أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

تزدلف (١) للمتقين ، أو نار تبرز للغاوين (٢). (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٣).

ولمّا سمع الحسن بن سهل بثورة ابن طباطبا ، أرسل جيشا قوامه عشرة آلاف فارس وراجل إلى الكوفة ، فوقعت معركة بين الطرفين ، انهزم فيها زهير بن المسيب الضبي (قائد الجيش) واستولي على جميع ما في عسكره من مال وسلاح ودواب وغير ذلك (٤).

ثمّ أرسل الحسن بن سهل جيشا آخر مؤلفا من ألف فارس وثلاثة آلاف راجل بقيادة (عبدوس عبد الصمد) وقال الحسن بن سهل : (أريد أن ترفع رأسك في هذه المعركة) (٥). فحلف (عبدوس) : بأنّه سوف يستبيح الكوفة ، وسوف يقتل أهلها ، ويسبي ذراريرها ، وسوف ، وسوف.

ولمّا جاء عبدوس ، قسّم أبو السرايا جيشه إلى ثلاث فرق ، وقال لهم : أريد منكم أن تحملوا على عسكر عبدوس حملة واحدة ، وعند التقاء الجيوش ، حدثت مقتله عظيمة بين الطرفين ، حتّى أخذت جيوش عبدوس تلقي بأنفسها في نهر الفرات طلبا للنجاة فغرق أكثرهم.

ثمّ وجد عبدوس في الجامع فقتله أبو السرايا ، ولم ينج من عسكر عبدوس أحد ، إذ وقعوا جميعا ما بين قتيل وجريح وأسير (٦).

وأثناء هذه الحروب مرض محمّد بن طباطبا ، مرضا شديدا ، فدعا (أبا السرايا) وأوصاه قائلا :

__________________

(١) تزدلف : تقرب.

(٢) الآبي ـ نثر الدر. ج ١ / ٣٨١.

(٣) سورة فصلت / الآية : ٤٦.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٢٩.

(٥) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٣٠.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٣٠.

٥٨١

(أوصيك بتقوى الله ، والمقام على الذبّ عن دينك ، ونصرة أهل بيت نبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ أنفسهم موصولة بنفسك ، وولّي الناس على الخيرة فيمن يقوم مقامي من آل عليّ ، فإن اختلفوا فأمر إلى عليّ بن عبيد الله فإنّي قد بلوت طريقه ، ورضيت دينه) (١).

ولمّا ازداد مرض ابن طبا طبا ، قال له أبو السرايا : أوصني يابن رسول الله ، فقال : (الحمد لله ربّ العالمين ، وصلى الله على محمّد وآله الطيبين ، أوصيك بتقوى الله ، فإنّها أحصن جنّة وأمنع عصمة ، والصبر فإنّه أفضل منزل ، وأحمد معول ، وأن تستتم الغضب لربّك وتدوم على منع دينك .. ولا تقدم إقدام مشهور ، واكفف عن الإسراف في الدماء ما لم يدهن لك دينا ، ويصدك عن صواب ، وارفق بالضعفاء ، وإيّاك والعجلة فإن معها الهلكة .. الخ) (٢).

مات محمّد بن إبراهيم بن طباطبا بالكوفة سنة (١٩٩) (٣) للهجرة ، وقيل إنّه أرسل إلى المأمون أسيرا فقتله (٤) ، وقيل إنّ أبا السرايا دس له سما فمات ، مات في أوّل شهر رجب من هذه السنة ، وكان عمره (٢٦) سنة ، وكانت مدّة ثورته شهرين تقريبا.

ثمّ جعل أبو السرايا بعده : محمّد بن محمّد بن يحيى بن زيد بن عليّ على الكوفة (٥).

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٣١ والآبي ـ نثر الدرر. ج ١ / ٣٧٧.

(٢) الآبي ـ نثر الدر. ج ١ / ٣٧٧.

(٣) تاريخ خليفة بن خياط. ج ٢ / ٧٦٠ والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٤٣٩ وعارف ـ الجوهر الشفاف. ج ١ / ١٧ والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ٢١٤ وأحمد زكي صفوت ـ جمهرة الخطب. ج ٣ / ١٢٤.

(٤) تاريخ أبن خياط. ج ٢ / ٧٦٠.

(٥) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٤٣٩ وأبي المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ١٦٤.

٥٨٢

وقال الهيثم بن عبد الله الخثعمي في رثاء ابن طباطبا ، وما أصاب العلويين (١) :

خانهم الدهر بعد عزّهم

والدهر بالناس خائن ختل

باتوا فظلّت عيون شيعتهم

عليهم لا تزال تنهمل

واستبدلوا بعدهم عدوهم

فبئس لعمري بالمبدل البدل

شدّوا على عترة الرسول ولم

تثنهم رهبة ولا وجل

فما رعوا حقّه وحرمته

ولا استرابوا في نفس من قتلوا

٤١ ـ السري بن منصور أبو السرايا :

واسمه : السري بن منصور بن هاني بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة الشيباني (٢).

وكان أبو السرايا ، أوّل أمره يكري الحمير ، ثمّ قوي حاله ، فجمع عصابة لقطع الطريق ثمّ التحق بيزيد بن مزيد الشيباني في أرمينيه ، ومعه ثلاثون فارسا ، فضمه يزيد إلى قادته فأشتهر بشجاعته بينهم (٣).

