أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

فراحوا ، فريق في الأسار ، ومثله

قتيل ، وقتيل لاذ بالبحر هاربه

إذا الملك الجبّار صعّر خدّه

مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

وقال أبو دلامة (١) ، كنت مع مروان بن محمّد ، أيّام حروبه مع الضحّاك ابن قيس الشيبانيّ ، فخرج فارس من جيش الضحّاك ، وطلب المبارزة ، فخرج إليه رجل من جيش مروان فقتله ، ثمّ خرج ثان وثالث فقتلهما أيضا ، ثمّ أخذ ذلك الفارس يصول ويجول في ساحة القتال ، ويقترب من جيش مروان (متحديا) ولا أحد يخرج لمبارزته. فقال مروان : من يخرج لهذا الفارس ، وله عندي عشرة آلاف دينار؟

فقال أبو دلامة : فلمّا سمعت بالعشرة آلاف ، هانت عليّ الدنيا ، وضحّيت نفسي في سبيل عشرة آلاف دينار ، فخرجت إليه ، فأقبل عليّ وعيناه كأنّهما جمرتان تتقدان ، فلمّا رآني عرف السبب الّذي أخرجني لمبارزته فقال : (٢)

وخارج أخرجه حبّ الطمع

فرّ من الموت وفي الموت وقع

من كان ينوي أهله فلا رجع

قال أبو دلامة : فلمّا رأيته ، غطيت رأسي ، ووليت هاربا. فقال مروان ابن محمّد : من هذا الّذي فضحنا؟ آتوني به. قال أبو دلامة : فدخلت بين الناس واختفيت.

وعن حبيب بن جدره الهلالي أنّه قال : رأيت امرأة من بني شيبان ، قد قتل أبوها وأخوها ، وزوجها وأمّها ، وعمّتها وخالتها مع الضحّاك بن قيس ، فما دمعت لها عين ، ولا رأيتها ضاحكة ولا مبتسمة فقالت : (٣)

__________________

(١) أبو دلامة : هو زند بن الجون ، شاعر كوفي. مخضرم الدولتين الأموية والعباسية.

(٢) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ١ / ١٤٤.

(٣) تاريخ خليفة بن خياط. ج ٢ / ٥٧٥.

٤٤١

من لقلب شفّه الحزن

أو لنفسي ما لها سكن

ظعن الأبرار فارتحلوا

خيرهم من معشر ظعنوا

معشر قضوا نحوبهم

كلّ ما قد قدموا حسن

صبروا عن السيوف فلم

ينكّلوا عنها ولا جبنوا

فتيّة باعوا نفوسهم

لا وربّ البيت ما غبنوا

تبعوا مرضاة ربّهم

حين مات الدين والسنن

فأصاب القوم ما طلبوا

منّة ما بعدها منن

ومن شعر الضحّاك بن قيس ، قال يرثي بهلول بن بشر ، الّذي قتله خالد بن عبد الله القسريّ في الجزيرة ، وعند ما كان خالد أميرا على العراق. (١)

بدّلت بعد أبي بشر وصحبته

قوما عليّ مع الأحزاب أعوانا

كأنّهم لم يكونوا من صحابتنا

ولم يكونوا لنا بالأمس خلّانا

يا عين أذري دموعا منك تهتانا

وأبكي لنا صحبة بانوا وإخوانا

خلّوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها

وأصبحوا في جنان الخلد إخوانا

٩٢ ـ ملحان بن معروف الشيبانيّ :

استخلفه الضحّاك بن قيس الشيبانيّ على إمارة الكوفة سنة (١٢٧) للهجرة ، وذلك عند ما ذهب الضحّاك إلى واسط لمحاربة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز. (٢)

وعند ما ذهب النضر بن سعيد الحرشي إلى الشام (بعد هزيمته من الضحّاك الشيبانيّ) لقيه (ملحان الشيبانيّ) في الطريق فدارت بينهما معركة

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٧ / ١٣٣.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٠٥. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٣٣٧.

٤٤٢

قتل فيها ملحان الشيبانيّ ، قتله عطية الثعلبي أو (التغلبي) في قنطرة السّيليحين ، فولّى الضحّاك مكانه حسّان الحروري أو (المروري) على إمارة الكوفة وذلك سنة (١٢٧) (١) للهجرة. ثمّ عيّن حسان الحروري ابنه (الحارث) على شرطة الكوفة.

وقال ابن خدرة يرثي ملحان الشيبانيّ ، وعبد الملك بن علقمة : (٢)

كائن كملحان من شار أخي ثقة

وابن علقمة المستشهد الشاري (٣)

من صادق كنت أصفيه مخالصتي

فباع داري بأعلى صفقة الدار

إخوان صدق أوجبّهم وأخذلهم

أشكو إلى الله خذلاني وإخفاري

فصرت صاحب دنيا لست أملكها

وصار صاحب جنات وأنهار

٩٣ ـ حسّان الحروري :

وقيل حسّان المروري ، استخلفه الضحّاك بن قيس الشيبانيّ على إمارة الكوفة سنة (١٢٧) (٤) للهجرة ، وذلك بعد مقتل ملحان بن معروف الشيبانيّ.

ثم عيّن حسّان الحروري ابنه (الحارث) رئيسا لشرطة الكوفة. وفي سنة (١٦١) للهجرة كان حسّان الحروري أميرا على الموصل. (٥) ولم أعثر له على ترجمة وافية.

