أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

شريك بحبسه ، ولمّا سمع موسى بذلك أرسل حاجبه ، فأمر شريك بحبس الحاجب أيضا ، ولمّا علم موسى بن عيسى بذلك أرسل إسحاق بن الصباح الكندي مع جماعة من وجوه أهل الكوفة ومن أصدقاء شريك وطلب منهم أن يخبروا شريك بأنّ الأمير يقول : (إنّي لست كالعامة).

فلمّا جاءوا إلى شريك ، أمر بحبسهم جميعا فغضب موسى بن عيسى ، وذهب إلى السجن ليلا وأطلقهم جميعا. وعند الصباح جاء السجّان وأخبر شريك بذلك ، فقال شريك : (فو الله ما طلبنا هذا الأمر منهم : ولكن اكرهونا عليه ، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه إذا تقلدناه) (١).

ثمّ خرج شريك من الكوفة ، قاصدا بغداد ، ولمّا وصل شريك إلى قنطرة الكوفة ، سمع به موسى بن عيسى ، فلحق به إلى هناك ، وطلب منه العودة إلى قضائه ، فقال شريك : (لا أرجع حتّى يردوا جميعا إلى الحبس ، أو أذهب إلى أمير المؤمنين ، وأطلب منه إعفائي من القضاء). فأعاد موسى بن عيسى جميع من أطلق سراحهم إلى الحبس) (٢).

هذا وقد ذمّ بعضهم شريك القاضي ، ونسب إليه شرب الخمر ، وقيل عنه : بأنّه كذّاب ، وأنّه يخطئ في الحديث كثيرا ، وأنّه قد تغيّر كثيرا عند ما ولّي قضاء الكوفة.

وقال عبد الله بن المبارك يهجو شريك القاضي (٣) :

يا جاعل الدين له مأربا

يصطاد أموال المساكين

لا تبع الدين بدنيا كما

يفعل ضلال الرهابين

احتلت للدنيا ولذاتها

بحيلة تذهب بالدين

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٩ / ٣٣.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) الحميري ـ الروض المعطار. ص / ٢٠٩.

٥٢١

فصرت مجنونا بها بعد ما

كنت دواء للمجانين

تقول أكرهت وما ذا الّذي

زلّ حمار العلم في الطين

وهجاه أحدهم فقال (١) :

وهلّا فررت وهلّا اغتربت

إلى بلدة أرضها المحشر

كما فرّ سليمان من قومه

إلى بلد الله والمشعر

فلاذ بربّ له مانعا

ومن يحفظ الله لا يخفر

أراك ركنت إلى الأزرقي

ولبس العمامة والممطر

وقد طرحوا حولك حتّى لقطت

كما لقط الطير الأندر

وقال العلاء بن منهال في شريك القاضي (٢) :

فليت أبا شريك كان حيّا

فيقصر عن مقالته شريكا

ويترك من تدرئه علينا

إذا قلنا له هذا أبوكا

وذهب هارون الرشيد إلى الكوفة ، وكان إميرها أنذاك موسى بن عيسى ، فعزل شريك (قاضي الكوفة) عن القضاء. فقال موسى بن عيسى لشريك (يا عبد الله ، عزلوك عن القضاء؟ ما رأينا قاضيا يعزل؟ (٣) فقال له شريك : هم الملوك يعزلون ويخلعون) (٤).

مات شريك القاضي بالكوفة يوم السبت في أوّل شهر ذي القعدة من سنة (١٧٧) (٥) للهجرة وكان عمره (٨٢) سنة.

__________________

(١) وكيع ـ أخبار القضاة. ج ٣ / ١٥٢.

(٢) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ٣ / ٢٢٧.

(٣) الشريف المرتضى ـ غرر الفوائد. ج ١ / ٢٩٧.

(٤) يخلعون : يقصد بها : أن أباك (عيسى بن موسى) قد خلعوه من الخلافة عدة مرات ، فلما ذا تشمت بي؟!.

(٥) طبقات خليفة بن خياط. ص ١٦٩ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٩ / ٣٤ والذهبي ـ تذكرة الحفاظ. ج ١ / ٢٣٢ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٨ / ٢١١ ومحمّد شاكر الكثبي ـ عيون التواريخ. ص ٥٨

٥٢٢

١٣ ـ إسحاق بن الصباح الكندي :

هو : إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن الأشعث بن قيس (١). وكنيته أبو يعقوب. ولّاه شريك بن عبد الله النخعي (القاضي) على أحداث الكوفة ، ثمّ عزل شريك بن عبد الله عن إمارة الكوفة عزله الخليفة (المهدي) وعيّن مكانه إسحق بن الصباح الكندي ثمّ عزله وولّى مكانه هاشم بن سعيد بن منصور (ابن خال الخليفة) (٢).

وقيل إنّ الخليفة (المهدي) ولّاه إمارة الكوفة سنة (١٥٩) (٣) للهجرة ، وذلك بعد عزل إسماعيل بن أبي إسماعيل عنها. ولمّا مات (المهدي) أقرّه الرشيد على إمارة الكوفة. وقيل إنّ الّذي أشار على (المهدي) بتولية إسحاق الكندي إمارة الكوفة ، هو شريك بن عبد الله (قاضي الكوفة) وإنّ إسحاق هذا لم يشكر شريك على إحسانه له بتولية الإمارة ، فقال شريك (٤) :

صلّى وصام لدنيا كان يأملها

فقد أصاب ولا صلّى ولا صاما

وإسحاق بن الصباح الكندي ، كان شاعرا ، ومتكلّما ، ومرجّئا.