وعند ما نشبت الحرب بين الأخوين (الأمين) و (المأمون) أنتقل أبو السرايا إلى جيش هرثمة بن أعين ، وقد بلغ تعداد جيشه حوالي ألفي مقاتل ، ثمّ خوطب بالأمير.

وبعد ما قتل الأمين ، أنقص هرثمة أرزاق (٤) أبي السرايا وجنوده ، عندها انفصل أبو السرايا عن عسكر هرثمة بن أعين ، وذهب إلى (عين التمر) ومعه

__________________

(١) قحطان رشيد ـ اتجاهات الهجاء في القرن الثالث الهجري. ص ١٣٨.

(٢) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٤٣٩ وابن عتبة ـ عمدة الطالب. ص ٣٠٠.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٠٢.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٢٩.

٥٨٣

مائتا فارس فحاصر أميرها ، ثمّ استولى على ما معه من أموال ، فوزعها بين أصحابه ، ثمّ ذهب إلى الأنبار فاستولى عليها ، ثمّ ذهب إلى (الرقّة) وقد كثر أصحابه ، فلقيه محد بن إبراهيم بن طباطبا ، وكان هذا قد ثار على بني العبّاس ، فبايعه أبو السرايا ، وتولّى قيادة جيشه ، واستوليا على الكوفة (١).

ثمّ إنّ أبا السرايا بعث بجيوشه إلى البصرة ونواحيها ، واستولّى على واسط والمدائن ، ثمّ أرسل (العمال) إلى اليمن والحجاز وواسط والأهواز.

وحينما علم الحسن بن سهل باستيلاء أبو السرايا وابن طباطبا على الكوفة ، أرسل اليهما جيشا بقيادة زهير بن المسيب الضبي (كما ذكرت في ص ٥٦٩) ، ثمّ أرسل جيشا آخر بقيادة عبدوس بن عبد الصمد ، فقتل عبدوس وأخوه هارون ، وقضي على جميع عسكره ما بين قتيل وجريح وأسير (٢).

وفي اليوم الثاني للمعركة مات محمّد بن إبراهيم بن طباطبا فجأة ، قيل إنّ أبا السرايا دسّ له السمّ فمات ، وذلك لأنّ ابن طباطبا ، لم يعطه شيئا من الأموال الّتي حصلوا عليها من معسكر زهير بن المسيب الضبي ، كما أنّ أهل الكوفة ، أخذوا يطيعون ابن طباطبا ، فظنّ أبو السرايا بأن لا مكان له بوجود ابن طباطبا فقتله بالسمّ.

ثمّ جعل أبو السرايا على الكوفة (بعد موت ابن طباطبا) شابا ، يافعا ، ذلك هو محمّد بن محمّد بن زيد بن عليّ ، وكان أبو السرايا ، هو الّذي ينفّذ الأمور فيولي من يشاء ويعزل من يشاء (٣).

ثمّ انتشر الطالبيّون في البلاد ، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة ،

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٢٩.

(٢) المصدر السابق. ج ٨ / ٥٣٠.

(٣) المصدر اعلاه. ج ٨ / ٥٢٩.

٥٨٤

ونقش عليها : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(١). ثمّ ذهب أبو السرايا بجيشه إلى قصر ابن هبيره ، وذلك بعد أن تركه ابن المسيب الضبي الّذي عاد إلى بغداد. ولمّا رآى الحسن بن سهل ، أنّ أبا السرايا ، ومن معه ، لا يلاقون جيشا إلّا هزموه ولا يذهبون إلى أيّ بلد إلّا دخلوه ، ولم يجد فيمن معه من القادة من يكفيه حربه ، فاضطرّ إلى الاستعانة بهرثمة بن أعين (كان آنذاك في خراسان) فكتب إليه ، لكن هرثمة لم يجبه على طلبه بادي الأمر ، إلّا أنّه أجابه بعد أن كتب إليه الحسن ثانية (٢).

فذهب هرثمة بن أعين بجيشه إلى قصر ابن هبيرة ، فوقعت معركة بينه وبين أبي السرايا ، قتل خلالها جماعة كبيرة من أصحاب أبي السرايا ، فرجع أبو السرايا إلى الكوفة ، فتبعه هرثمة ونزل في قرية (شاهي) فكانت معركة بين الطرفين انهزم جيش هرثمة في أوّل النهار ، لكن هرثمة استعاد قوته ، وشنّ حملاته في آخر النهار ، فكانت الهزيمة لأصحاب أبي السرايا.

وقيل إنّ جيش أبي السرايا قد توقف عن قتال هرثمة بن أعين ، فخطب فيهم أبو السرايا وقال : (يا قتلة عليّ ، ويا خذلة الحسين ، إنّ المعتزّ بكم لمغرور ، وإنّ المعتمد على نصركم لمخذول ، وأن الذليل لمن اعتززتموه ...

الخ). ثمّ قال (٣) :

ومارست أقطار البلاد فلم أجد

لكم شبها فيما وطئت من الأرض

خلافا وجهلا وانتشار عزيمة

ووهنا وعجزا في الشدائد والخفض

لقد سبقت فيكم إلى الحشر دعوة

فلا عنكم راض ولا فيكم مرض

سأبعد داري من قلى عن دياركم

فذوقوا إذا وليت عاقبة البغض

__________________

(١) سورة الصف : الآية / ٤.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٣٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٤ والذهبي ـ تاريخ الأعلام. ج ١٣ / ٧٦.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٤٦.