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٣٢٠.

(٢) السيد المرتضى ـ غرر الفوائد ودرر القلائد. ج ١ / ٦٣٩.

(٣) الشاري : نسبة إلى الشراة ، وهم الخوارج ، لأنهم شروا أنفسهم لله ، أي باعوها ، وقال اليشكري :

إنّا بني نهشل لا ندعي لأب

عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

(٤) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٣٢٠.

(٥) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٨ / ٢٥١.

٤٤٣

٩٤ ـ سعد الخصيّ الأزدي :

استخلفه الضحّاك بن قيس الشيبانيّ على إمارة الكوفة سنة (١٢٧) وذلك بعد مقتل ملحان بن معروف الشيبانيّ ، ولقب بالخصيّ ، لأنّه (أمرد) لم تكن له لحية ، ثمّ عزله واستخلف مكانه المثنى بن عمران العائذي. (١)

وقيل إنّ الّذي استخلفه الضحّاك على إمارة الكوفة بعد مقتل ملحان الشيبانيّ هو حسّان الحروري. (٢)

٩٥ ـ المثنى بن عمران العائذيّ :

والمثنى بن عمران هو : ثائر من الحروريّة (الخوارج) وهو من قريش ، استخلفه الضحّاك بن قيس الشيبانيّ على إمارة الكوفة سنة (١٢٧) للهجرة. (٣)

ولمّا استقرت الأمور لصالح مروان بن محمّد بالشام ، أرسل يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لمحاربة الخوارج ، وكان أمير الكوفة آنذاك المثنى ابن عمران العائذي عائذ قريش ، وخليفة الخوارج بالعراق ، فذهب المثنى لملاقاة ابن هبيرة ، فالتقى الجيشان في (غزّة) من (عين التمر) ، فدارت معركة عنيفة بين الطرفين قتل فيها المثنى بن عمران العائذي وعزيز وعمرو ، وانهزم منصور بن جمهور ، وانهزمت الخوارج حتّى وصلوا إلى الكوفة ، فجمعوا أنصارهم في (النّخيلة) فجائتهم عساكر ابن هبيرة ، فانهزموا إلى البصرة ، فتبعتهم جيوش ابن هبيرة إلى هناك ، فانهزمت الخوارج من البصرة ، عندها استباح ابن هبيرة عسكرهم ، فدان له العراق بأجمعه ، كان

__________________

(١) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٦١٦.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٣٢٠.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٣٣٤. وتاريخ ابن خلدون. ج / ٤٠٥.

٤٤٤

ذلك سنة (١٢٩) (١) للهجرة.

وقال مسلم (حاجب يزيد بن هبيرة) يرثي من قتل في المعركة : (٢)

أرت للمثنى يوم غزّة حتفه

وأذرت عزيزا بين تلك الجنادل

وعمرا أزارته المنيّة بعد ما

أطافت بمنصور كفات الحبائل

قتل المثنى بن عمران العائذي سنة (١٢٩) (٣) للهجرة.

٩٦ ـ عبيدة بن سوّار التغلبي وقيل الثعلبيّ :

وهو أحد القادة الشجعان الّذين ثاروا مع الضحّاك بن قيس الشيبانيّ ثم مع شيبان بن عبد العزيز. (٤)

وكانت زوجته شجاعة أيضا ، وكانت تقاتل مع الخوارج ، حتّى أنّها أخذت بلجام فرس منصور بن جمهور في يوم الزاب (وكانت متلثّمة). (٥)

وفي سنة (١٢٩) للهجرة ، كتب مروان بن محمّد (آخر ملوك بني أميّة) إلى يزيد بن عمر بن هبيرة ، بالذهاب من (قرقيسيا) إلى عبيدة بن سوار (خليفة الضحّاك بالعراق) فذهب ابن هبيرة ، والتقى مع عبيدة في (عين التمر) (٦) فانهزم عبيدة ومن معه إلى الكوفة. ثمّ جمع عبيدة أصحابه في (النّخيلة) (٧) فدارت معركة ثانية بين عبيدة ويزيد بن هبيرة ، قتل فيها عبيدة ، وانهزم أصحابه ، ثمّ استبيح عسكره ، ونهب جميع ما فيه ، وعندها

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٣٥٤.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٣٢٨.

(٣) الزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ١٨٦.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٣٢٢.

(٦) عين التمر : وتسمى أيضا (شثاثة) وهي مشهورة بالتمر والمياه المعدنية ، قرب كربلاء.

(٧) النخيلة : اسم مكان (معسكر) ما بين النجف وكربلاء حاليا.

٤٤٥

خلا العراق من الخوارج. (١)

وذكر الطبري ، بأنّ يزيد بن هبيرة حينما التقى بالخوارج في (عين التمر) كان عليهم يومئذ المثنى بن عمران (من عائذة قريش) ومعه الحسن بن يزيد ، فانهزموا إلى (النّخيلة) ثمّ لحقهم ابن هبيرة إلى هناك فانهزموا أيضا ، ثمّ اجتمعوا (بالصراة) ومعهم عبيدة بن سوار فقاتلهم ابن هبيرة ، فقتل عبيدة وانهزم أصحابه (٢) ... الخ.

