أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

حاكموهم لمّا تولّوا إلى الله

لمصقولة الشفار الذكور

وقال أيضا :

ليتني قبل وقعة باخمرى

توفّيت عدتي من شهور

وليالي من سني البواقي

وتكلّمت عدّة التعمير

وكان أبو جعفر المنصور ، قد حبس عبد الله (١) بن الحسن وأولاده وأخوته وبنيه بالمدينة ، وذلك لأنّهم لم يخبروه عن مكان اختفاء النفس الزكيّة وأخيه إبراهيم ، اللّذين لم يبايعاه بالخلافة ، وفي سنة (١٤٤) للهجرة أمر المنصور بنقل عبد الله من سجنه بالمدينة إلى العراق ، ولمّا وصلوا إلى النجف قال عبد الله لأخوته : (أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية) (٢)؟

ثمّ ذهب المنصور إلى (الحيرة) وأمر بحبس عبد الله وأصحابه في قصر ابن هبيرة (٣) وفي هذا السجن لاقى عبد الله ومن معه أنواع العذاب ، حيث كان السجن (المطبق) تحت الأرض ، وكان مظلما بحيث لا يعرفون الليل من النهار ، ثمّ في سنة (١٤٥) للهجرة ، وبعد ثورة النفس الزكيّة أمر المنصور بقتل عبد الله وجميع أصحابه ، وقيل هدم السجن عليهم (٤).

والحقيقة إنّ بني أميّة لم يقتلوا أحدا من آل عليّ عليه‌السلام بالشكل الّذي قتل وعذب به بنو الحسن في عهد بني عمّهم من آل العبّاس (باستثناء مقتل الإمام الحسين عليه‌السلام.

وقد رثاهم شعراء كثيرون ، لكن رثاء دعبل بن عليّ الخزاعي في

__________________

(١) عبد الله بن الحسن : ويلقب (بالمحض).

(٢) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٥٤٦.

(٣) المصدر السابق ج ٧ / ٥٤٦.

(٤) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣١٩.

٥٠١

قصيدته (التائية) كان خير ما قيل في رثائهم ، نقتطف منها الأبيات التالية (١) :

ديار عليّ والحسين وجعفر

ومنزل وحي مقفر العرصات

ديار لعبد الله والفضل تلوه

نجي رسول الله في الخلوات

ديار عفاها جور كلّ منابذ

ولم تعف بالأيّام والسنوات

قبور بكوفان وأخرى بطيبة

وأخرى بفخ يا لها صلوات

وقبر بأرض الجوزجان محله

وقبر بباخمرى لدى الغربات

وقبر ببغداد لنفس زكيّة

تضمنها الرحمن في العرصات

وقبر بطوس يا لها من مصيبة

تردد بين الصدر والحجبات

نفوس لدى النهرين من بطن كربلا

معرّسهم منها بشط فرات

خلا أنّ منهم بالمدينة عصبة

مدى الدهر انضياء من الأزمات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سموات بأرض فلات

إلى آخر القصيدة (٢) ، وعدد أبياتها (٦١) بيتا.

وفي سنة (١٥٨) للهجرة مات أبو جعفر المنصور ، وقيل ذهب المنصور في هذه السنة إلى مكّة وعند وصوله إلى الكوفة مرض ، ولمّا وصل إلى بئر ميمون ازداد به المرض فمات ليلة السبت في السادس من شهر ذي الحجّة من هذه السنة ، فصلّى عليه عيسى (٣) بن موسى ، وقيل صلّى عليه إبراهيم (٤) ابن يحيى بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس ، ودفن في (ثنية المصلاة).

وكانت مدّة خلافته (٢٢) سنة إلّا ستة أيّام ، وعمره (٦٣) سنة ، وقيل

__________________

(١) جواد شبر ـ أدب الطف. ج ١ / ٢٩٥.

(٢) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٣٠٩ وتاريخ الطبري. ج ٨ / ١٠٧ وبروكلمان ـ تاريخ الشعوب الإسلامية. ص ١٨٣.

(٣) محمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج ١ / ٨٥.

(٤) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٥ / ١١٤. وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢٠٤.

٥٠٢

مات يوم الأحد من الشهر المذكور (١).

وقيل إنّ أبا جعفر المنصور ، لمّا وصل إلى بئر ميمون رآى مكتوب على حائط الدار الّذي نزل فيه (٢) :

أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت

سنوك ، وأمر الله لا شك واقع

أبا جعفر هل كاهن أو منجم

لك اليوم من حرّ المنيّة مانع

٦ ـ محمّد بن سليمان :

هو : محمّد بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب وكنيته أبو عبد الله. ولّاه أبو جعفر المنصور ، إمارة الكوفة سنة (١٤٧) (٣) للهجرة ، وذلك بعد عزل عيسى بن موسى عنها ، وقيل سنة (١٤٦) للهجرة.

ثمّ عزله أبو جعفر المنصور عن إمارة الكوفة سنة (١٥٥) للهجرة (٤) ، وعيّن مكانه عمرو بن زهير الضبي ، ثمّ أعاده المهدي إلى إمارة الكوفة سنة (١٦٧) للهجرة.

