أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

ما دونهم ، فقال ابراهيم بن هرمه قصيدة نقتطف منها (١) :

فلا عفا عن مروان مظلمة

ولا أميّة بئس المجلس النادي

كانوا كعاد فأمسى الله أهلكهم

بمثل ما أهلك الغاوين من عاد

فلم يكذّبني من بني هاشم أحد

فيما أقول لو أكثرت تعدادي

فأطلق داود ضحكة نحو ابن عنبسة ، فقال عبد الله بن الحسن ، لأخيه الحسن بن الحسن (أما رأيت ضحكته إلى ابن عنبسه؟. الحمد لله الّذي صرفها عن أخي) (٢). وعند ما كان داود بن عليّ مشغولا بقتل جماعة من الامويين ، إذ برقت برقة في السماء ، فهمس غلام من بين الامويين بهذين البيتين (٣) :

تألّق البرق نجديّا فقلت له

يا أيّها البرق انّي عنك مشغول

يكفيك منّي ، عدوّ ، ثائر ، خنق

في كفّه كحباب الماء مصقول

فسمعه داود ، فقال له : ماذا تقول يا فتى؟ قال : بيتين قلتهما هذه الساعة ، وأنشده إيّاهما.

فقال له داود : أو ما كان لك في وقوع السيف فيكم بوازع!؟

ثمّ قال للسيّاف : (ما ينبغي أن نستبقي لنا عدوا من شجاعته أن يقول الشعر الجيّد ، والسيف على ودجه) (٤)(٥).

وقال داود بن عليّ لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص ، بعد ما قتل الكثير من بني أمية : (أساءك ما فعلت بأصحابك)؟.

__________________

(١) أبو الفرج الاصبهاني ـ الاغاني ـ ج ٤ / ٣٤٧.

(٢) اخي : المقصود به : هو محمّد عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ، وهو اخو عبد الله بن الحسن لامه فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام.

(٣) ابن منقذ ـ لباب الالباب ص ١٩٨.

(٤) الودج : عرق معروف في النحر.

(٥) ابن منقذ ـ لباب الألباب. ص ١٩٨.

٤٨١

فقال إسماعيل : (كانوا يدا فقطعتها ، وعضدا ففتتها ، ومرة (١) فنقضتها ، وجناحا فنتفته) (٢).

ومن أقوال داود بن عليّ : (ولئن يترك الرجل ماله لأعدائه ، خير من الحاجة في حياته إلى أوليائه). وفي هذا المعنى قال الشاعر : (٣)

مال يخلّفه الفتى

للشامتين من العدا

خير له من قصده

إخوانه مسترفدا (٤)

مات داود بن عليّ بالمدينة في شهر ربيع الأول من سنة (١٣٣) للهجرة (٥) ، وهو أمير المدينة ، وعمره (٥٢) سنة ، ولم يتنعّم من ملك بني العبّاس سوى ثمانية أشهر ، خمسة أشهر منها قضاها أمير على الكوفة ، وثلاثة أشهر أمير على مكّة ، والمدينة واليمامة والحجاز.

٣ ـ عيسى بن موسى :

هو : عيسى بن موسى بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب ، وكنيته : أبو موسى.

ولّاه أبو العبّاس السفّاح إمارة الكوفة سنة (١٣٢) للهجرة (٦) ، وذلك بعد عزل داود بن عليّ ، وبقي أميرا على الكوفة ، وسوادها ، وما حولها مدّة

__________________

(١) مرة : قوة

(٢) الآبي ـ نثر الدرر. ج ٣ / ١٦٧.

(٣) النويري ـ نهاية الأرب. ج ٣ / ٣١٥.

(٤) الرفد : العطاء.

(٥) البسوي (الفسوي) ـ المعرفة والتاريخ. ج ٢ / ٣٥٠ وتاريخ الطبري. ج ٧ / ٤٥٩ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٧ / ٣٢٢ وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٨ / ١٥٢ والمزي ـ تهذيب الكامل. ج ٨ / ٤٢٢ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٢.

(٦) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٤٣٢ وتاريخ الطبري. ج ٧ / ٤٥٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٤٥ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٢.

٤٨٢

ثلاث عشرة سنة. ثمّ عزله أبو جعفر المنصور سنة (١٤٧) للهجرة عن الكوفة (١) ، وولّاها إلى محمّد بن سليمان.

وعيسى بن موسى ، فارس بني العبّاس ، وسيفهم المسلول ، جعله أبو العبّاس السفّاح وليّا للعهد بعد أخيه أبي جعفر المنصور. ولمّا توطدت الدولة العباسيّة ، وثبتت أركانها تحايل أبو جعفر المنصور على عيسى بن موسى فخلعه وجعل ابنه (محمّد المهدي) ولي العهد ، ومن بعده لعيسى بن موسى ، ويقال إنّ أبا جعفر المنصور قد أعطاه عشرة آلاف ألف درهم لقاء تنازله (٢).