قتل عبيدة بن سوّار التغلبي سنة (١٢٩) للهجرة. (٣)

٩٧ ـ يزيد بن عمر بن هبيرة :

هو : يزيد بن عمر بن هبيرة بن معيّه ، الفزاري الشامي الأصل ، وكنيته : أبو خالد وأبو عمر.

ولّاه مروان بن محمّد إمارة (العراقين) سنة (١٢٧) (٤) للهجرة ، وقيل سنة (١٢٨) (٥) وهو آخر من جمعت له إمارة (العراقين) حيث لم يجمع (العراقان) لآحد من بعده ، وكان أوّل من جمعت له (العراقين) هو زياد بن أبيه في خلافة معاوية بن أبي سفيان. (٦) ودخل يزيد بن هبيرة إلى الكوفة في شهر رمضان من سنة (١٢٩) (٧) للهجرة.

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٧ / ٢٦٩.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٣٥٠.

(٣) الزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ٣٢٢.

(٤) تاريخ الطبري ج ٧ / ٣٢٧.

(٥) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٣٨٢. وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٧ / ٢٦٦. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٣٥١. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٦ / ٢٠٧. وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٢٩. وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ١٤١. وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ١٧٥.

(٦) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٢٥.

(٧) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٣٥١.

٤٤٦

وكان يزيد بن هبيرة ، بطلا ، شجاعا ، جوادا ، فصيحا ، خطيبا ، وقد تولّى إمارة (حلب) للوليد بن يزيد ، وولي إمارة (قنسرين) أيضا. (١)

أرسله مروان بن محمّد إلى العراق لمحاربة الخوارج ، ولمّا وصل ابن هبيرة إلى (هيت) سمع به المثنّى بن عمران العائذي (أمير الكوفة آنذاك من قبل الضحّاك) فأرسل إليه منصور بن جمهور ، وحصلت معركة بين الطرفين ، انهزم فيها منصور بن جمهور إلى الكوفة ، عندها خرج المثنّى بن عمران إلى يزيد بن هبيرة ، فحدثت بينهما مقتلة عظيمة قتل خلالها المثنى بن عمران ، فخرج الخوارج في ليلتهم من الكوفة ، وذهبوا إلى البصرة ، واجتمعوا هناك ، وكان معهم عبيدة بن سوار ، فذهب اليهم ابن هبيرة ، ودارت معركة عنيفة بين الطرفين قتل فيها عبيدة بن سوار ، وانهزم الخوارج ، واستبيح عسكرهم ، وخرجوا من البصرة ، فعندها أصبح العراق كلّه تحت إمرة يزيد بن عمر بن هبيرة. (٢) ثمّ جاء يزيد بن هبيرة إلى قصر ابن هبيرة ، واعتبره مقرا لجنوده. (٣)

ثم ذهب ابن هبيرة إلى واسط ، فاستولى عليها ، وألقى القبض على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز فحبسه ، وقيل أرسله إلى مروان بن محمّد مع ابن لأبن عمر ، فحبسهما مروان إلى أن ماتا في الحبس. (٤)

وقد بنى يزيد بن هبيرة مدينة شرق الكوفة على نهر الفرات ، سمّيت (مدينة ابن هبيرة) لتكون مقرا له بدلا من الكوفة ، وعند ما انتهى بنائها ، وزّع المبالغ الكثيرة على الناس ، ولم يعط لأبي العطاء السندي شيئا ، فقال

__________________

(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٦ / ٢٠٧.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٣٥٤.

(٣) الدينوري ـ الأخبار الطوال. ص ٣٥١.

(٤) ابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ١٧٥.

٤٤٧

السندي : (١)

قصائد حكتهن ليوم فخر

رجعن إليّ صفرا خاليات

رجعن وما أفأن عليّ شيئا

سوى أن وعدت الترهات

أقام على الفرات يزيد حولا

فقال الناس ، أيّهما الفرات؟

فيا عجبا لبحر بات يسقي

جميع الخلق ، لم يبلل لهاتي

فقال له ابن هبيرة : وكم يبلل لهاتك يا أبا العطاء؟ قال عشرة آلاف درهم. فقال ابن هبيرة لأبنه : أعطها له.

فقال أبو عطاء يمدح ابن يزيد بن هبيرة : (٢)

أمّا أبوك فعين الجود تعرفه

وأنت أشبه خلق الله بالجود

لو لا يزيد ولو لا قبله عمر (٣)

ألقت اليك معد بالمقاليد

ما ينبت العود إلّا في أرومته

ولا يكون الجني إلّا من العود

وأهديت ليزيد بن عمر هدايا كثيرة في (يوم المهرجان) ووضعت أمامه ، فقال خلف بن خليفة وكان حاضرا : (٤)

كأن شماميس في بيعة (٥)

تسبّح في بعض عيداتها

وقد حضرت رسل المهرجا

ن وصّفوا كريم هدياتها

علوت برأسي فوق الرؤوس

فأشخصته فوق هاماتها

لأكسب صاحبتي جاراتها

تغيض بها بعض جاراتها

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ٣٣٣.

(٢) المصدر السابق. ج ١٧ / ٣٣٤.

(٣) عمر : هو عمر بن هبيرة (أبو يزيد)

(٤) ابن قتيبة ـ عيون الأخبار. ج ٧ / ٣٧.

(٥) البيعة : الكنيسة.