٥٨٥

وبقي هرثمة بن أعين في قرية (شاهي) إلى أن جاء (منصور بن المهدي) بجيشه ، وبقي حتّى انقضت سنة (١٩٩) للهجرة. وفي السادس عشر من شهر محرم من سنة (٢٠٠) للهجرة ، هرب أبو السرايا من الكوفة (ليلا) إلى القادسيّة (١) ، عندها دخل هرثمة بن أعين ومنصور بن المهدي إلى الكوفة في اليوم الّذي هرب فيه أبو السرايا ، فبقيا في الكوفة إلى العصر ، ثمّ رجعا إلى معسكرهما ، وخلّفا على الكوفة (غسان بن أبي الفرج) (٢).

ثمّ خرج أبو السرايا من القادسيّة ، وذهب إلى واسط ، فدارت معركة بينه وبين الحسن بن عليّ الباذغيس المعروف (بالمأموني) جرح فيها أبو السرايا جراحات شديدة ، ثمّ هرب أبو السرايا ومعه محمّد بن زيد وأبو الشوك ، وتفرق عنه أصحابه.

ولمّا وصلوا إلى جلولاء ، لقيهم حماد الكندغوش فأخذهم إلى الحسن ابن سهل (في النهروان) فقتل أبا السرايا ، وصلبه على الجسر ببغداد ، في يوم الخميس في العاشر من شهر ربيع الأول من سنة (٢٠٠) للهجرة ، فقال التميمي (٣) :

ألم تر ضربة الحسن بن سهل

بسيفك يا أمير المؤمنينا

دارت مرو رأس أبي السرايا

وأبقت عبرة للعابرينا

ثمّ بعث الحسن بن سهل بمحمد بن محمّد بن زيد إلى المأمون ، فلمّا رآه المأمون تعجب من حداثة سنّه ، ثمّ أمر باعتقاله ، وهيأ له دارا وخادما ، فبقي محمّد أربعين يوما ، فدسّ إليه السمّ فمات (٤).

__________________

(١) القادسيّة : أسم ناحية قرب النجف ، وليست هي محافظة القادسيّة ، وبها كانت معركة القادسيّة المشهورة.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٣٤.

(٣) المصدر السابق. ج ٨ / ٥٣٥.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٥٠.

٥٨٦

وقيل : (إنّ أبا السرايا أرسل بيد الحسين بن الحسن الأفطس ثوبين رقيقين من قزّ مكتوب عليهما (أمر الأصغر بن الأصغر) أبو السرايا داعية آل محمّد لكسوة بيت الله الحرام ، وأن تطرح عنها كسوة الظلمة من ولد العبّاس) (١). وكانت مدّة ثورة أبي السرايا وقتله عشرة أشهر.

٤٢ ـ محمّد بن محمّد بن زيد :

هو : محمّد بن محمّد بن زيد بن عليّ بن الحسين بن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولقبه (٢) : المؤيد.

وقيل : هو محمّد بن محمّد بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن محمّد بن عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (٣).

وقيل : هو محمّد (الأكبر) بن جعفر بن محمّد بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (٤).

وأمّه : فاطمة بنت عليّ بن جعفر بن إسحاق بن عليّ بن عبد الله بن جعفر (الطيّار) بن أبي طالب.

وعند ما مرض محمّد بن إبراهيم بن طباطبا مرضه المفاجئ ، شعر بدنو أجله فأوصى بأن يكون من بعده عليّ بن عبيد الله (أبو الحسن). وبعد ما مات ابن طباطبا سنة (١٩٩) للهجرة ، اجتمع الناس لمبايعة (عليّ) فقام محمّد بن محمّد (وكان حدثا) فقال : (يا آل عليّ ، فات الهالك النجا ، وبقي الثاني بكرمه ، إنّ دين الله لا ينصر بالفشل ، وليست يد هذا الرجل عندنا

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٣٦.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٦٩ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٠٥ وعمدة الطالب ـ ابن عنبه. ص ٢٩٩.

(٣) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٦٩.

(٤) ابن حزم الأندلسي ـ جمهرة أنساب العرب. ص / ٥٨.

٥٨٧

بسيئة ، وقد شفى الغليل ، وأدرك الثأر). ثمّ التفت إلى عليّ بن عبيد الله وقال : ما ذا تقول يا أبا الحسن ، رضي الله عنك؟ أمدد يدك نبايعك. فقال عليّ مخاطبا محمّد بن محمّد : (فامضي رحمك الله لأمرك ، واجمع شمل ابن عمّك ، فقد قلدناك الرياسة علينا وأنت الرضا عندنا ، والثقة في أنفسنا) (١). ثمّ التفت إلى أبي السرايا ، وقال له : أرضيت بما سمعت؟ فقال له أبو السرايا : (رضائي من رضائك ، وقولي من قولك) (٢). عندها أخذوا بيد محمّد بن محمّد بن زيد فبايعوه.

وبعد ذلك فرّق محمّد بن محمّد عمّاله ، فولّى إسماعيل بن عليّ بن إسماعيل بن جعفر على الكوفة ، وعيّن روح بن الحجاج على الشرطة ، وأحمد ابن السري الأنصاري على الرسائل ، وعاصم بن عامر على القضاء.