ويقال إنّ عيسى بن موسى لمّا طالبه المنصور بتقديم المهدي عليه ، قال (٣) :

بدت لي إمارات من الغدر شممتها

أظنّ رواياها ستمطركم دما

وما يعلم العالي متى هبطاته

وإن سار في ريح الغرور مسلما

وقال أيضا :

أينسى بنو العبّاس ذبي عنهم

بسيفي ونار الحرب ذاك سعيرها

فتحت لهم شرق البلاد وغربها

فذل معاديها وعزّ نصيرها

أقطع أرحاما عليّ عزيزة

وأسدي مكيدات لها وأنيرها

فلمّا وضعت الأمر في مستقرّه

ولاحت له شمس تلألأ نورها

دفعت عن الحقّ الّذي أستحقّه

وسيقت بأوساق من الغدر عيرها

وعند ما خلع عيسى بن موسى ، كان أبو نخيلة الشاعر جالسا عند

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٤٥ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٢. والماوردي ـ الأحكام السلطانية. ص ٧٤.

(٢) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٧ / ٤٣٥ وأبو المحاسن ـ النجوم الزاهرة. ج ٢ / ٧.

(٣) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ٣٧١.

٤٨٣

المنصور فقال (١) :

بل يا أمين الواحد الموحد

إنّ الّذي ولّاك ربّ المسجد

ليس ولي عهدنا بالأسعد

عيسى فزحلفها إلى محمد

من عند عيسى معهدا عن معهد

حتّى تؤدّى من يد إلى يد

وقيل إنّه قال أرجوزة طويلة نقتطف منها (٢) :

خليفة الله وأنت ذاكا

أسند إلى محمّد عصاكا

فاحفظ الناس لها اذناكا

وابنك ما استكفيته كفاكا

وكلّنا منتظرا لذاكا

لو قلت هاتوا قلت هاك هاكا

ولمّا آلت الخلافة إلى محمّد المهدي ، خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد (أيضا) وبايع لأبنه (موسى الهادي) ، ثمّ بايع من بعد موسى الهادي لابنه (هارون الرشيد) ثمّ ذهب المهدي ومعه عيسى بن موسى إلى الجامع ، فخطب في الناس وأعلمهم بخلع عيسى ، والبيعة لأبنه الهادي ، وأشهد الناس على ذلك ، فقال بعض الشعراء (٣) :

كره الموت أبا موسى وقد

كان في الموت نجاة وكرم

خلع الملك وأضحى ملبسا

ثوب لؤم ما ترى منها القدم

وعند ما كان عيسى بن موسى يمرّ في شارع من شوارع الكوفة ، يقول بعض المجان من أهل الكوفة : (هذا الّذي كان غدا ، فصار بعد غد) (٤).

وجيء إلى عيسى بن موسى (وهو أمير الكوفة) بمخنث ، فقال له عيسى : (أعتقد بأنك لا تعرفني ، وإلّا فكيف تسيء في إمارتي؟).

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٠ / ٤٢١.

(٢) المصدر السابق ج ٢٠ / ٤٢١.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٨ / ١٢٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٤٥ والجهيشاري ـ الوزراء والكتاب. ص ١٤٦.

(٤) أحمد شلبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣ / ١١٥.

٤٨٤

فقال له المخنث : نعم والله ، أيّها الأمير ، فأنت الّذي كنت غدا فصرت بعد غد. فخجل عيسى وأخرج المخنث (١).

وفي سنة (١٤٥) للهجرة ، ثار بالمدينة محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب المعروف (بالنفس الزكيّة) ، فقال أبو جعفر المنصور لعيسى بن موسى : إنّ محمّدا قد ثار بالمدينة ، فاذهب إليه ، فقال له عيسى : يا أمير المؤمنين ، هؤلاء عمومتك حولك فادعهم وشاورهم في الأمر ، فتمثل المنصور بقول ابن هرمة حيث يقول : (٢)

ترون أمرا لا يمحض القوم سرّه

ولا ينتجي الأذنين فيما يحاول

إذا ما أتى شيئا مضى كالذي أبى

وإن قال إنّي فاعل فهو فاعل

ثمّ قال المنصور : يا هذا ، إن محمّدا لا يطلب غيري وغيرك ، فإمّا أن أذهب أنا أو أن تذهب أنت إليه ، فقال عيسى : بل أفديك بنفسي يا أمير المؤمنين. فذهب عيسى إلى المدينة ، ومعه أربعة آلاف فارس ، وألفي راجل ، ثمّ تبعه محمّد بن قحطبة بجيش كبير ، وعند ما ذهب عيسى قال المنصور : (لا أبالي أيّهما قتل صاحبه) (٣) ، ثمّ دارت معركة بين الجانبين ، قتل خلالها خلق كثير من الطرفين (٤).

ولمّا رآى أصحاب محمّد (النفس الزكيّة) كثرة قتلاهم ، تفرقوا عنه ، وبقي يقاتل لوحده بكلّ شجاعة وبسالة حتّى قتل (٥) ، فقطعوا رأسه ، وأرسلوه إلى عيسى بن موسى ، ثمّ أرسل الرأس إلى أبي جعفر المنصور

__________________

(١) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٤ / ١٧٧.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٥٤٤.

(٣) تاريخ الطبري ـ ج ٩ / ٢١٦ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٥٤٤.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٩ / ٢١٦.