ومحمّد بن سليمان هذا ، كان زعيم أهله ، جليل القدر عندهم ، فقد تولى إمارة البصرة في خلافة (المهدي) ثمّ ذهب إلى بغداد عند ما آلت الخلافة إلى هارون الرشيد ، فأكرمه الرشيد ، وعمل له ما لم يعمل لأحد ، إذ أضاف إليه كور دجلة ، والبحرين واليمامة وكور الأهواز ، وكور فارس ، إضافة إلى إمارة

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢٠٤.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٠٧.

(٣) المصدر السابق. ج ٨ / ٢٥ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ١٧٥ وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢٠١ وتاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٦٣٦.

(٤) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٣٢ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ١٨٤ و٢٨٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٧ / ٧ وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢٠٢ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٢.

٥٠٣

البصرة (١). وقد تاقت نفس محمّد بن سليمان إلى الخلافة ، إلّا أنّ قوّة وحنكة المهدي والرشيد حالتا دون الجهر بها (٢).

وقد أعطى أبو جعفر المنصور لمحمد بن سليمان عشرين ألف درهم ، وأعطى لأخيه جعفر بن سليمان عشرة آلاف درهم. فقال جعفر : يا أمير المؤمنين ، أتفضله عليّ ، وأنا أكبر منه؟! فقال له المنصور : إنّ منزلنا مليء بهدايا محمّد ، ولا نلتفت إلى ناحية من نواحيه ، إلّا وجدنا بقية من هداياه ، وأنت لم تفعل من هذا شيئا) (٣).

ولقد أثرى محمّد بن سليمان ثراءا فاحشا ، عند ما كان أميرا على البصرة ، وعلى الأماكن الّتي ذكرناها ، حتّى قيل : إن وارداته في اليوم الواحد مائة ألف درهم (٤).

وبنى له قصرا في البصرة ، لم يكن له مثيل آنذاك ، ودخل عليه عبد الصمد بن شبيب بن شبه ، فقال له محمّد بن سليمان : ما رأيك في قصري؟

قال عبد الصمد : (بنيت أجلّ بناء ، بأطيب فناء ، واوسع فضاء ، وأرقّ هواء ، على أحسن ماء ، بين حواري وحسان وضباء) (٥).

فقال له محمّد : بناء كلامك أحسن من بناء قصري وقال ابن أبي عينيه (العيناء) يصف ذلك القصر (٦) :

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٢٣٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٦٢ والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٥ / ٢٩١.

(٢) الزركلي ـ الأعلام. ج ٦ / ١٤٩.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٧٧.

(٤) الآبي ـ نثر الدر. ج ١ / ٤٤٨.

(٥) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٣٣٨.

(٦) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ١٤٤ والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٣٤٩ ويحيى شامي ـ موسوعة شعراء العرب. ص ١٥.

٥٠٤

زر وادي القصر نعم القصر والوادي

لا بدّ من زورة من غير ميعاد

زره فليس له شبه يقاربه

من منزل حاضر إن شئت أو باد

ترقى قراريه والعيس واقفة

والضب والنون والملاح والحادي

ودخل الشاعر محمّد بن ذويب العماني على محمّد بن سليمان ، وقد تغدّى معه ، فكان أوّل ما قدّم اليهم من الطعام (فرنية) (١) ليس عليها سكر ، ثمّ تتابع الطعام ، فقال محمّد بن سليمان للشاعر العماني : صف لنا كلّ ما أكلته شعرا فقال (٢) :

جاءوا بفرني لهم ملبون

بات يسقى خالص السمّون

مصومع أكوم ذي غصون

قد حشت بالسكر المطحون

ولوّنوا ما شئت من تلوين

من بارد الطعام والسخين

ومن شراسيف (٣) ومن طردين (٤)

ومن هلام (٥) ومصوص (٦) جون

ومن أوز فائق سمين

ومن دجاج قت بالعجين

فالشحم في الظهور والبطون

وأتبعوا ذلك بالجوزين

وبالخبيص الرطب واللوزين

وفكهوا بعنب وتين

والرطب الأزاذ (٧) والهيرون (٨)

محمّد يا سيد النبيين

وابن عمّ المصطفى الأمين

الصادق المبارك الميمون

__________________

(١) الفرنية : الخبز المستدير.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٨ / ٣١٧.

(٣) الشرسوف : وهو مسقط الضلع ، وهو الطرف المشرف على البطن.

(٤) الطردين : طعام للأكراد.

(٥) الهلام : طعام من لحم عجله بجلدها.

(٦) المصوص : طعام يطبخ ، وينقع في الخل ، أو من لحم الطير خاصة.

(٧) الأزاذ : نوع جيد من التمر.

(٨) الهيرون : البسرى من التمر والرطب.

٥٠٥

وابن ولاة البيت والحجون

اسمع لنعت غير ذي تفنين

يخرج من فن إلى فنون

إن الحديث فيك ذو شجون

وخرج محمّد بن سليمان من قصره (في البصرة) في عشية من عشايا الصيف ، وكان الحرّ شديدا ، فقال : رشّوا هذا المكان ، فخرج من قصره خمسمائة عبد ، ومعهم خمسمائة قربة مملوءة بالماء ، فرشّوا الشارع ، حتّى أصبح كالبحيرة (١).

وقيل إنّه كان يدعو في السحر ويقول : (اللهم أوسع عليّ ، فإنّه لا يسعني إلّا الكثير) (٢).