ثمّ تتابعت الكتب على محمّد بن محمّد بالفتوح من كلّ ناحية ، وكتب إليه أهل الجزيرة ينتظرون أن يرسل إليهم رسولا ، ليسمعوا له ويطيعوا.

وكان الحسن بن سهل قد أرسل أحمد بن عمرو الذهلي (أبا البط) لمحاربة أبي السرايا سنة (١٩٩) للهجرة ، فأرسل أبو السرايا إليه محمّد بن محمّد ، فالتقى محمّد مع أبي البطّ في (ساباط) فكانت معركة بينهما ، إنهزم فيها أبو البطّ (٣).

وعند ما دخل هرثمه بن أعين إلى الكوفة سنة (٢٠٠) (٤) للهجرة هرب أبو السرايا منها ومعه محمّد بن محمّد ، فقبض عليهما حماد الاندغوش في ناحية (السوس) فبعث بهما إلى الحسن بن سهل فقتل أبا السرايا وبعث

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ١٠ / ٢٤٤ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٢٤٨.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٣٢.

(٣) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٦٩.

(٤) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٧٠ وابن قتيبة ـ المعارف. ص ٣٨٨.

٥٨٨

برأسه إلى المأمون في خراسان ومعه محمّد بن محمّد (١) ، ولمّا رآه المأمون تعجّب من صغر سنّه ، وقال : كيف رأيت صنع الله بابن عمّك؟ فقال محمّد بن محمّد (٢) :

رأيت أمين الله في العفو والحلم

وكان يسيرا عنده أعظم الجرم

فأعرض عن جهلي وداوي سقامه

بعفو جلا عن جلدتي هبوة السقم

فأكرمه المأمون ثمّ حبسه (أشبه ما يكون بالاعتقال) حيث خصص له دارا وخادما ثمّ بعد أربعين يوما ، مات محمّد بن محمّد مسموما.

وقد سئل محمّد بن محمّد عن معاملة المأمون له ، فقال : (والله لقد أغضّ عن العورة ونفّس الكربة ، وعفا عن الجرم ، وحفظ النبيّ في ولده واستوجب الشكر من جميع أهل بيته) (٣) مات محمّد بن محمّد بن زيد في (مرو) سنة (٢٠١) (٤) للهجرة ، وقيل سنة (٢٠٢) (٥) ، وعمره عشرون سنة. وقيل أنّه لمّا أحسّ بالموت كان يقول : (يا جدي ، يا أبي ، يا أمّي ، أشفعوا لي إلى ربّي) (٦) فكانت هذه عادته إلى أن فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.

٤٣ ـ إسماعيل بن عليّ بن إسماعيل :

هو : إسماعيل بن عليّ بن إسماعيل بن جعفر. استخلفه محمّد بن محمّد

__________________

(١) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٧٠ وابن قتيبة ـ المعارف. ص ٣٨٨.

(٢) ابن عنبة ـ عمدة الطالب. ص ٣٠٠.

(٣) الآبي ـ نثر الدر. ج ١ / ٣٨١.

(٤) نفس المصدر السابق وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٢٤٨ وتاريخ الطبري. ج ١٠ / ٢٤٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٠.

(٥) ابن عنبه ـ عمدة الطالب. ص ٣٠٠.

(٦) الآبي ـ نثر الدر. ج ١ / ٣٨١.

٥٨٩

ابن زيد بن عليّ على الكوفة سنة (١٩٩) (١) للهجرة.

وقيل تولى الخلافة على الكوفة من قبل محمّد بن محمّد بن زيد ، وذلك عند ما ترك محمّد بن محمّد الكوفة (٢) وذهب مع أبي السرايا إلى القادسيّة.

٤٤ ـ أشعث بن عبد الرحمن الأشعثي (٣)

ثار أشعث بن عبد الرحمن الأشعثي بالكوفة في أواخر سنة (١٩٩) للهجرة (٤).

٤٥ ـ هرثمة بن أعين :

دخل هرثمة بن أعين إلى الكوفة سنة (٢٠٠) (٥) للهجرة.

وهرثمة بن أعين ، هو أحد قادة الجيش العباسي ، الّذي لعب دورا هاما على مسرح الحياة العسكرية والسياسيّة ، لمدة تزيد على أربعين عاما ، ففي سنة (١٦٤) للهجرة ثار يوسف بن إبراهيم في خراسان ، فتمّ القبض عليه ، وأرسل إلى الخليفة (المهدي) ببغداد فأوعز المهدي إلى هرثمة بقتل يوسف ، فقطع رجليه ويديه ، ثمّ قتله وقتل أصحابه ، وصلبهم جميعا على جسر بغداد.

وقيل إنّ الخليفة موسى (الهادي) قرّر أنّ يقتل أخاه هارون الرشيد ، ويقتل معه يحيى بن خالد البرمكي ، وفي الليلة الّتي مات فيها (الهادي) ذهب هرثمة إلى هارون الرشيد ليلا وأجلسه على كرسي الخلافة ، كان ذلك

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٣٣.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) كتبنا ترجمته ص ٥١٢.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٤٧.

(٥) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٣٤ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ٨٣ وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ٨٩.

