أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

ثمّ ذهب الفضل بن العبّاس مع داود بن عيسى إلى مكّة ، حيث أنّ المأمون قد جعل داود بن عيسى أميرا على موسم الحجّ ، ودعا داود في مكّة بالخلافة للمأمون ، وكان هذا أوّل موسم دعي فيه للمأمون بالخلافة في مكة والمدينة (١).

وعند ما كان الفضل بن العبّاس أميرا على المدينة سنة (٢٦٩) (٢) للهجرة ، أعطى قلنسوة لشاعر فقال الشاعر :

كساك فضل بن عبّاس قلنسوة

هذا السخاء الّذي قد شاع في الناس

لو كان ضمّ اليها الجوربين معا

كفى إذا كسوة الرجلين والرأس

٣٦ ـ طاهر بن الحسين :

هو : طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق الخزاعي ، وكنيته : أبو طلحة وأبو الطيّب.

وطاهر بن الحسين ، هو من كبار الوزراء والقادة ، أدبا ، وحكمة ، وشجاعة ، وهو الّذي وطّد الحكم للمأمون ، وقضى على أخيه الأمين (٣).

ولد طاهر بن الحسين في (بوسنج) في خراسان ، ثمّ سكن بغداد ، فاتصل بالمأمون في صباه ، وكانت لأبيه منزلة جيدة عند هارون الرشيد ، وقد لقبه المأمون (بذي اليمينين) (٤) لأنّه تولّى إمارة العراق وإمارة خراسان.

وقيل لأنه ضرب رجلا فقطعه إلى نصفين ، وكان طاهر أعورا ، فقال فيه

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٤٤٤.

(٢) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٤ / ١٦.

(٣) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٥ / ٤١.

(٤) الزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ٢٢١.

٥٦١

عمرو بن بانه : (١)

يا ذا اليمينين وعين واحدة

نقصان عين ويمين زائدة

وعند ما كان طاهر بن الحسين صغيرا ، رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامه ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا طاهر ، إنّك ستبلغ من الدنيا أمرا عظيما ، فاتّق الله واحفظني في ولدي ، فإنك لا تزال محفوظا ما حفظتني في ولدي) (٢). فكان طاهر لا يتعرض لعلوي طيلة حياته.

وفي سنة (١٩٦) عاد طاهر بن الحسين من خراسان إلى واسط ، فأرسل أحمد بن المهلّب إلى الكوفة ، وكان أميرها آنذاك (العبّاس بن موسى الهادي) من قبل الخليفة (الأمين) ، فلما سمع العبّاس بن موسى بمجيء أحمد ابن المهلب خلع الأمين وبايع المأمون ، عندها أقرّه طاهر بن الحسين على إمارة الكوفة (٣). فتمّ لطاهر ما بين واسط إلى الكوفة.

ولمّا مات الرشيد ، وجاء من بعده ابنه (الأمين) فخلع الأمين أخاه المأمون من ولاية العهد (وكان المأمون حينذاك في خراسان) فانتدب المأمون إليه طاهر بن الحسين ، للزحف إلى بغداد ، فحاصرها حوالي السنة ، فضجر الأهالي ، وملوا من طول الحصار ، ومن شراسة الحرب بين الطرفين ، وأخيرا انهزم الأمين فألقوا القبض عليه ، ثمّ قتلوه ، وجيء برأسه و (الخاتم والقضيب والبردة) إلى المأمون في خراسان ، وقيل أرسل رأس الأمين بيد محمّد بن الحسين بن مصعب (أخو طاهر) وقال له : (أذهب إلى أمير

__________________

(١) الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١١٩٢.

(٢) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٢ / ٢٤١.

(٣) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٣ / ٤٢ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٢٦٤ ومحمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج ١ / ١٦٧.

ـ الخاتم والقضيب والبرده : هي من مقومات الخلافة.

٥٦٢

المؤمنين بهذا الرأس والبرده وقل له : وجهت إليك الدنيا والآخرة) (١). ثمّ بعث كتابا إلى المأمون جاء فيه : (أما بعد ، فإنّ المخلوع ، وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللّحمة ، لقد فرق الله بينهما في الولاية والحرمة ، لمفارقته عصمة الدين ، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين قال الله عزوجل : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)(٢) ، ولا حيلة لأحد في معصية الله ، ولا قطيعة في ذات الله ، وقتل المخلوع ، ورده الله رداء نكبه ، وأحمد لأمير المؤمنين بنعمته ، والراجع إليه بمعلوم حقّه ، والكائد له ممّن ختر عهده ، ونكث وعده ، حتّى ردّ الألفة بعد تفريقها ، وأحيا الأحلام بعد درس أثرها ومكّن له الأرض بعد شتات الأهل) (٣).

وبعد ما قتل الأمين ، وتمّت البيعة للمأمون في العراق ، تولى طاهر بن الحسين رئاسة شرطة بغداد ، ثمّ ولّاه المأمون : الجزيرة والشام والمغرب ثمّ الموصل ، وذلك سنة (١٩٨) للهجرة (٤).