وكان إسحاق بن الصباح أميرا على الكوفة للسنوات من (١٦٠ ـ ١٦٥) (٥) للهجرة ثمّ ولّاه هارون الرشيد إمارة الكوفة وذلك بعد

__________________

والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١٠٣٣ والزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ١٦٣ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢١٧ وحسن مغنيه ـ قضاء العرب. ص ١١٧.

(١) ابن حزم الأندلسي ـ جمهرة أنساب العرب. ص / ١٤٧.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٤٤٠ وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢١٢.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٢٠ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٢٢٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٤٠ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٤٦.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٢٠.

(٥) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٢٥١ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٦٧.

٥٢٣

عزل العبّاس بن موسى بن عيسى وبقي أميرا على الكوفة لمدة ثلاثة أشهر ثمّ عزله وولّى مكانه جعفر بن جعفر بن أبي جعفر المنصور (١).

وجاء نصيب الأصغر من الحجاز إلى الكوفة ، فدخل على إسحاق بن الصباح (وكان صديقا له) وكان عند إسحاق جماعة يوزع عليهم برّا وتمرا ، فيحملونه على إبلهم وأعطى لنصيب جارية حسناء ، يقال لها (مسرورة) فأردفها خلفه ومضى وهو يقول (٢) :

إذا احتقبوا برّا فأنت حقيبتي

من البشريّات الثقال الحقائب

ظفرت بها من أشعثي مهذّب

أغرّ طويل الباع جمّ المواهب

فدى لك يا إسحاق كلّ مبخل

ضجور إذا عضت شداد النوائب

إذا ما بخيل القوم غيّب ماله

فما لك عدّ حاضر غير غائب

إذا اكتسب القوم الثراء فإنّما

ترى الحمد غنما من كريم المكاسب

وقال أيضا يمدح إسحاق بن الصباح (٣) :

كأن ابن الصباح وكندة حوله

إذا ما بدا بدر توسّط أنجما

على أنّ في البدر المحاق وأنّه

تمام فما يزداد إلّا تتما

مات إسحاق بن الصباح الكندي سنة (؟) للهجرة في مصر (٤).

وقيل ولدت لإسحاق بن الصباح بنت فتألم كثيرا ، وامتنع عن الطعام والشراب ، فدخل عليه (البهلول) (٥) وقال له : (أيّها الأمير ، ما هذا الحزن والجزع؟ جزعت لخلق سوي ، وهبه الملك العليّ ، أيسرك أن يكون مكانها

__________________

(١) تاريخ خليفة ابن خياط. ج ١ / ٤٦٢.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٣ / ١٧.

(٣) الجاحظ ـ الحيوان. ج ٥ / ٣٨٨ ويحيى الشامي ـ موسوعة شعراء العرب. ص ٥٩.

(٤) البراقي ـ تاريخ الكوفة.

(٥) البهلول : هذا لقبه ، وكنيته أبو وهيب الصير في الكوفي ، من ألمع الزهاد في العصر العباسي الأول ، تظاهر بالبلاهة فسمي البهلول ، مات سنة (١٩٠) للهجرة.

٥٢٤

إبن وإنه مثلي؟) (١). فضحك إسحاق ، ودعا بالطعام والشراب ، وأذن للناس بالدخول عليه للتهنئة.

١٤ ـ إسحاق بن منصور :

وفي سنة (١٦١) للهجرة كان على أحداث الكوفة إسحاق بن منصور وعلى سوادها كان يزيد بن منصور (٢) ، هذا ولم اعثر له على ترجمة وافيه.

١٥ ـ يزيد بن منصور :

هو : يزيد بن منصور بن عبد الله بن يزيد بن شهر بن مثوب وهو من ولد ذي الجناح الحميري ، وكنيته : أبو خالد ، وهو خال الخليفة المهدي (٣).

وكان بنو العبّاس يحترمونه ويجلونه ، وكان من المقربين في دولتهم ، فقد ولّاه أبو جعفر المنصور إمارة البصرة سنة (١٥٢) للهجرة ، ثمّ عزله وولّاه اليمن سنة (١٥٤) للهجرة ، وذلك بعد عزل الفرات بن سالم ، فبقي في اليمن إلى أن مات المنصور ، ولمّا جاء المهدي إلى الخلافة عزله عن اليمن بعد سنة من خلافته وولّاها رجاء بن روح (٤).

وفي سنة (١٦١) للهجرة كان يزيد بن منصور على سواد الكوفه ، وعلى أحداثها أخوه إسحاق بن منصور (٥). وكان يزيد بن منصور قد حجّ بالناس سنة (١٥٩) للهجرة (٦).

__________________

(١) الوطواط ـ غرر الخصائص الواضحة. ص ١٢٧.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٥٦.

(٣) الكامل. ج ٦ / ٦٨ والزركلي ـ الأعلام. ج ٨ / ١٨٩.