(٥) ولمّا سمع الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام بمقتل محمّد (النفس الزكيّة) قال : (ما يدعو عيسى إلى أن يسيء بنا ، ويقطع أرحامنا ، فو الله لا يذوق هو ولا ولده منها شيئا أبدا).

٤٨٥

(وكان حينذاك بالكوفة) فوضع الرأس في طبق وطيف به بالكوفة ، ثمّ بعد ذلك أرسله المنصور إلى بقية المدن ، ثمّ أرسل الرأس إلى أبيه عبد الله بن الحسن في السجن (١) ، ولمّا رآى عبد الله رأس ابنه قال : (يرحمك الله ، لقد قتلوك ، صوّاما ، قوّاما ، ثمّ أنشد يقول : (٢)

فتى كان يدنيه من السيف دينه

ويكفيه سوئات الأمور اجتنابها

قتل محمّد (النفس الزكيّة) يوم الأثنين في الرابع عشر من شهر رمضان من سنة (١٤٥) للهجرة (٣).

ولمّا سمع إبراهيم بن عبد الله بقتل أخيه محمّد قال (٤)

أبا المنازل يا عبر الفوارس من

يفجع بمثلك في الدنيا فقد هجعا

الله يعلم أنّي لو خشيتهم

أو آنس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أسلّم أخي لهم

حتّى نعيش جميعا أو نموت معا

وقال عبد الله بن مصعب بن ثابت يرثي محمّد (النفس الزكيّة) بقصيدة نقتطف منها : (٥)

يا صاحبي دعا الملامة واعلما

أن لست في هذا بألوم منكما

وقفا بقبر ابن النبيّ وسلّما

لا بأس أن تقفا فتسلّما

قبر تضمّن خير أهل زمانه

حسبا وطيب سجية وتكرّما

أضحى بنو حسن أبيح حريمهم

فينا وأصبح نهبهم متقسّما

__________________

(١) كان أبو جعفر المنصور قد حبس عبد الله بن الحسن مع أولاده وأخوته (بعد ثورة محمّد النفس الزكيّة) في سجن تحت الأرض ، ثمّ قتلهم جميعا ، وقبورهم الآن معروفة في قرية (الكايم) قرب الشنافية.

(٢) ابن عنبة ـ عمدة الطالب. ص ١١٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي. ج ٣ / ١١٢.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين ص ٣٤٢ والمبرد ـ الكامل. ج ١ / ٢٥٩ ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ١٧٧.

(٥) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٦٠٢.

٤٨٦

ونساؤهم في دورهم نوائح

سجع الحمام إذا الحمام ترنّما

يتوسّلون بقتلهم ويرونه

شرفا لهم عند الإمام ومغنما

والله لو شهد النبيّ محمّد

صلّى الإله على النبيّ وسلّما

حقا لأيقن أنّهم قد ضيعوا

تلك القرابة واستحلوا المحرما

وقال بعضهم في رثاء محمّد (النفس الزكيّة): (١)

رحم الله شبابا

قتلوا يوم الثنيّة

فرّ الناس عنه طرا

غير خيل أسديّة

قاتلوا عنه بنيا

ت وأحساب نقيّة

قتل الرحمان عيسى

قاتل النفس الزكيّة

وكان إبراهيم قد اتفق مع أخيه محمّد ، أن يقوم بالثورة في البصرة ، ويثور أخوه في المدينة في يوم واحد ، إلّا أنّ مرض إبراهيم حال بينه وبين القيام بالثورة في الوقت المحدّد.

فقام إبراهيم بثورته في البصرة ، فاستولى على البصرة بأكملها في شهر رمضان من سنة (١٤٥) للهجرة ، أي بعد ثورة أخيه (النفس الزكيّة) بثلاثة أشهر ، ثمّ سيطر على الأهواز ، وعلى فارس ، وعلى واسط ، ثمّ تقدّم نحو الكوفة ، فكتب أبو جعفر المنصور إلى عيسى بن موسى ، أن يأتي حالا ، ويذهب لحرب إبراهيم بن عبد الله ، فزحف إبراهيم بجيشه حتّى وصل إلى قرية (باخمرا) والتحمت الجيوش ، واقتتلوا قتالا شديدا ، وأثناء المعركة جاء سهم في (فم) إبراهيم فسقط على الأرض ، ثمّ قتل ، وقطعوا رأسه ، وأرسلوه إلى عيسى بن موسى ، ثمّ بعث هذا بالرأس إلى أبي جعفر المنصور بالكوفة ، ووضع الرأس في السوق ، والمنادي ينادي : هذا رأس الفاسق بن الفاسق (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٥٥٩ ، ابو الفرج الاصبهاني ، ومقاتل الطالبيين. ص ٢٤٩.

(٢) الطبري ج ٧ / ٦٤٤ ، ومقاتل الطالبيين. ص ٢٤٩.

٤٨٧

قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن في يوم الأثنين في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من سنة (١٤٥) للهجرة ، وكانت مدّة ثورته شهرين وخمسة وعشرين يوما (١).