وفي شهر محرم من سنة (٢٠٥) للهجرة ، تولّى طاهر بن الحسين من مدينة بغداد إلى أقصى عمل المشرق (ومعنى هذا أنّ بضمنها مدينة الكوفة) ولّاه إيّاها المأمون ثمّ أعطاه عشرة آلاف ألف درهم (٥).

وعند ما كان طاهر بن الحسين في (الرّقة) وكان راكبا جواده ، ومعه

__________________

(١) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٢ / ٢٥٠.

(٢) سورة هود : الآية ٤٦.

(٣) النويري ـ نهاية الأرب. ج ٥ / ١٤٧.

(٤) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ١٤١ والزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ٢٢١.

(٥) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ١٤١ وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ١٧٨ ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٢٣٧.

٥٦٣

بعض قادته فقال (١) :

عليكم بداري ، فاهدموها ، فإنّها

تراث كريم لا يخاف العواقبا

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه

وأعرض عن ذكر العواقب جانبا

سأدحض عني العار بالسيف جانبا

على قضاء الله ما كان جالبا

ثمّ رجع إلى مجلسه ، فوجد أوراقا ، يطلب فيها أصحابه (المساعدة) فوقع عليها ، فكان مجموع مبالغها : ألف ألف وسبعمائة درهم. ثمّ نظر إلى أحد أصدقائه وقال له : (ما ذا تقول في هذا المجلس)؟ فقال القائد : (ما رأيت أنبل من هذا المجلس ، ولا أحسن منه ، ولكنه ، أصلح الله الأمير ، إنّه سرف). فقال طاهر :السرف من الشرف.

وقيل إنّ بعض الشعراء ، وقف على باب طاهر بن الحسين ثلاث سنين ، ولم يتمكن من الوصول إليه ، فقيل له : إنّ يوم غد سيكون الأمير في الميدان للّعب بالصولجان ، فذهب الشاعر إلى الميدان ، وكان محاطا بالحرس ، فألقى بنفسه أمام طاهر ، فقال له طاهر : من أنت؟ قال : لي بيتين من الشعر.

قال طاهر : هاتهما ، فقال الشاعر (٢) :

أصبحت بين خصاصة وتجمّل

والحرّ بينهما يموت تجمّلا

فامدد اليّ يدا تعوّد بطنها

بذل النوال وظهرها التقبيلا

فأعطاه عشرين ألف درهم.

وكتب الشاعر إسماعيل بن جرير البجلي إلى طاهر بن الحسين

__________________

(١) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٩ / ٣٥٣.

(٢) المصدر السابق ٢. ج ٩ / ٣٥٤.

٥٦٤

الأبيات التاليّة (١) :

رأيتك لا ترى إلّا بعين

وعينك لا ترى إلّا قليلا

فأما إذا أصبت بفرد عين

فخذ من عينك الأخرى كفيلا

فقد أيقنت أنّك من قليل

بظهر الكفّ تلتمس السبيلا

فلمّا قرأ طاهر الأبيات مزّقها ، ثمّ أمر بإكرامه.

ومن شعر طاهر بن الحسين أنّه قال (٢) :

إعمل صوابا تنل بالحزم مأثرة

فلن يذّم لأهل الحزم تدبير

فإن هلكت مصيبا أو ظفرت به

فأنت عند ذوي الألباب معذور

وإن ظهرت على جهل وفزت به

قالوا : جهول أعانته المقادير

أنكد بدنيا ينال المخطئون به

حظّ المصيبين والمقدور مقدور

ومن شعره أيضا (٣) :

لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة

فليس يذهبها التبذير والسرف

فإن تولّت فأحرى أن تجود بها

فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

وقد مدحه مقدّس بن صيفي الخلوقي الشاعر بثلاث أبيات هي (٤) :

عجبت لحرّاقة ابن الحسين

لا غرقت كيف لا تغرق

وبحران من فوقها واحد

وآخر من تحتها مطبق

وأعجب من ذاك أعوادها

وقد مسّها كيف لا تورق؟!

فأعطاه ألف دينار ، وقال له : زد حتّى نزيدك.

__________________

(١) يحيى شامي ـ موسوعة شعراء العرب. ص ١٢١.

(٢) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٤٧.

(٣) حسن سعيد الكرمي ـ قول على قول. ج ٥ / ٨٠.

(٤) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ١٠ / ١٠٨.

٥٦٥

وقال محمّد بن عليّ الصيني يمدح طاهر بن الحسين (١) :

كأنّك مطلع في القلوب

إذا ما تناجت أسرارها

فكسرات طرفك ممتدّة

إليك بغامض أخبارها

ودخل طاهر بن الحسين على المأمون ذات يوم ، فلما رآه المأمون ، ترقرقت عيناه بالدموع ، فقال طاهر : (يا أمير المؤمنين ، لم تبك ، لا أبكى الله عينيك ، والله لقد دانت لك البلاد ، وأذعن لك العباد ، وصرت إلى المحبة في كلّ أمرك)؟ (٢).

