أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

٤٨ ـ أبو عبد الله (أخو أبي السرايا):

ثار أبو عبد الله ، أخو (أبي السرايا) بالكوفة سنة (٢٠٢) للهجرة ، وكان شعاره البياض (١) ، وقد التحق به جماعة كثيرة من المؤيدين والأنصار ، فلقيه غسان بن أبي الفرج في شهر رجب من هذه السنة ، فقتله ، وشتت جمعه ، وبعث برأسه إلى إبراهيم بن المهدي (٢) ، وقيل قتله في ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الآخرة من سنة (٢٠٢) (٣) للهجرة.

٤٩ ـ حميد بن عبد الحميد الطوسي :

وكنيته : أبو غانم. وحميد بن عبد الحميد هو أحد كبار قادة جيوش الحسن بن سهل في خلافة المأمون ، وكان معسكرا ومقيما في (النيّل) (٤). وكان جبّارا ، وذا قوة وبطش ، وكان المأمون ينتدبه للمهمّات الصعبة (٥).

وقيل كان حميد بن عبد الحميد في بدء حياته خبّازا (٦).

وكان حميد يقول : (إنّنا قد آيسنا من الآخرة ، وإنّما هي الدنيا ، فلا نحتمل والله لأحد ، أن ينّغصها علينا) (٧).

وفي سنة (٢٠١) كان حميد بن الحميد (أميرا) في قصر ابن هبيرة من قبل الحسن بن سهل ومعه من القادة : (سعيد بن الساجور ، وأبو البطّ ،

__________________

(١) البياض : وهو شعار الأمويين ، وهو عكس شعار العباسيين الّذي هو السواد.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٥٨ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ١٠٧ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٨ / ١٤.

(٣) ابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٢٤٨.

(٤) النيّل ـ تصغير كلمة النيل : وهي بلدة صغيرة في سواد الكوفة.

(٥) أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ١٩٠ والزركلي ـ الأعلام. ج ٢ / ٢٨٣.

(٦) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ٢٢٠.

(٧) الترمانيني ـ أزمنة التاريخ الإسلامي. ج ١ / ٥٩٥.

٦٠١

وغسان بن أبي الفرج ، ومحمّد بن إبراهيم الإفريقي) وغيرهم. وقد حصل خلاف ما بين هؤلاء القادة وبين حميد ، فكتبوا (سرّا) إلى إبراهيم بن المهدي : بأنّهم على استعداد لتسليمه قصر ابن هبيرة ، وكتبوا في نفس الوقت إلى الحسن بن سهل ، يخبرونه بأنّ حميد يكاتب إبراهيم بن المهدي (سرا) (١).

فكتب الحسن بن سهل إلى حميد يستدعيه ، فلم يذهب إليه حميد أوّل الأمر ، إلّا أنّه ذهب بعد أن كتب إليه الحسن بن سهل ثانية.

فكتب سعيد بن الساجور ، وأصحابه إلى إبراهيم بن المهدي ، يخبرونه بذهاب حميد إلى الحسن بن سهل ، ويطلبون منه أن يبعث عيسى بن محمّد ابن أبي خالد ليتسلّم قصر ابن هبيرة ، ومعسكر حميد ، ثمّ هجم سعيد بن الساجور وأصحابه على معسكر حميد ، فنهبوا كلّ ما فيه ، وهرب ابن لحميد (كان في المعسكر) فلحق بأبيه ، ودخل عيسى بن محمّد إلى قصر ابن هبيرة ، واستولى عليه.

ولمّا سمع حميد بن عبد الحميد بالاستيلاء على قصر ابن هبيرة ، ونهب معسكره ، ذهب إلى الكوفة وأخذ أموالا له كانت هناك ، ثمّ ولّى على الكوفة (العبّاس بن الإمام موسى بن جعفر) وأمره بلباس الخضرة ، وأن يدعو للمأمون ومن بعده لأخيه الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام ثمّ أعطاه مائة ألف درهم وقال له : (قاتل عن أخيك فإن أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك وأنا معك) (٢).

وفي سنة (٢٠٣) للهجرة ، أمر إبراهيم بن المهدي بضرب عيسى بن محمّد بن أبي خالد وحبسه فكتب أخوه (عيسى) إلى حميد بن عبد الحميد ، أن يأتي إلى بغداد ليسلّموها له ، على أن يعطي جند أهل بغداد خمسين

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٢.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٥٩ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٣ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٤ / ٨.

٦٠٢

درهما لكل واحد منهم.

وكان المأمون قد كتب إلى الحسن بن سهل ، يأمره بلبس الخضرة ، وأن يبايع لعلي بن موسى بن جعفر بولاية العهد من بعده ، ويأمره أيضا بالذهاب إلى بغداد ومحاصرتها ، وكتب أيضا إلى حميد أن يتقدّم هو الآخر ، ويحاصر بغداد من جهة أخرى ، ويأمره أيضا بلباس الخضرة.

فذهب حميد إلى بغداد ، ولمّا وصل إلى (صرصر) علم إبراهيم بن المهدي بمجيئه ، فأخرج عيسى بن محمّد وأخوته من الحبس.