وقيل إنّه قال ذات يوم : (أشتهي والله ، أن يصفو لي يوم ، لا يعارض سروري فيه هم) (٣). فقال له أخوه جعفر : (لا تمتحن هذا ، فقلّ من امتحنه إلّا أمتحن فيه).

وجلس محمّد بن سليمان في قصره مرّة ، وأحضر جميع من يحبّه ، ويأنس به ، فبينما هو على أهدأ بال ، وأسرّ حال ، إذا سمع صراخا ، فسأل عنه ، فلم يخبروه بالحقيقة ، ثمّ ألحّ عن معرفة سبب الصراخ ، فأخبروه بأنّ ابنته سقطت من الدرج فماتت. وكانت ابنته هذه هي الوحيدة عنده ، إذ ليس له أولاد غيرها ، وبذلك انقطع نسله ، فكان محمّد بن سليمان يردد هذين البيتين دوما (٤) :

تفردت بالكمال وبالعزّ والجلال

وملك بلا نفاذ نراه ولا زوال

__________________

(١) الآبي ـ نثر الدرر. ج ١ / ٤٤٨ و٤٤٩.

(٢) الطبري المصدر السابق

(٣) نفس المصدر السابق

(٤) نفس المصدر اعلاه.

٥٠٦

وخرج محمّد بن سليمان راكبا بغلته ، ومعه سوّار القاضي ، فاعترضهما مجنون كان بالبصرة يعرف (برأس النعجة) فقال يا محمّد : أمن العدل والإنصاف أن تكون وارداتك في اليوم مائة ألف درهم؟ وأنا أطلب نصف درهم فلا أحصل عليه؟! فأعطاه مائة درهم.

ولمّا أراد محمّد بن سليمان الذهاب ، وقف (رأس النعجة) أمام بغلته وقال (لقد كرّم الله منصبك ، وشرّف أبوتك ، وحسّن وجهك ، وعظّم قدرك ، وأرجو أن يكون ذلك لخير يريده الله بك ، ولئن يجمع الله لك الدارين) (١).

فدنا منه سوّار وقال له : يا خبيث ، لم لم تقل هكذا في البداية؟ فقال له رأس النعجة : (سألتك بالله ، وبحق الأمير عليك ، إلّا ما أخبرتني : في أي سورة هذه الآية : (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) قال سوار : في سورة براءة. فقال المجنون : صدقت ، فبرئ الله ورسوله منك. فضحك محمّد بن سليمان ، وكاد أن يسقط عن دابته.

وكان محمّد بن سليمان يخطب في المسجد كلّ يوم جمعة ، ويعيد خطبته تلك في كلّ جمعة (حيث لا خطبة غيرها) حتّى حفظها الناس وهي : (الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأستغفره ، وأؤمن به ، وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحقّ ، ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون (٢).

من اعتصم بالله ورسوله ، فقد اعتصم بالعروة الوثقى ، وسعد في الآخرة والأولى ، ومن لم يعتصم بالله ورسوله ، فقد ضلّ ضلالا بعيدا ، وخسر خسرانا مبينا ، أسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يطيعه ، ويطيع رسوله ، ويتّبع رضوانه ويجتنب سخطه. أوصيكم عباد الله ، بتقوى الله ، وأحثكم على

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٣٣٧.

(٢) سورة التوبة ـ الآية : ٣٣.

٥٠٧

طاعته ، وأرض لكم ما عند الله ، فاتقوا الله أفضل ما تحاثّ عليه الصالحون ، وتداعوا إليه ، وتواصوا به ، واتقوا الله ما استطعتم ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون) (١).

وقال بشار بن برد لمحمد بن سليمان ، وكان جالسا في مجلسه : ركبت حماري فسقط في الطريق ميتا ، ولم أعرف سبب موته ، حتّى رأيته البارحة في المنام فسألته فقال (٢) :

سيدي خذ بي أتانا

عند باب الأصبهاني

سحرتني برقاها

وثناياها الحسان

وجيد الشيفران

وبخدين أسيلين

ولها أذن ذراع

بذراع الشاهمان

فبها متّ ولو عشت

طال هواني

فضحك محمّد بن سليمان ، وقال له : وما هما الشيفران يا أبا معاذ؟ فقال بشار : ومن يعرف غريب الحمار؟ فأمر له بحمار.

وقد ذكر صاحب الأغاني (٣) هذه القصة بالشكل الآتي :

جاء بشار بن برد يوما مغتّما ، فقيل له : ما بالك مغتّما؟ فقال : مات حماري ، فرأيته في منامي ، فقلت له : لم متّ؟ ألم أكن إليك محسنا؟ فقال :

سيدي خذ بي أتانا

عند باب الأصبهاني

يتمتني ببنان

وبدلّ قد شجاني

يتمتني يوم رحنا

بثناياها الحسان

وبغنج ودلال

سلّ جسمي وبراني

__________________

(١) الآبي ـ نثر الدرر. ج ١ / ٤٤٨ وأحمد زكي ـ جمهرة الخطب. ج ٣ / ٥٤.

(٢) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٤ / ٤٠٦.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٣ / ٢٣١.