فقال المأمون : (أبكي لأمر ، ذكره ، ذلّ ، وستره حزن ، ولن يخلو أحد من شجن) (٣). فلما خرج طاهر من عند المأمون ، أعطى لكاتب المأمون مائة ألف درهم وأعطى لخادمه (حسين) مائتي ألف درهم ، وطلب منه أن يسأل المأمون عن سبب بكائه (٤).

وبعد ما تغدّى المأمون ، طلب من خادمه (حسين) أن يسقيه ، فقال الخادم : لا والله لا أسقيك حتّى تقول لي : لم بكيت حينما دخل عليك طاهر؟

فقال له المأمون : وما ذا يعنيك من أمر ذلك؟

فقال الخادم : لغمّي عليك وتأثري.

فقال المأمون : (إنّي ذكرت محمّدا (أخي) وما أصابه من الذلّ ، فخنقتني العبرة ، فاسترحت إلى الإفاضة ، ولن يفوت طاهرا منّي ما يكره) (٥).

ثمّ تمكّن طاهر بن الحسين ، وبذكائه الحاد ، أن يأخذ موافقة المأمون

__________________

(١) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٢ / ٨٠٦.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٦٠ و٣٦١.

(٣) المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) نفس المصدر اعلاه.

٥٦٦

على توليته إمارة خراسان ، هربا منه ، فوافق المأمون على ذلك.

ولمّا استقرّ طاهر في خراسان ، خلع المأمون من الخلافة (يوم الجمعة) وقطع له الدعاء ، وقال في خطبته : (اللهم أصلح أمّة محمّد بما أصلحت به أوليائك ، واكفها مؤونة من بغى عليها) (١). ولم يزد على ذلك شيئا ، مما تعارف عليه بالخطبة من الثناء على الخليفة ، والدعاء له بطول البقاء. ثمّ خلع طاهر (السواد) وهو شعار العباسيين ، فعرض له عارض فمات في ليلته ، وقيل قتله أحد غلمانه في تلك الليلة ، وقيل مات مسموما.

وعند ما سمع المأمون بموت طاهر قال : (لليدين وللفم ، الحمد لله الّذي قدّمه وأخرنا). وقيل إنّه قال : (وكفى الله المأمون مؤونته) (٢).

مات طاهر بن الحسين في شهر جمادي الأولى من سنة (٢٠٧) (٣) للهجرة.

وقال بعضهم يرثي طاهر بن الحسين (٤) :

فلئن كان للمنيّة رهن

إنّ أفعاله لرهن الحياة

ولقد أوجب الزكاة على قو

م وقد كان عيشهم بالزكاة

٣٧ ـ الحسن بن سهل :

هو : الحسن بن سهل بن عبد الله السرخسي ، وكنيته : أبو محمّد.

والحسن بن سهل من بيت حشمة من المجوس ، أسلم أبوه في زمن البرامكة

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٨٢ وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ١٨٣.

(٢) أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ١٨٣.

(٣) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٩ / ٣٥٥ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ١٦٠ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٨١ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ١٠ / ١٠٩ وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ١٨٣ ومحمد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٢٣٩ والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١١٩٠ وتاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٩٣.

(٤) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٩ / ٣٥٥.

٥٦٧

وكان قهرمانا ليحيى البرمكي.

ونشأ الفضل (١) بن سهل مع المأمون ، وأصبح وزيرا له ، ثمّ قتل الفضل فأستوزر المأمون أخاه الحسن بن سهل من بعده.

ولّاه المأمون في سنة (١٩٨) للهجرة ، على المشرق كلّه وعلى الجزيرة والشام والحجاز واليمن ، وعلى جميع البلاد الّتي افتتحها طاهر بن الحسين من كور الجبال ، والكوفة والبصرة ، والأهواز (٢) ، فأرسل الحسن بن سهل نوابا عنه إلى تلك الأقاليم. وقد تزوج المأمون من ابنته (بوران) (٣) في (فم الصلح) (٤) وأعطى المأمون للحسن على زواج ابنته (بوران) ثمانية وثلاثين ألف ألف درهم (٥).

وقال الشاعر محمّد بن حازم الباهلي في زواج المأمون من بوران (٦) :

بارك الله للحسن

ولبوران في الختن

يابن هارون قد ظفر

ت ولكن ببنت من؟

ولمّا سمع المأمون بذلك قال : (والله ما ندري : هل هجانا أم مدحنا)؟!.

وقال إبراهيم (٧) بن العبّاس مهنئا للحسن بن سهل بزواج ابنته بوران من المأمون (٨) :

__________________

(١) محمّد شاكر الكتبي ـ عيون التواريخ. ص ٢٤٢.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٢٧ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ٥٢ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٢٩٧ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٣ / ٦٧ والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١١٣٤.

(٣) بوران : أسمها : خديجة.

(٤) فم الصلح : المنطقة الّتي سكنها الحسن بن سهل ، وفيها نهر يسمى بنفس الإسم ، وهي مقاطعة كبيرة في ميسان.