ولمّا وصل حميد إلى الياسرية ، أعطى لجنود أهل بغداد الخمسين درهما الّتي وعدهم بها ثمّ أرسل إبراهيم بن المهدي إلى عيسى بن محمّد ، وطلب منه أن يقاتل حميد ، فدعا عيسى بن محمّد الجند وقال لهم : بأنه سوف يعطيهم مثلما أعطاهم حميد ، غير أنّهم رفضوا ، وشتموا إبراهيم بن المهدي وقالوا : (إنّنا لا نريد إبراهيم) (١).

ثمّ دارت الحرب بين الطرفين ، انتهت بهروب إبراهيم بن المهدي واختفائه. عندها دخل حميد بن عبد الحميد إلى بغداد ، فالتحق به أكثر قادة إبراهيم بن المهدي ، وكذلك أخذ الهاشميّون يلتحقون بمعسكر حميد الواحد بعد الآخر.

وظل إبراهيم بن المهدي مختفيا إلى أن جاء المأمون إلى بغداد ، فطلب المأمون من كافة قادة الجيوش (بما فيهم حميد) العودة إلى معسكراتهم والإقامة فيها.

وقيل إنّ العكوك (٢) قد مدح حميد بن عبد الحميد ، بعد ما مدح أبي دلف ، فقال له حميد :

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٧٢.

(٢) العكوك : هو الشاعر عليّ بن جبلة الضرير المعروف بالعكوك.

٦٠٣

وما عساك أن تقول فينا؟ بعد أن قلت لأبي دلف (١) :

إنّما الدنيا أبو دلف

بين مغزاه ومحتضره

فقال له العكوك : أصلح الله الأمير ، قد قلت فيك ما هو أحسن من هذا ، فقال (٢):

إنّما الدنيا حميد

وأياديه الجسام

فإذا ولّى حميد

فعلى الدنيا السلام

وقال العكوك يمدح حميد أيضا :

دجلة تسقي وأبو (٣) غانم

يطعم من تسقي من الناس

والناس جسم وإمام (٤) الهدى

رأس وأنت العين والراس (٥)

وقال العكوك لحميد بن عبد الحميد : إنّي مدحت المأمون بشعر لم أمدح مثله قط فاذكرني عند المأمون ، فذهب حميد إلى المأمون ، وقال له ما قال العكوك ، فقال له المأمون : لقد قال العكوك في أبي دلف ، وقال فيك أيضا ، فإذا كان ما قاله فيّ أحسن مما قاله فيكما كافأناه ، وإن كان أقلّ عاقبناه. فذهب حميد إلى العكوك ، وأخبره بما قال المأمون ، فسكت العكوك.

وقيل إنّ العكوك قد قال في مدح حميد (٦) :

لو لا حميد لم يكن

حسب يعدو ولا نسب

يا واحد العرب الّذي

عزّت بعزته العرب

وقال أبو جعفر المنصور يوما لقادته : (صدق من قال : جوّع كلبك

__________________

(١) حسن سعيد الكرمي ـ قول على قول. ج ٤ / ٢٥٦.

(٢) الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٥ / ١٢٣ وحسن سعيد الكرمي ـ قول على قول. ج ٤ / ٢٥٦.

(٣) أبو غانم : كنية حميد.

(٤) إمام الهدى : الخليفة المأمون.

(٥) الماوردي ـ نصيحة الملوك. ص ٧٧.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٦٥٦.

٦٠٤

يتبعك) فقال له حميد الطوسي : (لكن إذا لوّح له برغيف يتركك) (١).

وغضب هارون الرشيد مرة على حميد ، فدعا له بالسيف ، فلما رآه بكى ، فقال له الرشيد : وما يبكيك؟ قال حميد : (والله يا أمير المؤمنين ، ما أفزع من الموت ، لأنّه لابدّ منه ، وإنّما بكيت أسفا على خروجي من الدنيا وأنت ساخط عليّ) فضحك الرشيد وقال : (إنّ الكريم إذا خادعته انخدعا) (٢).

مات حميد الطوسي في يوم عيد الفطر من سنة (٢١٠) للهجرة ، وحينما جاء أصحابه ليشيعوه ، فوقفوا أمام قصره ، ينتظرون إخراج جنازته وإذا بجاريته (عذل) تطل عليهم من القصر وأنشأت تقول (٣) :

من كان أصبح هذا اليوم مغتبطا

فما غبطنا والله محمود

أو كان منتظرا للفطر سيده

فإن سيدنا في اللحد ملحود

وقال عليّ بن جبلة (العكوك) يرثي حميد بقصيدة طويلة نقتطف منها (٤) :

وكيف التقى مثوى من الأرض ضيق

على جبل كانت به الأرض تمنع

هوى جميل الدنيا المنيع وغيثها

المريع وحامي الكمي المشيع

وسيف أمير المؤمنين ورمحه

ومفتاح باب الخطب والخطب أمضع

ألم تر أنّ الشمس حال ضياؤها

عليه وأضحى لونها وهو أسفع

وأوحشت الدنيا وأودى بهاؤها

وأجدب مرعاها الّذي كان يمرع

وقد كانت به الدنيا مطمئنة

فقد جعلت أوتادها تتقلع

__________________

(١) التوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٧ / ٤٥.

(٢) المصدر السابق. ج ٧ / ١٢٢.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٦٠٩ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ٢٢٠ والماوردي ـ نصيحة الملوك. ص ٧٧.

(٤) الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١٢٣٠.

٦٠٥

٥٠ ـ العبّاس بن موسى بن جعفر :

هو : العبّاس بن الإمام موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (١). وله خمسة أولادهم : أحمد ومحمّد والقاسم وموسى وجعفر (٢).

