أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

أبي ذرّ وقال له : (يا أبا ذرّ ، إنّك ضعيف وإنّها أمانة ، وإنّها يوم القيامة خزي وندامة ، إلّا من أخذها بحقّها) (١).

وهذا (العبّاس) عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب منه أن يعيّنه (أيضا) عاملا على تلك الأعمال المفتوحة (وقد نالها من هو دونه) فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برفق وحنان : (والله يا عمّ ، إنّا لا نولي هذا الأمر أحدا يسأله ، أو أحدا يحرص عليه) (٢).

وقد طبّق الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأسلوب الاستشاري في قيادتة لشؤون الدولة ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستشير أهل الرأي والبصيرة ، ومن شهد لهم بالعقل والفضل ، امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى حيث قال : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(٣).

وأمّا في زمن الخلفاء الراشدين ، فقد سار أبو بكر على ما كان عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأبقى العمّال الّذين عينهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمراء الّذين أمرهم ، وأضاف اليهم غيرهم ، ثمّ قسّم الجزيرة العربية الى اثنتي عشرة ولاية وهي : ١) مكّة ٢) المدينة ٣) الطائف ٤) صنعاء ٥) حضرموت ٦) خولان ٧) زبيد ٨) مرقع ٩) الجند ١٠) نجران ١١) جرش (في اليمن) ١٢) البحرين.

أمّا القادة الّذين وجّههم أبو بكر الى فتح العراق والشام ، فكان كلّ منهم يولّى على الأراضي الّتي يفتحونها (٤).

وأمّا الإدارة في زمن عمر بن الخطاب ، فقد اتسعت الدولة الإسلامية اتّساعا كبيرا (نتيجة للفتوحات الإسلامية) فقسم الدولة إلى أقسام إدارية كبيرة (ليسهل حكمها والإشراف عليها) ، فأنشأ الدواوين ، وعيّن الولاة

__________________

(١) نجدة خماش ـ الإدارة في العصر الأموي. ص ٢٩٢.

(٢) خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ١ / ١٦.

(٣) سورة آل عمران ـ الآية ٥٩.

(٤) مجدلاوي ـ الادارة الاسلامية في عهد عمر. ص ٨٣.

٢١

والقضاة ، وأوجد نظام الحسبة ، وأنشأ الجيش النظامي وأوجد السجن ، وغير ذلك من التنظيمات الّتي تتطلبها أيّة دولة عصريّة.

وكانت لعمر طرقه الخاصّة في اختيار (العمّال) فكان لا يعيّن أميرا إلّا بعد اختيارات واسعة ، سريّة وعلنيّة ، وبعد أن يسأل عنه ويتأكد من كفاءته وصلاحيته ، وكان يحاسب (العمّال) أو يحصي أموالهم قبل أن يعيّنهم ، وعند عودتهم يحاسبهم عن الأموال الزائدة (عمّا كانت عليه سابقا) ، فإن وجد فيها زيادة أخذها منهم.

وكان عمر يشترط أيضا في (الوالي) توافر الشروط الإنسانيّة ، كالعطف والرحمة ، فقد عزل أحد (الولاة) لأنّه لم يرحم أولاده (١). كما كان عمر : يبعث العيون والرقباء على (العمّال) ليخبروه عن تصرفات (الولاة) ويقبل كلّ شكاية تصل إليه عن الولاة مهما كان مركزهم الاجتماعي ، وتكون تلك الشكاية سببا لعزل الوالي ، وكان دائما يقول ويكرّر : (من ظلمه عامله بمظلمة ، فلا إذن له عليّ ، إلّا أن يرفعها اليّ حتّى أقصّه منه) (٢).

كما أنّه كان لا يتقبّل أيّ شيء يقدّمه (الوالي) إليه ولو كان على سبيل الهديّة ، فقد دخل داره ذات مرّة ، فوجد فيها (سجّادة صغيرة) فسأل زوجته (عاتكة) (٣) (من أين لك هذه السجّادة؟). قالت : أهداها لنا أبو موسى الأشعري. فأوعز عمر بإحضار الأشعري ، وجيء به في الحال ، فقال له عمر : (ما يحملك على أن تهدي إلينا ، خذها فلا حاجة لنا فيها) (٤) ، ثمّ ضرب رأس الأشعري بها.

__________________

(١) نوّاف كنعان ـ القيادة الإدارية. ص ٧٢.

(٢) المصدر السابق ص ٣٣.

(٣) عاتكة : بنت زيد بن عمرو بن نفيل.

(٤) خالد محمّد خالد ـ بين يدي عمر. ص ٩٢.

٢٢

وهذا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كتب إلى عمّاله على الخراج يقول : (... فانصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم ، فإنّكم خزّان الرعيّة ، ووكلاء الأمّة ، وسفراء الأئمّة ، ولا تحمسوا (١) أحدا عن حاجته ، ولا تحبسوه عن طلبته ، ولا تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ، ولا دابّة يعتملون (٢) عليها ، ولا عبدا ، ولا تضربنّ أحدا سوطا لمكان درهم ، ولا تمسنّ مال أحد من الناس مصلّ ولا معاهد ، إلّا أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه) (٣).