(٥) الحميري ـ الروض المعطار. ص ٣٥٩.

(٦) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٤٤٤.

(٧) إبراهيم بن العبّاس بن صول : أصله تركي ، تسلم عدة وظائف ، من جملتها ديوان الضياع والثقات.

(٨) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٠ / ٦٠.

٥٦٨

ليهنئك أصهار أذلّت بعزّها

خدودا وجدعت الأنوف الرواغما

جمعت بها الشملين من آل هاشم

وحزت بها للأكرمين الأكارما

وقال محمّد (١) بن وهيب يمدح المأمون والحسن بن سهل (٢) :

اليوم جددت النعماء والمنن

فالحمد لله حلّ العقدة الزمن

اليوم أظهرت الدنيا محاسنها

للناس لمّا التقى المأمون والحسن

وفي سنة (١٩٩) (٣) للهجرة ، جاء الحسن بن سهل إلى بغداد (ومعه حميد بن عبد الحميد وكثير من القادة) نائبا عن المأمون ، وأسند إليه الخراج والحرب ، فعيّن عماله في البلاد.

وعند ما ثار محمّد بن إسماعيل بن طباطبا بالكوفة في هذه السنة أي سنة (١٩٩) وانظم إليه أبو السرايا ، واستوليا على الكوفة ، أرسل طاهر بن الحسين إلى الكوفة زهير بن المسيب الضبي ، فانهزم زهير ورجع إلى بغداد ، ثمّ أرسل الحسن بن سهل إلى الكوفة عبدوس بن محمّد بن أبي خالد لمحاربة أبي السرايا ، فوقعت معركة بين الطرفين أسفرت عن مقتل (عبدوس) وأكثر أصحابه ، ثمّ ذهب أهل الكوفة إلى نهر (صرصر) واستولوا على واسط والبصرة ، عندها أرسل الحسن بن سهل إلى السندي بن شاهك ، ليخبر هرثمة بن أعين لمواجهته ، ولمّا جاء هرثمة ، أمره الحسن بن سهل أن يذهب إلى أهل الكوفة لمحاربتهم ، ولمّا وصل هرثمة إلى نهر (صرصر) فلحق بأهل الكوفة عند قصر ابن هبيرة ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، فانهزموا إلى الكوفة (٤).

__________________

(١) محمّد بن وهيب : الحميري ، أصله من البصرة وسكن بغداد ، وهو من شعراء الدولة العباسيّة.

(٢) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ص ٤٣٦.

(٣) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ٧٣ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٢٩٧ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٣ / ٦٩ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٢٤٤ والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١١٤٦.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٠٢.

٥٦٩

وتبعهم هرثمة إلى هناك ، فكاتبه أهل الكوفة ، عندها هرب أبو السرايا ومحمّد بن محمّد من الكوفة ، فدخلها هرثمة بن أعين ، وأقام بها أيّاما (١) ، ثمّ استخلف عليها (غسان بن أبو الفرج) ثمّ رجع إلى بغداد ، ومنها ذهب إلى خراسان (٢).

وحارب أهل بغداد الحسن بن سهل ، ورئيسهم محمّد بن أبي خالد المروزي وأولاده (عيسى ، وهارون ، وأبو زنبيل). وكان الحسن بن سهل آنذاك في المدائن ، فأصبحت بغداد فوضى لا أمير لها ، ثمّ بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي ، عندها ذهب إبراهيم إلى محاربة الحسن بن سهل في المدائن ، إلّا أنّ الحسن قد غادرها ، وذهب إلى واسط ، عند ذلك أقام إبراهيم ابن المهدي في المدائن (٣).

وفي سنة (٢٠١) (٤) للهجرة ، عهد المأمون بالخلافة من بعده إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه‌السلام) وسماّه (الرضيّ من آل محمّد) وأمر جنده بخلع السواد ، ولبس الخضرة ، وكتب إلى الحسن بن سهل يعلمه بذلك.

ولمّا سمع أهل بغداد ، وآل بني العبّاس ، غضبوا على المأمون فخلعوه ، وبايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة.

ثمّ إنّ الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه‌السلام) أخبر المأمون وقال له : (بأنّ الناس في فتنة وقتال منذ قتل أخوه (الأمين) ، وأنّ أهل بغداد قد طردوا الحسن بن سهل منها ، وولّوا عليهم خليفة ، وما عليك إلّا أن تتدبّر الأمر.

__________________

(١) الكامل. ج ٦ / ٣٠٦.

(٢) المصدر السابق. ج ٦ / ٣٠٩.

(٣) المصدر اعلاه. ج ٦ / ٣٤١.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٥٤.

٥٧٠

عندها قرر المأمون الذهاب إلى بغداد ، ولمّا خرج من (مرو) (١) هجم جماعة على الفضل بن سهل فقتلوه في الحمام ، ولمّا علم المأمون بذلك ، أمر بقتل قاتليه ، وإرسال رؤوسهم إلى أخيه الحسن بن سهل في واسط ، وأخبره بأنّه قد أصبح في مكان أخيه (٢).

