أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

وعند ما قبض خالد القسريّ عل عمر بن هبيرة ، قال رجل من بني أسد يجيب الفرزدق : (١)

عجب الفرزدق من فزارة أن رآى

عنها أميّة بالمشارق تنزع

فلقد رآى عجبا وأحدث بعده

أمرا تضجّ له القلوب وتفزع

بكت المنابر من فزارة شجوها

فاليوم من قسر تذوب وتجزع

وملوك خندف أسلمونا للعدا

لله درّ ملوكنا ما تصنع

كانوا كتاركة بينها جانبا

سفها وغيرهم تصون وترضع

ثمّ تمكّن عمر بن هبيرة من عمل نفق داخل السجن فهرب منه ، وفي ذلك قال الفرزدق : (٢)

ولمّا رأيت الأرض قد سد ظهرها

ولم تر إلا تحتها لك مخرجا

دعوت الّذي ناداه يونس بعد ما

هوى في ثلاث مظلمات ففرجا

فأصبحت الأرض قد سرت سيرة

وما سار سار مثلها حين أدلجا

خرجت ولم تمنن عليك شفاعة

سوى حثّك التقريب منآل أعوجا

فلمّا سمع ابن هبيرة بأنّ الفرزدق قد مدحه فقال : ما رأيت أشرف من الفرزدق ، هجاني أميرا ومدحني أسيرا. وعند ما سمع خالد القسريّ بهروب ابن هبيرة من السجن أرسل في طلبه مالك بن المنذر بن الجارود ، فتمكّن هذا من اللّحاق به فقبض عليه فقتله. كان ذلك سنة (١١٠) (٣) للهجرة.

وقيل سنة (١٠٧) (٤) تقريبا.

فلمّا سمع هشام بن عبد الملك بقتل ابن هبيرة تألّم كثيرا ، فأمر بحبس

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١١ / ٣٧٩.

(٢) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ١٨٦.

(٣) البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣١.

(٤) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٤ / ٥٦٢.

٣٦١

مالك بن الجارود وعذّب في الحبس حتّى مات.

وعند ما هرب ابن هبيرة من سجن خالد بن عبد الله القسريّ مرّ بالرقّة السوداء ، وإذا بامرأة من بني سليم تحدّث جارتها ليلا على سطح دارها وتقول : (لا والّذي أسأله أن يخلص عمر بن هبيرة مما هو فيه).

فوقف عمر بن هبيرة وقال لأصحابه : هل معكم شيء؟ فأتوه بمائة درهم ، فوضعها في كيس ورمى به نحو المرأة وقال لها : (قد خلّص الله ابن هبيرة مما هو فيه فطبي نفسا). (١)

ودخل أعرابيّ على عمر بن هبيرة وقال (٢) :

أصلحك الله خذ ما بيدي

فما أطيق العيال إذ كثروا

ألّح دهر أنحى بكلكله

فأرسلوني اليك وانتظروا

رجوك للدهر أن تكون لهم

غيث سحاب إن خانهم مطر

فضحك ابن هبيرة وقال للأعرابي : أرسلوك اليّ وانتظروا ، إذن والله لا تجلس حتّى ترجع اليهم غانما ، فأمر له بألف دينار.

وهجا الفرزدق يوما عمر بن هبيرة فحبسه ابن هبيرة ولم يقبل أيّ شفاعة فيه ، فدخل الشاعر أبو نخيلة (٣) على ابن هبيرة في يوم عيد الفطر ، فقال : (٤)

أطلقت بالأمس أسير بكر

فهل فداك نقري ووفري؟

من سبب أو حجة أو عذر

ينجي التميميّ القليل الشكر

من حلق القيد الثقال السمر

ما زال مجنونا على أست الدهر

__________________

(١) التوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٣ / ٨٤. والزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ٥١٥.

(٢) المبرد ـ الكامل. ج ١ / ١٩٠.

(٣) أبو نخيلة : ابن حزل بن زائدة بن لقيط ، وأبو نخيلة : هو اسمه وليس لقبه.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٠ / ٣٩٦.

٣٦٢

ذا حسب ينمو (١) وعقل يحري (٢)

هبه لأخوالك يوم الفطر

فأمر ابن هبيرة بإطلاق سراح الفرزدق. وكان ابن هبيرة قد أطلق قبله سراح رجلا من عجل جيء به من عين التمر ، فتشفعت به قبيلة بكر ابن وائل ، ولمّا أخرج الفرزدق من الحبس ، سأل عن الّذي تشفع له ، فقيل له : إنه أبو نخيلة. فرجع الفرزدق إلى الحبس وقال : (لا أريحه ولو متّ ، انطلق قبلي بكري وأخرجت أنا بشفاعة دعي؟ والله لا أخرج هكذا ولو من النار). (٣) ولمّا سمع ابن هبيرة ضحك كثيرا وأمر بإخراجه من الحبس وقال له : (وهبتك لنفسك).