وهذا كتاب آخر للإمام عليّ عليه‌السلام كتبه للأشتر النخعي ، عند ما ولّاه مصر ، ويعتبر من محاسن الكتب ، نقتبس منه ما يلي :

(بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أمر به عبد الله عليّ أمير المؤمنين (مالك بن الأشتر) في عهده إليه ، حين ولّاه مصر ، جباية خراجها وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة أرضها ...

(... ثمّ اعلم يا مالك ، أنّي وجهتك إلى بلاد ، قد جرت عليها دول قبلك ، من عدل وجور ، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنتظر فيه الولاة قبلك ، ويقولون فيك ، ما كنت تقوله فيهم ، وإنّما يستدل على الصالحين بما يجزي الله على ألسن عباده ، فليكن أحبّ الذخائر اليك ، ذخيرة العمل الصالح ، فاملك هواك ، وشحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك ، فإنّ الشحّ بالنفس الاتّصاف منها ، فيما أحبّت أو كرهت ، واشعر قلبك بالرحمة للرعية ، والمحبّة لهم ، واللّطف بهم ، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا ، تغتنم أكلهم ، فإنّهم صنفان / إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ، يفرط منهم في الزلل ،

__________________

(١) لا تحمسوا : لا تقطعوا.

(٢) يعتملون عليها : أي لا تضطروا الناس أن يبيعوا لأجل دفع الخراج.

(٣) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٧ / ١٩.

٢٣

وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فاعطهم من عفوك وصفحك ، مثل الّذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنّك فوقهم ، وولي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولّاك ، وقد استكفاك أمرهم ، وابتلاك بهم ، ولا تنصبنّ نفسك لحرب الله ، فإنّه لا يدي لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ، ولا تندمنّ على عفو ، ولا تبجحنّ بعقوبة.

(... وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإن من صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم ، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله ، وليكن نظرك في عمارة الأرض ، أبلغ من استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة ، أخرب البلاد ، وأهلك العباد ، ولم يستقم إلّا قليلا.

(.. وإيّاك والإعجاب بنفسك ، والثقة بما يعجبك منها ، وحبّ الإطراء ، فإنّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.

(.. وإيّاك والمنّ على رعيتك ، أو التزيد فيما يكون من فعلك ، أو إن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك ، فإنّ المنّ يبطل الإحسان والتزيّد يذهب بنور الحقّ ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله تعالى : (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (١).

هكذا كان الخلفاء الراشدون (رضي‌الله‌عنهم) لا تأخذهم في الله لومة لائم ، همّهم أن يكون الوالي قدوة حسنة ، لأنّ الوالي يمثّل الخليفة في ولايته ، فإذا كان الوالي لا يطبّق أحكام الله في ولايته ، فحريّ به أن يتنحّى عن الولاية ، وكان على الخليفة حريّ به أن يعزله.

__________________

(١) ومن أراد الإطلاع على النص الكامل لهذا الكتاب مراجعة ج ١٧ / ٣٠. شرح النهج لأبن أبي الحديد.

٢٤

وكان الخلفاء الراشدون (رضي‌الله‌عنهم) يجلسون مع المسلمين على الأرض ، ويتحدّثون معهم ، فلا كراسي عالية ، ولا عروش ، ولا تيجان ولا طيلسان ، وهذا ضرار بن ضمرة الكناني يصف عليا عليه‌السلام في مجلس معاوية ابن أبي سفيان فيقول : (... وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه) (١).

وكانت الغنائم في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي عهد خلفائه الراشدين توزّع على المقاتلين ، وعلى أصحاب الحقوق ، وعلى تعمير البلاد المفتوحة لا خزائن خاصّة ، ولا بيوتات سوى (بيت مال المسلمين) الّذي تخزن فيه أموال الناس ، لتعود عليهم مرة ثانية ، لا لتذهب في جيوب الملوك والأمراء ، والحفدة والشعراء.

وأما الأمراء في العصر الأموي ، فهم على دين ملوكهم ، فهذا معاوية ابن أبي سفيان ، هو أول خليفة ، بل هو أول (ملك) من ملوك بني أميّة ، فقد ترك السنة النبوية ، وسيرة الخلفاء الراشدين (بحجج واهية طلاها على خليفة زمانه ، فتشبّه بملوك إلافرنج في مأكلهم ومشربهم ، وعاداتهم ، وفي جلوسهم على العروش ، وجعل له حجّابا يمنعون الناس من الدخول عليه إلّا بإذنه ، كما وأمر بسبّ الإمام عليّ (أمير المؤمنين ، وخليفة المسلمين) على منابر المسلمين ، والنيل منه بشتّى الأساليب والأكاذيب ، حتّى جعل ذلك فرضا في كلّ خطبة. وقد استنكر ذلك كثير بن كثير بن المطلب السهمي فقال (٢) :

لعن الله من يسبّ عليا

وحسينا من سوقة وإمام

أيسبّ المطّهرون جدودا

والكرام الأخوال والأعمام

__________________

(١) أبو عليّ القالي ـ أمالي القالي. ج ٢ / ١٤٧ والنمري ، القرطبي ـ بهجة المجالس. ج ٢ / ٥٠١.

