أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

فإنّك أهيجته هجت حيّة لهم

يبادرها الراقون بالحتف مغرمه

فهذا لأحداث الحوادث عدّه

ونفس يراها الله للحقّ مسلمه

وإنّ حدثا فيه اختلاف وشبهة

فكانت دماء المسلمين محرّمه

فامسك منه فيه نفسه ولسانه

حذار أمور تذهب الدين مظلمه

مات محمّد بن مسلمة في شهر صفر من سنة (٤٣) للهجرة (١) ، وقيل سنة (٤٢) في خلافة معاوية بن أبي سفيان ، وعمره (٧٧) سنة ، وصلّى عليه مروان بن الحكم ودفن بالبقيع في المدينة.

٣ ـ عبد الله بن مسعود

هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم ابن صاحلة بن كاهل بن الحارث بن تميم ، وكنيته : أبو عبد الرحمن. وهو حليف بني زهرة وابن أختهم (٢).

نشأ ابن مسعود في مكّة فقيرا ، يرعى الغنم لعقبة بن أبي معيط ، وكان من الأوائل الّذين دخلوا الإسلام ، إذ كان سادس ستة من الّذين أسلموا واتبعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، وكان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أينما حلّ وارتحل ، وخاض المعارك مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع خلفائه الراشدين من بعده ، وحفظ القرآن ، وكان من فقهاء الصحابة ورواة الحديث ، فعن عامر الشعبي قال أبو موسى الأشعري : (لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم) (٤) ، يعني عبد الله

__________________

(١) ابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٣٦٣ وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٥٣ والأعلام حسب الأعوام ـ الزركلي. ج ١ / ١٢٩ وابن الجوزي ـ تلقيح فهوم الأثر. ص ٩٣.

(٢) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ١٠ / ١٦٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي. ج ١ / ١٤٧ والحافظ جمال الدين أبو الفرج ـ تلقيح فهوم الأثر. ص ٩٠.

(٤) ابن الجوزي ـ صفة الصفوة. ج ١ / ٢١١.

٤١

ابن مسعود وهو من المهاجرين الأولين ، فقد هاجر الهجرتين (١).

استخلفه سعد بن أبي وقّاص (أميرا) على الكوفة سنة (١٩) للهجرة (٢) ، وذلك عند ما ذهب إلى جلولاء لسماعه بأنّ الفرس قد اجتمعوا فيها.

وفي سنة (٢١) للهجرة استخلفه (أيضا) عمّار بن ياسر ، وذلك عند ذهاب (عمّار) إلى (تستر) (٣) لمحاربة الفرس ، وكان ذلك بأمر من الخليفة عمر (٤).

وعند ما جاء عمّار بن ياسر أميرا على الكوفة ، كان معه عبد الله بن مسعود على بيت مال الكوفة ، وقد كتب عمر إلى أهل الكوفة يقول : (إنّي والله الّذي لا إله إلّا هو ، قد آثرتكم به على نفسي ، فخذوا منه وتعلّموا) (٥).

وقال عمر أيضا : (إنّي بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميرا ، وابن مسعود معلما ووزيرا ، وإنّهما لمن النجباء ، ومن أصحاب محمّد ، ومن أهل بدر) (٦).

ونظر إليه عمر ذات يوم فقال : (وعاء ملئ علما). وقيل قال : (ملئ فقها). (٧)

وقد أحبّه أهل الكوفة ، حبّا كبيرا ، وأجمعوا على حبّه ، وإجماع أهل الكوفة على حبّ شخص يشبه المعجزات ، ذلك أنّ أهل الكوفة ، أهل تمرّد

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ١٠ / ١٦٥ وماسنيون ـ خطط الكوفة. ص ٨١.

(٢) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٥١.

(٣) تستر : وهي من أكبر مدن خراسان ، فتحها المسلمون سنة (٢١) للهجرة واستسلم فيها الهرمزان.

(٤) الدينوري ـ الأخبار الطوال. ص ١٣٠.

(٥) خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٥٣.

(٦) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٦ / ١٣ وخالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٩٤.

(٧) لويس ماسينون ـ خطط الكوفة. ص ٨١ وخالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٤٧.

٤٢

وثورة ، لا يصبرون على طعام واحد ، ولا يطيقون الهدوء والسلام (١).

وعند ما أراد عثمان بن عفّان عزله عن الكوفة ، قال له أهل الكوفة : أقم معنا ولا تخرج ، ونحن سوف نحميك من أيّ مكروه يصل إليك (٢).

وعند ما كان عبد الله بن مسعود على بيت مال الكوفة (وكان أمير الكوفة آنذاك الوليد بن عقبة بن أبي معيط) خرج إلى المسجد وقال : (يا أهل الكوفة ، فقدت من بيت مالكم مائة ألف ، لم يأتيني بها كتاب من أمير المؤمنين ، ولم يكتب لي بها براءة) (٣). فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان بن عفّان يخبره بذلك ، فأمر عثمان بعزل عبد الله بن مسعود (٤).