وقال بشار بن برد يمدح عمر بن هبيرة بقصيدة طويلة نقتطف منها الأبيات التالية : (٤)

يخاف المنايا إن ترحلت صاحبي

كأنّ المنايا في المقام تناسبه

فقلت له : إنّ العراق مقامه

وخيم إذا هبت عليك جنائبه

إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا

صديقك لم تلق الّذي لا تعاتبه

فعش واحدا أو صل أخاك فإنه

مقارف ذنب مرّة ومجانبه

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى

ضمأت وأيّ الناس تصفي مشاربه

٦٠ ـ عبد العزيز بن الحارث :

هو : عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص. استخلفه عمر

__________________

(١) ينمو : يعلو.

(٢) يحري : ينقص.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٠ / ٣٩٧.

(٤) المصدر السابق. ج ٣ / ٢٣٦.

٣٦٣

ابن هبيرة أميرا على الكوفة سنة (١٠٣) (١) للهجرة وذلك بعد أن جمعت ولاية العراقين لعمر بن هبيرة جمعها له يزيد بن عبد الملك ثمّ عزل عبد العزيز بن الحارث عن الكوفة ، عزله عمر بن هبيرة ، وولّى مكانه سعيد بن عمرو الحرشي.

وفي سنة (٩٦) للهجرة كان عبد العزيز بن الحارث عند قتيبة بن مسلم الباهلي الّذي كان أميرا على خراسان آنذاك ، ولمّا جاء سليمان بن عبد الملك إلى الخلافة وكان (هذا) يكره قتيبة كرها شديدا لأنّ قتيبة كان قد وافق الوليد بن عبد الملك على خلع سليمان من ولاية العهد وأن يعهد بالخلافة إلى عبد العزيز بن الوليد ، فأرسل سليمان بن عبد الملك جيشا لمحاربة قتيبة بن مسلم الباهلي فدخل الجيش إلى المدينة فخرج عبد العزيز ابن الحارث يبحث عن ولده (عمر) فلمّا وجده أردفه خلفه وترك قتيبة بن مسلم وحده فقتلوه. (٢)

٦١ ـ سعيد بن عمر الحرشي :

هو : سعيد بن عمرو الأسود بن مالك بن كعب بن وقدان بن الحريش ، وكنيته : أبو يحيى. (٣)

وسعيد من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

استخلفه عمر بن هبيرة أميرا على الكوفة سنة (١٠٣) وذلك بعد عزل عبد

__________________

(١) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٧٥.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٥٧٦.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٦١٩. وصالح خريسات ـ تهذيب تاريخ الطبري. ص ٤٣١. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١٠٣.

٣٦٤

العزيز بن الحارث عنها. (١)

وسعيد بن عمر الحرشي : هو أحد قادة العرب المعروفين بشجاعتهم وبسالتهم ، وقد أرسله مسلمة بن عبد الملك لمحاربة (شؤذب الخارجيّ (الّذي شكاه أهل الكوفة). وعند ما التقى الجيشان رآى (شؤذب) قلة جيشه وكثرة جيش سعيد ، فخطب في أصحابه وقال : (من كان يريد الشهادة فقد جاءته ، ومن كان يريد الدنيا فقد ذهبت). فهجموا على جيش سعيد فأزالوهم عن مواقعهم فخاف سعيد الفضيحة فلام أصحابه وقال لهم : (من هذه الشرذمة ، لا أبا لكم تفرّون!! يا أهل الشوم ، يوما كأيّامكم). فحملوا عليهم حملة رجل واحد فقتلوا (شؤذب) وأصحابه. (٢)

وفي سنة (١٠٣) (٣) للهجرة عزل سعيد خذينة عن إمارة خراسان ، عزله عمر بن هبيرة وولّى مكانه سعيد الحرشي ، وقيل إنّ الّذي ولّى سعيد إمارة خراسان هو يزيد بن عبد الملك. وحينما ذهب سعيد الحرشي إلى خراسان قال نهار بن توسعة : (٤)

فهل من مبلغ فتيان قومه

بأنّ النبل ريشة كلّ ريشي

وأنّ الله أبدل من سعيد

سعيدا لا المخنث من قريش

ولمّا ذهب سعيد إلى خراسان ، كان الناس أمام العدو وقد نكبوا فحثهم على الجهاد وقال لهم : (إنّكم لا تقاتلون بكثرة ولا بعدّة ولكن تقاتلون بنصر الله وعزّ الإسلام فقولوا : لا حول ولا قوّة بالله العليّ العظيم)

__________________

(١) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٧٥.

(٢) الترمانيني ـ أزمنة التاريخ الإسلاميّ. ج ١ / ٥٤٢.

(٣) صالح خريسات ـ تهذيب تاريخ الطبري. ص ٤٣١. وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٧ / ٨٣. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١٠٣. والزركلي ـ ترتيب الأعلام حسب الأعوام. ج ١ / ١٨٠. والترمانيني ـ أزمنة التاريخ الإسلاميّ. ج ١ / ٦٨١.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١٠٣. وصالح خريسات ـ تهذيب تاريخ الطبري. ص ٤٣١.