ولّاه حميد بن عبد الحميد الطوسي إمارة الكوفة سنة (٢٠١) للهجرة وقيل سنة (٢٠٢) للهجرة ، وأمره أن يلبس الخضرة وأن يدعو للمأمون بالخلافة ومن بعده لأخيه عليّ بن موسى الرضا (٣) ، ثمّ قال له : (قاتل عن أخيك ، قاتل عسكر إبراهيم بن المهدي ، فإنّ أهل الكوفة شيعتكم وأنا معكم). ثمّ أعطاه مائة ألف درهم ، ثمّ خرج حميد من الكوفة وترك فيها العبّاس بن موسى بن جعفر. فأخذ العبّاس يدعو لأخيه الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام بالخلافة من بعد المأمون ، فتبعه بعضهم ، وقال له البعض الآخر : إنّ كنت تدعو لأخيك ، فنحن معك ، وأما المأمون فلا حاجة لنا فيه ، فقال العبّاس : بل أدعو للمأمون ، ومن بعده لأخي ، فتركوه (٤).

ثمّ أرسل إبراهيم بن المهدي إلى الكوفة سعيد بن الساجور وأبا البط لمحاربة العبّاس بن موسى ، ولمّا وصلا إلى قرية (شاهي) القريبة من الكوفة أرسل اليهم العبّاس ابن عمّه عليّ بن محمّد بن جعفر ، وأرسل معه جماعة من أهل الكوفة ، كان منهم : أخو أبي السرايا ، فاقتتلوا ساعة انهزم بعدها عليّ بن محمّد وأهل الكوفة ، فجاء سعيد بن الساجور وأصحابه إلى

__________________

(١) ابن عنبة ـ عمدة الطالب. ص ١٩٧.

(٢) ابن حزم ـ جمهرة أنساب العرب. ص ٦٤.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٥٩ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٤ والذهبي ـ التاريخ الإسلامي. ج ٧ / ١٤ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٤٧.

(٤) الطبري ج ٨ / ٥٦١ والكامل ج ٦ / ٣٤٤.

٦٠٦

(الحيرة) فوصلوها في الثاني من شهر رجب سنة (٢٠٢) للهجرة ، ثمّ تقدموا وقاتلوا أهل الكوفة ، واستمر القتال إلى الليل ، وكان شعار سعيد : (يا إبراهيم يا منصور ، لا طاعة للمأمون) وكان عليهم السواد ، أما أهل الكوفة فكانت عليهم الخضرة (١). وكان كلّ فريق من المتحاربين إذا استولى على شيء أحرقوه.

فلما رأى رؤساء وزعماء أهل الكوفة ما حلّ بهم من الدمار والخراب ، ذهبوا إلى سعيد بن الساجور ، فطلبوا منه الأمان (للعباس) ولأصحابه ، على أنّ يخرج العبّاس من الكوفة فوافق على ذلك. ثمّ ذهبوا إلى العبّاس بن موسى ، وقالوا له : إن أكثرية من معك هم غوغاء ، وإنّك لترى ما حلّ بنا من الحرق والنهب والقتل ، فاخرج من الكوفة فلا حاجة لنا فيك ، فوافق على طلبهم. ثمّ شغب أصحاب العبّاس على من بقي من أصحاب سعيد بن الساجور وقاتلوهم ، فانهزم أصحاب سعيد إلى الخندق (٢) ، ونهب أصحاب العبّاس دور عيسى بن موسى العباسي ، وأحرقوا وقتلوا من ظفروا به.

فأرسل العباسيون الموجودون في الكوفة إلى سعيد بن الساجور ، وهو في (الحيرة) يخبرونه بأن العبّاس بن موسى قد نقض الأمان ، فجاء سعيد ودخل الكوفة (ليلا) فقتل من وجده ممّن نهب ، ثمّ أحرق كلّ ما نهبوه ، ثمّ بقي في الكوفة طوال الليل ، فذهب إليه رؤساء الكوفة وقالوا له : إن ما حدث هو عمل الغوغاء ، وإنّ العبّاس لم يرجع عن الأمان ، فرجع سعيد إلى الحيرة.

وفي الصباح دخل سعيد إلى الكوفة ومعه أبو البطّ ، ونادوا بالأمان ولم يتعرضوا لأحد ، ثمّ عينوا على الكوفة الفضل بن محمّد بن الصباح الكندي (٣).

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٣.

(٢) الخندق : خندق الكوفة.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٤.

٦٠٧

٥١ ـ هارون بن محمّد :

وهو : هارون بن محمّد بن أبي خالد الهندوان ، أرسله أبوه (محمّد) إلى (النيّل) (١) وكان فيها آنذاك سعيد بن الساجور الكوفي ، فانهزم ابن الساجور إلى الكوفة ، فتبعه هارون ودخل الكوفة واستولى عليها ، كان ذلك سنة (٢٠١) (٢) للهجرة.

ثمّ رجع هارون إلى أبيه في (دير العاقول) لينظم إلى جيش عيسى بن يزيد الجلودي ومحمّد بن جعفر ، ليذهبوا سوية إلى واسط لمحاربة الحسن بن سهل ، فحصلت هناك معركة بين الطرفين أسفرت عن هزيمة ابن أبي خالد شرّ هزيمة ، وقد أصيب بجراحات كثيرة ، مات على أثر تلك الجراحات.