ولمّا رجع عبد الله بن مسعود إلى المدينة ، حصل خلاف بينه وبين عثمان بن عفّان ، فقطع عنه عثمان راتبه ومعاشه من بيت المال ، ومع ذلك لم يقل في عثمان كلمة سوء واحدة (٥).

وكان عبد الله بن مسعود ، قد حفظ القرآن ، وحسن قراءته ، حتّى قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه : (من سرّه أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أمّ عبد) (٦). ودعاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما وقال له : (إقرأ عليّ يا عبد الله) ، فقال عبد الله : (أقرأ عليك ، وعليك أنزل يا رسول الله؟!) (٧).

فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتّى وصل إلى قوله تعالى : (فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. يومئذ

__________________

(١) خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٥٣.

(٢) المصدر السابق. ج ٢ / ٥٤.

(٣) ابن عبد ربه ـ العقد الفريد. ج ٤ / ٣٠٦.

(٤) نفس المصدر أعلاه.

(٥) خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٥٤.

(٦) المصدر السابق ج ٢ / ٤٦.

(٧) نفس المصدر أعلاه.

٤٣

يودّ الّذين كفروا وعصوا الرسول لو نسوي بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا). فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفاضت عيناه بالدموع ، وأشار بيده الكريمة إلى ابن مسعود : (أن حسبك .. حسبك يا ابن مسعود) (١).

واجتمع نفر من الصحابة عند الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقالوا له : (يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما ، ولا أحسن مجالسة ولا أشدّ ورعا من عبد الله بن مسعود ...).

فقال لهم : (نشدتكم بالله ، أهو صدق من قلوبكم؟ قالوا : نعم.

فقال عليه‌السلام : (اللهم إنّي أشهدكم ، .. اللهم إنّي أقول فيه مثل ما قالوا ، أو أفضل ، لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ، فقيه في الدين عالم بالسنّة) (٢).

وعبد الله بن مسعود ، هو وعبد الله بن عبّاس من أوائل المحدثين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان ابن مسعود (بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجلس في مسجد الرسول ويتحدث إلى الناس.

وتمرّ السنون ، وإذا بعبد الله بن مسعود ، يمنع من التحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال أبو عمرو الشيباني (مسروق) : (كنت أجلس إلى ابن مسعود حولا ، لا يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هكذا ، أو نحو ذا ، أو شبه ذا) (٣).

وعند ما ذهب عبد الله بن مسعود مع جماعته من أهل العراق إلى مكّة لأداء العمرة ، وإذا بجنازة مطروحة على الطريق وبجانبها غلام ، فناداهم الغلام هذا أبو ذر الغفاري (٤) صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعينونا على دفنه ،

__________________

(١) خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول ج ٢ / ٤٦.

(٢) المصدر السابق. ج ٢ / ٤٩.

(٣) محمّد حسنين هيكل ـ الفاروق عمر. ج ٢ / ٢٨٨.

(٤) أبو ذر : واسمه جندب بن جنادة ، صحابي ، جليل القدر ، ومن المسلمين الأوائل ، دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمّدا رسول الله ، فأحاط به المشركون عند سماعهم

٤٤

فأخذ عبد الله بن مسعود يبكي ، ويقول (صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : (تمشي وحدك وتموت وحدك ، وتبعث وحدك) (١) ، ثمّ نزل هو وأصحابه فدفنوه.

ومن أقوال عبد الله بن مسعود وأحاديثه المشهورة (المأثورة) :

١ ـ " ينبغي لحامل القرآن ، أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس فرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصحته إذا الناس يخلطون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ، ولا غافلا ، ولا صخّابا ولا صيّاحا ولا حدبدا" (٢).

٢ ـ " إنّكم في ممرّ اللّيل والنهار ، في آجال منقوصة ، وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة ، من زرع خيرا يوشك أن يحصد رغبته ، ولا يسبق بطيء بخطه ، ولا يدرك حريص ما لم يقدّر له ، فمن أعطي خيرا ، فالله تعالى أعطاه ، ومن وقي شرّا ، فالله تعالى وقاه ، المتّقون سادة ، والفقهاء قادة ، ومجالستهم زيادة" (٣).

٣ ـ " حدّث الناس ما حدجوك بأبصارهم ، وأذنوا لك بأسماعهم ، ولحضوك بأبصارهم ، وإذا رأيت منهم جفوة فامسك" (٤).

__________________

صوته ، ولو لا العبّاس بن عبد المطلب (عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكان ابن جناده في عداد الموتى. وقد قال فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما أقلت الغبراء ، وما أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر). نفاه الخليفة عثمان بن عفّان إلى (الربذه) ولم يكن معه سوى امرأته وغلامه." طبقات ابن سعد" ج ٤ / ٢٣٤. وقيل ابنته وزوجته فقط" تاريخ اليعقوبي" ج ٢ / ٢٤٩ ، فمات فيها.

(١) تاريخ الطبري. ج ٣ / ١٠٧.

(٢) عدنان سعد الدين ـ الصفوة من صفة الصفوة. ص ١٣٥.