٣٦٥

ثمّ قال : (١)

فلست لعامر إن لم تروني

أمام الخيل أطعن بالعوالي

وأضرب هامة الجبار منهم

بعضب الحدّ حودت بالصقال

فما أنا بالحروب بمستكين

ولا أخشى مصاولة الرجال

أبى لي والدي من كلّ ذمّ

وخالي في الحوادث خير خال

فلمّا سمع أهل الصغد بمجيء سعيد الحرشي ، خافوا على أنفسهم ، فقال لهم ملكهم : (لا تفعلوا ، أقيموا واحملوا السلاح معه ، وأعطوه خراج عمّا مضى من مدد سابقة ، واعتذروا إليه). (٢)

وقيل ذات يوم لعمر بن هبيرة ، بأن سعيد الحرشي قال : (بأنّ عمر بن هبيرة ما هو إلا عامل من عماله) ، فغضب عليه ابن هبيرة فعزله وعذّبه.

وكان سعيد الحرشي ، لا يخاطب ابن هبيرة بالإمارة ، وإنّما يناديه بكنيته : (أبو المثنّى). وكان سعيد يقول أيضا : (لو طلب منّي عمر درهما واحدا يضعه في عينه لما أعطيته).

ولمّا عذّبه ابن هبيرة ، أعطاه كل ما أراد ، فقيل له : ألم تزعم أنّك لا تعطيه درهما واحدا؟ فقال سعيد : (ألا ترى أنّ الحديد قد آلمني).

فقال أذينة بن كليب أو (كليب بن أذينة): (٣)

تصبّر أبا يحيى فقد كنت علمنا

صبورا ونهاضا بثقل المغارم

وتمرّ الأيّام ، ويدور دولاب الزمان ، ويأتي خالد بن عبد الله القسريّ أميرا على العراق وعلى المشرق كلّه ، فيهرب عمر بن هبيرة ، فيطلب خالد القسريّ من سعيد الحرشي أن يتعقبه ويقبض عليه ، فيخرج سعيد في طلب

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١٠٤.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٧ / ١٦.

٣٦٦

ابن هبيرة ، فيجده ويقبض عليه ، فيقول سعيد : (يا أبا المثنّى ، ما ظنّك بيّ الآن!!) فيجيبه ابن هبيرة : (ظنّي بك أنّك لا تدفع رجلا من قومك إلى قريش). فقال له سعيد : هو ذلك ، وقيل إنّ خالد القسريّ قد عفا عنه. (١)

وفي سنة (١٠٤) للهجرة ، عزل سعيد الحرشي عن خراسان. (٢)

وبعد استشهاد الجرّاح بن عبد الله الحكميّ سنة (١١٢) للهجرة ، بعث هشام بن عبد الملك بسعيد الحرشي أميرا على أرمينية وأذربيجان ، وكان سعيد بطلا يقال عنه فارس قيس.

مات سعيد بن عمرو الحرشي سنة (١١٢) للهجرة. (٣)

٦٢ ـ الصقر بن عبد الله المزنيّ :

هو : الصقر بن عبد الله بن مرّة بن غطفان المزنيّ ، ولّاه عمر بن هبيرة إمارة الكوفة سنة (؟) للهجرة ، وبقي أميرا على الكوفة إلى أن مات يزيد بن الوليد بن عبد الملك. (٤)

ولمّا مات موسى بن طلحة بن عبيد الله بالكوفة سنة (١٠٣) للهجرة ، وقيل سنة (١٠٤) للهجرة صلى عليه الصقر بن عبد الله المزنيّ. (٥)

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١١٦.

(٢) صالح خريسات ـ تهذيب تاريخ الطبري. ص ٤٣٣. وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٧ / ٨٩. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١١٥. والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلاميّ. ج ١ / ٦٨٦.

(٣) الزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ١٨٠.

(٤) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٣٣٣. والبلاذري ـ أنساب الأشراف. ج ١ / ٤٥١. والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٢.

(٥) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ١٦٣.

٣٦٧

٦٣ ـ موسى بن طلحة :

هو : موسى بن طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن تيم ابن مرّة ، وكنيته : أبو عيسى ، وقيل : أبو محمّد.