(٢) باقر القرشيّ ـ حياة الإمام الحسن. ج ٢ / ٣٤٥.

٢٥

يأمن الطير والحمام ولا

يأمن آل رسول الله عند المقام

طبت بيتا وطاب أهلك أهلا

أهل بيت النبيّ والإسلام

رحمة الله والسلام عليهم

كلّما قام قائم بسلام

وبقي السبّ والشتم ردحا من الزمن ، إلى أن قيّض الله له عمر بن عبد العزيز ، فرفع الشتم عنه ، وفي ذلك قال الشاعر (١) :

وليت فلم تشتم عليا ولم تخف

بريا ولم تتبع مقالة مجرم

تكلمت بالحقّ المبين وإنّما

تبيّن آيات الهدى بالتكلم

فصدّقت معروف الّذي قلت بالذي

فقلت فأضحى راضيا كلّ مسلم

هذا ناهيك عن الجرائم الّتي ارتكبها معاوية من قتل النفوس البريئة بل النفوس المسلمة المؤمنة ، فقد قتل حجر بن عدي (٢) الكندي وجماعته ، وقد استنكر كافّة المسلمين ذلك العمل الشنيع ، بما فيهم عائشة (أم المؤمنين) حيث قالت لمعاوية : (أين كان حلمك يا معاوية) أو (أين غرب حلمك عنهم) (٣). كما وكان معاوية المسبّب في مقاطعة كثير من أصحاب رسول الله عليه‌السلام وحرمانهم من أعطياتهم ، وكان المسبّب في نفي الصحابي الجليل (أبي ذر الغفاري) إلى الربذة ، وموته فيها ، بعيدا ، ووحيدا ، وبعد أن مسّه الجوع ، والفقر المدقع.

وهكذا كان سلوك (الملوك) الّذين جاءوا بعد معاوية ، بل الأمر أدهى وأمرّ ، فقد جاء بعده ابنه (يزيد) فقتل الحسين ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبى عياله ، واستباح المدينة (مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). (٤)

__________________

(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣٩٤ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٣٠٥.

(٢) حجر بن عدي : سوف نتكلم عنه ، وعند ترجمة زياد بن أبيه.

(٣) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٣١.

(٤) البسوي ـ المعرفة والتاريخ. ج ٢ / ٢٣١.

٢٦

وهذا الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، فتح القرآن الكريم ، فقرأ الآية : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ)(١).

فغضب الوليد ، ومزق المصحف الشريف وقال (٢)

أتوعد كلّ جبّار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا لاقيت ربك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد

وذاك الحجّاج بن يوسف الثقفي (أحد أمراء بني أميّة على الكوفة) فقد قتل الشيوخ والأطفال والنساء ، وقتل الكثير من العباد والفقهاء ، أمثال سعيد بن جبير ، وكميل بن زياد وغيرهما ، وقيل : إنّ عدد القتلى الّذين قتلهم الحجّاج قد جاوز المائة وعشرين ألفا ، ما عدا الّذين قتلوا في حروبه (٣).

كما أنّه (أي الحجّاج) ضرب الكعبة بالمنجنيق عند محاصرة عبد الله ابن الزبير فقتل عبد الله في البيت الحرام وقتل معه الكثير من المسلمين (٤).

ونتيجة لانشغال ملوك بني أميّة بالترف والملذّات ، وإعطاء المبالغ الطائلة للحفدة والشعراء ، أمروا (ولاتهم) بجمع الأموال من الناس بشتى الطرق ومن يتخلف عن ذلك يكون مصيره الهلاك ، وإذا تخلّف (الوالي) عن جمع المال فمصيره العزل ، وهذا خالد بن عبد الله القسري ، عزل عن إمارة الكوفة لعجزه عن تسديد ما طلب منه من الأموال ، ثمّ بيع (٥) إلى يوسف بن عمر بمبلغ خمسين ألف ألف درهم ، فأخذه يوسف فقتله بعد أن عذّبه أشدّ

__________________

(١) سورة إبراهيم. الآية / ١٥.

(٢) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ١٣٨ والمسعودي ـ المروج. ج ٣ / ٢١٦ وأبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٣ / ٣٤٩.

(٣) البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٠.

(٤) مقدمة ابن خلدون. ص ٣٥٢.

(٥) فقال خالد القسري : (ما عهدنا العرب تباع) ابن قتيبة ـ الإمامة والسياسة. ج ٢ / ١٤٥.

٢٧

عذاب (١).

وعند ما سمع يوسف بن عمر (أثناء توليته الكوفة) بأن الوليد قرّر عزله عن الكوفة ، ذهب إلى الشام وحمل معه الأموال الطائلة ، والهدايا النفيسة ، وعند ما رأى الوليد ذلك قال ليوسف : (إذهب إلى عملك) أو (ارجع إلى عملك) (٢).