(٤) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٦ / ١٩٠.

(٥) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٥٦.

(٦) المصدر السابق. ج ٦ / ٤١.

٥٢٥

وفي سنة (١٦٠) للهجرة حجّ بالناس الخليفة المهدي ، واستخلف على بغداد ابنه موسى وخاله يزيد بن منصور (١).

وفي سنة (١٦٤) للهجرة ، ولّي يزيد بن منصور إمارة اليمن (ثانية) من قبل الخليفة المهدي (٢). وقد هجاه الشاعر بشار بن برد فقال (٣) :

أبا خالد قد كنت سبّاح غمرة

صغيرا فلما شبت خيمت بالشاطي

وكنت جوادا سابقا ثمّ لم تزل

تأخّر حتّى جئت تخطو مع الخاطي

فأنت بما تزداد من طول رمعة

وتنقص من مجد كذاك بإفراط

كسنّور عبد الله بيع بدرهم

صغيرا ، فلمّا شبّ بيع بقيراط

مات يزيد بن منصور سنة (١٦٥) (٤) وقيل سنة (١٦٦) (٥) للهجرة.

١٦ ـ هاشم بن سعيد بن منصور :

ولّاه الخليفة (المهدي) إمارة الكوفة سنة (١٦٤) للهجرة (٦). وفي سنة (١٦٦) (٧) كان على الكوفة هاشم بن سعيد ، وقد ولّاه الخليفة المهدي (٨).

وفي سنة (١٦٦) كان عامل الكوفة على الصلاة وأحداثها هاشم بن سعيد (٩).

وذكر خليفة بن خياط في تاريخه وكذلك ابن خلدون في تاريخه بأن

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٤٨.

(٢) الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ٩٧٧.

(٣) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٦ / ١٩٠.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ١٦٥ وابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٦ / ١٩٠.

(٥) الزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ١٩٩.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٥١.

(٧) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٧٤.

(٨) البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٣.

(٩) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٦٣.

٥٢٦

هاشم بن سعيد قد ولّاه الخليفة المهدي إمارة الكوفة ، وذلك بعد عزل إسحاق بن الصباح الكندي (١).

وفي سنة (١٦٩) للهجرة عيّنه الخليفة (المهدي) أميرا على الموصل ، فأساء السيرة والتصرّف في أهلها ، فعزله الخليفة (الهادي) وعيّن مكانه عبد الملك بن صالح الهاشمي (٢).

١٧ ـ صالح بن داود بن عليّ :

في سنة (١٦٤) (٣) للهجرة ، كان على صلاة الكوفة وأحداثها ، وكور دجلة والبحرين وعمان ، وكور الأهواز وفارس هو : صالح بن داود بن عليّ.

وكذلك كان صالح بن داود أميرا على الكوفة سنة (١٦٥) (٤) للهجرة. وذكر الترمانيني بأن الخليفة المهدي قد ولّى صالح بن داود على إمارة البصرة سنة (١٦٤) للهجرة ، ثمّ عزله سنة (١٦٦) ، وعين مكانه روح بن حاتم المهلبي ، ثمّ عزله وعيّن بدله محمّد بن سليمان (٥). وذكر ابن الأثير بأنّ الخليفة المهدي قد عيّن صالح بن داود بن عليّ على إمارة البصرة سنة (١٦٤) للهجرة ، وذلك بعد عزل أميرها السابق محمّد بن سليمان (٦). وكذلك كان أميرا على البصرة سنة (١٦٥) (٧).

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٤٠ وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢١٢.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٩٥.

(٣) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٢٧١.

(٤) المصدر السابق. ج ٨ / ٢٧٨.

(٥) الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ٩٨٥.

(٦) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٦٣.

(٧) المصدر السابق. ج ٦ / ٦٧.

٥٢٧

ولمّا ولّي صالح بن داود إمارة البصرة ، هجاه بشار بن برد فقال (١) :

هم حملوا فوق المنابر صالحا

أخاك فضجّت من أخيك المنابر

ولمّا سمع (يعقوب) أخو صالح بهذا الشعر ذهب إلى الخليفة (المهدي) وقال له : إنّ هذا الأعمى ، المشرك ، قد هجا أمير المؤمنين. فقال له : وما ذا قال؟! فطلب من الخليفة إعفائه ، لعدم تمكّنه مما قال بشار ، إلّا أنّ الخليفة أبى أن يعفيه ، فأنشده (٢) :

خليفة يزني بعماته

يلعب بالدبّوق والصولجان

أبدلنا الله به غيره

ودسّ موسى في حرّ الخيزران

١٨ ـ روح بن حاتم :

هو : روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي (٣) ، كنيته : أبو حاتم ، وقيل : أبو خلف.

ولّاه الخليفة محمّد (المهدي) بن جعفر المنصور إمارة الكوفة سنة (١٦٧) (٤) للهجرة وذلك بعد عزل هاشم بن سعيد عنها.

وروح بن حاتم ، من الأجواد الممدوحين ، ومن وجوه دولة المنصور ، وكان موصوفا بالعلم والشجاعة والحزم (٥). وكان حاجبا للمنصور.