استخلفه عمر بن هبيرة على إمارة الكوفة سنة (؟) (١) للهجرة ، وذلك عند ما ذهب إبن هبيرة لمحاربة (فديك الخارجيّ) وله يقول عبيد الله بن شبل البجليّ : (٢)

تباري ابن موسى يابن موسى ولم تكن

يداك جميعا تعدلان له يدا

وكان موسى بن طلحة من جملة الّذين هربوا من الكوفة إلى البصرة أيّام سيطرة المختار بن عبيد الثقفيّ على الكوفة سنة (٦٦) للهجرة ، ثمّ عاد موسى بن طلحة إلى الكوفة ، وبقي فيها إلى أن مات سنة (١٠٣) للهجرة ، وقيل سنة (١٠٤) وصلى عليه الصقر بن عبد الله المزنيّ (أمير الكوفة آنذاك). (٣)

وكان موسى بن طلحة وأخوه (إسحاق) من الشهود الّذين شهدوا على حجر بن عدي الكنديّ ، عند زياد بن أبيه (أمير الكوفة) مما تسببا في قتل حجر وجماعته. (٤)

وقد روى موسى بن طلحة الحديث من عثمان بن عفّان ، وطلحة بن الزبير ، وأبي ذر الغفاري ، وله أحاديث كثيرة ، فعنه أنّه قال : (كان تبعا خرج في العرب يسير ، حتّى تحيّروا بظاهر الكوفة ، وكان منزلا من منازله ، فبقي

__________________

(١) نفس المصدر السابق. والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٢.

(٢) المصدر الاوّل السابق.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٤٨٣.

٣٦٨

فيها ضعاف الناس ، فسميت (الحيرة) لتحيّرهم ، ثمّ خرج (تبع) سائرا فرجع اليهم وقد بنوا وأقاموا ، وأقبل (تبع) إلى اليمن ، وأقاموا (هم) ففيهم من قبائل العرب كلّها : (من بني لحيان ، وهذيل ، وتميم ، وجعفي ، وطي ، وكليب). (١)

وقال موسى بن طلحة : كان لعثمان بن عفّان دين على طلحة مقداره خمسون ألف دينار ، وبينما كان الخليفة عثمان ذاهبا إلى المسجد ذات يوم فلقيه طلحة فقال : (لقد هيّأ الله دينك فخذه) ، فقال له عثمان : (هو لك يا أبا محمّد ، خذه معونة لك على مروءتك). (٢)

وقال موسى بن طلحة أيضا : رأيت عروة بن شبيم قد ضرب مروان ابن الحكم يوم الدار (٣) بالسيف على رقبته ، فقطع إحدى عليباويه (٤) ، فعاش مروان أوقص. (٥)

وقال مروان بن الحكم في ذلك : (٦)

ما قلت يوم الدار للقوم حاجزوا

رويدا ولا استبقوا الحياة على القتل

ولكننّي قد قلت للقوم ما صنعوا

بأسيافكم كيما يصلن إلى الكهل

وقيل فصحاء الناس ثلاثة : موسى بن طلحة التيمي ، وقبيصة بن جابر الأسديّ ، ويحيى بن يعمر. (٧)

وكان يقال لموسى بن طلحة (المهديّ) لفضله. (٨)

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ١ / ٥٦٧.

(٢) المصدر السابق. ج ٤ / ٤٠٤.

(٣) يوم الدار : اليوم الّذي حوصر فيه الخليفة عثمان بن عفّان في داره ثمّ قتل.

(٤) إحدى عليباويه : عصبة صفراء في صفحة العنق.

(٥) أوقص : قصير العنق.

(٦) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٦ / ١١.

(٧) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٤ / ٣٦٦.

(٨) الزركلي ـ الأعلام. ج ١ / ١٧٨.

٣٦٩

مات موسى بن طلحة سنة (١٠٣) (١) للهجرة ، وقيل مات سنة (١٠٤) (٢) للهجرة وقيل سنة (١٠٦) (٣)

للهجرة. وصلّى عليه الصقر بن عبد الله المزنيّ (أمير الكوفة آنذاك).

٦٤ ـ خالد بن عبد الله القسريّ :

هو : خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز بن عامر بن عبقري ، القسريّ ، البجليّ ، وكنيته : أبو الهيثم ، وأبو القاسم ، وأبو يزيد ، وهو من أهل دمشق. (٤)

ولّاه هشام بن عبد الملك إمارة (العراقين) سنة (١٠٥) للهجرة ، بعد عزل عمر بن هبيرة ، وجمعت له ولاية (العراقين) سنة (١٠٦) للهجرة ، وكذلك المشرق كلّه. (٥)

نشأ خالد القسريّ بالمدينة المنوّرة وكان في حداثته متخنث ، يماشي المتخنثين والمغنّين ، وكان وسيطا بين عمر بن أبي ربيعة وبين المعجبات به فيحمل الرسائل بينهما ، وكان يقال له : (خالد الخريث). (٦)

وكان جدّه (يزيد بن أسد) يلقب (خطيب الشيطان) وكان أكذب

__________________

(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ١٦٣. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١١٧. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٤ / ٣٦٦. وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ١٢٥.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١١٧.

(٣) الزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ١٧٨.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٢ / ١. وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٧ / ٣٦٩. والمزنيّ ـ تهذيب الكمال. ج ٩ / ١٠٨. والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ١ / ٨٢. (أحداث سنة ١٢٦ ـ ١٢١).

(٥) تاريخ الطبري. ج ٧ / ٢٦. وصالح خريسات ـ تهذيب تاريخ الطبري. ص ٤٣٤. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٢١٩. وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٧ / ١٠٠. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٥ / ٤٢٦. وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ١٣٣. وماسينيون ـ خطط الكوفة. ص ٩٥.