فقال الشاعر أبو الشداخ يرثي محمّد بن أبي خالد (٣) :

هوى خيل الأبناء بعد محمّد

وأصبح منها كاهل العزّ أخصما

فلا تشمتوا يا آل سهل بموته

فإنّ لكم يوما من الدهر مصرعا

ثمّ عاد هارون إلى (النيّل) بعد هزيمته في واسط ، فتبعه حميد بن عبد الحميد الطوسي وأصحابه إلى (النيّل) فنهبوها.

وقيل إنّ إبراهيم بن المهدي قد ضرب عيسى بن محمّد بن أبي خالد ، ثمّ حبسه ، وسبب ذلك أن عيسى كان يكاتب (سرا) حميد بن عبد الحميد والحسن بن سهل ، وقيل إنّ الّذي أخبر إبراهيم بن المهدي هو أخوه هارون (٤).

__________________

(١) النيّل : قرية في سواد الكوفة قرب الحلة.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٤٧ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٢٢.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٥٠.

(٤) المصدر السابق. ج ٨ / ٥٦٩.

٦٠٨

وفي سنة (٢١٤) للهجرة ، ثار بلال الضبابي الشاري ، فأرسل المأمون إليه أبنه (العبّاس) وبعض القادة كان منهم هارون بن محمّد بن أبي خالد ، فقتل بلالا ، قتله هارون (١).

٥٢ ـ سعيد بن الساجور وأبو البط :

وسعيد بن الساجور الكوفي ، وأبو البطّ : هما قائدان في جيش حميد بن عبد الحميد الطوسي التابع للحسن بن سهل (وزير المأمون في العراق) وكانا مقيمين مع حميد في قصر ابن هبيرة ، وكانا يراسلان إبراهيم (٢) بن المهدي (سرا) ليأخذا له قصر ابن هبيرة ، وكانا في نفس الوقت يراسلان الحسن بن سهل ، ويخبرانه : بأن حميد يراسل إبراهيم بن المهدي (سرا) ، فكتب الحسن بن سهل إلى حميد يستدعيه ، ولكنه لم يذهب إليه ، خوفا من أن يستولي سعيد بن الساجور وجماعته على معسكره ، ولكن بعد إلحاح من الحسن بن سهل ذهب حميد إليه (٣).

وعندها كتب سعيد بن الساجور وأبو البطّ إلى إبراهيم بن المهدي ، يطلبان منه أن يرسل اليهما (عيسى بن محمّد بن أبي خالد) ليسلّماه قصر ابن هبيرة ، ولمّا وصل عيسى إلى هناك انهزم أصحاب حميد ، فهجم سعيد بن الساجور وأبو البطّ والفضل بن محمّد بن الصباح الكندي على معسكر حميد ، فنهبوا جميع ما فيه وذلك سنة (٢٠١) (٤) للهجرة.

فلما سمع الحسن بن سهل بذلك ، وحميد بن عبد الحميد عنده ، قال له

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٦٢٢.

(٢) إبراهيم بن المهدي : بايعه أهل بغداد خليفة لهم ، وخلعوا المأمون.

(٣) وكان الحسن بن سهل في واسط حينذاك.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٧ / ٣٤٢.

٦٠٩

حميد : ألم أعلمك بذلك ، ولكنك خدعت؟ (١)

ثمّ ذهب سعيد بن الساجور (والقادة الذين معه) إلى الكوفة ، فنزلوا في (الحيرة) فلقيهم أبو عبد الله (أخو أبي السرايا) وعليّ بن محمّد بن جعفر (العلوي) ومعهم جماعة آخرين أرسلهم العبّاس بن موسى بن جعفر ، فكانت معارك ضارية بينهم ، وكانت كلّ جماعة حينما تهجم على الأخرى ، تحرق كلّ شيء تجده ، فلمّا رأى أهل الكوفة ذلك ذهبوا إلى سعيد بن الساجور ، وطلبوا منه الأمان للعباس بن موسى بن جعفر على أن يخرج من الكوفة ، فوافق سعيد على ذلك (٢) ، ثمّ ذهبوا إلى العبّاس بن موسى وقالوا له : بأنّ أكثر الذين معه هم من الغوغاء ، وقد كثر القتل والسلب والحرق ، لذا يطلبون منه ترك الكوفة ، مع إعطائه الأمان له ولأصحابه فوافق العبّاس أيضا.

وفي الخامس من شهر رجب من سنة (٢٠٢) (٣) للهجرة ، دخل سعيد ابن الساجور وأبو البط إلى الكوفة (بعد أن تركها العبّاس بن موسى بن جعفر) فنادى المنادي : (أمن الأبيض (٤) والأسود) (٥) ولم يتعرضوا لأحد بسوء.

وقيل إنّ سعيدا وأبا البطّ ، دخلا الكوفة سنة (٢٠١) (٦) للهجرة. ثمّ جعلوا على الكوفة (الفضل بن محمّد بن الصباح الكندي) أميرا عليها.

وكتب إليهم إبراهيم بن المهدي (الخليفة في بغداد) يأمرهم بالذهاب

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٥٩.

(٢) المصدر السابق. ج ٨ / ٥٦١.

(٣) نفس المصدر السابق وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٤.

(٤) الأبيض : كان شعار أبي عبد الله (أخو أبي السرايا) عند ما ثار بالكوفة.