٤٤٨

فأمر له ابن هبيرة بجام من ذهب ، ثمّ وزع تلك الهدايا على جلسائه وقال : (١)

لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة

فليس ينقصها التبذير والسرف

فإن تولّت فأحرى أن تجود بها

فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

ودخل يزيد بن هبيرة على هشام بن عبد الملك ذات يوم ، فتكلّم بكلام جميل ، فقال هشام : (ما مات من خلّف هذا). فقال الأبرش بن حسان الكلبيّ وكان جالسا في مجلس هشام : (ليس هناك ، أما تراه يرشح جبينه لضيق صدره؟). فقال له يزيد بن هبيرة : (ما لذلك رشح ، ولكن لجلوسك في هذا الموضع). (٢)

وعند ما كان يزيد بن هبيرة يسير في شوارع الكوفة ، فوصل إلى مسجد بني غاضرة ، وقد حان وقت الصلاة ، فنزل يصلّي ، ولمّا سمع الناس بأنّ الأمير يصلّي في مسجدهم تجمّعت الرجال والنساء فوق السطوح ، فلمّا أكمل صلاته ، سأل : لمن هذا المسجد؟ فقالوا له : لبني غاضرة ، فتمثّل يزيد بقول الشاعر : (٣)

ما إن تركن من الغواضر معصرا

إلا قصمن بساقها خلخالا

فأجابته امرأة من الواقفات :

ولقد عطفن على فزارة عطفة

كرّ المنيح وجلن ثم حجالا

فسأل ابن هبيرة : من هذه؟ فقيل له : ابنة الحكم بن بحدل. فقال :(وهل تلد الحيّة إلا حيّة)؟!!. ثمّ قام خجلا.

__________________

(١) ابن قتيبة ـ عيون الأخبار. ج ٧ / ٣٧.

(٢) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ١ / ٣٤٥.

(٣) عمر رضا كحالة ـ أعلام النساء. ج ١ / ٢٨٠.

٤٤٩

وعند ما أخذ أبو مسلم (١) الخراساني يدعو الناس في خراسان إلى الرضا من آل محمّد ، كتب نصر (٢) بن سيار إلى مروان بن محمّد ، يخبره عن نشاط أبي مسلم ويطلب منه النجدة والعون على محاربته وقال : (٣)

يا أيّها الملك الواني بنصرته

قد آن للأمر أن يأتيك عن كثب

أضحت خراسان قد باضت صقورها

وفرّخت في نواصيها بلا رهب

فإن يطرن ولم يحتل لهن بها

يلهبن نيران حرب أيما لهب

فلمّا وصلت الأبيات إلى مروان بن محمّد ، كتب إلى يزيد بن هبيرة ، أن يختار من جنوده أثنا عشر ألف ويرسلهم إلى نصر بن سيار ، فكتب يزيد ابن هبيرة إلى مروان : بأنّ الّذين معه من الجنود قليلون لا يساوي العدد المطلوب ، كما أنّ العرب (عرب العراق) لا يريدون خيرا لخلفاء بني أميّة ، وعليه أن يأخذ الجنود من أهل الشام.

وكتب نصر بن سيّار مرّة ثانية إلى مروان (عن طريق آخر غير طريق ابن هبيرة) (٤) ، وقد ضمّن كتابه بالأبيات التاليّة : (٥)

أرى خلل الرماد وميض جمر

فيوشك أن يكون لها ضرام

فإنّ النار بالعودين تذكّى

وإنّ الحرب أولها كلام

__________________

(١) أبو مسلم الخراساني : وأسمه : عبد الرحمن ، وهو قائد الدعوة العباسية في خراسان ، وقد استولى على خراسان وطرد أميرها (نصر بن سيار) وكان يلقب بأمين آل محمّد ، ثمّ قتله أبو العباس السفّاح.

(٢) نصر بن سيّار : هو أمير خراسان من قبل مروان بن محمّد ، وهو آخر أمير لبني أميّة في خراسان ، إذ طرده أبو مسلم الخراساني من إمارة خراسان ، فهرب إلى (الريّ) فمات كمدا في قرية من قرى همدان.

(٣) حسن سعيد الكرمي ـ قول على قول. ج ٤ / ١٧٤.

(٤) كانت الرسائل المتبادلة بين خلفاء بني أميّة وبين أمرائهم في خراسان تتم عن طريق أمير العراق ، كما أن ابن هبيرة كان يكره نصر بن سيار.

(٥) تاريخ خليفة بن خياط. ج ٢ / ٦٠١. وابن قتيبة ـ عيون الأخبار. ج ٢ / ١٢٨. والإمامة والسياسة. ج ٢ / ١٤٨. وابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ١٥٦. وابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٤ / ٤٧٨. والجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ١ / ١٥٨.

٤٥٠

فإن لم يطفها عقلاء قوم

يكون وقودها جثث وهام

فقلت من التعجب ليت شعري

أأيقاظ أميّة أم نيام؟!

فإن كانوا لحينهم نياما

فقل قوموا فقد حان القيام

فغرّي عن رجالك ثمّ قولي

على الإسلام والعرب السلام

فكتب إليه مروان : إنّ الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، إحسم ذلك الثؤلول الّذي نجم عندكم. (١)

ولمّا يئس نصر بن سيّار من مساعدة مروان ، كتب إلى يزيد بن هبيرة يستنجده ، ويطلب منه العون والمساعدة للقضاء على دعاة العباسيين ، وضمن كتابه الأبيات التالية : (٢)

أبلغ يزيد ، وخير القول أصدقه

وقد تبيّنت أن لا خير في الكذب

بأنّ أرض خراسان رأيت بها

بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعجب

فراخ عامين إلّا أنّها كبرت

لما يطرن وقد سربلن بالزغب

فإن يطرن ولم يحتل لهن بها

يلهبن نيران حرب أيما لهب

فلم يجبه ابن هبيرة.