ولّي روح الإمارة لخمسة خلفاء هم : (١) أبو العبّاس السفّاح. (٢) أبو جعفر المنصور. (٣) محمّد (المهدي). (٤) موسى (الهادي). (٥) هارون

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٨٦.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٨ / ٣٣٩.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٦٦ والقرطبي ـ بهجة المجالس. ج ١٠ / ٧٥ والمنتظم ـ ابن الجوزي. ج ٨ / ٢٨٨ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٣ و٢٤٦.

(٥) الزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ٣٤.

٥٢٨

الرشيد.

ولم يتّفق مثل هذا لأيّ أمير ، إلّا لأبي موسى الأشعري ، فقد عمل : للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأبي بكر الصديق ، ولعمر بن الخطاب ، ولعثمان بن عفان ، وللإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وخطب روح بن حاتم ذات يوم ، ولمّا رأى كثرة الناس تلعثم ، ولا يدري ما ذا يقول : فقال : نكسوا رؤوسكم ، وغضوا أبصاركم ، فإن المنبر ، مركب صعب ، وإذا يسّر الله فتح قفل تيسر (١).

وجيء بلص إلى روح بن حاتم ، فأمر بقتله. فقال اللصّ : يا أمير ، لي عندك يد بيضاء. فقال روح : وما هي؟ قال اللصّ : إنّك جئت يوما إلى مجمع موالينا بني نهشل ، والمجلس محتفل فلم تجد مكانا لتجلس فيه ، فقمت لك من مكاني حتّى جلست فيه ، ولو لا كرمك وشرفك ، ما ذكّرتك هذه عند مثل هذا. فقال روح : صدق وأمر بإطلاقه ، ثمّ ولّاه تلك الناحية ، وضمنه إيّاها (٢).

وكان بشار بن برد ، قد هجا روح بن حاتم ، فلما سمع روح بذلك هدده وتوعّده وحينما سمع بشار ذلك قال (٣) :

تهدّدني أبو خلف

وعن أوتاره ناما

بسيف لأبي صفر

ة لا يقطع إبهاما

كأنّ الورس يعلوه

إذا ما صدره قاما

وعند سماعه بهذه الآبيات ، قال روح : كلّ مالي صدقة ، إن وقعت

__________________

(١) ابن قتيبة ـ عيون الأخبار. ج ٢ / ٢٥٨ والقرطبي ـ بهجة المجالس. ج ١٠ / ٧٥ والجاحظ ـ البيان والتبيين. ص ٢٤٩.

(٢) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ١٧٢.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٣ / ٢١٦.

٥٢٩

عيني عليه لأضربنّه ضربة بالسيف ، ولو كان بين يدي الخليفة.

فلمّا سمع بشار بذلك ، ذهب إلى الخليفة (المهدي) واستجار به ، فأجاره ، ثمّ أرسل المهدي إلى روح فجيء به في الحال ، فقال له المهدي : يا روح إنّي بعثت إليك في حاجة. فقال روح : أنا عبدك يا أمير المؤمنين ، فقل ما شئت ما عدا بشار فإنّي قد حلفت في أمره يمينا قاطعا.

عندها أمر المهدي بإحضار القضاة والفقهاء ، فاتفقوا على أن يضربه بعرض السيف ، ثمّ استلّ روح سيفه ، وضرب بشار بعرض سيفه ، فقال بشار : (أوّه بإسم الله) فضحك المهدي وقال له : (ويلك يا هذا ، فقد ضربك بعرضه فكيف بك لو ضربك بحدّه).

ورأى رجل روح بن حاتم ، وهو واقف في الشمس على باب المنصور فقال له : (قد طال وقوفك في الشمس؟) فقال له روح : (ليطول وقوفي في الظلّ) (١).

وعند ما كان روح بن حاتم أميرا على البصرة ، ذهب لمحاربة الجيوش الخراسانية ، ومعه أبو دلامة ، فخرج مبارز من صفوف العدّو ، وطلب مبارزته ، فخرج إليه جماعة من أصحاب روح فقتلهم ذلك المبارز تباعا ، عندها طلب روح من أبي دلامة أن يخرج لمبارزته ، فامتنع أبو دلامة ، ولكن روح أمره أن يخرج لمبارزته فقال أبو دلامة (٢) :

إنّي أعوذ بروح أن يقدّمني

إلى قتال فيخزي بي بنو أسد

آل المهلّب حبّ الموت أورثكم

ولم أرث أنا حبّ الموت من أحد

إن الدنو إلى الأعداء أعلمه

مما يفرّق بين الروح والجسد

__________________

(١) ابن قتيبة ـ عيون الأخبار. ج ١ / ٢٣٥ والمبرد ـ الكامل. ج ١ / ٢١٢.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٠ / ٢٤٤ وابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٢ / ٣٢٣ وعبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر. ص ٣٣٩.

٥٣٠

فلم يقتنع روح بما قاله أبو دلامة ، وأقسم بأن يخرج إلى المبارز ، عندها طلب أبو دلامة من روح أن يأتيه بدجاجة وخبز ، ولحم وشراب ، لعلمه بأنّ هذا آخر يوم من حياته ، فأمر له روح بما أراد.