وكان ممّن رثى إبراهيم بن عبد الله هو دعبل الخزاعي ضمن قصيدته (التائية) الّتي أولها : (٢)

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

ومنها قوله :

قبور بكوفان وأخرى بطيبة

وأخرى بفخ يا لها صلوات

وأخرى بأرض الجوزجان محلّها

وقبرا بباخمرا لدى الغربات

وقيل لمّا دخل أبو مسلم الخراساني إلى المدائن ، قال لعيسى بن موسى : أتدري ما مثلي ومثلك ، ومثل عمّك؟ (٣) مثل ثلاثة نفر ، كانوا في سفر ، فشاهدوا عظاما بالية ، فقال أحدهم : عندي من علم الطب : إذا رأيت عظاما متفرقة جمعتها. فقال الثاني : وأنا إذا رأيت عظاما موصولة ، كسوتها لحما. وقال الثالث : وأنا إذا رأيت عظاما مكسوة لحما ، أحييتها.

فقام الأول فجمع العظام ، وجاء الثاني فكساها لحما ، ثمّ جاء الثالث فأحياها فإذا هي : أسد.

فقال الأسد في نفسه : (ما أحياني هؤلاء ، إلّا وهم على إماتتي لقادرين) فوثب عليهم فأكلهم.

فو الله يا عيسى : إن عمّك ليقتلني ، وليقتلك أنت أيضا ، أو يخلعك عن

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٦٤٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٥٧٠.

(٢) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٢٩٧.

(٣) عمّك : المقصود به هو أبو جعفر المنصور.

٤٨٨

ولاية العهد (١).

ودخل أبو دلامة الشاعر المعروف على الخليفة (المهدي) وكان عنده وجوه بني العبّاس فيهم : إسماعيل بن محمّد ، وعيسى بن موسى ، والعبّاس بن محمّد ، ومحمّد بن إبراهيم الإمام ، وجماعة آخرين من بني هاشم ، فقال له (المهدي) : والله لئن لم تهج واحدا ممّن في البيت لأقطعن لسانك ، فأخذ أبو دلامة ينظر إلى الجالسين ، وهم ينظرون إليه بنظرة لا تخلو من تحذير ، فلم ير بدّا من هجاء نفسه فقال (٢) :

ألا أبلغ لديك أبا دلامة

فليس من الكرام ولا كرامة

إذا لبس العمامة كان قردا

وخنزيرا إذا نزع العمامة

جمعت ذمامة وجمعت لؤما

كذاك اللؤم تتبعه الدمامة

فإن تك قد أصبت نعيم دنيا

فلا تفرح فقد دنت القيامة

فضحك الجميع.

وفي سنة (١٤٦) للهجرة (٣) ، عزل عيسى بن موسى عن إمارة الكوفة وقيل سنة (١٤٧) للهجرة (٤) ، عزله أبو جعفر المنصور ، وولّاه إمارة البصرة ، وولّى مكانه على الكوفة محمّد بن سليمان (٥).

فقال عيسى بن موسى (٦) :

النفس تطمع والأسباب عاجزة

والنفس تهلك بين اليأس والطمع

وكان عيسى بن موسى إذا حجّ ، يحج تلك السنة كثير من الناس من

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٧.

(٢) حسن سعيد الكرمي ـ قول على قول. ج ١٢ / ٢٩١.

(٣) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٣٢ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٩٦.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٤٥.

(٥) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٣٢ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٩٦.

(٦) خلايلي ـ معجم كنوز الأمثال والحكم. ص ٦٦.

٤٨٩

أهل المدينة ، لأنّ عيسى بن موسى يتفقدهم ، ويعطيهم الأموال ، وجاء أبو الشدائد الفزاري ذات يوم ، فأنشد شعرا وهو بالمصلّى فقال (١) :

عصابة إذا حجّ عيسى حجّوا

وإن أقام بالعراق رجوا

قد لعقوا لعيقة فلّجوا

فالقوم قوم حجهم معوج

ما هكذا كان يكون الحجّ

فقيل له : لماذا تهجو حجّاج بيت الله الحرام؟ فقال :

إنّي وربّ الكعبة المبنية

والله ما هجوت من ذي نية

ولا امرئ ذي رعة نقية

لكنني أرعى على البرية

من عصبة أغلوا على الرعية

بغير أخلاق لهم سرية

وكان عبد الله بن شبرمة (٢) ، ومحمّد بن عبد الله بن أبي ليلى (٣) ، يسمران كلّ ليلة عند عيسى بن موسى ، فإذا جاءا وقفا على الباب حتّى يؤذن لهما ، وأحيانا يخرج اليهما (عياض) (٤) فيقول لهما : انصرفا. فقال ابن شبرمة ذات يوم عند ما رجعا (٥) :

إذا نحن أعتمنا وطال بنا الكرى

أتانا بإحدى الراحتين عياض

ودخل الفقيه (سفيان الثوري) ذات يوم على الخليفة (المهدي) فكلّمه بكلام فيه غلظه ، فقال له عيسى بن موسى : أتكلّم أمير المؤمنين بمثل هذا الكلام؟ وما أنت إلّا رجل من ثور.

فقال له سفيان : (إنّ من أطاع الله من ثور ، خير ممّن عصى الله من

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٢٤٣.

(٢) عبد الله بن شبرمة : أحد فقهاء الكوفة ، قليل الحديث ، شاعر ، وعيّن قاضيا للكوفة.