وكان الحسن بن سهل كثير العطايا للشعراء وغيرهم ، وقد قال فيه الشاعر (٣) :

وكأنّ آدم كان قبل وفاته

أوصاك وهو يجود بالحوباء

ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم

وكفيت آدم عيلة الأمناء

وقال فيه أحد الشعراء أيضا (٤) :

تقول خليلتي لمّا رأتني

أشدّ مطيتي من بعد حل

أبعد الفضل ترتحل المطايا

فقلت : نعم إلى الحسن بن سهل؟

وذهب عليّ بن عبيدة إلى الحسن بن سهل في (فم الصلح) فبقي ثلاثة أشهر على بابه ، ولم يسمح له بالدخول عليه ، فكتب إليه هذه الأبيات (٥) :

مدحت ابن سهل ذي الأيادي وماله

بذاك يد عندي ولا قدم

وما ذنبه والناس إلّا أقلّهم

عيال له إن كان لم يك لي جدّ

سأحمده للناس حتّى إذا بدا

له فيّ رأي عاد لي ذلك الحمد

فكتب إليه الحسن بن سهل : (باب السلطان يحتاج إلى ثلاث خلال :عقل ، وصبر ، ومال). فكتب إليه عليّ بن عبيده : (لو كان لي مال ، لأغناني عن الطلب إليك ، أو صبر ، لصبرت عن الذلّ ببابك ، أو عقل ، لاستدللت به

__________________

(١) مرو : عاصمة خراسان.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٤٨.

(٣) الحصري ـ زهر الآداب. ج ٦ / ٢٢٦.

(٤) محمّد بن شاكر الكتبي ـ عيون التواريخ. ص / ٢٤١.

(٥) الحصري ـ زهر الآداب. ج ١ / ٣٥٤.

٥٧١

على النزاهة عن رفدك). فأعطاه الحسن بن سهل ثلاثين ألف درهم.

وقيل للحسن بن سهل : إنّ الدواب ، قد أصابها مرض ، فقال : اقتلوا الكلاب ، فقال أبو العواذل (١) :

له يومان من خير وشرّ

يسلّ السيف فيه من القراب

فأمّا الجود منه فللنصارى

وأما شرّه فعلى الكلاب

ثمّ تماهل الناس في قتل الكلاب ، وبعد أن أكلت الكلاب من لحوم الدواب ، استكلبت على الناس وأخذت تعضهم وتنهشهم ، فاضطروا بعد ذلك إلى قتلها ، وعرفوا صحة ما قال الحسن بن سهل.

وقيل أراد الحسن بن سهل مرّة أن يكتب لسقّاء بألف درهم ، فكتب له : ألف ألف درهم. فقال له الخازن : هل صحيح ما كتبته؟. قال : نعم ، ولن أرجع عما كتبته ، ثمّ تمكّنوا من مصالحة السقاء على مبلغ يرضيه.

ولمّا مات أخوه (الفضل بن سهل) حزن عليه حزنا شديدا ، حتّى مرض ، وأصابه الصرع ، فلم يتمكّن بعد ذلك من مزاولة أعماله ، فحبس في بيته ، بعد أن قيدوه بالحديد ، فاستوزر المأمون بعده (أحمد بن أبي خالد) وعين دينار بن عبد الله القائد الأعلى لجيشه (٢).

ومن أقوال الحسن بن سهل : (من أحبّ الازدياد من النعم فليشكر ، ومن أحبّ المنزلة عند السلطان فليعظه ، ومن أحبّ عزّه فليتواضع ، ومن أحبّ السلامة فليدم الحذر) (٣).

مات الحسن بن سهل في مدينة سرخس سنة (٢٢٦) (٤) للهجرة.

__________________

(١) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٤ / ٤٣٦.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ١١٥ ومحمّد شاكر الكتبي ـ عيون التواريخ ص / ٢٤٢.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٩ / ١٨٤ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ١١٥.

(٤) ابن منقذ ـ لباب الألباب. ج؟ /؟

٥٧٢

٣٨ ـ سليمان بن أبي جعفر المنصور :

هو : سليمان بن عبد الله (المنصور) بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ، وكنيته : أبو أيّوب الهاشمي. ولّاه الحسن ابن سهل (وزير المأمون) إمارة الكوفة (١).

وكان سليمان قد ولّي قبل ذلك إمارة دمشق من قبل هارون الرشيد ، ثمّ ولّيت للأمين مرتين ، وولّي البصرة مرتين أيضا (٢). وكان أميرا على طبرستان.

وعند ما بويع (الأمين) بالخلافة سنة (١٩٣) للهجرة ، وبايعه أهل بيته فوكّل (الأمين) لسليمان بن أبي جعفر المنصور بأخذ البيعة له على القادة وغيرهم (٣).