ثمّ خرج أبو دلامة ، راكبا فرسه ، متقلّدا سيفه ، وأخذ يصول ويجول حتى وصل إلى المبارز فلمّا رآه المبارز ، شهر سيفه وتقدّم نحو أبي دلامة ، فما كان من أبي دلامة إلّا أن أغمد سيفه وقال للمبارز : لا تعجل يا صاحبي ، واسمع منّي : فهل تعرفني؟ قال المبارز : لا.

فقال له : أنا أبو دلامة ، وإنّني لم أخرج لقتالك ، وإنّما سمعت عن شهامتك ، وحسن أخلاقك ، فأحببت أن تكون لي صديقا ، ثمّ دعاه إلى الطعام والشراب ، فأكلا وشربا حتّى اكتفيا ، وتمكّن أخيرا أبو دلامة من إقناع المبارز من ترك أصحابه والالتحاق بجيش روح.

وعند ما رجع أبو دلامة إلى روح ، قال له روح : ما ذا فعلت يا أبا دلامة؟ فقال له : جئتك به أسيرا ، ثمّ انخرط ذلك المبارز في صفوف جيش روح وأصبح صديقا لروح.

وكان روح بن حاتم يذهب إلى منزل ابن رابين في الكوفة ، وكان يختلف إلى الزرقاء وكانت الزرقاء تحبّ محمّد بن جميل ، ويحبّها هو أيضا ، فاحتالا عليه ، حيث بات عندهم ليلة من الليالي ، فأخذت الزرقاء سراويله فغسلتها ، وفي الصباح سأل عنها فقالت له الزرقاء : قد غسلناها ، فتصوّر روح أنّه أحدث فيها ، فاستحيا من ذلك ، فخلا الجو لها ولأبن جميل (١).

ومن طرائف روح انه قال : بينما كنت أطوف بالبيت الحرام سمعت رجلا يدعو ويقول : اللهم (اغفر لي ولوالدي) فقلت له : يا هذا قل اللهم

__________________

(١) النويري ـ نهاية الأرب. ج ٥ / ٧٧.

٥٣١

أغفر لي ولوالديّ. فقال : إن أمّي من بني تميم ، وأنا أحبّ أن لا يغفر لها.

وكانت حميدة بنت النعمان بن بشير الأنصاري ، قد تزوجت من الحارث بن خالد المخزومي وقيل المهاجر بن عبد الله بن خالد فطلّقها ثمّ زوّجها أخوها من روح بن حاتم الجذامي فهجته وخاطبت أخاها الّذي زوّجها من روح فقالت (١) :

أضلّ الله حلمك من غلام

متى كانت مناكحنا جذام؟

أترضى بالأكارع والذنابي

وقد كنّا يقر لنا السنام؟

فطلّقها روح ، وقال لها : سلط الله عليك زوجا يشرب الخمر ، ويتقيّأ في حجرك فتزوجت بالفيض بن أبي عقيل الثقفي ، فكان هذا يسكر ويتقيأ في حجرها وكانت حميدة تقول : (أجيبت دعوة روح فيّ).

وفي بداية سنة (١٧١) للهجرة ، كان روح بن حاتم أميرا على أفريقية ، ولّاه إيّاها هارون الرشيد مكان أخيه (يزيد بن حاتم) وبقي روح أميرا على أفريقيه إلى سنة (١٧٤) للهجرة ، وقيل سنة (١٧٥) وقيل سنة (١٧٦). فمات ودفن مع أخيه (يزيد) في قبر واحد ، فتعجب الناس في حينه وكيف جمع بين اثنين أحدهما في المشرق والآخر في المغرب ودفن في مدينه القيروان (٢).

١٩ ـ محمّد بن سليمان : (٣)

ولّاه الخليفة (المهدي) إمارة الكوفة سنة (١٦٧ ـ ١٦٩) (٤) للهجرة.

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٥٣.

(٢) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٨ / ٣٣٩ وابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٢ / ٣٠٦ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٧ / ٤٤١ وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢٢٧ وعبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر. ص ٣٣٩ والزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ٣٤ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٣.

(٣) وردت ترجمته في ص ٥٠٣.

(٤) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٢٨٨ والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ٩٨٥.

٥٣٢

وهذه للمرّة الثانية.

٢٠ ـ موسى بن عيسى :

هو : موسى بن عيسى بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب ، ولّاه الخليفة موسى (الهادي) إمارة الكوفة سنة (١٦٧) (١) للهجرة ، وذلك بعد عزل روح بن حاتم.

وقيل ولّاه الخليفة محمّد (المهدي) إمارة الكوفة بعد عزل هاشم بن سعيد ، وبقي موسى بن عيسى أميرا على الكوفة حتّى مات (المهدي) (٢). ثمّ جاء الخليفة موسى (الهادي) فأقرّه على إمارته ، وبقي موسى أميرا حتّى مات الخليفة الهادي ، ثمّ جاء هارون الرشيد إلى الخلافة فعزله ، وأرسله أميرا على مصر ، وولّى ابنه (العبّاس بن موسى بن عيسى) على إمارة الكوفة (٣) ، ثمّ أعاده هارون الرشيد إلى إمارة الكوفة بعد عزل يحيى بن بشر ابن جحوان الحارثي ثمّ عزله ، وولى ابنه العبّاس بن موسى لمدة شهرين ثمّ عزله (٤).