٥٠٨

ولها خد أسيل

مثل خد الشيفران

فلذا متّ ولو عش

ت إذا طال هواني

فقال له أحدهم : وما هما الشيفران؟ فقال بشار : وما يدريني ، هذا من غريب الحمار ، فإذا لقيته فأسأله.

وكان هارون الرشيد ، قد زوج محمّد بن سليمان من أخته العباسة (١) سنة (١٧٢) للهجرة. وكان فارق السن بينهما كبيرا ، ثمّ مات عنها سنة (١٧٣) للهجرة.

وكان محمّد بن سليمان ، قد أرسل أبا العرجاء ليتجسس على الحسين ابن عليّ (صاحب فخ) (٢) ولمّا رجع أبو العرجاء أخبره قائلا : (فما رأيت إلّا

__________________

(١) العباسة : هي ابنة الخليفة (المهدي) بن أبي جعفر المنصور ، وعمة الخليفة (الأمين) وكانت على غاية من الجمال والأدب ، وقد تزوجت عدة أزواج فماتوا عنها ، فقد تزوجت محمد بن سليمان بن علي فمات عنها ، ثم تزوجت إبراهيم بن صالح العباسي فمات عنها أيضا ، ثم تزوجت محمد بن علي بن داود بن علي العباسي فمات عنها أيضا ، ثم أراد عيسى بن جعفر العباسي أن يخطبها ، فأرسل الشاعر الذائع الصيت (أبو نؤاس) إلى الخليفة (الأمين) بالأبيات الآتية : (الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١٠٦٤).

ألا قل لأمين الله

وابن السادة الساسه

إذا ما ناكث سرّك

أن تفقده رأسه

فلا تقتله بالسيف

وزوجه بعباسه

فلما سمع عيسى بن جعفر بهذه الأبيات ، أعرض عنها ، وكذلك خاف الآخرون الزواج منها إلى أن ماتت.

وكان هارون الرشيد يحبها كثيرا ، ولا يقدر على فراقها ، وفراق جعفر بن يحيى البرمكي ، فقال الرشيد لجعفر ، أزوجك العباسة ، ليحل لك النظر اليها ، ولكن لا تقترب منها ، فوافق جعفر على ذلك ، فكانت العباسة وجعفر يحضران عنده ، ثم يقوم عنهما ، ويتركهما سوية.

وقيل أن العباسة قد ولدت غلاما أو غلامين من جعفر البرمكي ، فخافت من أخيها الرشيد ، فأرسلته إلى مكة مع حاضنة له ، ثم حصل خلاف بين العباسة وبين جارية لها ، فذهبت هذه الجارية إلى الرشيد فأخبرته بذلك ، وذهب الرشيد في تلك السنة إلى الحج ، وتحقق بنفسه ، فتبين صحة ما أخبرته الجارية ، عندها قتل جعفر البرمكي ، وكان سبب نكبته بالبرامكة. (الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ٢٣).

(٢) صاحب فخ : هو الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ،

٥٠٩

مصلّيا ، أو مبتهلا ، أو ناظرا في مصحف ، أو معدّا للسلاح) (١). ثمّ قال : وما أظن القوم إلّا منتصرين.

فبكى محمّد بن سليمان وقال : (هم والله ، أكرم خلق الله ، وأحقّ بما في أيدينا منا ، ولكنّ الملك عقيم ، ولو أنّ صاحب (٢) هذا القبر نازعنا الملك لضربنا خيشومه بالسيف).

وعزل محمّد بن سليمان عن إمارة الكوفة سنة (١٥٥) للهجرة ، عزله أبو جعفر المنصور (كما ذكر سابقا) وكان سبب عزله ، أنه قتل عبد الكريم (٣) ابن أبي العوجاء ، ثمّ صلبه بالكناسة وقيل عزله لأسباب أخرى ، قد بلغت عنه إلى المنصور. (٤)

مات محمّد بن سليمان بالبصرة سنة (١٧٣) (٥) للهجرة ، وعمره (٥١) سنة. وقيل إنّه قال عند موته : (يا ليت أمّي لم تلدني ، ويا ليتني كنت حمّالا) (٦). وقال أيضا :

ألا ليت أمّي لم تلدني ولم أكن

شهدت حسينا يوم فخ ولا الحسن

__________________

المعروف ب (صاحب فخ) ثار بالمدينة سنة (١٦٩) للهجرة فاستولى عليها ، ثمّ ذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ ، ولمّا وصل إلى (فخ) لقيته الجيوش العباسيّة بقيادة موسى بن عيسى ، ومعه محمّد بن سليمان ابن عليّ وأخيه جعفر ، فكانت معركة بين الطرفين قتل خلالها الحسين بن عليّ ، وقتل معه الكثير من آل أبي طالب وخاصة من أولاد الإمام الحسن بن عليّ عليه‌السلام.

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٤٥٣.

(٢) صاحب هذا القبر : يقصد به النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل إنّ الّذي قال ذلك هو موسى بن عيسى.

(٣) عبد الكريم : ابن أخت معن بن زائدة الشيباني.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٤٧.

(٥) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٨ / ٢٤١ والبغدادي. ج ٥ / ٢٩٢ والآبي ـ نثر الدرر. ج ١ / ٤٤٨ وتاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٧١٣ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٣٥٠ والبراقي ـ تاريخ الكوفة ص ٢٣٢.

(٦) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٨ / ٢٤١.