(٥) الأسود : شعار العباسيين.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٤٧.

٦١٠

إلى واسط لمحاربة الحسن بن سهل ، وكتب إلى سعيد بن الساجور ، أن يعزل الفضل بن الصباح الكندي عن الكوفة ويولّيها غيره ، ذلك لأن الفضل بن الصباح هو من أهل الكوفة ، ويميل إلى أهله.

عندها عزل الكندي وولوها (غسان بن أبي الفرج) ثمّ إنّ غسّان هذا قتل أبا عبد الله أخا أبي السرايا) فعزلوه عن الكوفة ، وولوها إلى (الهول) ابن أخي سعيد بن الساجور (١).

ثمّ وصل عيسى بن محمّد بن أبي خالد ونعيم بن خازم قريبا من واسط ، ثمّ لحق بهم سعيد بن الساجور وأبو البطّ ، واستعدوا لقتال أصحاب الحسن بن سهل (المتحصنين في مدينة واسط) فحدثت معركة بين الطرفين ، انهزم فيها عيسى بن محمّد بن أبي خالد وأصحابه ، واستولى أصحاب الحسن بن سهل على جميع ما في عسكره من سلاح ، ودواب ، وغير ذلك.

٥٣ ـ الفضل بن محمّد بن الصباح الكندي :

وهو أحد القادة في معسكر حميد بن عبد الحميد الطوسي ، وقد حدثت خلافات بينه وبين حميد بن عبد الحميد ، فاتفق مع القادة (٢) الآخرين على مكاتبة إبراهيم بن المهدي (سرا) بأنّهم على استعداد لتسليمهم له قصر ابن هبيرة (٣). وكتبوا في نفس الوقت إلى الحسن بن سهل ، يخبرونه بأن حميد يكاتب إبراهيم بن المهدي (سرا) (٤) وأنه على اتصال دائم

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٧ / ٣٤٤.

(٢) القادة هم : (١) سعيد بن الساجور ، (٢) أبو البط ، (٣) غسان بن أبي الفرج ، (٤) الفضل بن محمد بن الصباح الكندي وغيرهم.

(٣) كان مقر جيش حميد بن عبد الحميد فيه.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٢.

٦١١

معه.

وعند ما ذهب حميد إلى الحسن بن سهل ، كتب الفضل بن محمّد بن الصباح والقادة الآخرون إلى إبراهيم بن المهدي لإرسال أحد قادته للاستيلاء على قصر ابن هبيرة ، ثمّ هجموا على معسكر حميد ، فنهبوا كلّ ما فيه ، كان ذلك سنة (٢٠١) (١) للهجرة.

وفي الخامس من شهر رجب من سنة (٢٠٢) (٢) للهجرة دخل سعيد ابن الساجور وأبو البط إلى الكوفة (بعد أن تركها العبّاس بن موسى بن جعفر). وقيل دخلا الكوفة سنة (٢٠١) للهجرة (٣).

ثمّ كتب إبراهيم بن المهدي إلى القادة المذكورين ، يأمرهم بالذهاب إلى واسط لمحاربة الحسن بن سهل ، وكتب إلى سعيد بن الساجور أن يعزل الفضل بن الصباح عن الكوفة ، ويولّيها غيره ، وذلك لأن الفضل بن الصباح هو من أهل الكوفة ، وأنه يميل إليهم ، عندها عزل الفضل بن محمّد بن الصباح الكندي ، وولّوها (غسان بن أبي الفرج) (٤).

٥٤ ـ غسان بن أبي الفرج : (٥)

ولّاه سعيد بن الساجور وأبو البط إمارة الكوفة سنة (٢٠١) للهجرة ، وذلك بعد عزل أميرها السابق (الفضل بن محمّد بن الصباح الكندي) ، ثمّ عزلوه لأنه قتل (أبا عبد الله) أخا أبي السرايا وجعلوا مكانه (الهول) ابن أخي

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٥٩ و٥٦١ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٧ / ٣٤٢.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٦١.

(٣) المصدر السابق. ج ٨ / ٥٤٧.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل فى التاريخ. ج ٧ / ٣٤٤ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٤.

(٥) وقد تكلمنا عنه في ص ٥٩٧.

٦١٢

سعيد بن الساجور (١).

٥٥ ـ الهول ـ ابن أخي سعيد بن الساجور :

ولّاه سعيد بن الساجور وأبو البط إمارة الكوفة سنة (٢٠٢) (٢) للهجرة بعد عزل أميرها السابق (غسان بن أبي الفرج).

وبقي (الهول) أميرا على الكوفة إلى أن دخلها حميد بن عبد الحميد الطوسي فهرب عنها في نفس السنة.

وقال الشاعر يمدح الهول (٣) :

إذا سألت الندى عن كلّ مكرمة

لم تلق نسبتها إلّا إلى الهول

لو زاحم الشمس ألفى الشمس مظلمة

أو زاحم الصّمّ (٤) ألجاها إلى الميل

أمضى من الدهر إن نابته نائبة

وعند أعدائه أمضى من السيل

٥٤ ـ إبراهيم بن المهدي :

هو : إبراهيم بن الخليفة (المهدي) بن أبي جعفر المنصور ، وأخو هارون الرشيد ، وكنيته : أبو إسحاق.