ثمّ أعاده هارون الرشيد إلى إمارة الكوفة (أيضا) وذلك بعد عزل منصور بن عطاء الخراساني ، وبقي أميرا حتّى مات (٥).

وكان هارون الرشيد قد ولّاه إمارة مصر سنة (١٧١) للهجرة بعد عزل أميرها عليّ بن سليمان ، فقام موسى في مصر بأعمال غير مرضية ، إذ

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي. ج ٣ / ١٣٢ وتاريخ الطبري. ج ٨ / ١٦٤.

(٢) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٤٠ و٤٤٦ و٤٦٢.

(٣) المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) نفس المصدر اعلاه.

٥٣٣

أمر ببناء الكنائس الّتي هدمها عليّ بن سليمان (١).

وقيل إنّ موسى بن عيسى جلس ذات يوم في ميدان مصر ، وأخذ يطيل النظر في نهر النيل ، فقيل له : ما ذا يرى الأمير؟

فقال : (أرى ميدان رهان ، وجنان نخل ، وبستان شجر ، ومنازل سكنى ، ودور خيل وجبّان أموات ، ونهر أعجاج ، وأرض زرع ، ومرعى ماشية ، ومرتع خيل ، ومصايد بحر ، وقانص وحش ، وملّاح سفينة ، وحادي إبل ، ومفازة رمل ، وسهلا ، وجبلا من أقلّ ميل في ميل) (٢).

ثمّ عزل موسى بن عيسى عن مصر في السادس عشر من شهر رمضان من سنة (١٧٢) للهجرة ، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما.

ثمّ أعاده هارون الرشيد إلى إمارة الكوفة ، لمدة قصيرة ثمّ عزله وولّاه (دمشق) فأقام بها مدّة ، ثمّ عزله سنة (١٧٦) للهجرة ، وذلك عند ما هاجت القبلية بين النزارية واليمانية في الشام ، وعيّن مكانه موسى بن يحيى بن خالد البرمكي ، فتمكّن من إخماد الفتنة ، وإيقاع الصلح بين الطرفين ، فقال الشاعر يمدح موسى بن يحيى بقصيدة نقتطف منها الأبيات التالية (٣) :

قد هاجت الشام هيجا

يشيب رأس وليده

فصبّ موسى عليها

بخيله وجنوده

فدانت الشام لمّا

أتى نسيج وحيده

ثمّ أعاده إلى إمارة مصر ، ثمّ عزله سنة (١٧٦) (٤) للهجرة ، ثمّ أعاده إلى

__________________

(١) أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ٦٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٢٥٢.

(٤) أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ٦٧ والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١٠٢٣.

٥٣٤

مصر سنة (١٧٩) (١) ثمّ عزله سنة (١٨٠) ، وكان أميرا على أرمينية سنة (١٧٨) للهجرة.

وكان موسى بن عيسى توّاقا إلى الخلافة ، وكان يشعر بأحقيته بها ، حيث أنّ أباه (عيسى بن موسى) كان ولي عهد الخليفة أبو العبّاس السفّاح ، ثمّ ولّي العهد لأبي جعفر المنصور ، ثمّ نقضا العهود والمواثيق ، فخلعاه من الخلافة (كما ذكرنا سابقا).

ولم يخف على هارون الرشيد على ما كان يدور في رأس موسى بن عيسى ، لذلك نراه (أي الرشيد) قد أكثر من تولية وعزل موسى بن عيسى عن إمارة الكوفة وإمارة مصر ليحطّ من قدره ومعنوياته ، وليكون بعيدا عن مركز الخلافة ، ثمّ بعد ذلك أعاده الرشيد إلى بغداد ، ليكون بالقرب منه ، فتسهل عليه مراقبته.

وفي سنة (١٦٩) (٢) للهجرة ، ثار بالمدينة الحسين بن عليّ بن الحسن ابن الحسن بن الحسن بن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام المعروف ب (صاحب فخ) فاستولى على المدينة ، ثمّ ذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ ، ولمّا وصل إلى (فخ) (٣) لقيته الجيوش العباسيّة بقيادة موسى بن عيسى ومعه محمّد بن سليمان بن عليّ (أمير الكوفة الأسبق) وأخيه جعفر ، فدارت معركة بين الطرفين قتل فيها الحسين بن عليّ ، وقتل معه الكثير من آل أبي طالب ، وخاصة من أولاد الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام.

ولمّا جيء بالرؤوس إلى موسى بن عيسى ، وكان عنده جماعة من اولاد الحسن والحسين (عليهما‌السلام) فلم يتكلم أحد منهم بشيء ، وكان

__________________

(١) النجوم الزاهره. ج ٢ / ٩٨ والمستشرق زامباور ـ الأسرات الحاكمة. ص ٢٨٥.

(٢) الحميري ـ الروض المعطار. ص ٤٣٧ وعبد الرزاق كمونة ـ مشاهد العترة الطاهرة. ص ١٥٢.

(٣) فخ : بئر قرب مكّة.