(٦) الخريث : الدليل الماهر في الدلالة.

٣٧٠

الناس في كلّ شيء ، ثمّ نشأ ابنه عبد الله فكان على شاكلة أبيه ، ثمّ نشأ (الحفيد) خالد ففاق الجماعة ، إلّا أنّه اختلف عنهما ، حيث اشتهر بالفصاحة والبلاغة ، ويعد من خطباء العرب المشهورين ، وكان جوادا ، كثير العطاء.

وكانت أم خالد القسريّ نصرانية (روميّة) وبنى لها كنيسة في ظهر قبلة مسجد الكوفة ، فكان إذا رفع الأذان في المسجد ، ضربت النواقيس في كنيستها ، وإذا قام الخطيب على المنبر ، رفع النصارى أصواتهم بقراءاتهم (التراتيل) ، فقال الفرزدق في ذلك يهجو القسريّ : (١)

ألا قبّح الرحمن ظهر مطيّة

أتتنا تخطى من بعيد بخالد

وكيف يؤم المسلمين وأمّه

تدين بأن الله ليس بواحد

بنى بيعة فيها الصليب لأمّه

ويهدم من بغض منار المساجد

وكان خالد القسريّ (ناصبيّا) يكره الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وينال منه (٢) ، وقد شاهد خالد يوما (عكرمة) مولى عبد الله بن عباس وكانت على رأسه عمامة سوداء ، فقال خالد : (إنّه بلغني أنّ هذا العبد يشبه عليّ بن أبي طالب ، وأنّي لأرجو أن يسوّد الله وجهه ، كما سوّد وجه ذاك). (٣)

وفي أيّام حكم الحجّاج بن يوسف الثقفيّ ، كان العراقيّون يهربون إلى مكّة والمدينة ، وعند ما عين خالد القسريّ أميرا على الحجاز ، طرد كلّ العراقيين الموجودين فيهما ، وهدّد كلّ من أنزل أو آوى عراقيّا ، أو أجّره دارا (٤) ، وقيل إنّ الوليد بن عبد الملك ، أمره بإخراج كلّ العراقيين

__________________

(١) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٣٦. وأبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٢ / ٢١. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٥ / ٤٢٧.

(٢) كان القسريّ يفعل ذلك نفيا للتهمة ، وتقربا إلى الأمويين.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٢ / ١٨.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٥٧٧.

٣٧١

الموجودين في مكّة والمدينة ، وإرسالهم إلى الحجّاج. (١)

وعند ما كان خالد القسريّ أميرا على مكّة ، طلب من رئيس الحجبة أن يفتح له باب الكعبة فرفض ، فأمر خالد بضربه مائة سوط ، فذهب الشيبي (٢) إلى سليمان بن عبد الملك ، يشكو إليه خالد القسريّ ، فدخل على سليمان ، ودخل معه الفرزدق ، فقال الفرزدق : (٣)

سلوا خالدا لا أكرم الله خالدا

متى وليت قسر قريشا تدينها؟

أقبل رسول الله أم ذاك بعده

فتلك قريش قد أغث سمينها؟

رجونا هداه لا هدى الله خالدا

فما أمّه بالأمّ يهدي جنينها

فأمر سليمان بن عبد الملك بقطع يد خالد ، إلّا أنّ يزيد بن المهلّب ، كان جالسا عنده فتشفع له ، عندها أمر سليمان بضرب خالد مائة سوط ، فقال الفرزدق :

لعمري لقد صبت على ظهر خالد

شآبيب ما استهللن من سبل القطر

أيضرب في العصيان من كان طائعا

ويعصي أمير المؤمنين أخو قسر؟

فلو لا يزيد بن المهلّب حلّقت

بكفّك فتخاء إلى الفرخ في الوكر

لعمري لقد صال ابن شيبة صولة

أرتك نجوم اللّيل ظاهرة تسري

وعند ما كان خالد القسريّ أميرا على الكوفة ، هجاه الفرزدق ، فأمر خالد بحبسه ، فقال الفرزدق وهو في الحبس : (٤)

أبلغ أمير المؤمنين رسالة

فعجّل هداك الله نزعك خالدا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي. ج ٣ / ٣٤.

(٢) الشيبي : نسبة إلى آل شيبة ، وهم سدنة الكعبة حينذاك.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١٧٩. وأبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٩ / ٢٢.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٩ / ٢٢.

٣٧٢

بنى بيعة (١) فيها الصليب لأمه

وهدّم من بغض الإله المساجدا

فبعث هشام بن عبد الملك إلى خالد القسريّ ، يأمره بإطلاق سراح الفرزدق ، فأطلقه.