وأمّا الأمراء في العصر العبّاسي : فإنّ أمرهم يختلف كثيرا عمّا لاحظناه في العصرين السابقين ، فقد جاءت الدولة العباسيّة ، على أنقاض الدولة الأمويّة ، فسفكت الدماء الكثيرة (لتوطيد الحكم) وطورد الأمويّون وراء كل حجر ومدر ، وقال أمين الريحاني عن تلك الفترة : (استولى العباسيّون على الملك بمذبحة تلتها مذابح في سوريا وفلسطين والعراق ، وقد اقتدى أربابها بأبي العبّاس السفّاح) (٣).

وقال عبد الله (المحض) (٤) مخاطبا (عبد الله بن عليّ) (٥) حينما أراد هذا أن يقتل بني أميّة في الحجاز : (إذا أسرعت بالقتل في أكفائك ، فمن تباهي بسلطانك ، فاعفو يعفو الله عنك) (٦).

وخطب أبو جعفر المنصور قائلا :

(أيّها الناس ، إنّما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه ، وحارسه على ماله ، أعمل فيه بمشيئته وإرادته ، وأعطيه بإذنه ، فقد جعلني قفلا ، إن

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٧ / ٢٤٨ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٥ / ٤٣٢.

(٢) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ١٣٨ والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٢١٦ وأبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٧ / ٤٩.

(٣) جورج جرداق ـ الإمام عليّ / صوت العدالة الإنسانيّة. ص ١٧٩.

(٤) عبد الله المحض : هو ابن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب : قتله المنصور سنة ١٤٥ للهجرة.

(٥) عبد الله بن عليّ بن عبّاس بن عبد المطلب : عمّ الخليفة أبو جعفر المنصور.

(٦) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ١٨٨.

٢٨

شاء يفتحني لإعطائكم ، وقسم أرزاقكم ، وإن شاء أن يقفلني عليه فقفلني) (١).

لذا فقد امتلأت خزائن بغداد بالأموال وفاضت ، وكانت تلك الأموال من نصيب الخلفاء وأبنائهم ، ووزرائهم ، والجواري والخصيان ، وكان من نتائج ذلك الترف والنعيم أن كثر المجون ، وشرب الخمور ، ولعب القمار. أمّا الناس ، وكلّ الناس الآخرين ، بما فيهم أهل المواهب والكفاءات ، فلهم البؤس والشقاء والحرمان (٢).

وقال أبو العتاهية مخاطبا خليفة زمانه (٣) :

من مبلغ عنّي الإمام نصائحا متواليه

إنّي أرى الأسعار ، أسعار الرعيّة عاليه

وأرى المكاسب نزوة ، وأرى الضرورة فاشيه

وأرى غموم الدهر رائحة ، تمرّ وغاديه

وأرى اليتامى والأرامل ، في البيوت الخاليه

من بين راج لم يزل يسمو إليك ، وراجيه

يشكون مجهدة بأصوات ضعاف عاليه

يرجون رفدك كي يروا ، مما لقوه العافيه

من مصبيات جوع تمسي وتصبح طاويه

من للبطون الجائعات وللجسوم العاريه؟

ألقيت أخبارا إليك من الرعية ، شافيه

هذه لمحة عابرة عن المجتمع العبّاسي الاوّل ، أمّا ما تلاه من العصور

__________________

(١) جورج جرداق ـ الإمام عليّ / صوت العدالة الإنسانيّة ص ١٨١.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) المصدر أعلاه ص ١٨٣.

٢٩

اللّاحقة ، فقد انغمس الخلفاء بالترف والملذّات ، وبناء القصور العالية ، وشراء الجواري والخصيان ، وإقامة حفلات الغناء.

أمّا (العمّال ، الولاة ، الأمراء) فلم يكونوا أقلّ شأنا من الخلفاء والوزراء في البذخ ، وتكديس الثروات ، فهذا عليّ بن أحمد الراضي أو (الراسبي) والي (نيسابور والسوس) فقد كان إيراده السنوي ألف ألف دينار ، وخلّف من آنية الفضة والذهب ما قيمته مائة ألف دينار ، وما ترك من الخيل والبغال ألف رأس ، ومن الملابس الفاخرة أكثر من ألف ثوب ، ومن السلاح ، والمتاع ، والدور ، والقصور ، لو وزعت على الشعب العبّاسي لسد حاجتهم ، وما خلّفه من الخدم والغلمان والخصيان لو غزا بهؤلاء مدينة لاحتلها (١).

وكان الخلفاء والوزراء يبيعون جباية الخراج ، وباقي الضرائب إلى أشخاص من مواليهم (على سبيل الالتزام) وكان هؤلاء يتعسفون بالناس ، ويأخذون منهم ، أضعاف أضعاف ما دفعوا.

وأما العلماء والمفكّرون ، فقد كانوا في عوز وفاقة ، فلم يمدوا أيديهم إلى خليفة ، أو وزير ، أو أمير ، حتّى اضطرّ أحدهم إلى بيع كتبه ، ليشتري بثمنها خبزا لعياله ، وفي ذلك قال (٢) :

أنست بها عشرين حولا وبعتها

فقد طال وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظنّي أنّني سأبيعها

ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكن لجوع ، وافتقار وصبية

صغار عليهم تستهلّ جفوني

ثمّ تدهور الحال بالخلفاء ، وأصبحوا ألعوبة بيد أمراء الجيش وقادته ، يعزلون من يشاءون ، وينصبون من يشاءون ومتى يشاءون ، بل أدّت الحال

__________________

(١) جورج جرداق ـ الإمام عليّ / صوت العدالة الإنسانيّة ، ص ١٩١.