(٣) محمّد بن عبد الله : أحد قضاة الكوفة لبني أميّة ، ولبني العبّاس أيضا.

(٤) عياض : حاجب عيسى بن موسى.

(٥) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٦ / ٣٥١.

٤٩٠

قومك) (١).

وذهب محمّد بن ذويب إلى عيسى بن موسى فمدحه قائلا (٢) :

ما كنت أدري ما رخاء العيش

ولا لبست الوشي بعد الخيش

حتى تمدحت فتى قريش

عيسى ، وعيسى عند وقت الهيشي (٣)

حين يخف غيره للطيش

زين المقيمين وعزّ الجيش

راش جناحيّ وفوق الريش

فاستحسن شعره ، ثمّ جعله من جلسائه.

وكانت لعيسى بن موسى بستانا ، إلى جانب بستان أبي عيينه في البصرة ، وكان إلى جانب بستان عيسى سماد كثير ، فطلب منه ابن عيينه أن يعطيه بعضا من ذلك السماد ، فلم يعطه عيسى ، فقال ابن عيينه (٤) :

رأيت الناس همهم المعالي

وعيسى همه جمع السماد

إذا رزق العباد فإن عيسى

له رزق من أستاه العباد

وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى (أمير الكوفة) هذه الأبيات (٥) :

إذا جئت الأمير فقل سلام

عليك رحمة الله الرحيم

فأما بعد ذاك فلي غريم

من الأنصار قبّح من غريم

لزوم ما علمت لباب داري

لزوم الكلب أصحاب الرقيم

له مائة عليّ ونصف أخرى

ونصف النصف في صك قديم

دراهم ما انتفعت بها ولكن

وصلت شيوخ بني تميم

__________________

(١) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٢ / ٤٦٧.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٨ / ٣١٨.

(٣) الهيشي : الفتنة :

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٠ / ١٠٧.

(٥) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ١ / ٢٦٢.

٤٩١

أتوني بالعشيرة يسألوني

ولم أك في العشيرة باللئيم

فبعث إليه بمائة ألف درهم ، وقيل بمائتي درهم ، وقيل بمائتي وخمسة وسبعين درهما.

مات عيسى بن موسى بالكوفة سنة (١٦٦) للهجرة ، وقيل سنة (١٦٧) للهجرة ، وقد شهد على وفاته : قاضي الكوفة ، ووجوه أهل الكوفة ، وبحضور روح بن حاتم (أمير الكوفة آنذاك) ثمّ دفن بالكوفة ، وكان عمره (٦٥) سنة (١).

٤ ـ طلحة ابن إسحاق :

هو : طلحة بن إسحاق بن محمّد بن الأشعث. استخلفه عيسى بن موسى على إمارة الكوفة سنة (١٣٧) (٢) للهجرة ، وذلك حينما ذهب عيسى إلى الأنبار (٣) ، ليتولّى (نيابة الخلافة) عن أبي جعفر المنصور الّذي ذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ في هذه السنة ، حيث أنّ عيسى بن موسى كان ولي عهد المنصور.

٥ ـ أبو جعفر المنصور :

هو : عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب ، وكنيته : أبو جعفر المنصور.

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٢٩١ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٧٥ وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٢١٢ والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ٢٠٠ والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ٢ / ٩٨٩ والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٢.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٣.

(٣) الأنبار : كانت عاصمة الخلافة العباسيّة آنذاك.

٤٩٢

ولد المنصور بالحميمة (١) في السابع من شهر ذي الحجّة من سنة (٩٥) (٢) للهجرة ، وبويع بالخلافة في اليوم الّذي مات فيه أخوه أبو العبّاس السفّاح ، وذلك في اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجّة من سنة (١٣٦) (٣) للهجرة. وقد بويع السفّاح قبل المنصور مع أنّ المنصور كان أكبر سنا من السفّاح ، وذلك لأنّ أمّ السفّاح كانت عربية ، وأمّ (٤) المنصور كانت غير عربية (٥) ، (وكان الأمويون لا يعيّنون خليفة من كانت أمّه غير عربية).

وكان المنصور أعظم خليفة في آل بني العبّاس ، شدة وثباتا ويقظة وبأسا ، فقد قال فيه يزيد بن عمر بن هبيرة : (ما رأيت رجلا قط في حرب ، ولا سمعت به في سلم ، أنكر ولا أمكر ، ولا أشدّ تيقظا من المنصور ، لقد حاصرني تسعة أشهر ومعي فرسان العرب ، فجهدنا كلّ الجهد ، أن ننال من عسكره شيئا فما تهيّأ ، ولقد حاصرني ، وما في رأسي شعرة بيضاء ، فخرجت إليه وما في رأسي شعرة سوداء) (٦).

وكان المنصور شديد الحرص على موارد الدولة ، بحيث كان يحاسب (عماله) على الدينق (الدانق) (٧) الواحد ، حتّى امتلأت خزائنه بالأموال وفاضت ، بحيث لم يفكر بجمعها من جاء بعده (٨).