وذهب الفرزدق يوما إلى خالد القسريّ يطلب مساعدته في (ديات) (٢) قد دفعها ، فقال له خالد : (إيه يا فرزدق!! كأنّي بك قد قلت : آتي الحائك ابن الحائك ، فأخدعه عن ماله إن أعطاني ، أو أذمّه إن منعني ، فأنا حائك ابن حائك ولا أعطيك شيئا ، فاذممني كيف شئت) ، فهجاه الفرزدق بأشعار كثيرة ، نذكر منها : (٣)

ليتني من بجيلة اللؤم حتّى

يعزل العامل (٤) الّذي بالعراق

فإذا عامل العراقين (٥) ولّى

عدت في أسرة الكرام العتاق

وادّعى رجل النبوة في زمن خالد القسريّ ، فجيء به إلى خالد فقال له ، ماذا عندك؟ فقال : قال الله تعالى في القرآن : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). وقلت أنا ما هو أحسن منه : (إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وجاهر ، ولا تطع كل ساحر وكافر). (٦)

فأمر خالد بقتله وصلبه ، فمر به الشاعر خلف بن خليفة ، ورآه مصلوبا على خشبه فقال : (إنا أعطيناك العمود ، فصل لربك على عود ، وأنا ضامن عنك ألّا تعود).

وقيل دخل شاعر على خالد القسريّ يوم جلوسه للشعراء ، فلمّا رآى

__________________

(١) البيعة : الكنيسة ـ محل عبادة المسيحيين.

(٢) الديات : مفردها دية : وهي الّتي تدفع إلى ذوي القتيل أو : هي المبالغ الّتي تدفع للصلح.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٢ / ١٧.

(٤) العامل : الوالي ، الأمير.

(٥) عامل العراقين : أي الكوفة والبصرة ، ويقصد به خالد القسريّ.

(٦) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٦ / ١٤٥.

٣٧٣

كثرة ما قاله الشعراء في مدح خالد ، سكت ولم يتكلّم ، فقال له خالد : سل حاجتك ، فقال الشاعر : مدحت الأمير ببيتين من الشعر ، فلمّا سمعت قول الشعراء ، أستصغرت شعري. فقال له خالد : وما هما؟ فقال الشاعر : (١)

تبرعت لي بالجود حتّى نعشتني

وأعطيتني حتّى حسبتك تلعب

فأنت الندى وابن الندى وأبو الندى

حليف الندى ما للندى عنك مذهب

فأمر خالد بإعطاء دينه ، ثمّ أعطاه مثله.

وفي سنة (١١٩) للهجرة ، ثار بالكوفة (المغيرة بن سعيد) ومعه سبعة رجال ، وكانوا يدعون (الوصفاء) ولمّا سمع القسريّ بثورتهم (وكان وقتذاك يخطب في مسجد الكوفة) فقال : (أطعموني ماء) ، فقال يحيى بن نوفل : (٢)

أخالد لا جزاك الله خيرا

في حرّ أمّك من أمير

تمنّى الفخر في قيس وقسر

كأنّك من سراة بني جرير

وأمّك علجة وأبوك وغد

وما الأذناب عدلا للصدور

وكنت لدى المغيرة عبد سوء

تبول من المخافة للزئير

وقلت لما أصابك : أطعموني

شرابا ثمّ بلت على السرير

وقال الكميت (٣) : يهجو خالد القسريّ أيضا في هذه الحادثة : (٤)

خرجت لهم تمشي البراح (٥) ولم تكن

كمن حصنه في الرتاج (٦) المضبب

وما خالد يستطعم الماء فاغرا

بعدلك والداعي إلى الموت ينصب

__________________

(١) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٢ / ٦.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٧ / ١٣٠.

(٣) الكميت : بن زيد بن خنيش الأسديّ ، شاعر مقدم. مات سنة (١٢٦) للهجرة ، اشتهر بقصائده (الهاشميات).

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٢ / ١٣.

(٥) البراح : الواضح ، البيّن.

(٦) الرتاج المضبب : غلق الباب المصنوع من الحديد ، والمعنى : أنه خرج لأعدائه ماشيا.

٣٧٤

وكان عمر بن أبي ربيعة ، يتمشى ذات يوم مع خالد القسريّ خارج المدينة ، فشاهدا (أسماء وهند) (١) ، فجلسوا جميعا يتحدثون ، وبعد لحظة تلبّدت السماء بالغيوم ، وأخذ المطر ينزل بغزارة ، فقام خالد ، وأخذ يظللهم بمطرفته (٢) حتّى هدأ المطر ، فقال عمر بن أبي ربيعة في ذلك : (٣)

أفي رسم دار دمعك المترقرق

سفاها وما استنطاق ما ليس ينطق

بحيث التقى جمع ومفضى محسّر (٤)

معالم قد كادت على الدهر تخلق (٥)