٥١٠

وبعد ما مات محمّد بن سليمان ، أمر هارون الرشيد بمصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة ، وكانت عظيمة جدا ، وكانت المبالغ الّتي وجدوها في خزائنه ستون ألف ألف درهم. (١)

٧ ـ عمرو بن زهير الضبيّ :

هو : عمرو بن زهير بن جميل بن حسّان الأعرج بن ربيعة بن مسعود ابن منقذ بن كوز بن كعب بن بجاله بن هل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبّة (٢).

ولّاه أبو جعفر المنصور إمارة الكوفة سنة (١٥٥) (٣) للهجرة وذلك بعد عزل محمّد بن سليمان عنها ، وبقي أميرا على الكوفة إلى أن مات أبو جعفر المنصور ، ولمّا جاء (المهدي) إلى الخلافة عزله ، وولّى مكانه عيسى بن لقمان ابن حاطب الجمحي في سنة (١٥٨) (٤) للهجرة.

وعمرو بن زهير الضبي هذا هو : أخو المسيب بن زهير الضبي ، الّذي كان رئيسا لشرطة أبي جعفر المنصور ، وكان المسيب قد تسبب في قتل إبان ابن بشير الكاتب حيث ضربه بالسياط حتّى مات ، وكان إبان هذا شريك عمرو بن زهير في ولاية الكوفة وخراجها ، مما جعل المنصور يعزل المسيب ، ويأمر بحبسه ، ثمّ توسّط (المهدي) عند أبيه (المنصور) بشأن المسيب ، فعفا عنه بعد أن حبسه عدّة أيّام ، ثمّ أعاده إلى الشرطة ، وقد تولى المسيب رئاسة شرطة بغداد في خلافة المنصور والمهدي والرشيد وولي إمارة خراسان في

__________________

(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٨ / ٢٤٠ والبغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٥ / ٢٩٢.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٤٣٢ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٧ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٣.

(٣) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٤٣٢ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٧ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٣.

(٤) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٤٠.

٥١١

خلافة المهدي (١). وكان عمرو بن زهير الضبي أميرا على الكوفة للسنوات : (١٥٥ ، ١٥٦ ، ١٥٧ ، ١٥٨). (٢)

٨ ـ إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي :

وفي سنة (١٥٨) للهجرة ، وهي السنة الّتي مات فيها أبو جعفر المنصور ، كان الأمير على الكوفة إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي ، وقيل عمرو بن زهير الضبي (أخو المسيب بن زهير) (٣). وفي سنة (١٥٩) للهجرة ، عزل إسماعيل بن أبي إسماعيل عن الكوفة وأحداثها ، عزله الخليفة (المهدي) وولّى مكانه إسحاق بن الصباح الكندي (٤).

وذكر ابن خلدون في تاريخه ، بأنّ إسماعيل بن أبي إسماعيل قد ولّاه الخليفة (المهدي) إمارة الكوفة سنة (١٥٩) للهجرة ، ثمّ عزله في نفس السنة ، وولّى مكانه إسحاق بن الصباح الكندي (٥). وذكر صاحب وفيات الأعيان : بأنّ الخليفة المهدي عزله عن إمارة الكوفة سنة (١٦٠) للهجرة ، وجعل مكانه عثمان بن لقمان الجمحي ، وقيل غيره (٦).

٩ ـ أشعث بن عبد الرحمن الأشعثي :

ولّاه الخليفة المهدي إمارة الكوفة سنة (١٥٩) (٧) للهجرة ، وذلك بعد

__________________

(١) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١٢ / ١٣٧.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٦.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١١٥ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٦.

(٤) الطيري ج ٨ / ١٢٠ والكامل ج ٦ /؟

(٥) تارخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢٠٧.

(٦) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٢ / ٣٥.

(٧) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٢٠.

٥١٢

عزل إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي عنها بمشورة من شريك بن عبد الله (قاضي الكوفة) ، وقيل إنّ الّذي ولي الإمارة بعد إسماعيل هو إسحاق بن الصباح الكندي ، وقيل إنّ الّذي ولّاه المهدي على إمارة الكوفة هو عيسى بن لقمان (١). ثمّ ثار أشعث بن عبد الرحمن الأشعثي بالكوفة في الليلة الّتي هرب بها أبو السرايا من الكوفة (في أواخر سنة ١٩٩ للهجرة). ثمّ دعا هرثمة بن أعين لدخول الكوفة ، فدخلها هرثمة ومعه المنصور بن المهدي في بداية سنة (٢٠٠) (٢) للهجرة.

١٠ ـ إسماعيل بن عليّ :

هو : إسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف وهو عم السفّاح والمنصور ، وكنيته : أبو الحسن. وكان إسماعيل في (الحميمة) وخرج مع السفّاح والمنصور حين خرجوا لطلب الخلافة وذهبوا إلى الكوفة (٣).

ولّاه الخليفة (المهدي) إمارة الكوفة سنة (١٥٩) للهجرة ، ثمّ عزله في نفس السنة ، وولى مكانه إسحاق بن الصباح الكندي (٤). وقد ولّاه أبو العبّاس السفّاح إمارة فارس سنة (١٣٢) (٥) للهجرة ، وكذلك سنة (١٣٣) (٦) للهجرة ثمّ ولي إمارة الحجّ سنة (١٣٧) (٧) للهجرة في خلافة أبي جعفر

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٢٠.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٤٧.