٥٣٥

من جملتهم الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام فقال له موسى بن عيسى : هذا رأس الحسين. فقال الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام : (إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مضى والله مسلما ، صالحا ، صوّاما ، قائما ، آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله) (١). فسكتوا ، ولم يجيبوه بشيء ، ثمّ أرسلوا الأسرى إلى الخليفة موسى (الهادي).

وبعد قتل الحسين (صاحب فخ) جلس موسى بن عيسى بالمدينة ، للتهنئة بالنصر وأمر الناس بالوقيعة على آل أبي طالب ، فأخذ الناس يوقعون عليهم ، حتّى لم يبق أحد منهم ، فقال موسى : هل بقي أحد منهم؟

فقيل له : نعم ، بقي موسى بن عبد الله بن الحسن (أخو النفس الزكيّة) فذهب عبد الله إلى موسى بن عيسى ، وكان السري بن عبد الله من اولاد الحرث بن العبّاس بن عبد المطلب جالسا إلى جانب موسى بن عيسى ، فقال السري لموسى : (دعني أعرّفه بآله وبنفسه) (٢) ، فأذن له موسى ، فقال السري : كيف رأيت مصارع البغي ، الّذي لا تدعونه لبني عمّكم ، المنعمين عليكم)؟.

فقال موسى : أقول في ذلك :

بني عمّنا ردوا فضول دمائنا

ينم ليلكم أو لا يكلّمنا اللوائم

إنّا وإيّاكم وما كان بيننا

كذي الدّين يقضي دينه وهو راغم

فقال السري : (والله ما يزيدكم البغي ، إلّا ذلّة ، ولو كنتم مثل بني (٣) عمكم لسلمتم وكنتم مثله ، فقد عرف حقّ بني عمّه ، وفضّلهم عليه ، فهو لا

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٤٥٣ و٤٥٤.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) بني عمكم : المقصود به الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام.

٥٣٦

يطلب ما ليس له) (١).

فقال له موسى بن عبد الله :

فإنّ الأولى تثني عليهم تعيبني

أولاك بنو عمّي وعمّهم عمّي

فإنّك إن تمدحهم بمديحة

تصدق ، وإن تمدح أباك تكذب

وقيل إنّ موسى (٢) بن عيسى قد طلب من أبي العرجاء الجمال أنّه يذهب إلى معسكر الحسين (صاحب فخ) ويأتيه بالخبر ، ولمّا رجع أبو العرجاء قال لموسى بن عيسى : (ما أظن القوم إلّا منصورين). فقال له موسى : وكيف ذاك يا بن الفاعلة :؟

فقال : (ما رأيت إلّا مصليا ، أو مبتهلا ، أو ناظرا في مصحف ، أو معدّا للسلاح) (٣).

فعند ذلك ضرب موسى بن عيسى يدا بيد ، وقال : (هم والله ، أكرم عند الله ، وأحقّ بما في أيدينا منّا ، ولكن الملك عقيم ، ولو أنّ صاحب (٤) هذا القبر نازعنا الملك لضربنا خيشومه) يا غلام إضرب طبلك.

وقيل إنّ الخليفة (الهادي) غضب على موسى بن عيسى لقتله الحسين ابن عليّ (صاحب فخ) لأنّه لم يخبره بذلك قبل قتله ليقرّر مصيره بنفسه ، ولمّا جيء برأسه مستبشرين بكى (الهادي) ثمّ قال : (أتيتموني مستبشرين ، كأنّكم أتيتموني برأس رجل من الترك أو الديلم إنّه رجل من عترة رسول

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٤٥٤.

(٢) وقيل إنّ الّذي طلب من أبي العرجاء الذهاب إلى معسكر صاحب فخ هو محمّد بن سليمان (كما ذكرنا في ص ٥٠٩ و٥١٠) من هذا الكتاب.

(٣) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٤ / ٢٤١ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٣٥٠.

(٤) صاحب هذا القبر : يقصد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل إنّ الّذي قال ذلك هو محمّد بن سليمان. (لاحظ ص ٥١٠ و٥١١) من هذا الكتاب.

٥٣٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطهم شيئا ، وأمر بمصادرة أموال موسى بن عيسى (١).

وقيل في رثاء من قتل في (فخ) من آل الحسن (٢) :