وذهب يزيد بن عمر بن هبيرة لقتال محمّد (٣) بن خالد القسريّ ، فذهب محمّد القسريّ إلى أبي سلمة الخلّال (٤) وأخبره بمجيء ابن هبيرة ، فقال له أبو سلمة : (إنّ الكوفة بين يديك ، فسر إلى قحطبة (٥) واترك

__________________

(١) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٤ / ٤٧٨.

(٢) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ١٥٨. والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٢٤١.

(٣) محمّد بن خالد القسريّ : ثار بالكوفة سنة (١٣٢) للهجرة واستولى عليها ، وسوف نتكلم عنه في حينه إن شاء الله.

(٤) أبو سلمة الخلّال : أحد دعاة الدولة العباسية في العراق ، وسوف نتكلم عنه في حينه إن شاء الله.

(٥) فحطبة ابن شبيب : أحد قادة الجيش العباسي ، مات غرقا في النهر ، وجاء بعده ابنه (الحسن) لقيادة الجيش ، وسوف نتكلم عنه في حينه إن شاء الله.

٤٥١

الكوفة). فقال محمّد القسريّ : لا أترك الكوفة حتّى أقاتل ابن هبيرة ، فذهب القسريّ والتقى بجيش ابن هبيرة ، ثمّ نادى محمّد القسريّ بمن كان من قومه (قبيلته) مع ابن هبيرة قائلا : (تبّا لكم ، أنسيتم قتل أبي (خالد)؟ وتحامل بني أميّة عليكم ، ومنعهم إيّاكم أعطياتكم؟ يا بني عمّ : قد أزال الله ملك بني أميّة ، وأدال منهم ، فانضموا إلى ابن عمّكم ، فإنّ هذا (قحطبة) بحلوان في مجموع أهل خراسان ، وقد قتل مروان ، فلم تقتلون أنفسكم؟ وإنّ الأمير قحطبة قد ولّاني العراق ، وهذا عهدي عليها ، فليكن لكم أثر في هذه الدولة). (١) فانضم إليه الجميع ، ولمّا رآى يزيد بن هبيرة ذلك ، ولّى منهزما بمن معه إلى واسط.

وعند ما قامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية سنة (١٣٢) (٢) للهجرة بويع لأبي العباس السفّاح بالخلافة في الكوفة ، أرسل السفّاح أخاه أبا جعفر المنصور إلى (واسط) ليزيد بن هبيرة ، فذهب المنصور إلى واسط ، وحارب ابن هبيرة عدّة شهور ، حتّى أعياه أمره ، عندها كتب المنصور إلى ابن هبيرة بالأمان والصلح ، ووقع أبو العباس السفّاح على كتاب الصلح فوافق ابن هبيرة على الصلح ، وبقي في واسط هو وجيشه. (٣)

وذهب ابن هبيرة ذات يوم لزيارة أبي جعفر المنصور في معسكره ، فقال له المنصور : حدثنا ، فقال ابن هبيرة : (يا أمير المؤمنين ، إنّ سلطانكم حديث ، وإمارتكم جديدة فأذيقوا الناس حلاوة عدلها ، وجنّبوهم مرارة جورها ، فو الله يا أمير المؤمنين لقد أخلصت لك) (٤). ثمّ رجع ابن هبيرة إلى

__________________

(١) أبو حنيفة الدينوري ـ الأخبار الطوال. ص ٣٦٨.

(٢) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٠٩. وابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ١٧٩.

(٣) الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلاميّ. ج ٢ / ٨٤٤.

(٤) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ١ / ٣٤٥.

٤٥٢

معسكره ، فقال أبو جعفر المنصور : (لا يعزّ ملك يكون فيه مثل هذا).

وقيل : إن أبا العباس السفّاح ، طلب من أخيه أبي جعفر المنصور ، أن يقتل يزيد بن هبيرة ، على الرغم من إعطائه الأمان (وقبل أن يجف مداد ذلك الأمان) ، وقيل إنّ أبا مسلم الخراساني هو الّذي أشار على السفّاح بقتل ابن هبيرة ، وقال له : إنّ الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد ، لا والله ، لا يصلح أمر فيه ابن هبيرة). وكان أبو جعفر المنصور لا يرغب بقتل ابن هبيرة. (١)

وبعد إلحاح من السفّاح على قتل ابن هبيرة ، أوعز أبو جعفر المنصور إلى بعض أتباعه بقتل ابن هبيرة ، فقتلوه ليلا ، وعند خروجه من أبي جعفر المنصور. (٢)

قتل يزيد بن عمر بن هبيرة في (واسط) في يوم الأثنين في السابع عشر من شهر ذي القعدة من سنة (١٣٢) (٣) للهجرة ، وكان عمره حوالي (٤٠) سنة وقيل كان عمره (٤٨) (٤) سنة وقتل معه ابنه (داود) وجماعة من أصحابه ومواليه. وقال أبو العطاء (٥) السندي يرثي ابن هبيرة : (٦)

ألا أنّ عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود

عشية قام النائحات وصفقت

أكفّ بأيدي مأتم وخدود (٧)

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ـ تاريخ اسلام. ج ٢ / ٢٨.