(٣) عبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ دمشق. ج ٣ / ٣٩.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣٦ وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢٠٧.

(٥) الحائري ـ مقتبس الأثر. ج ٦ / ٢٨٣.

(٦) الطبري. ج ٧ / ٤٥٩ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٤٣ و٤٤٨.

(٧) تاريخ خليفة بن خياط. ص ٤١٧ وعبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ دمشق. ج ٣ / ٣٩.

٥١٣

المنصور ، وكذلك حجّ بالناس سنة (١٤٢) (١) للهجرة.

وكان أبو جعفر المنصور يحترم عمّه إسماعيل ويقدّره كثيرا (٢) ، ولمّا جاء إسماعيل من واسط إلى بغداد أنزله المنصور في قصره ثمّ تحدّث معه في جعل ولاية العهد لابنة (المهدي) وخلع عيسى بن موسى على أن تكون ولاية العهد لعيسى بعد المهدي ، فوافق إسماعيل على ذلك وبايعه.

ثمّ إنّ أبا جعفر المنصور قد غضب (بعد ذلك) على عمّه إسماعيل وعلى أخيه العبّاس بن محمّد ، فعزل أخاه عن إمارة الجزيرة ، ثمّ غرّمه مالا كثيرا ، فقال عيسى بن موسى للمنصور : (يا أمير المؤمنين ، أرى آل عليّ بن عبد الله وإن كانت نعمك عليه سابغة ، فإنّهم يرجعون إلى الحسد لنا ، فمن ذلك إنّك غضبت على إسماعيل بن عليّ منذ أيّام ، فضيقوا عليك حتّى رضيت عنه ، وأنت غضبان على أخيك العبّاس منذ كذا وكذا فما كلّمك فيه أحد منهم) (٣).

فرضي عنه.

وعند ما كان إسماعيل بن عليّ أميرا على الموصل حجّ بالناس سنة (١٣٧) للهجرة ، وكان أمير المدينة آنذاك زياد بن عبد الله المدان الحارثي ، وعلى إمارة مكّة العبّاس بن عبد الله بن معبد ، وبعد انقضاء موسم الحجّ مات العبّاس ، فضمّ إسماعيل بن عليّ إمارة مكّة إلى زياد الحارثي ، فأقرّه المنصور على ذلك (٤). ثمّ عزل المنصور عمّه إسماعيل عن إمارة الموصل ، وولّى مكانه مالك بن الهيثم الخزاعي (جدّ أحمد بن نصير الخزاعي الّذي

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط. ص ٤٥٠ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٣ / ٣٩.

(٢) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٩ / ٧٠.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٣١.

(٤) المصدر السابق. ج ٥ / ٤٨٣.

٥١٤

قتله الواثق) (١).

وكان القاضي سوار بن عبد الله (قاضي البصرة) قد أمر بإحضار زينب بنت سليمان بن عليّ لشكوى تقدّم بها نبطي ضدّها ، فامتنعت عن الحضور ، فكتب سوار إلى أمير البصرة (الهيثم بن معاوية) يطلب فيه إحضار زينب لمجلس القضاء فقيل له : (إنّها بنت سليمان بن عليّ) فقال سوار : (فهي أولى من أعطى الحقّ من نفسه ، إذا كانت بهذا الموضع الرفيع).

وعند ما ولي إسماعيل بن عليّ إمارة البصرة سنة (١٤٣) (٢) للهجرة ، ذهب إليه سوار القاضي للسلام عليه ، فعظّمه إسماعيل وقرّبه منه ، وأجلسه مكانا رفيعا ، فدخل في تلك الساعة جعفر بن سليمان (أخو زينب) فرأى سوارا بتلك المنزلة العالية ، قال لإسماعيل : (أتعظّم وتقدّر ابن التركيّة ، وقد أراد إثبات أختك على كذا وكذا؟!!

فالتفت سوار إلى إسماعيل وقال له : (أصلح الله الأمير ، إنّه ذكر أمّي ، وقال (ابن التركية) ، وإنّا معشر العرب قدمنا من هذه البادية وفي أبداننا نحف وقلّة ، فنظرنا إلى هذه الأعاجم فإذا هي أمدّنا أجساما وأشدّ منا بياضا وأظهر منّا حالا فرغبنا فيهم ، فاتخذ منهم : السنديّة والهنديّة والخراسانيّة والبربريّة ، فولدن فينا ، فمددن في أجسامنا ، وبيضنا من ألواننا وحسّن من وجوهنا). ثمّ قام سوار وخرج ، فقال إسماعيل لجعفر : (هل رضيت بذلك؟ والله قد ذكر أمي ، وأم أبيك ، وأم أمير المؤمنين) (٣). مات إسماعيل بن عليّ بالكوفة سنة (١٤٦) (٤) للهجرة ودفن بها ، وقيل مات سنة

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٤٣ و٤٤٨.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٣٧ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٩ / ٧٠.

(٣) وكيع ـ أخبار القضاة. ج ٢ / ٦١.

(٤) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٤ / ٣٧٠ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٩٧.

٥١٥

(١٤٧) (١) للهجرة.