وعند ما حوصر (الأمين) من قبل طاهر بن الحسين ، وأراد الأمين أن يهرب إلى الشام ، كتب طاهر بن الحسين إلى سليمان بن أبي جعفر المنصور والى محمّد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك أن يمنعوه من الهرب ، وإلّا فستصادر كافّة ممتلكاتهم ، وسيكونون هم المسئولون عن هروبه (٤). ثمّ اجتمع طاهر بن الحسين ، وهرثمة بن أعين ، والقادة ، وحضر الاجتماع سليمان ابن أبي جعفر المنصور ، وقرروا في اجتماعهم : بأنّه إذا التجأ الأمين إلى هرثمة فعليه أن يدفع (الخاتم والبردة ومتطلبات الخلافة) إلى طاهر ، إلّا إنّ الأمين خرج ليلا للالتحاق بهرثمة ، فشعر به جند طاهر بن الحسين فقتلوه ، وكان ينادي : (أنا ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنا ابن هارون ، أنا أخو المأمون ، الله

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ١٠ / ١٦٥ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٤.

(٢) الزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ١٩٠ والمستشرق زامباور ـ الأسرات الحاكمة. ص ٢٨٥.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٣٦٥ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٢٢١.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٤٧٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٢٨٣.

٥٧٣

الله في دمي). ثمّ ذبحوه من قفاه ، وقطعوا رأسه ، وأرسلوه إلى طاهر بن الحسين (١) ، ثمّ أرسله طاهر إلى المأمون.

وعند ما ثار الحسين بن عليّ بن الحسن (صاحب فخ) سنة (١٦٩) للهجرة ، حاربه كافة أهل بيت الخليفة العباسي ، ما عدا سليمان بن أبي جعفر المنصور ، لم يشارك في المعركة ، لأنّه كان مريضا (٢).

وعند ما ثار أهل دمشق ، كتب سليمان بن أبي جعفر المنصور إلى هارون الرشيد يخبره بثورة أهل دمشق ، فكتب إليه الرشيد : (إستحييت لشيخ ولده المنصور ، أن يهرب عمّن ولدته كنده وطيء ، فهلّا قابلتهم بوجهك ، وأبديت لهم صفحتك ، وكنت كمروان عمّك إذ خرج مصلتا سيفه ، متمثلا ببيت الجحّاف بن حكيم :

متقلّدين صفائحا هندّية

يتركن من ضربوا كمن لم يولد

فجالد به حتّى قتل ، لله أمّ ولدته ، وأب أنهضه) (٣).

وقيل ثار بالشام السفياني عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان سنة (١٩٥) للهجرة ، فطرد عنها سليمان بن أبي جعفر المنصور (٤).

وعند ما ثار محمّد بن إبراهيم بن طباطبا بالكوفة سنة (١٩٩) للهجرة ، كان سليمان أميرا على الكوفة من قبل الحسن بن سهل ، ولمّا سمع الحسن بن سهل بثورة ابن طباطبا غضب على سليمان ، وقلّل من قيمته وتقديره ، ثمّ أرسل زهير بن المسيب الضبي في عشرة آلاف مقاتل لإخماد ثورة ابن

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٤٨٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٢٨٤.

(٢) الطبرى. ج ٨ / ١٩٧.

(٣) ابن عبد ربّه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٤ / ٢١٤.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٤١٥.

٥٧٤

طباطبا ، فوقعت معركة بين الطرفين في قرية (شاهي) القريبة من الكوفة ، أسفرت عن انهزام الضبي ، والاستيلاء على ما كان في جيشه من سلاح ودوابّ وغير ذلك (١).

ودخل سليمان بن المنصور يوما على الخليفة (الأمين) وطلب منه أن يقتل أبا نؤاس ، لأنّه زنديق ، حيث قال (٢) :

أهدي الثناء إلى الأمين

ما بعده بتجارة متربّص

صدق الثناء على الأمين محمّد

ومن الثناء تكذّب وتخرص

قد ينقص القمر المنير إذا استوى

هذا ونور محمّد لا ينقص

وإذا بنو المنصور عدّ حصباؤهم

محمّد ياقوتها المتخلص

ثمّ غضب سليمان وقال : لو شكوت من عبد الله ما شكوت من هذا الكافر لوجب أن تعاقبه ، فكيف بهذا يا عمّ؟ وأنّه يقول أيضا :

قد أصبح الملك بالمنى ظفرا

كأنّما كان عاشقا قدرا

حسبك وجه الأمين من قمر

إذا طوى الليل دونك القمرا

خليفة يعتني بأمّته

وإن أتته ذنوبها غمرا

حتّى لو استطاع من تحنتّه

دافع عنها القضاء والقدرا

ثمّ أخذ سليمان يقرأ أشعارا أخرى لأبي نؤاس ظنا منه أن يوغر الأمين عليه ولكن الأمين لم يتخذ أيّ شيء اتّجاه أبي نؤاس ، مما دعا سليمان إلى عدم الذهاب إلى الأمين ، فانقطع عنه.

ثمّ إنّ الأمين أمر بحبس أبي نؤاس ، ولمّا طال حبس أبي نؤاس كتب إلى الأمين أبياتا نذكر منها (٣) :

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٢٩.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ١٧.

(٣) المصدر السابق.