٥٩٠

سنة (١٧٠) للهجرة ، ثمّ عينه هارون (صاحب حرسه).

وعند ما كان هارون الرشيد في (الرّقة) سنة (١٨٦) للهجرة ، أخذ البيعة لأبنه الأمين ومن بعده لأخيه المأمون ، ومن بعد المأمون (للقاسم) فأمر الرشيد هرثمة بن أعين بالذهاب إلى بغداد وأخذ البيعة فيها لأولاده الثلاث (١).

وفي سنة (١٩٧) للهجرة عزل عليّ بن عيسى بن ماهان عن إمارة خراسان عزله الرشيد ، وولّاها إلى هرثمة بن أعين ، وحينما وصل هرثمة إلى خراسان طلب من عيسى بن ماهان ومن أولاده وعماله ، تسليمه كافة الأموال العائدة للخليفة ، ثمّ نصب مجلسا للمظالم ، وطلب من عيسى وعماله إعطاء الناس كافّة الأموال الّتي أخذوها منهم بدون حقّ (٢).

وعند ما حصل الخلاف بين الأخوين (الأمين والمأمون) واشتدّ النزاع بينهما التحق هرثمة بالمأمون ، فولّاه المأمون (الحرس الخاصّ) (٣). ولمّا سمع الأمين بذلك ، غضب غضبا شديدا ، وعقد حوالي أربعمائة لواء لعدّة قادة ، وأناط القيادة العليا بعلي بن محمّد بن عيسى بن نهيك ، وأمرهم بالذهاب إلى محاربة هرثمة بن أعين ، فالتقى الجيشان بالقرب من النهروان ، فوقعت معركة بين الطرفين أسفرت عن هزيمة جيش ابن نهيك ، ثمّ وقع في الأسر ، فأرسل إلى المأمون في خراسان ، ثمّ زحف هرثمة بجيشه واستولى على النهروان (٤).

وفي سنة (١٩٧) للهجرة ، زحفت جيوش هرثمة بن أعين وزهير بن المسيب الضبي وطاهر بن الحسين نحو بغداد فحاصروها ، وحاصروا الأمين

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٢٨٦.

(٢) المصدر السابق. ج ٢ / ٣٢٤.

(٣) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٣ / ٢٠.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٤٤١.

٥٩١

في عاصمة أبيه ونصبوا المجانيق.

كما إنّ الأمين من جانبه هو الآخر ، فقد أمر ببيع كلّ ما في الخزائن من الأمتعة والفضة والذهب ، وصرفها على الحرب ، وأمر كذلك بفتح النار والمجانيق على كلّ مقبل ومدبر ، وفي ذلك قال عمرو بن عبد الملك العتري الورّاق :

يا رماة المنجنيق

كلّكم غير شفيق

وبقية الأبيات الّتي ذكرناها في ص ٥٥٥.

ثمّ استمرت المعارك بين أنصار الأخوين ، أشهرا بين كر وفر ، فأسر هرثمة في معركة بباب الشماسيّة ، ثمّ تخلص من الأسر.

وفي أوائل سنة (١٩٨) للهجرة ، استولى هرثمة بن أعين على الجانب الشرقي من بغداد واستولى طاهر بن الحسين على الجانب الغربي منها ، وحوصر الأمين في قصره ، وتفرّق عنه عامّة جنده وجواريه ، وفي اللّيل قرّر الأمين الذهاب إلى معسكر هرثمة والالتجاء عنده ، وعند خروجه من القصر ، كان أصحاب طاهر يراقبونه ، فقبضوا عليه ، فقتلوه ، وأخذوا برأسه إلى طاهر بن الحسين ، ثمّ أرسل طاهر برأس الأمين إلى أخيه المأمون.

فكتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالذهاب إلى خراسان (١).

ثمّ اضطر الحسن بن سهل بالاستعانة بهرثمة بن أعين لمحاربة أبي السرايا ، فكتب إليه ، إلّا أنّه اعتذر في أوّل الأمر ، ثمّ وبعد إلحاح من الحسن ابن سهل ذهب هرثمة ومعه منصور بن المهدي إلى الكوفة واستوليا عليها ، بعد أن هرب عنها أبو السرايا ، ثمّ خرجا إلى معسكرهما ، وخلفا على الكوفة غسان بن أبي الفرج (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٤٨٨.

(٢) المصدر السابق. ج ٨ / ٥٣٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٤ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٣ / ٧٦.

٥٩٢

ثمّ بقي هرثمة بن أعين في معسكره أشهرا ، فكتب إليه المأمون بالرجوع إلى خراسان ، ولكنه تأخّر في الطريق ، فاستغلّ الحسن بن سهل ذلك التأخير وقال للمأمون : (إنّ هرثمة ، قد صادق عدوك ، وعادى وليّك ، وإنّ أبا السرايا هو جندي من جنوده ولكنّه تركه يعبث بالبلاد (١).

وكان هرثمة بن أعين قد ولّاه هارون الرشيد إمارة مصر ، فوصلها في الثامن والعشرين من شهر شعبان من سنة (١٧٨) (٢) للهجرة ، فتلقّاه أهل مصر بالطاعة ، وأذعنوا له ، فقبل ذلك منهم ، وأقرّ كلّ واحد على حاله.