وأمّه (شكلة) وهي موّلدة ، وكان أبوها من أصحاب المازيار يقال له (شاه أفرند) وسبيت (شكلة) وجيء بها إلى المنصور ، فأعطاها إلى (محيّاة) أم ولده ، فربتها وأرسلتها إلى الطائف ، وبقيت هناك إلى أن كبرت ، ثمّ أعيدت ، فرآها (المهدي) فطلبها من (محيّاة) فأعطته إيّاها فولدت له

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٣٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٤ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٤.

(٢) الطبري. ج ٨ / ٥٦١ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٤ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٤.

(٣) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ١ / ٣٢١.

(٤) الصّم : الجبال.

٦١٣

إبراهيم (١).

بويع إبراهيم بن المهدي في بغداد بالخلافة ، وخلع المأمون ، وذلك يوم الجمعة في الخامس من شهر محرم من سنة (٢٠٢) للهجرة ، ولقب (بالمبارك) ثمّ استولى على الكوفة وعلى السواد كلّه ، وعسكر في المدائن ، وولّى العبّاس ابن موسى الهادي على الجانب الغربي من بغداد ، وولّى أخاه إسحاق بن موسى على الجانب الشرقي منها (٢).

ثمّ رجع إبراهيم بن المهدي إلى بغداد ، وأقام فيها ، وكان الحسن بن سهل يقيم في واسط (خليفة) المأمون فيها ، والمأمون في خراسان.

وبقي إبراهيم المهدي مقيما في بغداد ، ويدعى (أمير المؤمنين) ويخطب على المنابر ثمّ جرت حروب بين أصحاب إبراهيم وأصحاب المأمون ، وكان شعار أصحاب إبراهيم (السواد) وشعار أصحاب المأمون (الخضرة) واستمر القتال بينهما إلى أواخر سنة (٢٠٢) (٣) للهجرة.

ولمّا علم المأمون بما أصاب وبما وصلت إليه الحال في بغداد من الاضطراب ، وتغيير الأوضاع ، ذهب إلى بغداد (بعد أن أوعز بقتل الفضل بن سهل) ثمّ بعد ذلك حدثت وفاة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام (٤).

ولمّا وصل المأمون إلى بغداد ، اختفى إبراهيم بن المهدي مدّة ستّ سنين وأربعة أشهر وعشرة أيّام ، وقيل إنّه اختفى عند أخته (علية) (٥) بنت المهدي ،

__________________

(١) النويري ـ نهاية الأرب. ج ٤ / ٢٠٥.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ١٠٥ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٠ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٧ / ١٤ ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٢٣٤ والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١١٦.

(٣) ابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٢٤٨.

(٤) محمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج ١ / ١٨٢ و١٨٣.

(٥) علية : هي بنت الخليفة المهدي ، وأخت الخليفة هارون الرشيد ، وكانت تجيد الغناء والشعر كأخيها ـ إبراهيم ، وقد تزوجت من موسى بن عيسى بن محمّد ، ومن شعرها :

أوقعت قلبي في الهوى

ونجوت منه سالمه

وبدأتني بالوصل ثمّ

قطعت وصلي ظالمه

٦١٤

وقد جعلت له جارية تخدمه أسمها (ملك) وكانت تلك الجارية : جميلة ، وحاذقة ، وراوية للشعر ، فأحبّها إبراهيم حبّا شديدا ، ولكنّه لم يتمكن من طلبها من أخته ، وقد اشتدّ حبّه لتلك الجارية ، فأخذ عوده (١) ذات يوم وغنى ، وكانت (ملك) واقفة أمامه ، فقال (٢) :

يا غزالا لي إليه

شافع من مقلتيه

والّذي أجللت خدي

ه فقبلت يديه

بأبي وجهك ما أكث

ر حسادي عليه

أنا ضيف وجزاء الضي

ف إحسان إليه

فذهبت الجارية إلى أخته (علية) وأخبرتها بحال إبراهيم ، فقالت لها علية : (إذهبي فقد وهبتك له). ولمّا عادت الجارية إلى إبراهيم أعاد عليها الشعر مرّة ثانية ، فأخذت الجارية تقبل رأسه ، فمنعها إبراهيم. فقالت له : إن مولاتي قد وهبتني إليك.

ثمّ ألقي القبض على إبراهيم بن المهدي بزيّ امرأة ، وجيء به إلى المأمون ، فسلّم عليه وقال : (يا أمير المؤمنين ، ولي الثأر ، محكم في القصاص ، والعفو أقرب إلى التقوى ، ومن مدّ له في الأناة ، حسن عنده الذنب ، وقد جعلك الله فوق كلّ ذنب كما جعل كلّ ذي ذنب دونك ، فإن عاقبت فبحقك ، وإن عفوت فبفضلك) (٣).

__________________

(١) العود : آلة موسيقية.

(٢) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٠٨ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١١ / ٩٠.

(٣) الآبي ـ نثر الدر. ج ٣ / ١٤٥ وأحمد شلبي ـ موسوعة التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ٦٩.