٥٧٥

تذكر أمين الله والعهد يذكر

مقامي وأشاديك والناس حضّر

ونثري عليك الدرّ يا درّ هاشم

فيا من رآى درّا على الدرّ ينثر

ومنها :

مضت لي شهور قد حبست ثلاثة

كأنّي قد أذنبت ما ليس يغفر

فإن لم أذنبت فيم عقوبتي

وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر

فلما قرأ الأمين هذه الأبيات قال : (أخرجوه ، وأجيزوه ، ولو غضب أبناء المنصور كلّهم) (١).

وعند ما ذهب سليمان إلى دمشق ، التقى بإبراهيم بن المهدي ، فقال له سليمان : (خلا لك الجوّ فبيضي واصفري) (٢). فقال له إبراهيم : (لك والله خلا الجوّ ، لأنّك تقعد في صدر المجلس ، وتأكل إذا اشتهيت ، ليس مثل من هو في السماط ، يأكل على شبع ، ويكف عن جوع ويخدم في وقت كسل) (٣).

ودخل هارون الرشيد ذات يوم على سليمان بن المنصور ، فرأى عنده جارية في غاية الحسن والكمال تسمّى (ضعيفة) فأحبّها الرشيد ، وطلبها من سليمان ، فوهبها له.

ولمّا أخذها الرشيد مرض سليمان من شده حبه لها وقال :

أشكو إلى ذي العرش ما

لاقيت من أمر الخليفة

يسع البرّية عدله

ويريد ظلمي في ضعيفة

علق الفؤاد بحبّها

كالحبر يعلق بالصحيفة

ولمّا سمع الرشيد بذلك أعادها إليه.

ومات ابن لسليمان بن أبي جعفر المنصور ، فعزّاه موسى بن المهدي

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ١٨.

(٢) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ١٠ / ١٦٥.

(٣) نفس المصدر السابق. ج ١٠ / ١٦٥.

٥٧٦

قائلا : (أيسرّك وهو بلية وفتنة؟ ويحزنك وهو صلاة ورحمة)؟ (١)

وكان هارون الرشيد ذات يوم وعنده سليمان بن أبي جعفر المنصور ، وعيسى بن جعفر ، وعبد الملك بن صالح ، فقال الرشيد لعبد الملك : كيف أرض كذا؟ فقال : (هضاب حمر ، وبراث غبر). قال الرشيد فأرض كذا؟

قال : (فيافي فاسحة ، وجبال متنادحة). قال الرشيد فأرض كذا؟ قال : (تربة حمراء ، وشجرة خضراء ، وسبيكة صفراء). قال الرشيد : فأرض كذا؟ قال : (مسافي ريح ، ومنابت شيح).

فقال عيسى لسليمان : (ما ينبغي أن نرضا لأنفسنا بالدون من الكلام) (٢).

وفي سنة (١٧٦) كان سليمان بن أبي جعفر المنصور قد حجّ بالناس ومعه الستّ (زبيدة) زوجة هارون الرشيد (٣).

مات سليمان بن أبي جعفر المنصور سنة (١٩٩) (٤) للهجرة.

٣٩ ـ خالد بن محجل الضبي :

استخلفه سليمان بن أبي جعفر المنصور على إمارة الكوفة سنة (١٩٩) (٥) للهجرة.

__________________

(١) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٤ / ١٨٤.

(٢) التوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٦ / ١١٩.

(٣) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٤٤٨ وتاريخ الطبري. ج ٨ / ٢٥٤.

(٤) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٤٨ والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٩ / ٢٤ وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ١٦٤ وعبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ دمشق. ج ٦ / ٢٨١ والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ٢١٣.

(٥) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٢٩.

٥٧٧

وعند ما ثار محمّد بن طباطبا بالكوفة سنة (١٩٩) (١) للهجرة ، كان الأمير عليها حينذاك (خالد بن محجل الضبي) الّذي استخلفه عليها سليمان بن أبي جعفر المنصور فطرده ابن طباطبا عن الكوفة. ولمّا سمع الحسن بذلك غضب على سليمان ووبّخه على إهماله.

ثمّ أرسل الحسن بن سهل جيشا تعداده عشرة آلاف فارس وراجل إلى الكوفة بقيادة زهير بن المسيّب الضبي ، ولمّا وصل زهير الضبي إلى قرية (شاهي) القريبة من الكوفة ، كانت معركة عنيفة بين الطرفين ، انهزم منها زهير الضبي وانتصر جيش خالد بن محجل الضبي ، واستباح أهل الكوفة عسكر زهير ، وأخذوا كلّ ما فيه من مال وسلاح ودوابّ ، ثمّ رجع زهير الضبي إلى قصر ابن هبيرة (٢).

٤٠ ـ محمّد بن إبراهيم بن طباطبا :

هو : محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكنيته : أبو عبد الله (٣).

ومحمّد بن طباطبا ، ثائر علوي ، ومن أئمة الزيدية ، كان يسكن المدينة المنوّرة وذهب إلى الحجّ سنة (١٩٦) للهجرة ، والحرب قائمة بين الأخوين (الأمين والمأمون) ، فأقبل الناس عليه في مكّة ، وكثر ترددهم عليه ، فخاف الفتنة فاستتر (٤).