يا عين إبكي بدمع منك منهمر

فقد رأيت الّذي لاقى بنو الحسن

صرعى بفخ تجرّ الريح فوقهم

أذيالها وغوادي الدلج المزن

حتّى أعفت أعظم لو كان شاهدها

محمّد ذبّ عنها ثمّ لم تهن

ما ذا يقولون والماضون قبلهم

على العداوة والبغضاء والأحن

ما ذا يقولون إن قال النبيّ لهم

ما ذا صنعتم بنا في سالف الزمن

لا الناس من مضر حاموا ولا غضبوا

ولا ربيعة والأحياء من يمن

يا ويحهم كيف لم يرعوا لهم حرما

وقد رعى الفيل حقّ البيت ذي الركن

وكان موسى بن عيسى قد تزّوج من (علية) (٣) وكان فارق السن

__________________

(١) الحميري ـ الروض المعطار. ص ٤٣٧.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) علية : هي بنت الخليفة (المهدي) وأخت الخليفة هارون الرشيد ، كانت شاعرة ، تجيد الشعر ، ومغنيه تغني من شعرها وتلحينها ، وخاصة إذا اجتمعت مع أخيها (إبراهيم) الّذي لا يقل عنها في الغناء ، وإجادة الشعر. وكانت عليه من أجمل النساء ، وأكملهن عقلا ونزاهة وأدبا. أحبت علية خادما من خدام أخيها (هارون الرشيد) اسمه (طل) فكانت تراسله شعرا وتكلمه على حذر ، ثمّ علم الرشيد بذلك ، فأقسم عليها يمينا ، بأن لا تكلم (طلا) ولا تسميه بأسمه واستمع اليها الرشيد ذات يوم ، وهي تقرأ القرآن في آخر سورة البقرة ، ولمّا وصلت إلى قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) ، وأرادت أن تقول : (فطل) إلّا أنها تذكرت يمينها لأخيها الرشيد فقالت : (فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين) ، فدخل عليها الرشيد ، وقبّل رأسها وقال لها : (قد وهبت لك (طلا) ولا أمنعك بعد هذا من شيء تريدينه). الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١٢١٠.

ومن شعرها أنها قالت :

أوقعت قلبي في الهوى

ونجوت منه سالمه

وبدأتني بالوصل ثمّ

قطعت وصلي ظالمه

ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ٢٣١.

ومن شعرها أيضا :

٥٣٨

بينهما كثيرا جدا.

مات موسى بن عيسى في بغداد سنة (١٨٣) (١) للهجرة ، وقيل مات في مصر (٣٠٣) ، وعمره (٥٥) سنة.

٢١ ـ العبّاس بن موسى بن عيسى :

هو : العبّاس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب (٢).

استخلفه أبوه (موسى بن عيسى) على إمارة الكوفة سنة (١٧٠) (٣) للهجرة في خلافة هارون الرشيد. ثمّ ولّاه الأمين بن هارون الرشيد إمارة الكوفة سنة (١٩٥) (٤) للهجرة. وقيل ولّاه هارون الرشيد إمارة الكوفة بعد عزل أبيه عنها ، ثمّ عزله وولّى إسحاق بن الصباح الكندي (٥).

وفي سنة (١٩٦) للهجرة حجّ بالناس (العبّاس بن موسى بن عيسى) من قبل طاهر بن الحسين ودعا للمأمون بالخلافة في مكّة والمدينة ، وهو

__________________

ليس يستحسن في وصف الهوى

عاشق يحسن تأليف الحجج

بنى الحب على الجور فلو

أنصف المعشوق فيه لسمج

لا تعيبا من محب ذلة

ذلة العاشق مفتاح الفرج

وماتت عليه بعد عمر دام خمسين سنة. الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١٢١٠.

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ١٦٥ والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٣.

(٢) القلقشندي ـ صبح الأعشى. ج ٣ / ٤٢٢.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٢١٤.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٣٤٦.

(٥) تاريخ خليفة بن خياط. ج ٢ / ٤٦٢. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٢١٥. والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٤٦.

٥٣٩

موسم يدعى فيه بالخلافة للمأمون (١).

وفي سنة (١٩٧) للهجرة حجّ بالناس أيضا العبّاس بن موسى ، وبأمر من الخليفة المأمون (٢) ، وبتوجيه من طاهر بن الحسين ، وكذلك حجّ بالناس سنة (١٩٨). وسبق للعباس بن موسى إنّه حجّ بالناس أيضا سنة (١٨٩) (٣) للهجرة. وفي سنة (١٩٨) ولّاه المأمون إمارة مصر ، فأرسل ابنه عبد الله بن العبّاس نائبا عنه ، ولمّا وصل عبد الله إلى مصر ، أساء معاملة أهلها ، مما تسبب في ثورتهم عليه ، فطردوه وأعادوا أميرهم السابق (المطلب بن عبد الله).

ولمّا سمع (العبّاس بن موسى) بما فعله أهل مصر بابنه عبد الله ، ذهب إلى مصر وحارب المطلب بن عبد الله. فمرض العبّاس (وهو يقاتل) في مدينة (بلبيس) سنة (١٩٩) (٤). وعند ما وصلت جيوش طاهر بن الحسين إلى واسط ، فهرب عنها عاملها الّذي قال : (طاهر ، ولا عار في الهرب من طاهر) فلقى طاهر البيعة للمأمون من العبّاس بن موسى (أمير الكوفة) (٥).

وفي سنة (١٩٦) للهجرة ، ذهب داود بن عيسى إلى المأمون (في خراسان) ثمّ رجع إلى مكّة ليقيم موسم الحجّ ، وكان معه العبّاس بن موسى ، فمرا بالعراق على طاهر بن الحسين ، فأكرمهما طاهر ، وأرسل معهما يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد القسري ، وأقام الموسم (العبّاس بن موسى) (٦) كما

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٦٧ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٢٣٧.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٤٧١ و٥٢٧ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٠ / ٣٩ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٢٣٩.

(٣) تاريخ خليفة بن خياط. ج؟ / ٤٥٨ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٩ / ١٦٣.

(٤) أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ١٦٢ والزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ٢٦٧.

(٥) أحمد شلبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣ / ٣١٧.

(٦) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١٣ / ٤٤.

٥٤٠