وفي سنة (١٤٥) للهجرة بنى مدينة بغداد (ليكون بعيدا عن الكوفة)

__________________

(١) الحميمة : قرية في الأردن. كان الوليد بن عبد الملك قد غضب على (عليّ بن عبد الله بن عبّاس) فنفاه وأهل بيته اليها سنة (٩٥) ه. السيد أحمد الهاشمي ـ جواهر الأدب. ج ٢ / ٥٠٩.

(٢) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٥ / ١١٣.

(٣) حسن إبراهيم حسن ـ تاريخ الإسلام. ج ٢ / ٢٣.

(٤) أم المنصور : أسمها سلامة ، وهي بربرية.

(٥) حسن إبراهيم حسن ـ تاريخ الإسلام. ج ٢ / ٢٣.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٨ / ٧٧.

(٧) الدانق : عملة ، قيمتها أقل من درهم وتساوي الدرهم.

(٨) محمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج ١ / ٨٤.

٤٩٣

وشيّد له قصرا على نهر دجلة سماّه (قصر الخلد) وقد بنى جانب الكرخ قبل جانب الرصافة ، وقال إبراهيم بن محمّد يصف الكرخ (١) :

سقى أربع الكرخ الغوادي بديمة

وكلّ حلف دائم الهطل مسبل

منازل فيها كلّ حسن وبهجة

وتلك لها فضل على كلّ منزل

وفي سنة (١٥١) للهجرة ، بنى المنصور جانب الرصافة لابنه (المهدي) وبنى له سورا وميدانا وبستانا ، وحفر حوله خندقا (٢).

وفي سنة (١٥٥) للهجرة ، حفر المنصور خندقا حول مدينة الكوفة ، وبنى سورا لها ، ولمّا أراد معرفة عدد أهالي الكوفة ، أعطى لكل شخص خمسة دراهم ، وبعد أن عرف عددهم ، أخذ من كلّ واحد منهم أربعين درهما ، فقال شاعرهم (٣) :

يا لقومي ما لقينا

من أمير المؤمنينا

قسّم الخمسة فينا

وجبانا الأربعينا

وكان المنصور لا يعير أهميّة لوزرائه ، إذ سرعان ما يغضب عليهم فيعزلهم ، ويعذّبهم ، ويصادر أموالهم ، وهذا أبو أيّوب سليمان بن أبي سليمان المورياني ، الخوزي (أحد وزراءه) غضب عليه سنة (١٥٣) للهجرة فعذبه ، وصادر أمواله ، وحبس أخاه ، وبني أخيه (سعيد ومسعود ومخلد ومحمّد) ، فقال أحد شعراء ذلك العصر (٤) :

لقد وجدنا الملوك تحسد من

تعطيه طوعا أزمة التدبير

فإذا ما رأوا له النهي

والأمر أتوه من بأسهم بنكير

__________________

(١) محمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج ١ / ٨٤.

(٢) المصدر السابق ج ١ / ٨٤.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٥.

(٤) محمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج ١ / ٧٢.

٤٩٤

شرب الكأس بعد حفص سليمان

ودارت عليه كفّ المدير

ونجا خالد بن برمك منها

إذ دعوه من بعدها بالأمير

أسوء العالمين حالا لديهم

من تسمّى بكاتب أو وزير

وممّا قيل في الوزارة (أيضا) في العصر العباسي ، فقد قال أبو ميمون الأنباري ، يهجو الوزير عليّ بن عيسى (١) :

قد أقبل الشؤم من الشام

يركض في عسكر إبرام

مستعجلا يسعى إلى حتفه

مدته تقصر عن عام

يا وزراء الملك لا تفرحوا

أيامكم أقصر أيّام

وقال ابن بسطام يهجو ابن (٢) الفرات (٣) :

يا ابن الفرات تعزّى

قد صار أمرك آية

لما عزلت حصلنا

على وزير بداية

وكان أبو جعفر المنصور لا يعطي الشعراء مثلما كان يعطيهم قبله من الخلفاء والأمراء (٤) ، ونوادره بهذا الخصوص كثيرة ، نذكر منها هذه النادرة : فقد ذهب الشاعر الكوفي (المؤمل بن أميل) إلى خراسان ومدح (المهدي) في حياة أبيه بقصيدة نقتطف منها (٥) :

لئن فتّ الملوك وقد توافوا

إليك من السهولة والوعور

لقد فات الملوك أبوك حتّى

بقوا من بين كاب (٦) أو حسير

وجئت وراءه تجري حثيثا

وما بك حيث تجري من فتور

__________________

(١) عريب القرطبي ـ صلة تاريخ الطبري. ص ١١٤.

(٢) ابن الفرات ـ هو أبو الحسن كان وزير الخليفة المقتدر ، وقد تسنم الوزارة عدة مرات.

(٣) الهمذاني ـ تكملة تاريخ الطبري. ص ٢١٤.

(٤) محمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج ١ / ٨٤.

(٥) الشريف المرتضى ـ غرر الفوائد. ج ١ / ١٠٠.

(٦) الكابي : المتغير اللون.

٤٩٥

فأعطاه المهدي عشرين ألف درهم ، ولمّا سمع المنصور بذلك ، كتب إلى ابنه (المهدي) يؤنّبه ويقول له : كان عليك أن تأمر للشاعر بأربعة آلاف درهم ، بعد أن يبقى على بابك سنة كاملة.