٦١٥

فقال له المأمون : (يا إبراهيم ، إنّي قد شاورت العبّاس (١) وأبا إسحاق أخي في أمرك ، فأشارا عليّ بقتلك ، إلّا إنّني وجدت قدرك فوق ذنبك ، فكرهت القتل للازم حرمتك) فعفا عنه. ولمّا عفا عنه المأمون قال إبراهيم (٢) :

رددت مالي ولم تمنن عليّ به

وقبل ردّك مالي قد حقنت ودمي

وقيل أيضا : عند ما ألقي القبض على إبراهيم بن المهدي سنة (٢١٠) (٣) للهجرة ، بزيّ امرأة جيء به إلى المأمون ، فسلّم على المأمون فقال له المأمون : (لا سلّم الله عليك ولا حيّاك الله ، ولا رعاك) ، فقال إبراهيم (٤) :

ذنبي إليك عظيم

وأنت أعظم منه

فخذ بحقّك أولا

فاصفح بحلمك عنه

إن لم يكن في فعالي

من الكرام فكنه

فرقّ المأمون لحاله ، وطلب من جلسائه ، أن يشيروا عليه بأمر إبراهيم ، فكلّهم أشار عليه بقتله ، إلّا أحمد بن خالد فقد قال له : (يا أمير المؤمنين ، إن تقتله فقد وجدنا مثلك ، قتل مثله ، وإن عفوت عنه ، لم نجد مثلك ، عفا عنه) ، فطأطأ المأمون رأسه ، ثمّ قال :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

ثمّ مدحه إبراهيم بقصيدة طويلة نقتبس منها الأبيات التالية (٥) :

يا خير من ذملت يمانيه به

بعد الرسول لآيس أو طامع

__________________

(١) العبّاس : ابن المأمون.

(٢) أحمد زكي صفوت ـ جمهرة خطب العرب. ج ٣ / ١٢٧.

(٣) محمد الخضري بيك ـ محاضرات التاريخ الإسلامي. ج ١ / ١٩١.

(٤) أبي إسحاق الحصري ـ زهر الآداب. ج ٢ / ٤٤١ وأحمد زكي صفوت ـ جمهرة خطب العرب. ج ٣ / ١٢٦ وحسن سعيد الكرمي ـ قول على قول. ج ٦ / ٦٣٥.

(٥) محمّد خضري بيك ـ محاضرات التاريخ الإسلامي. ج ١ / ١٩١.

٦١٦

وأبر من عبد الإله على التقى

عينا وأقوله بحق صادع

ومنها :

نفسي فداؤك أن تضل معاذري

وألوذ منك بفضل حلم واسع

أملا لفضلك والفواضل شيمة

رفعت بناءك بالمحل اليافع

ومنها :

لم أدر أنّ لمثل جرمي غافرا

فوقفت أنظر أيّ حتف صارعي

ردّ الحياة عليّ بعد ذهابها

ورع الإمام القادر المتواضع

أحياك من ولّاك أطول مدّة

ورمى عدوك بالوتين بقاطع

فقال المأمون ، أقول كما قال يوسف لأخوته : (لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) (١).

وقيل إنّ إبراهيم بن المهدي ، أهدى جارية إلى المأمون ، ومعها عود وبيتين من الشعر (٢) :

عفوت وكان العفو منك سجيّة

كما كان معقودا بمفرقك الملك

فإن أنت أتممت الرضا فهو المنى

وإن أنت جازيت المسيء فذا الهلك

فقال المأمون : (خرف الشيخ) ، ثمّ ردّ الجارية ولم يقبلها ، فاغتمّ إبراهيم كثيرا ، ثمّ كتب إلى المأمون مع الجارية :

لا والّذي تسجد الجباه له

ما لي بما دون ثوبها خبر

ولا بغيها ولا همت بها

ما كان إلّا الحديث والنظر

فقبلها المأمون.

وكتب إبراهيم بن المهدي إلى طاهر بن الحسين : (زادك الله للحقّ قضاء ، وللشكر أداء ، بلغني رسول عنك ، ما لم أزل أعرفه منك ، والله يمتعني

__________________

(١) سورة يوسف ـ الآية : ٩٢.

(٢) حسن سعيد الكرمي ـ قول على قول. ج ٩ / ٢٤٢.

٦١٧

بك ، ويحسن في ذلك جزاؤك ، ومع ذلك فإنّي علمتك الشوق ، لأنّي ذكرته لك ، فهيجته منك والسلام) (١).

وسأل إبراهيم ذات يوم عن رجل ، فقيل له : يساوي فلسين. فقال إبراهيم : (زدت من قيمته درهمين) (٢).

وذهب إبراهيم بن المهدي إلى يحيى بن خالد البرمكي ، ولكنه لم يسمح له بالدخول عليه ، فقال إبراهيم (٣) :

إنّي أتيتك للسلام ولم

أنقل إليك لحاجة رجلي

فحجبت دونك مرتين وقد

تشتدّ واحدة على مثلي

وعند ما سمع إبراهيم بن المهدي بأنّ (المأمون) قد بايع للإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام بالخلافة من بعده ، قال : (٤)

فلا جزيت بني العبّاس خيرا

على رغمي ولا اغتبطت بريّ

أتوني مهطعين وقد أتاهم

بور الدهر بالخبر الجليّ

وحلّ عصائب الأملاك منها

وشدت في رؤوس بني عليّ

فضجت أن تشد على رؤوس

تطالبها بميراث النبيّ

ومات لإبراهيم ولد ، فقال يرثيه (٥) :

وإنّي وإن قد مت قبلي لعالم

بأنّي وإن أبطأت عنك قريب

وإن صباحا نلتقي في مساءه

صباح إلى قلبي الغداة حبيب

وفي سنة (٢٢٣) للهجرة ، هجم (توفيل بن ميخائيل) ملك الروم ، على

__________________

(١) الآبي ـ نثر الدر. ج ٣ / ١٤٤.