وأرسل إلى هارون الرشيد يعلمه بذلك ، ولكن لم تدم إمرة هرثمة على مصر طويلا ، إذ عزل عنها ، وأرسل مع عساكره إلى أفريقيه في الثاني عشر من شهر شوال من هذه السنة (١٧٨) فكانت مدّة إقامته على مصر شهرين ونصف ، ولمّا وصل هرثمة بجيشه العظيم إلى المغرب أذعن له كافة العصاة ، ولم تكن هناك أية حوادث أو حروب ، ذلك لعظم هيبة هرثمة ، إذ كان مقداما ، مهيبا ، وكان الرشيد ينتدبه للمهمات الصعبة (٣).

وبقي هرثمة في المغرب سنتين ونصف ، ثمّ أمره الرشيد بالعودة إلى بغداد ، كان ذلك سنة (١٨١) للهجرة.

وفي سنة (٢٠٠) للهجرة ، وبعد فراغه من قتال أبي السرايا ، ذهب هرثمة إلى المأمون في خراسان ، فأخبره عن حقيقة الحال في العراق ، وفي الدولة الإسلامية ، فكان جزاؤه أن قال له المأمون : (مالأت أهل الكوفة والعلويين وماهنت ودسست اليّ أبا السرايا ،

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٤٢.

(٢) الكندي ـ الولاة في مصر. ص ١٦١ وأبي المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ٨٨ وزامباور ـ الأسرات الحاكمة. ج ١ / ٤٠.

(٣) أبي المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ٨٩.

٥٩٣

حتّى خرج ، وعمل ما عمل ، وكان رجلا من أصحابك ، ولو أردت أن تأخذهم جميعا لفعلت ، ولكنك أرخيت خناقهم ، وأجررت لهم رسنهم) (١).

فأخذ هرثمة يعتذر ، ويدافع عن نفسه عمّا وجّه إليه من اتهامات ، إلّا أنّ المأمون رفض عذره ، ولم ينفعه دفاعه ، بل ولا تشفعت له تلك الخدمات الجليلة الّتي أداها له ولأبيه هارون الرشيد ، وللدولة العباسيّة ، بل أمر المأمون بضرب هرثمة على أنفه ، ثمّ داسوا على بطنه ، وسحب من بين يدي المأمون ، ثمّ ألقي في السجن أياما ، فأخرج مقتولا ، وقالوا عنه إنّه مات (٢).

مات هرثمة بن أعين (أو قتل) سنة (٢٠٠) (٣) للهجرة في سجن المأمون بخراسان وبعد أن قتل هرثمة ، غضب قادة الجيش في بغداد ، وانتشرت الفوضى من جديد فثار أهلها على الحسن بن سهل ، وأقاموا (منصور بن المهدي) أميرا عليهم ، بعد أن رفض قبول الخلافة (٤).

٤٦ ـ المنصور بن المهدي :

هو : محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب (٥).

وكان المنصور بن المهدي يسكن في بغداد ، ويقرب أهل العلم ويكرمهم ، ولقّب (بالمرتضى) ودعي له على المنابر (٦).

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٤٣.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥١٤ والجهشياري ـ الوزراء والكتاب. ص ٣١٨.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٤٣ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٣ / ٨٠ والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ٢٢٥.

(٤) حسن إبراهيم حسن ـ تاريخ الإسلام. ج ٢ / ٧١.

(٥) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١٣ / ٨٢.

(٦) نفس المصدر السابق.

٥٩٤

وفي أوّل شهر محرم من سنة (٢٠٠) (١) للهجرة ، دخل المنصور بن المهدي ومعه هرثمة بن أعين إلى الكوفة ، بعد أن هرب عنها أبو السرايا.

وفي أواخر سنة (١٩٩) للهجرة ، أرسل الحسن بن سهل جيشا بقيادة المنصور بن المهدي وهرثمة بن أعين لمحاربة أبي السرايا الّذي استولى على الكوفة ومعه محمّد بن إبراهيم بن طباطبا ، وعظم أمره ، وخيف منه ، فوصل المنصور وهرثمة بن أعين إلى قرية (شاهي) القريبة من الكوفة ، فوقعت معركة بين أبي السرايا وبينهما ، ثمّ بقيا في قرية (شاهي) حتّى نهاية هذه السنة.

وفي أوائل سنة (٢٠٠) للهجرة ، هرب أبو السرايا ومن معه من الطالبيين (من الكوفة) حتّى وصلوا إلى (القادسيّة) (٢) ، عندها دخل المنصور وهرثمة إلى الكوفة وأمنوا أهلها ولم يتعرضوا لأحد بسوء ، ثمّ رجعوا إلى معسكرهم آخر النهار ، واستخلفوا على الكوفة غسان بن أبي الفرج (أبو إبراهيم ـ صاحب حرس خراسان) (٣).

وذكر أبو الفرج الأصبهاني : بأنّ أشعث بن عبد الرحمن الأشعثي ، قد ثار بالكوفة في الليلة الّتي هرب فيها أبو السرايا ، ثمّ سلّم الأمر إلى هرثمة بن أعين ، ثمّ دخل الكوفة المنصور ومعه هرثمة (٤).

وقيل إنّ المنصور بن المهدي قد أرسل غسان بن أبي الفرج إلى الكوفة ، فذهب غسان إلى قصر ابن هبيرة فلم ير نفسه إلّا وقد أحاط به حميد بن عبد الحميد فوقع في الأسر ، وقتل حميد الكثير من أصحابه وسلب

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٣٤ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ٨٣ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٣ / ٧٦.