(٣) الحميدي ـ مواقف وعبر. ج ١٩ / ٢٧٧.

(٤) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ١ / ١٠٤.

٤٥

٤ ـ " ليسعك بيتك ، واكفف لسانك ، وابك على خطيئتك" (١).

٥ ـ " مثل الإسلام والسلطان والناس ، مثل الفسطاط ، والعمود ، والأطناب والأوتاد ، فالفسطاط : الإسلام ، والعمود : السلطان ، والأطناب والأوتاد : الناس ، ولا يصلح بعضها إلّا ببعض" (٢).

وفي هذا المعنى قال الأفوه الأودي (٣) :

لا يصلح الناس فوضى لاسراة لهم

ولا سراة إذا جهّالهم سادوا

والبيت لا يبتني إلّا له عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فإن تجتمع أوتاد وأعمدة

يوما فقد بلغوا الأمر الّذي كادوا

٦ ـ " إنّ الرجل ليدخل على السلطان ، ودينه معه ، فيخرج وما معه دينه. فقيل له : وكيف ذاك؟ يا أبا عبد الرحمن؟ قال : يرضيه بما يسخط الله منه" (٤).

٧ ـ " ليس من الناس أحد ، إلّا وهو ضيف على الدنيا ، وماله عارية ، فالضيف مرتحل ، والعارية مردودة" (٥).

٨ ـ " إنّ الرجل لا يولد عالما ، وإنّما العلم بالتعلّم" (٦).

ومن هذا القول ، قال الشاعر :

تعلم فليس المرء يخلق عالما

وليس أخو علم كمن هو جاهل

وقال آخر :

العلم يحيي قلوب الميتين كما

تحيا البلاد إذا ما مسّها المطر

__________________

(١) عدنان سعد الدين ـ الصفوة من صفة الصفوة. ص ١٣٦.

(٢) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ١ / ٩.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٦ / ٢٠٨.

(٥) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٣ / ١٧٣.

(٦) المصدر السابق. ج ٢ / ٢١١.

٤٦

والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه

كما يجلى سواد الظلمة القمر

ولمّا مرض عبد الله بن مسعود ، مرضه الّذي مات فيه ، جعل الزبير بن العوام ، وابنه عبد الله وصيّا له ، وقال : (إنّهما في حلّ وبلّ فيما وليا من ذلك ، وقضيا في ذلك ، لا حرج عليهما في شيء منه ، وإنّه لا تزوج امرأة من بناته إلّا بعلمهما ولا يحجز ذلك عن امرأته زينب بنت عبد الله الثقفية ، وأن يدفن عند قبر عثمان بن مضعون) (١).

مات عبد الله بن مسعود بالمدينة ، وأوصى أن يصلّي عليه الزبير بن العوام (٢). وقيل لمّا مات عبد الله بن مسعود ، صلى عليه عمّار بن ياسر ، وكان عثمان غائبا ، ولمّا عاد عثمان ورأى قبر ابن مسعود ، قال لمن هذا القبر؟ فقيل له : إنه قبر عبد الله بن مسعود ، فقال : كيف دفنتموه دون علمي؟ فقيل له : إنّ عمّار بن ياسر قد تولّى أمره. وقيل إنّ ابن مسعود أوصى بأن لا يخبر عثمان بموته (٣).

وقيل مات عبد الله بن مسعود بالمدينة سنة (٣٢) للهجرة (٤) ، وصلّى عليه الزبير بن العوّام (حسب وصيته) ودفن وعمره (٦٠) سنة.

وقيل مات عبد الله بالمدينة سنة (٣٦) للهجرة (٥). وبعد وفاة عبد الله ابن مسعود ، ذهب الزبير بن العوام إلى عثمان بن عفّان ، وقال له : (اعطني عطاء عبد الله بن مسعود ، فأهل عبد الله أحوج إليه من بيت المال). فأعطاه خمسة عشر ألف درهم. وقيل عشرين ألف درهم (٦).

__________________

(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ١٥٩.

(٢) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ١٤ / ٤٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٧١.

(٤) ابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٢٠٨ والطبقات ـ ابن سعد ١٤ / ٦.

(٥) البسوي (الفسوي) ـ المعرفة والتاريخ. ج ٢ / ٣١٢.

(٦) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ١٤ / ٤٨.

٤٧

٤ ـ عبد الله بن عبد الله بن عتبان

وعبد الله بن عبد الله هو من وجوه الأنصار وأشراف الصحابة ، وكان حليفا لبني حبلى من بني أسد (١). استخلفه سعد بن أبي وقّاص أميرا على الكوفة سنة (٢١) للهجرة (٢) ، وذلك عند ما ذهب سعد إلى المدينة لمواجهة الخليفة عمر بن الخطاب ، وقيل استخلفه سعد سنة (١٩) للهجرة.