ذكرت بها ما قد مضى من زماننا

وذكرك رسم الدار مما يشوّق

يبل أعالي الثوب قطر وتحته

شعاع بدا يعشي العيون ويشرق

وعن عمر بن أبي ربيعة (٦) أنّه قال : بينما كنت جالسا أيّام شبابي وإذا بخالد الخريث قد جاءني وقال : بأنّه مرّ بأربع نسوة ، لم ير مثلهن قط ومعهنّ (هند) يردن الذهاب إلى (العقيق) (٧) وما عليك إلّا أن تتنكر وتلبس ملابس الأعراب ، فذهبت اليهنّ وقد لبست ملابس قديمة ، وتعمّمت عمّة الأعراب ، وركبت بعيرا بغير وطاء فسلّمت عليهنّ ، ثمّ طلبن منّي أن أقول لهنّ شعرا ، فأنشدتهن (لكثيّر عزّة) و (جميل بثينة) وغيرهما ، فقلن لي : يا أعرابيّ ، ما أملحك وأظرفك ، وما أحلى إنشادك فما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟! فقلت لهن : جئت أنشد ضالّة لي. فدنت (هند) منّي ونزعت عمامتي وقالت : أتظن أنّك خدعتنا بملابس الأعراب هذه ، والله نحن خدعناك ، لقد أرسلنا اليك

__________________

(١) أسماء وهند : عشيقتان لعمر بن أبي ربيعة.

(٢) المطرفة : جبة قصيرة تشبه القمصلة.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٢ / ٧.

(٤) محسر : اسم مكان.

(٥) تخلق : تبلى : أي خرقة بالية.

(٦) عمر بن أبي ربيعة : شاعر أموي ، له ديوان ، وهو أخو الأمير الحارث بن عبد الله.

(٧) العقيق : وادي يبعد عن المدينة حوالي عشرة فراسخ (وقد بينا ذلك في ص ١٢).

٣٧٥

(خالد الحريث) ليأتينا بك على أقبح حالة ، ونحن على أحسن حال ، وبقيت معهن حتّى المساء ، ثمّ افترقنا فقلت في حينها : (١)

ألم تعرف الأطلال والمترّبعا

ببطن حليات دوارس بلقعا؟

إلى السّرح من وادي المغمس (٢) بدلت

معالمه وبلا ونكباء (٣) زعزعا

فيبخلن أو يخبرن بالعلم بعد ما

نكأن فؤادا كان قدما مفجعّا

لهند وأتراب لهند إذ الهوى

جميع وإذ لم نخش أن يتصدعا

وكان الكميت قد مدح آل هاشم وذم الأمويين فقال : (٤)

ساسة لا كمن يرعى الن

اس سواء ورعية الأنعام

لا كعبد المليك أو كوليد

أو كسليمان بعد أو كهشام

فلمّا سمع خالد القسريّ بذلك (وكان أمير الكوفة آنذاك) حبسه ، وكتب إلى هشام بن عبد الملك يخبره بذلك ، فكتب إليه يأمره بقطع لسان الكميت ورجليه ، ثمّ يصلبه على باب داره ، فتمكن الكميت من الهرب من سجنه ، وذهب إلى الشام فاستجار بمسلمة بن عبد الملك فتشفع له.

وكان معاذ بن مسلم قد نصح الكميت بعدم الذهاب إلى خالد القسريّ ، ولمّا حبسه خالد قال معاذ : (٥)

نصحتك والنصيحة إن تعدّت

هوى المنصوح عزّ لها القول

فخالفت الّذي لك فيه حظّ

فغالك دون ما أملت غول

وعند ما كان خالد القسريّ أميرا على البصرة ، قبض على (لصّ)

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٢ / ٩.

(٢) المغمس : أسم مكان.

(٣) النكباء والزعزع : الريح العاتية.

(٤) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٨٣.

(٥) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٤ / ٣١١.

٣٧٦

وكان ذلك السارق شابا جميل الصورة ، عليه السكينة والوقار ، فجيء به إلى خالد القسريّ ، فاعترف أمامه بأنه سارق ، ولكن خالد لم يقتنع باعترافه ، فحبسه عنده ، ثمّ جاءه خالد ليلا وطلب من اللّصّ أن يقول الحقيقة ، وإلّا فسوف تقطع يده ، إلّا أنّ الشاب الجميل أصرّ على أنه لصّ ولا شيء غير هذا.

وفي اللّيل ، وبعد أن هدأت الأنفاس أخذ الشاب يقول : (١)

هددني خالد بقطع يدي

إن لم أبح عنده بقصتها

فقلت : هيهات أن أبوح بما

تضمّن القلب من محبتها

قطع يدي بالذي اعترفت به

أهون للقلب من فضيحتها

فسمعه السجّان ، وأخبر خالد القسريّ بما سمعه من الشاب ، فطلب إحضاره ، ثمّ تكلّم معه خالد ، وخوّفه من مغبّة عدم اعترافه بالحقيقة ، لكن الشاب بقي مصرا على أنّه لصّ ، عند ذلك أمر خالد بقطع يد الشاب على مرآى من الناس ، وعند ما جيء بالشاب لقطع يده ، وإذا بفتاة تصرخ وترمي بنفسها على ذلك الشاب ، وتعطي ورقة إلى خالد القسريّ ، جاء فيها : (٢)

أخالد هذا مستهام متيّم

رمته لحاضي من قسيّ الحمالق

فأحماه سهم اللحظ منّي فقلبه

حليف الجوى من دائه غير فائق

أقرّ بما لم يقترفه لأنّه

رآى ذاك خيرا من هتيكة عاشق

فمهلا على الصب الكئيب لأنّه

كريم السجايا في الهوى غير سارق

فأرسل خالد إلى والد الفتاة وخطبها منه ، وزوجها من الشاب ودفع مهرها من عنده.