(٢) نفس المصدر السابق. ج ٣ / ١٤٣.

(٣) القرطبي ـ بهجة المجالس. ج ١ / ٢٧٠.

(٤) الكندي ـ ولاة مصر. ص ١٩٢.

(٥) يحيى شامي ـ موسوعة شعراء العرب. ص ١١.

٦١٨

مدينة (زبطرة) في خلافة (المعتصم) ففتحها ، وقتل الصغير والكبير ، وسبي النساء ، ثمّ هجم مرّة ثانية على مدينة (ملطية) فضج الناس في الأقاليم والأمصار ، واستغاثوا في المساجد ، فدخل إبراهيم بن المهدي على الخليفة (المعتصم) وأنشده قصيدة طويلة ، نقتطف منها (١) :

يا غيرة الله قد عاينت فانتقمي

تلك النساء وما منهن يرتكب

هبّ الرجال على إجرامها قتلت

ما بال أطفالها بالذبح تنتهب؟!

وكان إبراهيم بن المهدي جالسا في قصر الخليفة (المعتصم) وكان بجانبه العبّاس بن المأمون ، فشاهد العبّاس خاتما من الياقوت الأحمر ، الغالي الثمن في يد إبراهيم فقال له العبّاس : هل الخاتم هذا لك يا عم؟

فأجابه إبراهيم : نعم ، هذا الخاتم كنت قد رهنته في خلافة أبيك ، وقد فككت رهانه في خلافة أمير المؤمنين رعاه الله. فقال له العبّاس : (أنت لم تشكر أبي على حقنه لدمك ، ولم تشكر عمّي على فكاك رهان خاتمك) (٢).

وعند ما خلع العباسيون (المأمون) في بغداد ، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي بالخلافة قال دعبل الخزاعي (٣) :

نفر ابن (شكلة) (٤) بالعراق وأهله

فهفا إليه كلّ أطيش مائق (٥)

أنّى يكون ، وليس ذاك بكائن

يرث الخلافة فاسق عن فاسق

إن كان إبراهيم مضطلعا بها

فلتصلحن ، من بعده لمخارق (٦)

__________________

(١) الحميري ـ الروض المعطار. ص ٢٨٥.

(٢) الآبي ـ نثر الدر. ج ٢ / ١٩٤.

(٣) بطرس البستاني ـ منتقيات أدباء العرب. ص ٨١.

(٤) شكلة : جارية سوداء ، وهي أم إبراهيم بن المهدي.

(٥) المائق : الأحمق.

(٦) مخارق : أحد المغنين في صدر الدولة العباسيّة.

٦١٩

ولتصلحن ، من بعد ذلك لزلزل (١)

ولتصلحن ، من بعده للمارق (٢)

وكان إبراهيم بن المهدي يمش مع المغنين إذا خرجوا من عند المأمون ليلا ، وكان المأمون يبين للناس ، بأنّ إبراهيم قد خلع الخلافة من عنقه ، وأنه تهتك ، فلا يصلح لها (٣).

وروي عن (عريب) (٤) أنّها قالت : (أحسن يوم رأيته في حياتي ، هو يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهدي عند أخته (عليّة) وعندها أخوها يعقوب ، وهو أمهر الناس بالتزمير ، وقد غنت (عليّة) من شعرها (٥) :

تحبب فإنّ الحبّ داعية الحبّ

وكم من بعيد الدار مستوجب القرب

تبصر فإن حدّثت أنّ أخا هوى

نجا سالما فارج النجاة من الحبّ

إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضا

فأين حلاوات الرسائل والكتب

وغنى إبراهيم فقال (٦) :

لم ينسيك سرور ولا حزن

وكيف لا ، كيف ينسى وجهك الحسن

ولا خلا منك قلبي لا ولا جسدي

كلّي بكلك مشغول ومرتهن

وقال إبراهيم : ما خجلت في حياتي قط ، مثلما خجلت مع أختي (عليّة) ، ذلك أنّي ذهبت إليها ذات يوم زائرا ، فقلت لها : (كيف أنت يا أختي ،

__________________

(١) زلزل : مغني مشهور بضربه على العود.

(٢) المارق : هو زرزور غلام عليّ الحارثي ، وهو مغني أيضا ، وزلزل ومخارق هما من معاصري إبراهيم بن المهدي.

(٣) النويري ـ نهاية الأرب. ج ٢ / ٢٠٦.

(٤) عريب : قيل إنّها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي ، وهي شاعرة مبدعة ، ومغنية بارعة ، وجميلة جدا ، ولها معرفة بالأنغام والأوتار الموسيقية ، وتجيد العزف على العود ، وماهرة بلعب الشطرنج ، وقد جالست وغنت أمام كثير من الخلفاء والوزراء والأمراء ، فكانت عند الأمين ، ومن بعده اشتراها المأمون بخمسين ألف درهم ، ولمّا مات المأمون بيعت عريب بمائة ألف درهم ، اشتراها المعتصم.

(٥) النويري ـ نهاية الأرب. ج ٤ / ٢١٥ وعمر رضا كحالة ـ أعلام النساء. ج ٣ / ٣٤١.

(٦) عمر رضا كحالة ـ أعلام النساء. ج ٣ / ٣٤١.

٦٢٠