وكان أهل الكوفة قد أخبروا الخليفة عمر بن الخطاب (بأنّ سعدا لا يحسن الصلاة) فبعث محمّد بن مسلمة ليتحقق من شكوى أهل الكوفة ، وعند ما جاء مسلمة إلى الكوفة ، أخذ يتحقق في الأمر ، ثمّ رجع إلى المدينة ومعه سعد بن أبي وقّاص ، والّذين شكوا أمر سعد ، وعند ما وصل سعد إلى المدينة سأله عمر قائلا : (من خليفتك يا سعد على الكوفة؟). فقال سعد : (عبد الله بن عبد الله بن عتبان) فأقرّه عمر (٣).

وأثناء تولية عبد الله بن عتبان إمارة الكوفة ، كان الفرس قد تجمعوا في نهاوند ، ولمّا علم الخليفة عمر بذلك جمع المسلمين ، وخطب فيهم قائلا : (إنّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام فتكلّموا) (٤).

فقام عثمان بن عفّان ، فقال : (أرى يا أمير المؤمنين ، أن تكتب إلى أهل الشام ، فيسيروا من شامهم ، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ، ثمّ تسير أنت بأهل هذين الحرمين (٥) إلى المصرين (٦) ، فتلقى جمع المشركين

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٤٦ وزامباور ـ الأنساب والأسرات الحاكمة. ص ٦٧.

(٢) المصدر الاوّل السابق. ج ٤ / ١٢٢.

(٣) المصدر أعلاه. ج ٤ / ٢٣٦ والحميدي ـ مواقف وعبر. ص ٢٢٢.

(٤) نفس المصدر الاوّل السابق. ج ٤ / ٢٣٦.

(٥) الحرمين : مكّة والمدينة.

(٦) المصران : الكوفة والبصرة.

٤٨

بجمع المسلمين ، فإنّك إذا سرت بمن معك ، ... وكنت أعزّ عزّا ، وأكثر يا أمير المؤمنين ، إنّك لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقية ، ولا تمتنع من الدنيا بعزيز ، ولا تلوذ منها بحريز ، إنّ هذا اليوم له ما بعده من الأيّام ، فأشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه) (١).

ثمّ قام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : (أما بعد ، يا أمير المؤمنين ، فإنّك إن شخّصت أهل الشام من شامهم ، سارت الروم إلى ذراريهم ، وإن شخّصت أهل اليمن من يمنهم ، سارت الحبشة إلى ذراريهم ، وإنك إنّ شخّصت من هذه الأرض ، انتفضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها ، حتّى يكون ما تدع من وراءك ، أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات ، أفرر هؤلاء في أمصارهم ، واكتب إلى البصرة ، فليتفرّقوا إلى ثلاث فرق ، فلتقم فرقة لهم في حرمهم وذراريهم ، ولتقم فرقة في أهل عهدهم لئلا ينتفضوا عليهم ، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم ، إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا : هذا أمير العرب وأصل العرب ، فكان ذلك أشدّ لكلبهم ، وألّبتهم على نفسك ، وأمّا ما ذكرت من مسير القوم ، فإن الله هو أكره لمسيره منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره ، وأمّا ما ذكرت من عددهم ، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، ولكّننا كنّا نقاتل بالنصر) (٢). فقال عمر : أجل والله.

ثمّ اختار عمر قائدا للجيوش (٣) ، وكتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان (أمير الكوفة) أن يستنفر أهل الكوفة مع النعمان والذهاب إلى نهاوند.

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٣٩.

(٢) المصدر السابق. ج ٤ / ٢٣٤.

(٣) قائد الجيوش : النعمان بن مقرن المزني.

٤٩

وبعد معارك دامية بين المسلمين والفرس ، انتصر المسلمون ، ودخلوا مدينة نهاوند ، وما حولها ، واستولوا على جميع ما في المدينة ، ثمّ قسّم حذيفة ابن اليمان الغنائم بين الناس ، فكان سهم الفارس ستة آلاف وسهم الراجل : ألفين ، وما بقي من الأخماس ، أعطيت إلى السائب بن الأقرع ، وهذا بدوره يرسله إلى الخليفة في المدينة ، وقد سمّي يوم نهاوند ب (فتح الفتوح) سمّاه بذلك أهل الكوفة (١).

وكان عبد الله بن عتبان أميرا على أحد الجيوش الّتي فتحت كرمان ومكران (٢).

ثمّ عزل عبد الله بن عتبان عن إمارة الكوفة ، عزله الخليفة عمر ، وولّى بعده زياد بن حنظلة (٣). سنة (٢١) للهجرة.

٥ ـ زياد بن حنظلة

وهو زياد بن حنظلة التميمي ، العمري ، حليف بني عبد بن قصي ، وهو من المهاجرين ومن أجلاء الصحابة.

ولّاه الخليفة عمر بن الخطاب إمارة الكوفة سنة (٢١) للهجرة (٤) ، وذلك بعد عزل عبد الله بن عبد الله بن عتبان عنها ، فبقي على إمارة الكوفة مدّة قصيرة طلب بعدها من الخليفة إعفاءه من منصبه ، فعزله عمر ، وعيّن مكانه عمّار بن ياسر (٥).

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٤٥.

(٢) نفس المصدر. ج ١ / ١٨٠.

(٣) المصدر السابق. ج ٤ / ٢٤٦.