(٢) القادسيّة ـ ناحية قرب النجف ، وبها كانت قادسيّة سعد بن أبي وقاص.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٣٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٤.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٤٧.

٥٩٥

الكثير منهم ، كان ذلك سنة (٢٠١) للهجرة (١).

وفي سنة (٢٠١) للهجرة ، طلب أهل بغداد من المنصور أن يكون خليفة لهم ، فامتنع وقال : (أنا خليفة أمير المؤمنين حتّى يقدم) (٢) ، ووافق أخيرا على أن يكون أميرا ويدعو للمأمون بالخلافة.

وقيل : لمّا ثارت الحربية في بغداد ، وطردوا خليفة الحسن بن سهل ببغداد ، طلب بنو هاشم والقادة الموجودون في بغداد من المنصور بن المهدي أن يكون خليفة لهم ، فرفض وقال : (أنا خليفة أمير المؤمنين حتّى يقدم ، أو يولّي من أحبّ) (٣). فرضي القوم بذلك.

وقيل إنّ المنصور بن المهدي قد كاتب الحسن بن سهل وطلب منه الأمان ، فأجابه الحسن إلى طلبه ، فخرج المنصور من معسكره ودخل بغداد (٤).

وكان المنصور قد ولّي البصرة لأخيه هارون الرشيد ، وولي الشام للأمين (٥). وقيل : عند ما كان المنصور (أميرا على دمشق) أرسل شخصا فسرق (قلّة البلّور) (٦) من الجامع ، وحينما سمع إمام الجامع بأنّ (القلّة) قد سرقت ، ضرب بقلنسوته على الأرض وصاح : سرقت قلّتكم. فقال الناس : (لا صلاة بعد القلّة). فصارت مثلا يضرب به ، ثمّ أرسلت تلك القلّة إلى

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٤٩ والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١٣ / ٨٢ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ١١ / ٤٤٩.

(٢) نفس المصادر السابقة.

(٣) نفس المصادر اعلاها.

(٤) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ١١ / ٤٤٩.

(٥) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ١١ / ٤٤٩.

(٦) القلة : جرة يوضع فيها الماء للشرب.

٥٩٦

الخليفة الأمين في بغداد ، ولمّا جاء المأمون إلى الخلافة أعاد القلّة إلى مكانها الأول.

وفي أواخر سنة (٢٠١) وقيل في أوائل سنة (٢٠٢) للهجرة ، خلع أهل بغداد والعباسيون في بغداد (المأمون) وبايعوا (إبراهيم بن المهدي) بالخلافة ، ومن بعده لابن أخيه إسحاق بن موسى الهادي ، فكان أوّل من بايعه منصور بن المهدي وعبيد الله بن العبّاس الهاشمي ، ثمّ تتالت بيعة الآخرين (١).

مات منصور بن المهدي سنة (٢٣٦) للهجرة (٢).

٤٧ ـ غسان بن أبي الفرج :

وكنيته : أبو إبراهيم (٣). وهو : وال ، ومن رجال المأمون ، وهو ابن عمّ الفضل بن سهل والحسن بن سهل.

ولّاه سعيد بن الساجور وأبو البطّ إمارة الكوفة سنة (٢٠١) (٤) للهجرة ، وذلك بعد عزل أميرها السابق (الفضل بن محمّد بن الصباح الكندي). ثمّ عزلوه لأنّه قتل أبا عبد الله (٥) أخا أبي السرايا ، وجعلوا مكانه (الهول) ابن أخي سعيد بن الساجور (٦).

وقيل إنّ المنصور بن المهدي ، أرسل غسان بن أبي الفرج إلى الكوفة ،

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٥٧.

(٢) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١٣ / ٨٢ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٧ / ٥٧ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ١١ / ٤٥٠.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٣٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٤.

(٤) الطبري. ج ٨ / ٥٣٤ والكامل. ج ٦ / ٣٤٤.

(٥) أبو عبد الله : أخو أبي السرايا ، ثار بالكوفة سنة (٢٠٢) للهجرة. وسوف نتكلم عنه في حينه إن شاء الله.

(٦) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٢٤ و٣٤٤ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٤.

٥٩٧

فنزل غسان هذا في قصر ابن هبيرة ، وفجأة أحاط حميد بن عبد الحميد الطوسي بالقصر ، فتمكّن من أخذ غسان أسيرا وقتل من أصحابه الكثير ، كان ذلك سنة (٢٠١) (١) للهجرة.

وغسان بن أبي الفرج ، كان ذا رأي ، وحزم ، ودهاء ، وخبرة ، فقد ولّي إمارة خراسان سنة (٢٠٢) للهجرة ، ولّاه الحسن بن سهل (٢) ، وقيل ولّاه طاهر بن الحسين (٣).

ثمّ ولّاه المأمون إمارة السند سنة (٢١٣) للهجرة ، بعد عزل أميرها السابق (بشر بن داود المهلّبي) ، ولمّا وصل غسان إلى السند استأمن إليه الناس ، فبقي في السند حوالي ثلاث سنوات ، أصلح خلالها شؤون الإمارة ثمّ عاد إلى بغداد سنة (٢١٦) للهجرة ، بعد أن استخلف على السند (عمران بن موسى البركلي).