١١ ـ عيسى بن لقمان الجمحي :

هو : عيسى بن لقمان بن محمّد بن حاطب الجمحي ، وهو من أهل الشام (٢). في سنة (١٥٩) (٣) للهجرة ، عزل إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي عن الكوفة عزله الخليفة (المهدي) وعيّن مكانه (إسحاق بن الصباح الكندي) وقيل عيسى بن لقمان بن محمّد بن حاطب الجمحي. وقيل ولّاه الخليفة (المهدي) إمارة الكوفة سنة (١٥٩) (٤) للهجرة ، وذلك بعد عزل عمرو بن زهير الضبي ، ثمّ عزله وولّى مكانه شريك بن عبد الله النخعي.

ويقال أيضا : إنّ شريك النخعي كان على الصلاة والقضاء فقط ، وكان عيسى بن لقمان على الأحداث ، ثمّ جعلت إمارة الكوفة لشريك القاضي النخعي فقط ، وعلى شرطة الكوفة إسحاق بن الصباح الكندي (٥). ثمّ ولّاه الخليفة (المهدي) إمارة مصر ، فوصل اليها يوم الأثنين في السابع عشر من شهر ذي الحجّة من سنة (١٦١) للهجرة. وقال عيسى بن لقمان الجمحي بأنّ الخليفة (المهدي) قال له حين أرسله إلى مصر : (قد وليتك عمل عبد العزيز ابن مروان وصالح بن عليّ) (٦).

ولمّا وصل عيسى بن لقمان إلى مصر ، سكن في المعسكر (على عادة أمراء مصر السابقين) ولم يبق في مصر سوى مدّة يسيرة ، عزله بعدها

__________________

(١) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٩ / ٧٠ وعبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ دمشق. ج ٩ / ٣٩.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٢٢٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٤٠.

(٣) النتظم. ج ٨ / ٢٢٨ والكامل. ج ٦ / ٤٠.

(٤) تاريخ خليفة بن خياط. ج ٢ / ٦٩٥.

(٥) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٢٠.

(٦) الكندي ـ الولاة في مصر. ص ١٤٣.

٥١٦

(المهدي) في الثامن عشر من شهر جمادي من سنة (١٦٢) للهجرة ، وكانت ولايته على مصر حوالي خمسة أشهر (١).

ثمّ أعيد عيسى بن لقمان إلى إمارة مصر في شهر محرم من سنة (١٦٢) (٢) للهجرة ، ثمّ عزل عنها في شهر جمادي الأخرة من نفس السنة ، وعيّن مكانه (واضح مولى المهدي) ، وقيل أيضا بأنّ عيسى بن لقمان سبق وتولّى إمارة مصر سنة (١٥٩) (٣) للهجرة ، وذلك بعد عزل أميرها السابق موسى بن عليّ بن رياح اللخمي من قبل الخليفة (المهدي ثمّ عزله في نفس السنة.

مات عيسى بن لقمان الجمحي سنة (١٦٢) (٤) للهجرة.

١٢ ـ شريك بن عبد الله النخعي :

هو : شريك بن عبد الله بن شريك وهو الحارث بن أوس بن الحارث ابن وهل بن هبيل (٥). وهو من النخع ، وكنيته : أبو عبد الله.

ولّاه الخليفة (المهدي) إمارة الكوفة سنة (١٥٩) (٦) للهجرة ، وذلك بعد عزل أميرها السابق عيسى بن لقمان الجمحي ، ثمّ عزله وولى مكانه ابن الصباح (أسحاق بن الصباح الكندي) (٧).

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٤٣ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٥٨ وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ٣٧ والزركلي. ج ٥ / ١٠٧.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٥٨.

(٣) البكري الصديق ـ النزهة الزاهية. ص ٨٩.

(٤) الزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ١٩٩.

(٥) الحافظ جمال الدين (المزي) ـ تهذيب الكمال. ج ٩ / ١٠٨ والقرطبي ـ التعريف في الأنساب. ص ٢٠٦.

(٦) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٦٩٥ وتاريخ الطبري. ج ٨ / ١٢٠.

(٧) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٤٤٠ وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢١٢.

٥١٧

وشريك بن عبد الله ، هو كوفي الأصل ولد في بخارى سنة (٩٠) للهجرة ومات سنة (١٨٧) وقيل سنة (١٥٧) بالكوفة ، وعمره (٨٢) (١) سنة وقيل مات سنة (١٧٧) وقيل سنة (١٩٧) للهجرة. وتولى القضاء في مدينة (واسط) سنة (١٥٥) (٢) للهجرة ، ثمّ تولّى القضاء بعدها في الكوفة سنين عديدة. وقيل : عند ما عيّن شريك القاضي أميرا على الكوفة ، عيّن إسحاق ابن الصباح الكندى رئيسا لشرطة الكوفة ، فقال بعض الشعراء (٣) :

لست بأن تكون ولو نل

ت سهيلا ضيعة لشريك

وقيل أيضا : بأنّ إسحاق الكندي لم يشكر شريك على تعيينه رئيسا لشرطته ، فقال شريك (٤) :

صلّى وصام لدنيا كان يأملها

فقد أصاب ولا صلّى ولا صاما

وشريك القاضي ، عالم بالحديث ، فقيهه ، اشتهر بقوة ذكائه ، وسرعة بديهيته ، استقضاه أبو جعفر المنصور على القضاء في الكوفة سنة (١٥٣) للهجرة ، ثمّ عزله وأعاده الخليفة (المهدي) فعزله (الهادي) وكان عادلا في قضائه (٥).