(٤) نفس المصدر أعلاه.

(٥) ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٣٤ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٤ / ١١٥.

٥٠

وقيل استخلفه سعد بن أبي وقّاص أميرا على الكوفة سنة (١٨) للهجرة (١) ، وكان زياد بن حنظلة قاضيا للكوفة ، وذلك بعد إعفاء سلمان وعبد الرحمن ابني ربيعة ، ولحين مجيء عبد الله بن مسعود من حمص (٢).

وكان ذلك في أواسط إمارة سعد بن أبي وقّاص على الكوفة.

وقد شارك زياد بن حنظلة مع أبي بكر الصدّيق حروب الردّة سنة (١١) للهجرة وقال شعرا (٣) :

أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا

كبكبة الغزى أناخوا على الوغر

فما صبروا للحرب عند قيامها

صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر

طرقنا بني عبس بأدنى نباجها

وذبيان فنهنا بقاصمة الظهر

وفي معركة اليرموك سنة (١٣) للهجرة ، كان زياد بن حنظلة أحد قادة الكراديس فيها (٤). وفي معارك المسلمين مع الروم في خلافة عمر بن الخطاب قال زياد سنة (١٥) للهجرة (٥) :

تذكرت حرب الروم لمّا تطاولت

وإذ نحن في عام كثير نزائله

وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا

مسيرة شهر بينهن بلابله

وإذا أرطون الروم يحمي بلاده

يحاوله قرم هناك يساجله

فلمّا رأى الفاروق أزمان فتحها

سما بجنود الله كيما يصاوله

فلمّا أحسّوه وخافوا صواله

أتوه وقالوا أنت ممن نواصله

وفي أول خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام سنة (٣٦) للهجرة ،

__________________

(١) زامباور ـ الأنساب والأسرات الحاكمة. ص ٦٧.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٤٧.

(٣) المصدر السابق. ج ٤ / ٢٤٦.

(٤) المصدر اعلاه. ج ٤ / ٣٩٦.

(٥) المصدر السابق. ج ٤ / ٦٩٢.

٥١

طلب جماعة من الناس من زياد بن حنظلة ، أن يذهب إلى الإمام عليّ عليه‌السلام لمعرفة خطوط سياسته ، ولمّا دخل حنظلة على الإمام عليّ عليه‌السلام طلب منه أن يغزو الشام ، فقال له زياد : (الأناة والرفق أمثل) ثمّ قال أيضا (١) :

ومن لا يصانع في أمور كثيرة

يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

فأجابه الإمام عليّ عليه‌السلام (٢) :

متى تجمع القلب الذكي وصارما

وأنفا حميما تجتنبك المظالم

ولمّا خرج زياد من عند الإمام عليه‌السلام سأله القوم : (ما وراءك؟). فقال لهم : (السيف يا قوم).

ولمّا رأى زياد بن حنظلة ، تثاقل القوم ، وعدم رغبتهم في القتال قال لعلي عليه‌السلام : (من تثاقل عنك ، فإنا نخفّ معك ونقاتل دونك) (٣).

٦ ـ عمّار بن ياسر

هو عمّار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين ابن الوذيم بن ثعلبة بن عوض بن حارثة بن عامر الأكبر بن يام بن عنس ابن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب (٤) ، العنسي (٥) ، الشامي ، الدمشقي ، وكنيته : أبو اليقظان.

ولّاه الخليفة عمر بن الخطاب إمارة الكوفة سنة (٢١) للهجرة ، وذلك بعد عزل زياد بن حنظلة ، وجعل عبد الله بن مسعود على بيت المال (٦).

__________________

(١) من شعر زهير بن أبى سلمى.

(٢) من شعر براقة الهمدانى.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٤٤٨.

(٤) النووي ـ تهذيب الأسماء. ج ٢ / ٢٣٤ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ٢٠ / ٣٥.

(٥) وبنو عنس من القحطانيّة ، القلقشندي ـ نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب. ص ٣٩٧.

(٦) ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٣٤ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٤ / ١١٥.

٥٢

إنّ عمّار بن ياسر ، لم يكن أميرا من أمراء الكوفة ، الّذين نحن بصددهم ، وإنّما كان باستثناء (عليّ وابنه الحسن عليهما‌السلام) أميرا بإيمانه ، وبصلاحه وتقواه.

جاء أبوه (ياسر) وعمّاه (الحارث ومالك) من اليمن إلى مكّة ، يبحثون عن أخ لهم قد فقدوه ، فرجع عمّاه (الحارث ومالك) إلى اليمن ، وبقي (ياسر) بمكّة فحالف أبا حذيفة المغيرة بن عبد الله ، ثمّ زوجه أبو حذيفة من أمة يقال لها (سمية بنت خباط) فولدت له عمّارا ، فأعتقه أبو حذيفة (١).

وكان عمّار من السابقين في الإسلام ، هو وأبوه وأمّه وكان إسلامه وإسلام صهيب في وقت واحد في دار الأرقم بن أبي الأرقم.