(٢) المصدر السابق ص ١٩٣.

٣٠

إلى سمل عيون الخلفاء مثل (المستكفي بالله) والى قتل البعض الآخر منهم (كالمقتدر) و (المتوكل) وغيرهما ، وعمّت الفوضى في كافّة أنحاء البلاد ، وأصبح الاهتمام بجمع الضرائب كبيرا ، فكانت المساومة قائمة على قدم وساق لمن يريد أن يكون (أميرا) فما عليه إلّا أن يدفع كثيرا ، وبغضّ النظر عن كفاءته وإخلاصه ، والطرق الّتي يتّبعها البعض في جباية الأموال ، ومدى تعسفه وظلمه لأهل الولاية (١).

ثمّ ازداد نفوذ الأتراك في سياسة البلاد ، إضافة إلى تدخّل النساء وأفراد الحاشية في الحكم ، فقد عزل (المقتدر بالله) عدة مرات ، ثمّ قتل أخيرا (كما ذكرنا آنفا) ، كما أصبح عزل وتعيين الوزراء والأمراء خلال أيّام معدودة من الأمور المألوفة ، فقد عيّن سبعة أمراء على (ماه الكوفة) (٢) خلال عشرين يوما (٣).

وعند ما نشط القرامطة في الكوفة ، أصبح القادة العسكريّون هم الّذين يتولّون منصب ولاية الكوفة ، فقد تولّاها أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان سنة (٣٠٩) (٤) للهجرة إضافة إلى ولاية (طريق الحجّ) وهو قائد عسكري.

ثمّ وليها بعده (ياقوت) و (جعفر بن ورقاء) وغيرهما.

وفي سنة (٣٢٨) للهجرة استحدثت ولاية جديدة هي (ولاية طريق الكوفة ـ مكّة) وقد عيّن عليها أبو بكر البرجمالي ، وذلك بعد عزل الحسن ابن هارون ، ثمّ تولّاها (بجكم) بعد عزل (لؤلؤ) (٥).

__________________

(١) حسام الدين السامرائي ـ المؤسسات الإدارية. ص ١١٦.

(٢) ماه الكوفة : الدينور.

(٣) أمينة البيطار ـ تجارب الأمم لمسكويه. ص ١٠٥ ومعن صالح مهدي ـ الكوفة في العصر العبّاسي. ص ٤٩.

(٤) حمدان عبد المجيد الكبيسي ـ عهد الخليفة المقتدر بالله. ص ٥٢٠.

(٥) معن صالح مهدي ـ الكوفة في العصر العبّاسي. ص ٤٩.

٣١

وفي منتصف القرن الخامس الهجري ، وعند دخول السلاجقة إلى بغداد سنة (٤٤٧) (١) للهجرة انتهى منصب (الوالي) في الكوفة ، واستحدثت وظيفة (المقطع) (٢) ثمّ وظيفة (الصدر) (٣) ثمّ وظيفة (الناظر) (٤).

وأخيرا انتهت الدولة العباسيّة في أيّام آخر خليفة عبّاسي هو : (المستعصم بالله) وذلك بدخول هولاكو إلى بغداد سنة (٦٥٦) للهجرة (٥).

__________________

(١) معن صالح مهدي ـ الكوفة في العصر العبّاسي ص ٥١.

(٢) المقطع : وهو نظام إداري عسكري.

(٣) الصدر : وهو المشرف على إدارة الوحدات العسكرية في الوحدة وحمايتها.

(٤) الناظر : وهو موظف مهمته النظر في الشؤون المالية.

(٥) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ١٣ / ٣٣٦ وأمينة البيطار ـ تجارب الأمم لمسكويه ص ٦٨.

٣٢

أمراء الكوفة في عصر الخلافة الراشدة

١ ـ سعد بن أبي وقّاص

هو سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. (١)

أسلم سعد ، وهو ثالث في الإسلام ، وقد آخا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينه وبين مصعب بن عمير ، وقيل بينه وبين سعد بن معاذ (٢). وشهد سعد ، بدرا ، وأحدا ، والخندق ، والحديبيّة ، وخيبر ، وفتح مكّة ، وشهد المشاهد كلّها مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وقد أرسله الخليفة عمر بن الخطاب لفتح العراق ، فتمّ على يديه تحرير العراق من السيطرة الفارسيّة في معركتي القادسيّة والمدائن ، ثمّ استقرّ

__________________

(١) البسوي (الفسوي) ـ المعرفة والتاريخ. ج ١ / ٢٧٣ وابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ١٠١. وتاريخ الطبري ـ المنتخب من ذيل المذيل ص ٥٥٦ ومحمّد الخضري بك ـ محاضرات الأمم الإسلامية. ج ١ / ٢١٧.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ١٠٣.