وكان من حجاج تلك السنة رجل من كبار الشيعة يدعى (نصر بن

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٠٢.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٢٩.

(٣) جمال الدين الحسني ـ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب. ص ١٧٢.

(٤) الزركلي ـ الأعلام. ج ٦ / ١٨٢.

٥٧٨

حبيب) فاجتمع مع ابن طباطبا ، وعرض عليه الثورة على بني العبّاس ، فوعده باستشارة أنصاره في الكوفة.

ولمّا استقرت الأوضاع بالعراق سنة (١٩٨) للهجرة (أي بعد مقتل الأمين) أخذ الناس يتحدّثون بأن الفضل بن سهل ، قد سيطر على المأمون ، واستبدّ بإدارة شؤون البلاد (١).

ثمّ ذهب نصر بن حبيب في هذه سنة (أعني سنة ١٩٨ للهجرة) إلى مكّة وزار محمّد بن طباطبا في بيته بالمدينة ، وحرّضه على الثورة وأخبره بأن أهل الكوفة سيوفا حداد ، وسواعد شداد ، تنتظر قدومه.

فذهب محمّد بن طباطبا إلى الكوفة ، وكتم أمر دخوله فبايعه (١٢٠) رجلا ، ثمّ ذهب ابن طباطبا إلى الجزيرة ، فأستقبله نصر بن حبيب أو (شبيب) وقد أختلف أصحابه ، وفترت عزيمة (نصر) فقرر ابن طباطبا العودة إلى المدينة.

وأثناء عودته إلى المدينة ، لقيه في الطريق أبو السرايا (٢) فبايعه أبو السرايا فعاد ابن طباطبا إلى الكوفة.

ثمّ ثار محمّد بن إبراهيم بالكوفة في شهر جمادي الأول من سنة (١٩٩) (٣) للهجرة ، يدعو إلى الرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعمل بالكتاب

__________________

(١) الزركلي ـ الأعلام. ج ٦ / ١٨٢.

(٢) أبو السرايا ـ وأسمه : السري بن منصور ، وهو من الثائرين على بني العبّاس وكان القيم بأمر ابن طباطبا في الحرب وتدبيرها ، وقيادة الجيش.

(٣) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٦٩ وابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٣١٢ وتاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٢٨ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ٧٣ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٠٢ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٣ / ٧٠ وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ١٦٤ وعارف ـ الجوهر الشفاف. ج ١ / ١٧ والزركلي ـ الأعلام. ج ٦ / ١٨٢ ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٢٣١ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٢٤٤.

٥٧٩

والسنّة.

ثمّ أخذ الناس من الكوفة والأعراب وغيرهم يأتون إلى ابن طباطبا فيبايعونه (١) ، وحينما سمع محمّد بن طباطبا بأنّ أبا السرايا ، قد نهب قصر العبّاس بن موسى بن عيسى خطب في الناس فقال : (أما بعد ، فإنّه لا يزال يبلغني : أنّ القائل منكم يقول : إنّ بني العبّاس فيء لنا نخوض في دمائهم ، ونرتع في أموالهم ، ويقبل قولنا فيهم ، وتصدق دعوانا عليهم ، حكم بلا علم ، وعزم بلا رويّة ، عجبا لمن أطلق بذلك لسانه ، أو حدّث به نفسه ، أبكتاب الله حكم؟ أم سنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّبع؟ أو بسط يدي له بالجور أمل؟ هيهات ، هيهات ، فاز ذو الحقّ بما نوى ، وأخطأ طالب ما تمنّى ، حقّ ذي حقّ بيده ، وكلّ مدّع على حجّته ، ويل لمن اغتصب حقّا ، وادّعى باطلا ، فلح من رضى بحكم الله ، وخاب من أرغم الحقّ أنفه ، العدل أولى بالأثرة ، وإن رغم الجاهلون ، حقّ لمن أمر بالمعروف ، أن يجتنب المنكر ، ولمن يسلك سبيل العدل أن يصبر على مرارة الجور ، كلّ نفس سمو إلى همّتها ، ونعم الصاحب القناعة.

أيّها الناس ، إنّ أكرم العبادة الورع ، وأفضل الزاد التقوى) (٢) إلى آخر الخطبة.

ثمّ خطب محمّد بن إبراهيم ذات يوم بالناس فقال : (عباد الله ، إنّ عين الشتات تلاحظ الشمل بالبتات (٣) ، وإنّ يد الفناء تقطع مدّة البقاء ، فلا يكبحنّكم الركون إلى زهرتها عن التزود لمقرّكم منها ، فإنّ ما فيها من نعيم بائد ، والراحل عنها غير عائد ، وما بعدها إلّا جنّة

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٥٢٩.

(٢) الآبي ـ نثر الدر. ج ١ / ٣٧٦.

(٣) البتات ـ الهلاك.

٥٨٠