وقد تحمّلت أمّه (سميّة) أنواع العذاب في سبيل إسلامها ، وقد قتلها أبو جهل ، فكانت حقّا أوّل شهيدة في الإسلام (٢).

وكان الرسول الأكرم ، يذهب إلى المكان الّذي يعذّب فيه آل ياسر ، فيحييهم ، ويكبّر صمودهم وبطولتهم ، ويقول لهم : (صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنّة) (٣).

وذهب إليهم الرسول الكريم ذات يوم (كعادته) فناداه عمّار قائلا : يا رسول الله ، لقد بلغ منّا العذاب كلّ مبلغ ، فناداه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صبرا .. أبا اليقظان صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنّة) (٤).

وأخذ المشركون يعذبون عمّارا ذات يوم ، ولم يتركوه حتّى نال من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولمّا جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتفقده ، قال عمّار : (يا رسول الله ،

__________________

(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ٢٤٦ والمنتخب من ذيل المذيل ـ تاريخ الطبري. ص ٥٠٨.

(٢) المزي ـ تهذيب الكمال. ج ٢١ / ٢١٦.

(٣) خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٨٧.

(٤) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١ / ١٥٠.

٥٣

والله ما تركوني حتّى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير). فقال له الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فكيف تجد قلبك؟. فقال عمّار : مطمئن بالإيمان. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فإن عادوا فعد).

ثمّ نزلت الآية الشريفة : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(١) ، فالمقصود بالآية الشريفة هو عمّار بن ياسر (٢).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يحبّ عمّارا ، حبّا عظيما ، ويباهي أصحابه بإيمانه وهديه ، حتّى قال عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ عمّارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه) (٣). وقيل : إلى أخمص قدميه.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من عادا عمّارا ، عاداه الله ، ومن أبغض عمّارا ، أبغضه الله) ، وعن أنس بن مالك : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ الجنّة تشتاق إلى ثلاثة : عليّ وعمّار وسلمان) (٤).

وعن عائشة أنّها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما خيّر عمّار بين أمرين إلّا اختار أرشدهما) (٥).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (واهتدوا بهدي عمّار) إلى كثير من الأحاديث الشريفة عنه.

وشارك عمّار في المعارك كلّها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهاجر الهجرتين ، وروى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأحاديث الكثيرة ، وشهد قتال اليمامة في خلافة أبي بكر ، فذهب إلى صخرة ، ونادى : يا معشر المسلمين ، أمن الجنّة تفرّون؟ : اليّ ،

__________________

(١) سورة النحل. الآية ١٠٦.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ٢٤٩ وخالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٩٠.

(٣) ابن الجوزي ـ صفة الصفوة. ج ١ / ٢٣٦ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ٢ / ٣٨.

(٤) ابن الجوزي ـ صفة الصفوة. ج ١ / ٢٣٦.

(٥) النووي ـ تهذيب الأسماء واللغات. ج ٢ / ٣٨.

٥٤

إليّ ، أنا عمّار بن ياسر ، وقطعت أذنه ، وهو يقاتل قتال الأبطال (١).

وعند ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة ، ارتجز الإمام عليّ عليه‌السلام أنشودة راح الكلّ يرددها (٢) :

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها قائما وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا

وكان عمّار بن ياسر يعمل في جانب آخر من المسجد ، وهو يردّد الأنشودة حاملا الحجارة الثقيلة (٣) من منحتها إلى محل البناء ، فيراه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقترب منه ، وينفض الغبار (بيده الشريفة) عن رأس عمّار ، ويتأمّل في وجهه ، ويقول على ملأ من الناس : (ويح ابن سميّة تقتله الفئة الباغية) (٤).

وحينما حاصر المسلمون (الهرمزان) (٥) سنة (٢٠) للهجرة في مدينة (تستر) لعدّة شهور ، كان (أبو سبرة) قائدا لجيش الكوفة والبصرة ، ولم يتمكن من احتلالها (لأنّها كانت محصّنة) ثمّ ذهب أبو موسى الأشعري مع جند من أهل البصرة لمساعدة (أبي سبرة) واشتدّ القتال وطال الحصار ، ولكنهم لم يتمكّنوا من احتلال المدينة ، فكتب أبو موسى الأشعري إلى الخليفة عمر يخبره بذلك ، فكتب عمر إلى عمّار بن ياسر (أمير الكوفة آنذاك) يأمره بالذهاب إلى (تستر) لمساعدة الجيوش الإسلامية المتواجدة

__________________

(١) النووي ـ تهذيب الأسماء. ج ٢ / ٣٨.

(٢) ابن عبد ربه ـ العقد الفريد. ج ٤ / ٣٤٢ وخالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٩٢.

(٣) وقيل إنّ عمّارا كان يحمل من الحجارة ، ضعف ما يحمله الآخرون.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٤١ وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٢١٢ ورجال السيد بحر العلوم. ج ٣ / ١٧٦ وخالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ١٠٠.

(٥) الهرمزان : قائد عسكري فارسي ، اشترك في معركة القادسيّة ، وحوصر في (تستر) ثمّ استسلم وجيء به أسيرا إلى الخليفة عمر ، ثمّ استسلم. قتله عبيد الله بن عمر عند ما قتل أبوه.