(٢) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٠٩. وابن قتيبة ـ الإمامة والسياسة. ج ٢ / ١٦٨. وابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٢٠٥. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٦ / ٢٠٨. وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٥٥. وعبد القادر البغدادي ـ خزانة الأدب. ج ٩ / ٥٤٠.

(٣) نفس المصدر أعلاه.

(٤) الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلاميّ. ج ٢ / ٨٤٤.

(٥) أبو العطاء : وأسمه : أفلح بن يسار الأسديّ ، كوفي ، شاعر مخضرم ، وقيل إنّ هذه الأبيات لمعن بن زائدة.

(٦) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٤٢. وابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٦ / ٣١٧.

(٧) جاء هذا البيت في أمالي المرتضى. ج ١ / ٢٢٣ على الشكل الآتي : ـ

عشية قام النائحات وشققت

جيوب بأيدي مأتم وخدود

٤٥٣

فإن تمسي مهجور الفناء فربّما

أقام به بعد الوفود وفود

فإنّك لم تبعد على متعهد

بل كلّ من تحت التراب بعيد

٩٨ ـ عبد الرحمن بن بشير العجلي :

هو عبد الرحمن (وقيل عبد الملك) بن بشير العجلي (وقيل أبن بكير العجلي) ، وهو أحد قادة جيوش يزيد بن عمر بن هبيرة.

استخلفه يزيد بن عمر بن هبيرة على إمارة الكوفة ، سنة (١٢٧) للهجرة وقيل سنة (١٢٨) للهجرة ، وذلك عند ذهاب ابن هبيرة إلى واسط لمحاربة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز. (١)

كما وكان عبد الرحمن بن بشير العجلي رئيس شرطة الكوفة ، عيّنه يزيد بن عمر بن هبيرة عند مجيئه إلى العراق (٢). وفي سنة (١٢٩) للهجرة كان رئيسا لشرطة الكوفة أيضا. (٣)

وعند ما كان عبد الرحمن بن بشير العجلي أميرا على الكوفة ، عين منصور بن المعتمر على قضاء الكوفة (وأكرهه على ذلك) فجلس منصور ابن المعتمر للقضاء ولم يتكلّم ثمّ قام وهرب إلى السواد ، كان ذلك في آخر سلطان بني أميّة. (٤)

وعند ما دخل الحسن بن قحطبة إلى الكوفة ، معه ثلاثين ألف مقاتل من أهل خراسان ومعه جماعة (أيضا) من أهل العراق ، هرب عبد الرحمن

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٣٢٩.

(٢) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٤٠٩.

(٣) نفس المصدر أعلاه.

(٤) وكيع ـ أخبار القضاة. ج ٣ / ١٤٦.

٤٥٤

ابن بشير العجلي من الكوفة وذهب إلى واسط ، والتحق بيزيد بن عمر بن هبيرة. (١)

وعند ما كان يزيد بن عمر بن هبيرة محاصرا في واسط ، من قبل الجيوش العباسيّة قيل له : بأنّ أميّة التغلبي قد (سوّد) (٢) ، فأرسل إليه أحد قادته ، ولمّا وصل ذلك القائد إلى بيت أميّة قال له : إنّ الأمير ابن هبيرة قد أرسلني لأفتّش دارك فإذا وجدت فيه (سوادا) علقته في عنقك ، ومضيت بك إلى الأمير ، وإن لم أجد فيه (سوادا) فهذه خمسون ألف صلة لك. فرفض أن يفتش بيته ، فأمر ابن هبيرة بحبسه ، فذهب معن بن زائدة وجماعة من ربيعة وطلب منه أن يخلي سبيله فرفض ابن هبيرة طلبهم.

فذهب معن بن زائدة وجماعته ، فأخذوا ثلاثة رجال من بني فزارة فحبسوهم ، ثمّ شتموا ابن هبيرة ، وبعد ذلك ذهبوا إلى ابن هبيرة ، وطلبوا منه أن يطلق سراح أبا أميّه ، مقابل إطلاق سراح الثلاثة رجال ، فرفض ابن هبيرة طلبهم أيضا. عندها اعتزل عبد الرحمن بن بشير العجلي ، ومعن بن زائدة عن العمل في صفوف جيش ابن هبيرة كقادة ، فذهب يحيى بن حطّين إلى ابن هبيرة وقال له : (إنّ فرسانك قد أفسدتهم ، وإن تماديت في ذلك ، كانوا أشدّ عليك ممن حاصروك). (٣)

وعند ذلك أمر ابن هبيرة بإطلاق سراح أبي أميّه ، ثمّ كساه وأكرمه ، ثمّ اصطلح الجميع ، وعادوا ال ما كانوا عليه سابقا. (٤)

__________________

(١) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ١ / ١٧٧.

(٢) سوّد : أي جعل شعاره السواد ، والسواد هو شعار العباسيين.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٣٩.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٤٥٢. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٣٩.

