحد القادة الأتراك في جيش الخليفة (الراضي بالله) وكان ذا شجاعة نادرة ، ومما يذكر عن شجاعته : أنّه حارب جيش البريدي قوامه عشرة آلاف جندي ، ولم يكن مع (بجكم) من الأتراك سوى مائتين وتسعين فقط. فهزم جيش البريدي (٢).

وكان الراضي بالله يحبّه كثيرا ، فقد خلع عليه المنادمة ، وجعله (أمير الأمراء). ففي سنة (٣٢٥) للهجرة ، خلع الراضي على (بجكم) وولّاه إمارة بغداد ، وعقد له على إمارة المشرق كله إلى خراسان (أي وبضمنها الكوفة).

وفي سنة (٣) (٣٢٧) للهجرة ، ذهب الراضي إلى الموصل لمحاربة الحسن ابن عبد الله بن حمدان وذهب معه (بجكم) فحاربه بجكم فهزمه. وفي هذه السنة ، استولى ابن رائق على بغداد ، فدخلها ومعه ألف من القرامطة (مستغلا غياب الخليفة (الراضي) عنها ، ثمّ خرج ابن رائق وعاد الراضي إليها (٤).

وفي سنة (٣٢٨) للهجرة ، تزوّج بجكم من (ساره) بنت أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن يعقوب (وزير الراضي) على مهر قدره مائتا ألف درهم ، وبحضور الخليفة الراضي (٥).

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١ / ٦٨.

(٣) المنتظم. ج ١٣ / ٣٦٦ والصولي ـ أخبار الراضي والمتقي. ص ٨٧.

(٤) المنتظم. ج ١٣ / ٣٧٧ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ٣٥٤.

(٥) الذهبي ـ التاريخ الإسلامي. ج ٢٤ / ٥٦.

٦٩٨

وفي سنة (٣٢٩) للهجرة ، مرض الراضي ، فكتب إلى بجكم ، يعلمه بشدة مرضه ، ويسأله أن يعقد ولاية العهد لابنه الأصغر (أبو الفضل) (١).

وكان بجكم قد سكن مدينة واسط ، وجعلها مقرّا له ، وكان عادلا ، وكان يقول : (قد نبئت أنّ العدل أربح للسلطان في الدنيا والآخرة). وبنى دار ضيافة للضعفاء والمساكين في واسط ، وبدأ ببناء مستشفى في بغداد سنة (٣٢٩) للهجرة ، وجدّده عضد الدولة فيما بعد سنة (٣٦٨) للهجرة ، وزودها بالأطباء والممرضين (٢).

ويحكى أنّ رجلا من الصوفية ، جاء إلى بجكم فوعظه (باللغة العربيّة والفارسيّة) فبكى بجكم بكاء شديدا ، ولمّا ذهب ذلك الصوفي ، قال بجكم لأحد غلمانه : اتبع هذا الصوفي واعطه ألف درهم ، ثمّ قال بجكم : (ما أظنّه يقبلها ، وهو على حاله هذه من العبادة) وأيش يعمل بالدراهم؟

ولمّا رجع الغلام سأله بجكم : وهل أخذ الدراهم؟ قال الغلام : نعم.

فقال بجكم : (كلّنا صيادون ، ولكنّ الشباك تختلف) (٣).

وكان بجكم ، يفهم اللغة العربية ، ولكنّه لا يتكلّم بها ، ويقول : (أخاف أن أخطئ ، والخطأ من الرئيس قبيح) (٤) (٥).

وكان بجكم التركي ، قد عشق جارية من القيان يقال لها (فتوّة) جارية الهاشميّة ، فكان يحضر مجلسها ، ويستمع إليها ، ويعطيها كلّما تطلب ، إلّا أنّه لا يبوح بحبّه لها ، وذلك ترفّعا منه وأنفة ، وقد اشترى لها عودا ذات يوم لتغنّي به فسكر ، وخسف وجه العود ، فملأه لها دراهم ، فكانت أكثر من

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٣ / ٣٨٢.

(٢) آدم متيز ـ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع للهجرة. ج ٢ / ٢٠٧ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٣٢٠.

(٣) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٣٢٢.

(٤) الصولي ـ أخبار الراضي والمتقي. ص ١٩٤ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٣٢٠.

(٤) الصولي ـ أخبار الراضي والمتقي. ص ١٩٤ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٣٢٠.

٦٩٩

عشرين ألف درهم (١).

وكان بجكم يدفن أمواله في داره (بواسط) وفي الصحراء ، فكان يأخذ معه رجالا فيضعهم في صناديق ، ثمّ يقفلها عليهم ، ويأخذ الصناديق الّتي فيها الأموال وهناك (في الصحراء) يفتح الصناديق الّتي فيها الرجال ، ويأمرهم بدفن المال ، ثمّ يعود بالرجال إلى واسط (بعد أن يعيدهم إلى الصناديق) فلا يدرون في أيّ مكان دفنت الأموال.

وقيل إنّ القرامطة لمّا أخذوا الحجر الأسود من مكّة سنة (٣١٧) (٢) للهجرة ، وذهبوا به إلى (هجر) أعطاهم خمسين ألف دينار لقاء ردّ الحجر الأسود إلى الكعبة ، فرفضوا ذلك وقالوا : (أخذناه بأمر ، ونعيده بأمر) (٣).

وكان بجكم التركي قد أرسل إلى الطبيب (سنان بن ثابت) (٤) وقال له : (أريد الاعتماد عليك في تدبير (بدني) وعندي أمر آخر هو أهمّ اليّ من بدني ، وهو : أخلاقي (وذلك لثقتي بعقلك ودينك) فقد غلبني الغضب ، حتّى أصبحت أندم على ما قمت به أثناء غضبي ، من ضرب وقتل ، وأنا أطلب منك أن تتحرّى عن جميع أعمالي فتنبهني على ما يصدر عني ، ثمّ ترشدني إلى علاجه).

فقال سنان : السمع والطاعة للأمير ، ولكن ليسمح لي الأمير ، أن أعطيه بعض العلاج حالا ، وسوف آتيه بالتفصيل في أوقاته.

(إعلم أيّها الأمير ، أنّك أصبحت وليس فوق يدك يد لأحد المخلوقين ، وإنّك مالك لكلّ ما تريده ، وقادر أن تفعله في أيّ وقت أردته ، لا يتهيّأ لأحد من

__________________

(١) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ١ / ١٠٦.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٨ / ٤٨٦.

(٣) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٤ / ٨٠.

(٤) سنان بن ثابت : بن قرة الحراني ، كان الطبيب الخاصّ للخليفة المقتدر.

٧٠٠