٥٥

هناك ، وأن يستخلف على الكوفة عبد الله بن مسعود (١). وعند ما وصل عمّار إلى (تستر) استبشر المسلمون خيرا ، ولم تمض سوى سويعات ، حتّى دخل المسلمون (تستر) واستولوا عليها ، وعلى ما فيها من أموال ، استسلم (الهرمزان) وجيء به أسيرا إلى المدينة (٢).

وخطب عمّار يوما فأوجز في خطبته ، فقيل له : لو زدتنا يا أبا اليقظان ، فقال : (أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإطالة الصلاة ، وقصر الخطب) (٣).

ثمّ نقم أهل الكوفة على عمّار بن ياسر وأبغضوه ، حتّى اجترأ عليه (عطارد) وقال له : (أيّها العبد الأجدع). وشكوه إلى الخليفة عمر ، وقالوا : (إنّه لا يحتمل ما هو فيه ، وإنّه ليس بأمين ، وإنّه غير كاف ، وغير عالم بالسياسة ، ولا يدري على ما استعملته) (٤). فعزله عمر سنة (٢٢) للهجرة ، ودعاه إلى المدينة ، وقال له : هل أساءك العزل يا عمّار؟ فأجابه عمّار : (ما سرّني حين استعملت ، ولكن ساءني حين عزلت) (٥). ثمّ عيّن أبو موسى الأشعري أميرا على الكوفة خلفا لعمّار ، بناء على رغبة أهل الكوفة (٦).

وكان عمّار بن ياسر (أمير الكوفة) قدوة لكل أمير ، فقد ازداد ورعا ، وزهدا ، وتواضعا ، حتّى قال فيه ابن أبي الهذيل : (رأيت عمّار بن ياسر ، وهو أمير الكوفة ، يشتري من قيثائها ، ثمّ يربطها بحبل ، ويحملها فوق ظهره ، ويمض إلى داره) (٧).

__________________

(١) أبو حنيفة الدينوري ـ الأخبار الطوال. ص ١٣٠.

(٢) تاريخ خليفة بن خياط. ج ٢ / ١٤٢.

(٣) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ١ / ٣٠٣.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٤ / ١٦٣.

(٥) تاريخ ابن خباط. ج ١ / ١٤٩ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣ / ٤٢.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٤ / ١٦٣ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣ / ٢٤٢.

(٧) خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ٩٥.

٥٦

وتمرّ الأعوام ، فتظهر الفتن والحروب ، وتتعدد اتجاهات الصحابة ، ويتمرد معاوية بن أبي سفيان في الشام على الخليفة الجديد (عليّ بن أبي طالب) وأخذ ينازعه حقّه في الخلافة والأمر ، فانحاز قسم من الصحابة إلى جانب معاويه ووقف قسم آخر إلى جانب عليّ (صاحب البيعة ، وخليفة المسلمين) (١).

أمّا عمّار : فقد وقف إلى جانب عليّ ، لا متحيّزا ولا متعصّبا ، بل للحقّ مذعنا ، وللعهد حافظا.

وجاء يوم صفّين ، وخرج الإمام عليّ عليه‌السلام ، يواجه الموقف ، الّذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤوليته ، وخرج معه عمّار ، وكان عمره يومئذ (٩٣) سنة ، وكان عمّار قد أبدى وجهة نظره في هذه الحرب فقال : (أيّها الناس ، سيروا بنا نحو هؤلاء القوم ، الّذين يزعمون أنّهم يثأرون لعثمان ، والله ما قصدهم الأخذ بثأره ، ولكّنهم ذاقوا الدنيا واستمرأوها ، وعلموا أنّ الحقّ بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ، ودنياهم ، وما كان لهؤلاء سابقة في الإسلام ، يستحقون بها طاعة المسلمين لهم ، ولا الولاية عليهم ، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتّباع الحقّ ، وأنهم ليخادعون الناس بزعمهم أنّهم يثأرون لدم عثمان ، وما يريدون إلّا أن يكونوا جبابرة وملوكا) (٢).

ثمّ أخذ الراية بيده ورفعها عاليا فوق الرؤوس ، وصاح في الناس قائلا : (والّذي نفسي بيده ، لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وها أنذا أقاتل بها اليوم ، والّذي نفسي بيده ، لو هزمونا ، حتّى يبلغوا بنا سعفات

__________________

(١) خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ٢ / ١٠٢.

(٢) المصدر السابق. ج ٢ / ١٠٥.

٥٧

هجر (١) ، لعلمت أنّنا على الحقّ ، وأنّهم على الباطل) (٢). ولقد تبع الناس عمّارا ، وآمنوا بصدق قوله.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي : (شهدنا مع عليّ عليه‌السلام" صفّين" ، فرأيت عمّار بن ياسر ، لا يأخذ ناحية من نواحيها ، ولا من أوديتها ، إلّا ورأيت أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتبعونه كأنّه علم لهم) (٣).