وقد مدحه أحد الشعراء فقال (٤) :

سيف غسان رونق الحرب فيه

وسهام الحتوف في ظبتيه

وكان عليّ بن عيسى ضامنا أعمال الخراج والضياع أيّام المأمون ، وقد بقيت عليه أربعون ألف دينار ، فطلب منه المأمون تسديدها خلال ثلاثة أيّام وإلّا فسوف يضرب بالسياط لحين تأديتها ، فذهب عليّ بن عيسى إلى غسان بن أبي الفرج (وكان آنذاك أميرا على خراسان) فطلب منه ذلك المبلغ ، فأعطاه ما أراد (٥).

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٢٤ و٣٤٤ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٤.

(٢) الزركلي ـ الأعلام. ج ٥ / ٣١١ والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١٢٤٤.

(٣) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٥ / ١٠.

(٤) الزركلي ـ الأعلام. ج ٥ / ٣١١.

(٥) ابن منقذ ـ لباب الألباب. ص ١١٥.

٥٩٨

وقيل جاء إبراهيم بريهة إلى غسان يشكو إليه ضعف حاله ، وكثرة ديونه ، وطلب منه أن يرفع استعطافه إلى الخليفة (المأمون) فسأله غسان عن مبلغ ديونه ، فقال : (إنّها مائة وثلاثون ألف درهم) ولمّا أراد إبراهيم الانصراف ، قال له غسان : لنتغدّى سويّة ، ثمّ أمر غسان بإرسال المبلغ إلى دار ابن بريهة حالا ، وبدون علم ابن بريهة ، ولمّا ذهب ابن بريهة إلى داره وجد المبلغ فيه.

وفي اليوم الثاني ، ذهب غسان إلى المأمون ، وعرض عليه طلب ابن بريهة ، فقال له المأمون : (قد بلغني ما فعلت أمس ، فوصلك الله بصلتك ، فأنت والله إذا تكلّم نفع كلامه ، وإذا سكت حسن سكوته ، قد أمرنا بقضاء دينه ، والزيادة في أرزاقه) (١).

ودخل أبو حفص الكرماني ذات يوم على المأمون فقال : يا أمير المؤمنين : أتأذن لي في المداعبة؟

فقال المأمون : وهل يحلو العيش إلّا بها؟

فقال الكرماني : (يا أمير المؤمنين ، لقد ظلمتني ، وظلمت غسان بن عباد.

فقال المأمون : ويلك ، وكيف ذلك؟ فقال الكرماني : رفعت غسان فوق قدره ، ووضعتني دون قدري ، إلّا أنّك لغسان أشدّ ظلما. فقال المأمون : وكيف؟ قال الكرماني : لأنك أقمته مقام هزوء ، وأقمتني مقام رحمة. فقال له المأمون : قاتلك الله ما أهجاك!! (٢)

وقال يحيى بن غسان : أيعاقب غسان باقتصاده في ملبسه ، فقال

__________________

(١) ابن بكار ـ الأخبار الموفقيات. ص ٨٣.

(٢) التوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٦ / ٦٩ وج ٩ / ١٧٨.

٥٩٩

غسان : (من عظمت مؤونته على نفسه ، قلّ نفعه على غيره) (١). وقيل إنّ إبراهيم بن المهدي قد ولّاه إمارة الكوفة سنة (٢٠٢) للهجرة ، وذلك بعد ما قتل أبا عبد الله (أخا أبي السرايا) وأرسل برأسه إلى إبراهيم بن المهدي (٢).

وعند ما كان غسان بن عباد أميرا على خراسان من قبل المأمون ، كتب أحمد بن خالد الأحول (كاتب المأمون) كتابا على لسان غسان يطلب فيه إعفائه عن إمارة خراسان ، ولمّا قرأ المأمون الكتاب تعجّب من ذلك وقال : (والله ما أعرف في المملكة إلّا خراسان وما أدري ما حمل هذا الجاهل على الاستعفاء إلّا أن يكون ما رأى نفسه لها أهلا). فقال له أحمد ابن أبي خالد : أرى أن تولّي طاهر بن الحسين مكانه ، فولّاه خراسان في أوائل سنة (٢٠٦) للهجرة (٣).

ولمّا عاد غسان من خراسان ، لم يسمح له المأمون بمقابلته لمدة ثلاثة أشهر ، مما اضطر إلى الاستعانة بالحسن بن سهل ليسمح له بمقابلة المأمون ، ولمّا دخل عليه قال له : (يا أمير المؤمنين ، جعلني الله فداك ، ما ذنبي حتّى تعزلني عن خراسان)؟! فقال له المأمون : أنت طلبت ذلك ، فحلف له غسان بأنّه لم يكتب له بذلك ، ثمّ تبيّن بأنّ أحمد بن أبي خالد هو الّذي كتب ذلك (٤).

وذكر أنّ المأمون قد استخلفه على خراسان عند ما رجع إلى العراق (٥).

مات غسان بن أبي الفرج سنة (٢١٦) للهجرة (٦).

__________________

(١) التوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٦ / ٦٩ وج ٩ / ١٧٨.

(٢) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٤ / ٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي. ج ٣ / ١٩٦.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٧ / ٢٧٩.

(٦) نفس المصدر اعلاه.

٦٠٠