(٣) المصدر السابق. ج ٣ / ١٠٥.

٣٣

سعد في المدائن.

ولمّا علم عمر بسوء حالة الجيوش الإسلاميّة في المدائن ، وتغيّر ألوانهم (وذلك لوخومة المناخ فيها) كتب إلى سعد قائلا : (إنّ العرب لا يوافقها إلّا ما وافق أبلها من البلدان ، فانزل منزلا بريّا ، بحريّا ، ليس بيني وبينكم بحر ولا جسر) (١).

فاختار سعد (الكوفة) بعد أن دلّه عليها ابن نفيلة العسّاني أو (الغسّاني) حيث قال له : (أدّلك على أرض ارتفعت عن البرّ ، وانحدرت عن الفلاة) (٢). فارتحل سعد من المدائن ، وعسكر في الكوفة في شهر محرم من سنة (١٧) للهجرة (٣) ، وقيل سنة (١٥) للهجرة (٤) ، وتمّ تخطيطها وتخطيط مسجدها ، وتخطيط قصر الإمارة ، وقد خطّط سعد منازل الكوفة للقبائل المختلفة إلى الأقسام التالية ، واعتبر الجامع (مسجد الكوفة) مركزا لها وهي (٥) :

أولا : شمال الجامع : للقبائل : سليم وثقيف وهمدان وبجيلة وتيم اللات وتغلب.

ثانيا : جنوب الجامع : للقبائل : بني أسد ، النخع ، كندة ، الأزد.

ثالثا : شرق الجامع : لقبائل الأنصار ومزينة وتميم ومحارب وأسد وعامر.

رابعا : غرب الجامع : لقبائل بجالة ، جديلة ، اللفيف ، جهينة.

__________________

(١) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ١٢٩.

(٢) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٢٠.

(٣) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ١٠٣ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٤ / ٧٦.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٢ / ٤٩٠ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٤ / ٥٣ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣ / ١٥٤.

(٥) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٢٩ ولويس ماسينيون ـ خطط الكوفة. ص ٦٣.

٣٤

ثمّ كتب سعد إلى عمر : (إنّي قد نزلت بكوفة ، منزلا بين الحيرة والفرات ، بريّا ، بحريّا ، ينبت الحلي والنصي ... (١) الخ).

وبقي سعد بن أبي وقّاص أميرا على الكوفة إلى سنة (٢١) للهجرة ، حيث شكاه أهل الكوفة وقالوا : (بأنّ سعد لا يحسن الصلاة) (٢). فبعث الخليفة عمر إلى الكوفة محمّد بن مسلمة الأنصاري ، فأخذ هذا يسأل الناس عن سعد ، فمنهم من مدحه ، ومنهم من ذمّه ، فعزله عمر ، وعيّن مكانه (عمّار بن ياسر) وعيّن عبد الله بن مسعود على بيت المال ، وقيل عزل سعد سنة (٢٠) للهجرة (٣).

ثمّ أعيد تعيين سعد بن أبي وقّاص أميرا على الكوفة مرّة ثانية سنة (٢٤) للهجرة من قبل الخليفة عثمان بن عفّان بعد عزل أميرها المغيرة بن شعبة وكان ذلك بناء على وصيّة الخليفة عمر فإنّه قال (أوصي الخليفة بعدي أن يستعمل سعدا ، فإنّي لم أعزله عن سوء ، ولا عن خيانة) (٤).

كما أنّ عمر حينما اختار ستّة رجال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكون إليهم اختيار الخليفة الجديد من بعده كان سعد أحدهم ، وقال عمر لأصحابه ، وهو يوصيهم ، ويودّعهم : (إن وليها سعد فذاك ، وإن وليها غيره فليستعن بسعد) (٥).

__________________

(١) النصي : نبات لونه أبيض جيد للمرعى.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ١٤٩ وابن حبان. ج ٢ / ٢٢٠ وتاريخ بغداد ـ الخطيب. ج ١ / ١٤٥ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٣٣ والبلاذري ـ فتوح البلدان ص ٢٧٣.

(٣) ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٢٠ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٢ / ٥٦٩.

(٤) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ١٥٤ وتاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٤٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٧٩ وخالد محمّد خالد ـ وداعا عثمان ـ ١٣٢.

(٥) خالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ١ / ١٥٣.

٣٥

وفي سنة (٢٦) للهجرة (١) ، حصل خلاف بين سعد وبين عبد الله بن مسعود في قرض كان سعد قد اقترضه من بيت المال ، ولم يتمكّن من تسديده ، فغضب عليه الخليفة عثمان بن عفّان فعزله عن الكوفة وعيّن مكانه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وقيل عزله سنة (٢٥) للهجرة (٢) ، وولّى جبير ابن مطعم.

وعند ما دخل الوليد بن عقبة على سعد ، سأله سعد قائلا : (يا أبا وهب .. أمير ، أمّ زائر؟!) ، فقال الوليد : أرسلوني أميرا.