ثمّ أمر المنصور بإحضار (المؤمل) إلى بغداد ، ولمّا أدخل عليه قال له المنصور : (رأيت غلاما غرا فخدعته) أنشدني ما ذا قلت له؟ فقرأ (المؤمل) القصيدة بكاملها ، وكان مطلعها :

هو المهدي إلّا أنّ فيه

مشابه صورة القمر المنير

فقال المنصور : أحسنت ، ولكن قصيدتك لا تساوي عشرين ألف درهم ، فاسترجع منه المال وأعطاه أربعة آلاف درهم فقط ، ولمّا مات المنصور ، وجاء بعده ابنه المهدي ، ذهب (المؤمل) إليه وذكّره بالقصة ، فضحك المهدي وأمر له برد المبلغ (١).

وخطب أبو العبّاس السفّاح ذات يوم فتلعثم في كلامه ، فاعتذر وقال : (أيّها الناس ، إنّما اللسان بضعة من الإنسان ، يكلّ إذا كلّ ، وينفسح بانفساحه إذا انفسح ، ونحن أمراء الكلام ، منّا تفرّعت فروعه ، وعلينا تهدّلت غصونه ، إلّا وإنّا لا نتكلّم هذرا ، ولا نسكت إلّا معتبرين) (٢) ، ولمّا سمع المنصور بذلك قال : (لله هو ، لو خطب بمثل ما اعتذر ، لكان من أخطب الناس).

وجيء إلى المنصور ذات يوم بأحد كبار بني أميّة ، فقال له المنصور : إنّي أسألك عن أشياء فأصدقني ولك الأمان).

فقال المنصور : كيف جاء بنو أميّة إلى الحكم ، وكيف انتهى أمرهم؟

قال الأموي : من تضييع الأخبار. فقال المنصور : فأيّ الأموال وجدوا أنفع؟

قال الأموي : الجوهر. فقال المنصور : وعند من وجدوا الوفاء؟ قال الأموي :

__________________

(١) الشريف المرتضى ـ غرر الفوائد. ج ١ / ١٠٠.

(٢) المصدر السابق. ج ١ / ١٠٣.

٤٩٦

عند مواليهم ، فقال المنصور : ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة أشخاص ، لا يوجد أعفّ منهم قط. فقيل له : من هم يا أمير المؤمنين؟

قال : هم أركان الملك ، ولا يصلح الملك إلّا بهم ، كما أنّ السرير لا يصلح إلّا بأربعة قوائم ، إن نقصت واحدة تداعى ،

١ ـ قاض : لا تأخذه في الله لومة لائم.

٢ ـ صاحب (١) شرطة : ينصف الضعيف من القوي.

٣ ـ صاحب (٢) خراج : يستقصي ولا يظلم الرعية ، فإني عن ظلمها غني.

٤ ـ ثمّ عضّ أصبعه ثلاث مرات ، يقول في كلّ مرّة (آه). فقيل له : ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال : (صاحب (٣) بريد ، يكتب بخبر هؤلاء على الصحة).

وكان للمنصور ثلاثة منافسين يحاذر منهم ، ويحسب لهم ألف حساب ، وهم :

١. عمّه : عبد الله بن عليّ ، وكان هذا يدّبر أمر الجيوش في خراسان ، وأهل الشام والجزيرة ، والموصل ، والحقيقة أن عبد الله هذا هو الّذي يلقب (بالسفاح) وليس أبو العبّاس السفّاح ، وذلك لأنّ النفوس الّتي قتلها أكثر بكثير مما قتل السفّاح ، ثمّ حبسه المنصور ، وبعد ذلك قتله.

٢. أبو مسلم الخراساني : وهو مؤسس الدولة العباسيّة ، وداعيتها الأول في خراسان ، وقائدها المحنّك ، قتله المنصور أيضا ، وقال المنصور لمّا

__________________

(١) صاحب شرطة : مدير الشرطة.

(٢) صاحب خراج : عامل الخراج.

(٣) صاحب بريد : الشخص الّذي ينقل الأخبار من الولايات إلى الخليفة (الاستخبارات).

٤٩٧

قتله (١) :

زعمت أنّ الليل لا ينقضي

فاستوف بالليل أبا مجرم

إشرب بكأس كنت تسقى منها

أمر في الحلق من العلقم

٣. بنو عمّه (آل أبي طالب) الّذين لا تزال (وسوف تبقى) لهم المحبة في قلوب الناس ، والمكانة الجيّدة ، وخاصة محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، الملقب (النفس الزكيّة) وأخوه إبراهيم إضافة إلى أنّ أبا جعفر المنصور سبق له وبايع النفس الزكيّة بالخلافة في مكّة والمدينة (٢).

وقد طلب أبو جعفر المنصور من محمّد بن خالد بن عبد الله القسري ، أن يلقي القبض على محمّد وإبراهيم ، وأن يأتيه بهما مكتوفين أو يقتلهما ، إلّا أنّ محمّد بن خالد لم ينفذ ذلك ، فعزله المنصور عن المدينة (٣).