وكان عمّار ، وهو يجول في المعركة ، يؤمن أنّه واحد من شهدائها ، وكانت نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام عيينة : (تقتل عمّارا الفئة الباغية) ، لذلك نراه يندفع في المعركة ، وصوته يغرّد : (اليوم ألقى الأحبّة محمّدا وصحبه) ، ثمّ يتوجّه نحو معاوية وهو يقول (٤) :

نحن ضربناكم على تنزيله

واليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحقّ إلى سبيله

عندها اندفع أصحاب معاوية نحو عمّار (كالذئاب الكاسرة مكشرين أنيابهم) فأحاطوا به من كلّ جانب ، وأردوه قتيلا ، فذهب إليه الإمام عليّ عليه‌السلام فحمله على صدره ، ثمّ صلّى عليه ، ودفنه بثيابه ، كان ذاك سنة (٣٧) للهجرة (٥) ، وكان أهل الشام يسمّون يوم قتل عمّار : (فتح الفتوح).

وفي قتله قال الحجّاج بن عزية الأنصاري قصيدة نقتطف منها

__________________

(١) هجر : مدينة في البحرين يكثر فيه النخيل.

(٢) نصر بن مزاحم ـ وقعة صفّين. ج ٤ / ٣٨٧.

(٣) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٠ / ١٠٤.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٣٩ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٠ / ١٠٤ وباقر القرش ـ حياة الإمام الحسن ابن عليّ. ج ١ / ٤٥٤.

(٥) خليفة بن خياط ـ الطبقات. ص ٢١.

٥٨

الأبيات التالية (١) :

يا للرجال لعين دمعها جاري

قد هاج حزني أبو اليقظان عمّار

أهوى إليه أبو حوا فوارسه

يدعو السكون وللجيشين اعصار

فاختلّ صدر أبي اليقظان معترضا

للرمح ، قد وجبت فينا له الدار

الله عن جمعهم لا شكّ كان عفا

أتت بذلك آيات وآثار

من ينزع الله غلّا من صدورهم

على الأسرة لم تمسسهم النار

قال النبيّ له : تقتلك شرذمة

سيطت لحومهم بالبغي فجّار

فاليوم يعرف أهل الشام أنّهم

أصحاب تلك وفيها النار والعار

عندها عرف المسلمون من هي الفئة الباغية ، ومن هي الّتي تقتل عمّارا والّتي أنبأهم بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّها فئة معاوية.

٧ ـ عبد الله بن مسعود (٢)

استخلفه عمّار بن ياسر أميرا على الكوفة سنة (٢٠) للهجرة ، وذلك عند ذهاب عمّار إلى (تستر) ، ثمّ عزل ابن مسعود عن إمارة الكوفة عزله عمر بن الخطاب ، وعيّن مكانه أبو موسى الأشعري.

٨ ـ أبو موسى الأشعري

واسمه عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن عمر بن بكر بن عامر بن عدد بن وايل بن ناجبة بن الجماهر بن أشعر ، وقد تزوّج أبو موسى بأمّ كلثوم بنت الفضل بن العبّاس بن عبد المطلب فولدت

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٨٢.

(٢) وقد تكلمنا عن عبد الله بن مسعود في ص ٤١.

٥٩

له موسى ، وبه كان يكّنى (١).

ولّاه الخليفة عمر بن الخطاب إمارة الكوفة سنة (٢٢) للهجرة (٢) ، وذلك بعد عزل عمّار بن ياسر ، فبقي سنة واحدة على إمارة الكوفة ، ثمّ عزله عمر ، وولّاه إمارة البصرة (٣).

ثمّ أعيد تعيينه أميرا على الكوفة سنة (٣٤) للهجرة (٤) من قبل الخليفة عثمان بن عفّان ، وذلك بعد عزل سعيد بن العاص ، وبقي أميرا على الكوفة إلى خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث عزله عنها في أوائل سنة (٣٦) للهجرة (٥).

وكان أبو موسى الأشعري ، واليا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، وقيل إنّ أول من لقّب عمر بن الخطاب (بأمير المؤمنين) هو عدي بن حاتم الطائي ، وأول من دعى له بهذا الإسم على المنبر هو أبو موسى الأشعري (٦).

وأبو موسى الأشعري : هو أول من كتب إلى عمر : (إلى عبد الله ، أمير المؤمنين من أبي موسى). فقال عمر : (إنّي لعبد الله ، وإنّي لعمر ، وإنّي لأمير المؤمنين والحمد لله رب العالمين) (٧).

ويروى عن الإمام عليّ عليه‌السلام أنّه قال في أبي موسى الأشعري : (صبغ

__________________

(١) القرطبي ـ التعريف بالأنساب.

(٢) خليفة بن خياط. ج ١ / ١٤٩ وتاريخ الطبري. ج ٤ / ١٦٤ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣ / ٢٤٢.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٦١.

(٤) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣٤ وبدران ـ تهذيب تاريخ دمشق. ج ٦ / ١٣٧.

(٥) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ١٨٠.

(٦) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٢ / ٦٤.

(٧) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٠٥.

٦٠