فقال سعد بدهشة واستغراب (ما أدري ، أحمقت بعدك ، أمّ كيّست بعدي؟!). (٣) ويحكى أنّ حرقة (٤) بنت النعمان بن المنذر ، كانت إذا ذهبت إلى بيعتها (٥) يفرش لها الطريق بالحرير والديباج ، حتّى تعود إلى قصرها ، ولمّا هلك النعمان نكبها الزمان ، وأصبحت راهبة ، وعند ما كان سعد في القادسيّة (٦) ، ذهبت إليه تطلب مساعدته مع جماعتها ، فلمّا دخلن عليه لم يعرفهن سعد ، فقال : أفيكن حرقة؟ فأجابته حرقة : نعم يا أمير. فقال لها سعد باستغراب : أنت حرقة؟!

قالت : نعم. ثمّ أردفت تقول" (إنّ الدنيا دار زوال ، ولا تدوم على حال ،

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٥١ وابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٤٥ وخالد محمّد خالد ـ وداعا عثمان ص ١٣٢.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٥٤١ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٨٢.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٨٢.

(٤) حرقة : بنت النعمان بن المنذر (ملك الحيرة) واسمها هند ، ولقبت بحرقه ، وأخوها حريق بن النعمان. قال الشاعر :

نقسم بالله نسلم الحلقة

ولا حريقا وأخته الحرقة.

الأصبهاني أبو الفرج ـ الأغاني. ج ٢٤ / ٦٣. وقيل كانت شاعرة.

(٥) البيعة : الكنيسة.

(٦) القادسيّة : مدينة قرب النجف. وفيها كانت معركة القادسيّة.

٣٦

تنتقل بأهلها انتقالا ، وتعقبهم بعد حال حالا ، كنا ملوك هذا المصر ، يجبى إلينا خراجه ، ويطيعنا أهله ، مدى المدّة وزمان الدولة ، فلمّا أدبر الأمر وانقضى ، صاح بنا صائح الدهر ، فصدع عصانا ، وشتّت شملنا ، وكذلك الدهر يا سعد ، إنّه ليس يأتي قوما بمسرّة ، إلّا ويعقبهم بحسرة ، ثمّ أنشأت تقول (١) :

فينا نسوس الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف

فأوف لدنيا لا يدوم نعيمها

تقلب ثارات بنا وتصرف

فقال سعد : قاتل الله عدي بن زيد كان ينظر إليها حيث يقول :

إنّ للدهر صولة فاحذرنها

لا تبيتن قد أمنت الدهورا

قد يبيت الفتى معافى نعيمها

ولقد كان آمنا مسرورا

وبينما هي واقفة أمام سعد ، إذ دخل عمرو بن معد بن يكرب الزبيدي وكان كثير الزيارة لأبيها في الجاهلية ، فلمّا رآها ، قال لها بدهشة : أنت حرقة؟ قالت : نعم.

فقال لها عمرو : (فما دهمك فأذهبت محمودات شيمك؟ وأين تتابع نعمتك وسطوات نقمتك؟).

فقالت حرقة : (يا عمرو ، إنّ للدهر لسطوات وعثرات ، وعبرات تعثر بالملوك وأبنائهم ، فتنزلهم بعد رفعة ، وتفردهم بعد منعه ، وتذلّهم بعد عزّة ، إنّ هذا لأمر كنّا ننتظره ، فلمّا حلّ بنا لم ننكره) (٢). فأكرمها سعد ، وأحسن عطائها ، ولمّا خرجت سألتها النسوة : ماذا أعطاك الأمير؟ فقالت (٣) :

حاط لي ذمتي ، وأكرم وجهي

إنّما يكرم الكريم الكريم

وسمع الخليفة عمر بأنّ سعدا قد بنى دارا له بالكوفة ، يسمّيها الناس

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٧٩ وعبد القادر البغدادي ـ خزانة الأدب. ج ٧ / ٦٨.

(٢) المصدر الاوّل السابق. ج ٢ / ٨٠.

(٣) عبد القادر البغدادي ـ خزانة الأدب. ج ٧ / ٦٨ والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج ١ / ٥٤٩.

٣٧

(قصر سعد) فطلب عمر من محمّد بن مسلمة أن يذهب إلى الكوفة ويحرق باب قصر سعد ، فذهب ابن مسلمة إلى الكوفة ، وحرق باب القصر ، ولمّا علم سعد بذلك طلب إحضار الشخص الّذي حرق الباب ، فجاء ابن مسلمة وأعطاه كتابا من عمر جاء فيه : (بلغني أنّك بنيت قصرا ، اتخذته حصنا ، ويسمّى قصر سعد ، وجعلت بينك وبين الناس بابا ، فليس بقصرك ، ولكنّه قصر الخبال ، أنزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه ، ولا تجعل على القصر بابا تمنع الناس من دخوله ، وتنفيهم عن حقوقهم ، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت) (١).

وقيل إنّ سعد بن أبي وقّاص لم يشارك في معركة القادسيّة ، لأنّه كان مريضا ، ولكنه جلس يراقب المعركة عن كثب.