وقيل لشريك القاضي : إنّ معاوية بن أبي سفيان كان حليما. فقال : (لو كان حليما ما سفه الحقّ ، ولا قاتل عليا ، ولو كان حليما ، ما حمل أبناء العبيد على حرمه ، ولا أنكح إلّا الأكفّاء) (٦).

ودخل شريك يوما على الخليفة المهدي ، فقال له المهدي : لابدّ أن

__________________

(١) تاريخ خليفة بن خياط. ج ٢ / ٧١٨ والقلقشندي ـ نهاية الإرب. ص ٣٩٦.

(٢) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ٢ / ٢٥٣.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٢٠.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) الزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ١٦٣ وحسن مغنيه ـ قضاء العرب. ص ١١١.

(٦) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ٣ / ٢٥٨.

٥١٨

تجيبني إلى واحد من ثلاث. فقال شريك : وما هي يا أمير المؤمنين؟

قال المهدي : إمّا أن تتولّى القضاء ، أو تحدّث اولادي وتعلمهم ، أو تأكل عندي أكلة. فقال شريك : الأكلة أخفهن على نفسي ، ولمّا أحضر الطعام أكل شريك حتّى شبع ، فقال الطّباخ : (يا أمير المؤمنين لا يصلح الشيخ بعد هذه الأكلة أبدا). فقال الفضل بن الربيع : (فحدّثهم والله شريك بعد ذلك ، وعلّم أولادهم وولي القضاء لهم) (١). وقيل إنّ شريك قد أكره على القضاء.

وقيل : عند ما كان شريك على قضاء الكوفة ، خرج يستقبل الخيزران (٢) في قرية (شاهي) (٣) فتأخّرت الخيزران ، فانتظرها شريك ثلاثة أيّام ، فيبس خبزه ، فأخذ يبلله بالماء فيأكله ، فقال العلاء بن المنهال الغنوي في ذلك (٤) :

فإن كان الّذي قد قلت حقّا

بأن قد أكرهوك على القضاء

فما لك موضعا في كلّ يوم

تلقّى من يحجّ من النساء

مقيم في قرى شاهي ثلاثا

بلا زاد سوى كسر وماء

وقال شريك لأحد أصدقاءه : إنّي أكرهت على القضاء. فقال له صاحبه : (وهل أكرهوك على أخذ الورق) (٥)؟

وقال شريك القاضي لإسحاق بن الصباح الكندي (أمير الكوفة) :

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٣١٠.

(٢) الخيزران : هي ابنة عطاء ، اشتراها الخليفة المهدي من أحد النخاسين فأعتقها ثمّ تزوجها ، فولدت له موسى الهادي وهارون الرشيد ، وكانت الخيزران بارعة الجمال ، وكانت تتدخل في شؤون الدولة.

(٣) شاهي : قرية قريبة من الكوفة والقادسيّة.

(٤) وكيع ـ أخبار القضاة. ج ٣ / ١٥٢ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٩ / ٣١ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٨ / ٢٠٥.

(٥) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٨ / ٢٠٥.

٥١٩

(القضاء لي بحذافيره ، وإنّما انتم على المحارم) (١).

وخرج شريك ذات يوم فيما بين الكوفة والحيرة ، ومعه أبو بكر بن عباس ، وسفيان الثوري ، فشاهدوا شيخا ، أبيض اللّحية ، حسن الصورة فضنوه من رجال الحديث فقال له سفيان الثوري : هل عندك شيء من الحديث يا شيخ؟ فقال الرجل : (أما حديث فلا ، ولكن عتيق سنين) (٢) فتبّين أنه خمّار.

وكان شريك لا يجلس للقضاء حتّى يتغدّى ، ثمّ يخرج ورقة من جيبه ، فينظر فيها ثمّ يأمر بتقديم الخصوم. وقد تمكّن أحد أصدقائه من معرفة ما في تلك الورقة فإذا فيها مكتوب : (يا شريك بن عبد الله ، اذكر الصراط وحدّته ، يا شريك بن عبد الله اذكر الموقف بين يدي الله عزوجل) (٣).

وشهد رجل أمام القاضي شريك ، فقال المدّعى عليه : إنّ الشاهد يا حضرة القاضي يشرب النبيذ ، فسأله شريك : أتشربه؟ فقال الشاهد : نعم.

وأنا الّذي أقول (٤) :

وإذا المعدة جاشت

فارمها بالمنجنيق

بثلاث من نبيذ

ليس بالحلو الرقيق

يهضم المطعم هضما

ثمّ يجري في العروق

وفي أحد الأيّام قدّمت امرأة شكوى إلى القاضي شريك على موسى ابن عيسى (أمير الكوفة) فأرسل موسى رئيس شرطته بدلا عنه ، فأمر

__________________

(١) وكيع ـ أخبار القضاة. ج ٣ / ١٧١.

(٢) الحميري ـ الروض المعطار. ص ٢٠٩.

(٣) الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ١٠١٩.

(٤) وكيع ـ أخبار القضاة. ج ٣ / ١٧١ والزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٤ / ٦٤ والجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ٤ / ٦٤.

٥٢٠