٤٥٥

٩٩ ـ زياد بن صالح الحارثيّ :

استخلفه يزيد بن عمر بن هبيرة على إمارة الكوفة سنة (١٢٧) (١) للهجرة ، وكان على شرطة الكوفة آنذاك عبد الرحمن بن بشير العجلي. (٢)

وعند ما ثار محمّد بن خالد بن عبد الله القسريّ بالكوفة سنة (١٣٢) للهجرة و (سوّد) قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة بن شبيب ، ذهب محمّد إلى قصر الإمارة ، فطرد زياد بن صالح الحارثي ومن معه من أهل الشام من القصر. (٣)

وعند ما قامت الدولة العباسيّة سنة (١٣٢) للهجرة ، وبويع لأبي العباس بالخلافة في الكوفة ، أرسل أخاه أبا جعفر المنصور إلى واسط ، والانظمام إلى الجيوش المتواجدة هناك لمحاربة يزيد بن عمر بن هبيرة ، فدارت بين الطرفين عدّة مناوشات ، فلم يتمكن أبو جعفر المنصور من الدخول إلى واسط (٤) ، (لأنّها كانت محصّنة).

ولمّا رأى يزيد بن هبيرة بأنّ الحصار سوف يطول ، ولأنّه لا قدرة له على مواصلة القتال قال لزياد بن صالح الحارثي ومعن بن زائدة ، وبقية من فرسان أهل الشام أن ينصرفوا.

ثمّ أنّ أبا العباس السفّاح ، كتب إلى اليمانيّة من أصحاب ابن هبيرة ، وأطمعهم بالوعود المغرية ، فالتحق معه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحارثيان ، وقالا ليزيد بن هبيرة : بأنّهما سوف يسعيان لدى أبي العباس

__________________

(١) كان يزيد بن عمر بن هبيرة آنذاك في واسط.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٦١٦.

(٣) تاريخ ابن خياط. ج ٣ / ٤٠٥. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٠٥.

(٤) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٢٠٢.

٤٥٦

السفّاح في الصلح بينهما ، فلمّا ذهبا لم يعملا أيّ شيء ، ثمّ جرت المفاوضات بين أبي جعفر المنصور وبين ابن هبيرة ، فتمّ الصلح بينهما (١) (كما ذكرنا سابقا).

وفي سنة (١٣٣) للهجرة ، ثار شريك بن شيخ الفهريّ أو (المهريّ) في بخارى على أبي مسلم الخراساني قائلا له : (ما على هذا اتّبعنا آل محمّد ، على أن تسفك الدماء ، وتعمل بغير الحقّ) فتبعه أكثر من ثلاثين ألف مقاتل ، فأرسل أبو مسلم الخراساني إليه زياد بن صالح فقتله.

وعن زياد الحارثي أنّه قال : ذهبت إلى مروان بن محمّد ، ومعي جماعة ليس فيهم يماني غيري ، ولمّا وصلنا إلى باب قصره ، أرسلونا إلى ابن هبيرة (وكان رئيس شرطته) فأخذ كلّ واحد منّا يخطب ويطيل المديح والإطراء بالخليفة ، وابن هبيرة ، ثمّ أخذ ابن هبيرة يسألنا واحد بعد واحد عن أحسابنا وأنسابنا ، فكرهت أن أتكلّم وتأخّرت عن جماعتي ، ظنا منّي بأنّ ابن هبيرة سوف يأخذه الملل من كثرة السؤال ، وأخيرا جاء دوري ، فقال لي : من أنت؟ فقلت له : من أهل اليمن. فقال من أيّها؟ فقلت من مذحج.

فقال ابن هبيرة : إنّك لتطمع في نفسك : اختصر. فقلت من بني الحارث بن كعب. (٢)

فقال ابن هبيرة : إنّ الناس يقولون : إنّ أبا اليمن كان قردا ، فما ذا تقول؟

فقلت له : أصلحك الله ، إنّ الحجّة في هذا لسهلة يسيرة ، فقال : وما هي حجّتك؟ فقلت : ننظر إلى القرد ، بماذا يكنّى؟ فإن كان يكنّى أبا اليمن ، فهو أبوهم ، وإن كان يكنّى أبا قيس ، فهو أبو من كنّي به. ثمّ قام ابن هبيرة ودخل على الخليفة (مروان بن محمّد) ثمّ خرج ونادى : الحارثي.

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٤٥٤.

(٢) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٩ / ٧٠.

٤٥٧

فدخلت على مروان وهو يضحك ، ثمّ قال لي : ما ذا قال لك ابن هبيرة ، وبما ذا أجبته؟ فقلت له : قال لي كذا وكذا ، وقلت له : كذا وكذا. فقال مروان : وأيم الله لقد حججته ، أو ليس أمير المؤمنين الّذي يقول : (١)

تمسّك أبا قيس بفضل عنانها

فليس عليها أن هلكت ضمان

فلم أر قردا قبلها سبقت به

جياد أمير المؤمنين أتان

ولمّا خرج زياد من عند الخليفة ، اعتذر منه ابن هبيرة وقال له : (والله يا أخا بني الحارث ، ما كان كلامي إيّاك إلّا هفوة ، وإن كنت لأربأ بنفسي عن ذلك ، ولقد سرّني إذ ألقيت عليّ الحجّة ، ليكون ذلك لي أدبا مستقبلا ، وأنا لك حيث تحبّ ، فاجعل منزلك عليّ). (٢) ثمّ أكرمه ابن هبيرة ، وأحسن منزلته.