وكان خليفة بن عبد قيس بن بوّ قد شارك في حرب القادسيّة فقال (٢) :

أنا ابن بوّ أذكره الموت أبو إسحاق (٣)

ومعي مخراقي أضرب كلّ قدم وساق

وقيل إنّ سعد بن أبي وقّاص ، قد دعا على أهل الكوفة ، فقال : (اللهم لا ترضهم بأمير ، ولا ترضى أميرا بهم) (٤).

وعند ما بويع الإمام عليّ عليه‌السلام بالخلافة ، بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفّان ، أرسل إلى سعد بن أبي وقّاص وإلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وإلى محمّد بن سلمة ، وقال لهم : (لقد بلغني عنكم هنات) فقال له سعد : (صدقوا ، لا أبايعك ، ولا أخرج معك حيث تخرج ، حتّى تعطيني سيفا يعرف المؤمن

__________________

(١) البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ١١٤.

(٢) البلاذري ـ أنساب الأشراف. ج ١ / ١٤٨.

(٣) أبو إسحاق : كنية سعد بن أبي وقّاص.

(٤) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٢ / ٢٧٠.

٣٨

من الكافر) (١).

مات سعد بن أبي وقّاص في قصره بالعقيق سنة (٥٥) للهجرة (٢) ، وكان عمره (٨٣) سنة ، فحمل إلى المدينة ، وصلّى عليه مروان بن الحكم (٣) ، ثمّ دفن بالبقيع وقد ترك من الذهب والفضة الشيء الكثير. وكان سعد أوّل أمير على الكوفة (٤) ، في عصر الخلفاء الراشدين.

٢ ـ محمّد بن مسلمة الحارثي

هو محمّد بن مسلمة بن حريش بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الحارثي الأنصاري (٥) ، وكنيته : أبو عبد الله وقيل أبو عبد الرحمن.

استخلفه سعد بن أبي وقّاص أميرا على الكوفة سنة (١٧) للهجرة (٦).

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أرسله إلى (القرطاء) (٧) لمحاربتهم ، ولمّا وصل اليهم ، قتل منهم رجلا واحدا ، فانهزم الباقون على أثره ، ثمّ رجع إلى المدينة بعد أن غنم في غارته تلك (١٥٠) بعيرا و (٣٠٠٠) شاة (٨).

وفي سنة (٦) للهجرة ، أرسله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذي القصّة (٩) ، وعددهم مائة رجل فتراشقوا بالرماح ، فسقط محمّد بن مسلمة جريحا ورجع إلى

__________________

(١) ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٧٠.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٣ / ١٤٩ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢١٢.

(٣) كان مروان بن الحكم أمير المدينة آنذاك من قبل معاوية بن أبي سفيان.

(٤) أبو هلال العسكري ـ الأوائل. ص ٢٨١.

(٥) ابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٣٦٢.

(٦) زامباور ـ الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي. ص ٦٧.

(٧) القرطاء : وهم بطن بن كلاب.

(٨) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٢ / ٦٠.

(٩) ذي القصّة : وهم بني ثعلبة ، وبني عوال من ثعلبة ، وهم جميعا معروفون بذي القصة.

٣٩

المدينة (١). وعند ما قتل كعب بن الأشرف ، وقد اشترك في قتله : محمّد بن مسلمة وأبو عيسى بن جبر ، وعبّاد بن بشر ، ولمّا رآهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (أفلحت الوجوه) (٢).

وعند ما بويع الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بالخلافة في المدينة كتب إلى ابن مسلمة يدعوه لمبايعته ، فكتب إليه ابن مسلمة قائلا : (إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني إذا اختلف أصحابه ، ألّا أدخل فيما بينهم ، وأن أضرب بسيفي صخر أحد ، فإذا انقطع أقعد في بيتي حتّى يأتيني يد خاطئة ، أو منيّة قاضيّة ، وقد فعلت ذلك) (٣). ثمّ قعد محمّد بن مسلمة في بيته ، واعتزل الفتنة (٤). كما وكتب معاوية (٥) بن أبي سفيان إلى ابن مسلمة ، يدعوه إلى مناصرته في مطالبته بدم عثمان بن عفّان ، فكتب إليه ابن مسلمة قائلا : (... ولعمري يا معاوية ، ما طلبت إلّا الدنيا ، ولا اتبعت إلّا الهوى ، فإن تنصر عثمان ميتا ، فقد خذلته حيا ، وما أخرجني الله من نعمة ، ولا صرت إلى شك ، فإن أبصرت خلاف ما نحن عليه ونحن أنصار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٦).

وكان الّذي كتب كتاب معاوية إلى مسلمة هو مروان بن الحكم.

ثمّ ختم محمّد بن مسلمة كتابه بأبيات شعر لشاعر من الأنصار نقتطف منها (٧) :

أمروان ، دع هذا وفي الأمر جمجمه

ولا تطلبنّ منا جواب ابن مسلمه

__________________

(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٢ / ٦٠.

(٢) البخاري ـ التاريخ الكبير. ج ١ / ١١.

(٣) ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٧٠.

(٤) ابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٥٣.

(٥) الّذي كتب الكتاب هو مروان بن الحكم.

(٦) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٢ / ٤٢٤.

(٧) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٢ / ٤٢٤.

٤٠