ولمّا ثار (النفس الزكيّة) بالمدينة في الأول من شهر رجب من سنة (١٤٥) للهجرة (٤) ، كان المنصور منشغلا ببناء مدينة بغداد ، فذهب إلى الكوفة ، ليرعى أحوالها بنفسه ، لأنّ أهل الكوفة هم شيعة لآل عليّ ، ويخاف منهم أن يذهبوا لمساعدة النفس الزكيّة ، فأقفل أبوابها حتّى لا يخرج منها أحد ولا يدخلها أحد (٥).

وقيل إنّ المنصور قال لأخوته : اذهبوا إلى عمي عبد الله (٦) وقولوا له : إنّ ابن عبد الله قد ثار بالمدينة ، فما هو رأيك؟ فقال لهم عبد الله : (إن البخل

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٤٩١.

(٢) ابن عتبة ـ عمدة الطالب. ص ١٠٤ وتاج الدين بن محمّد الحسيني ـ غاية الاختصار. ص ٢٢.

(٣) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٧ / ٣٧٧.

(٤) محمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج ١ / ٦٢.

(٥) المصدر السابق ج ١ / ٦٢.

(٦) عبد الله : كان محبوسا بالمدينة من قبل المنصور آنذاك.

٤٩٨

قد قتل المنصور ، فقولوا له : فليخرج الأموال ، وليعط الأجناد ، فإن غلب ، فسوف تعود أمواله ، وإن غلب فلن يحصل محمّد على شيء) (١).

ثمّ قال المنصور لعيسى بن موسى : علينا أن نحارب محمّدا ، فإنّه لا يريد غيري وغيرك (٢) ، فإمّا أن تذهب أنت ، أو أذهب أنا.

فقال له عيسى : بل أفديك بنفسي يا مولاي ، فأخذ المنصور يوصي عيسى ويكثر من توصيته. فقال عيسى : يا مولاي ، إلى كم توصيني؟

إنّي أنا السيف الحسام الهندي

أكلت جفني وخرجت غمدي (٣)

فكل ما تطلبه عندي

ولمّا ذهب عيسى بن موسى إلى محاربة (النفس الزكيّة) ، قال المنصور : (لا أبالي أيهما قتل) (٤).

وعند ما وصل عيسى بن موسى إلى المدينة ، تفرق عن النفس الزكيّة أكثر أصحابه ، إلّا أنّه ثبت وحارب ، ورغم قلّة من بقي معه ، فدارت بينهما معركة أسفرت عن قتل النفس الزكيّة ، وذلك في الرابع من شهر رمضان من سنة (١٤٥) للهجرة (٥) ، ثمّ بعث عيسى بن موسى ببشارة النصر إلى المنصور بالكوفة ، مع رأس النفس الزكيّة ، ثمّ صودرت جميع أموال آل الحسن ، ثمّ أمر المنصور بإرسال الرأس إلى كافة الأقاليم الخاضعة له ، والتشهير بالنفس الزكيّة (٦).

وكان النفس الزكيّة قد ذهب إلى الحجّ مع أخيه إبراهيم (متنكّرين)

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ١٨٤.

(٢) وغيرك : لأن عيسى بن موسى كان ولي عهد المنصور ، وكان عيسى أمير الكوفة آنذاك.

(٣) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٥ / ٨٧.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٩ / ٢١٦ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٥٤٤.

(٥) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٣ / ١١٢.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٦٠١.

٤٩٩

في السنة الّتي حجّ فيها أبو جعفر المنصور ، وهي سنة (١٤٤) للهجرة ، فاجتمعوا بمكّة ، فأرادوا اغتيال المنصور.

فقال لهم عبد الله بن محمّد بن عبد الله الأشتر : (أنا أكفيكم أمره).

فقال النفس الزكيّة : (لا والله لا أقتله غيلة أبدا حتّى أدعوه). فلما سمعوا كلامه ، تفرّقوا عنه ، ولم ينفذوا ما اتفقوا عليه ، وكان من بين المجتمعين أحد قادة المنصور من أهل خراسان (١).

وقد ثار إبراهيم بن عبد الله (أخو النفس الزكيّة) في البصرة ، فاستولى عليها ، واستولى على الأهواز وواسط ، فكتب المنصور إلى عيسى بن موسى في (المدينة) يأمره بالعودة حالا ، والذهاب إلى البصرة لمحاربة إبراهيم.

فذهب عيسى إلى إبراهيم ، فتلاقيا في (باخمرى) فقتل إبراهيم في معركة غير متكافئة في العدد والعدّة ، وذلك في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من سنة (١٤٥) (٢) ، وأرسل رأسه إلى أبي جعفر المنصور في الكوفة فقال المنصور (٣) :

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

ثمّ عاد أبو جعفر المنصور إلى بغداد بعد ثلاثة أشهر من قتل إبراهيم.

وقال غالب بن عثمان الهمداني في رثاء النفس الزكيّة وأخيه إبراهيم (٤) :

كيف بعد المهدي (٥) أو بعد إبرا

هيم نومي على الفراش الوفير

وهم الذائدون عن حرم الإسلام

والجابرون عظم الكسير

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٥٢٦.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٦٥٠.

(٣) تاج الدين الحسيني ـ غاية الاختصار. ص ٣٢.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥٤٦.

(٥) المهدي : لقب النفس الزكيّة.

٥٠٠