وفي سنة (١٣٤) للهجرة ذهب أبو مسلم الخراساني إلى (مرو) وذلك بعد أن قتل الكثير من أهل (الصغد) وأهل (بخارى) فاستخلف زياد بن صالح على الصغد وبخارى ورجع أبو مسلم الخراساني إلى (بلخ). (٣)

وفي سنة (١٣٥) للهجرة ، ثار زياد بن صالح وراء النهر وأعلن العصيان على أبي مسلم الخراساني ، فذهب إليه أبو مسلم الخراساني ، ولمّا وصل إلى بخارى التحق بأبي مسلم الكثير من قادة زياد الحارثي ، ثمّ تفرق عنه أكثر أصحابه ، عندها لجأ زياد إلى دهقان (٤) ، فقتله الدهقان ، وأرسل برأسه إلى أبي مسلم الخراساني. (٥)

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٩ / ٧٠.

(٢) المصدر السابع. ج ٩ / ٧١.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٤٦٤.

(٤) الدهقان : التاجر ، والدهقنة : رئاسة الأقليم.

(٥) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٤٦٦. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٥٥. والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ١٩٠.

٤٥٨

١٠٠ ـ حوثرة بن سهيل الباهلي :

هو : حوثرة بن سهيل بن العجلان بن سهيل بن كعب بن عامر بن عمير بن رياح بن عبد الله بن عبد بن قراص بن باهلة.

ولّاه مروان بن محمّد (الحمار) على إمارة (مصر) فوصلها يوم الأربعاء من الثامن عشر من شهر محرم سنة (١٢٨) (١) للهجرة. ثمّ جمع الجند في المسجد ، وخطب فيهم بشعر جيّد فقال : (٢)

دعوت أبا ليلى إلى الصلح كي يبوء

برأي أصيل أو يردّ إلى حلم

دعاني لشبّ حرب بيني وبينه

فقلت له مهلا إلى السلم

وحوثرة بن سهل هو أحد قادة الجيوش المروانية ، وكان بدويا صرفا ، فيه جفوة الأعراب ، فصيحا ، سفّاكا للدماء.

وعند ما أرسله مروان بن محمّد أميرا على مصر ، كتب إلى أهل مصر يقول : (إنّي قد بعثت اليكم رجلا ، أعرابيا ، بدويا ، فصيح اللسان ، من صفاته كذا ، وكذا ، فأجمعوا له رجلا فيه فضائله ، يسدّده في القضاء ، ويصوّبه في النظر ، ويسدّد في كذا وكذا). (٣) ثمّ أخذ حوثرة يطارد أعداء الأمويين في مصر ، فقتل الكثير منهم ، ولمّا قتل حفص بن الوليد ، ويزيد بن موسى بن وردان ، قال مرسل بن حمير يرثي حفصا وأصحابه

يا عين لا تبقي من العبرات

جودي على الأحياء والأموات

بكى الّذين مضوا فهم (قد) صاد

قوا صدقات (شدّ) أبطلت شارات

يا حفص يا كهف العشيرة كلّها

يا أخا النوال وسائر العورات

__________________

(١) الكنديّ ـ ولاة مصر. ص ١١٢ و١١٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) نفس المصدر اعلاه.

٤٥٩

إما قتلت فأنت كنت عميدهم

والكهف للأيتام والجارات

أودى رجاء (١) لا كمثل رجاءنا

رجل وعقبة (٢) فارج الكربات

وشبابنا عمرو (٣) وفهد (٤) ذو الندى

وابن السليط (٥) وعامر الغارات

قتلوا ولم أسمع بمثل مصابهم

سروات أقوام بنو سروات

طلت دمائهم فلم يعرج بها

بيّن ولم تطلب لهم

وعند ما سمع مروان بن محمّد بأن حوثرة قد قتل الكثير من زعماء مصر ورؤسائها بمجرد التهمة في الفتنة الّتي حصلت بمصر ، فلم يرض بعمله ذلك ، فعزله عن إمارة مصر سنة (١٣١) (٦) للهجرة ، وأرسله إلى العراق ، لينظمّ إلى جيش يزيد بن عمر بن هبيرة ، فجعله ابن هبيرة على مقدمة جيشه ، وقاتل به جيوش العباسيين.

ولمّا أراد قحطبة (٧) بن شبيب الذهاب إلى الكوفة ، والاستيلاء عليها ، قال ابن هبيرة لحوثرة : إنّ قحطبة يريد الكوفة ، وأريد أن أدخل الكوفة قبل أن يدخلها قحطبة ، فدارت معركة بين قحطبة وبين حوثرة ، انهزم حوثرة ومن معه إلى واسط ثمّ انهزم ابن هبيرة هو الآخر إلى واسط ، وهناك التقى حوثرة بيزيد بن عمر بن هبيرة ، وقيل إنّ حوثرة كان بالكوفة ، فلمّا علم بهزيمة ابن هبيرة ، هرب ولحق به في واسط. وتركوا عسكرهم وما فيه

__________________

(١) رجاء : ابن الأشيم.

(٢) عقبة : ابن نعيم.

(٣) عمرو : ابن سليط.

(٤) فهد : ابن مهدي أو فهري.

(٥) ابن السليط : محمود بن سليط الجذاميّ.

(٦) جمال الدين أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ١ / ٣٠٥.

(٧) قحطبة بن شبيب : قائد الجيش العباسي ، مات غرقا في نهر الفرات ، ثمّ جاء بعده ابنه الحسن.

ـ ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٠٤.

٤٦٠