__________________

(١) سعيد الكرمي ـ قول على قول. ج ٦ / ٨٣.

(٢) ابن منظور : مختصر تاريخ دمشق. ج ٧ / ٣٧٧. وسعيد الكرمي ـ قول على قول. ج ٦ / ٨٤.

٣٧٧

وعند ما كان خالد القسريّ أميرا على مكّة ، خطب الناس يوم جمعة ، فذكر الحجّاج بن يوسف الثقفيّ ومدحه ، ولمّا سمع سليمان بن عبد الملك بذلك ، أمر خالد بشتم الحجّاج ، وأن يذكر عيوبه ومساوئه ، ثمّ البراء منه ، ولمّا جاءت الجمعة الثانية صعد خالد المنبر وقال : (إنّ إبليس كان ملكا ، وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له بذلك فضلا ، وكان الله تعالى قد علم من غشّه ما خفي عن الملائكة ، فلمّا أراد الله فضيحته ، ابتلاه بالسجود لآدم ، فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم ، فلعنوه ، وأنّ الحجّاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنّا نرى له بذلك فضلا ، وكان الله عزوجل اطلع أمير المؤمنين من غلّه وخبثه على ما خفي عنّا ، فلمّا أراد الله فضيحته ، أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين فالعنوه ، لعنه الله) (١) ثمّ نزل.

وقيل إنّ الكميت هجا في بعض قصائده قبائل قحطان ، فغضب عليه خالد القسريّ وأراد أن ينتقم منه ، فاشترى عدّة جوار ، وقرأ عليهن قصائد الكميت المسمات ب (الهاشميات) ثمّ أرسل الجواري إلى هشام بن عبد الملك في الشام ، فلمّا سمع هشام تلك القصائد ، أمر بإحضار الكميت ، ولمّا جيء به ، أخذ الكميت يعتذر ويقول شعرا في مدح بني أميّة ، حتّى رضى عنه هشام. (٢) ودخل أعرابيّ على خالد القسريّ وقال له : امتدحتك ببيتين ، ولست أقولهما إلّا بعشرة آلاف وخادم. فقال له خالد : قل ما هما؟ فقال :

لزمت نعم ، حتّى كأنّك لم تكن

سمعت (٣) من الأشياء سوى نعم

وأنكرت لا ، حتّى كأنّك لم تكن

سمعت بها سالف الدهر والأمم

فأعطاه خالد ما أراد.

__________________

(١) الحصري ـ زهر الآداب. ج ٢ / ٦٣.

(٢) الذهبي ـ سيرة أعلام النبلاء. ج ٥ / ٤٢٥.

(٣) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٧ / ٣٧٨.

٣٧٨

وبينما كان خالد سائرا في طريقه ذات يوم ، إذ وقف له رجل وقال له :سألتك بالله إلا ضربت عنقي. فقال له خالد : أكفر بعد إيمان؟ قال : لا. قال خالد : هل قتلت نفسا؟ قال الرجل : لا. فقال خالد : إذن ما سبب ذلك؟

فقال الرجل : لي خصم لجوج ، قد لزمني وقهرني. فقال خالد : ومن هو؟

فقال الرجل : إنه الفقر يا أمير. فقال له خالد : فكم يكفيك لدفعه؟ قال الرجل : أربعة آلاف درهم. فالتفت خالد إلى أصحابه ، وقال لهم : (لقد ربحت هذا اليوم ستّة وعشرين ألف درهم ، فقد عزمت أن أعطي هذا الرجل ثلاثين ألف درهم) (١). فلمّا سمع ذلك الرجل ، رجع إلى خالد وقال له : (حاشاك وأعيذك بالله أن تربح على مؤملك) ، فقال خالد : أعطوه ثلاثين ألف درهم ، ثمّ قال للرجل : (خذ المال ، واذهب آمنا إلى خصمك ، ومتى عاد يعارضك فاستنجد بنا عليه).

وقيل إنّ خالدا القسريّ ، قد حرّم الغناء في الكوفة ، فذهب إليه (حنين) متظلما ، (٢) وأخذ عوده (٣) معه وقال : (أصلح الله الأمير ، شيخ ذو عيال ، كانت له صناعة ، حلّت بينه وبينها) فقال خالد : وما ذاك؟! فأخرج حنين عوده وغنّى : (٤)

أيّها الشامت المعير بالشي

ب أقلنّ بالشباب افتخارا

قد لبست الشباب قبلك حينا

فوجدت الشباب ثوبا معارا

فبكى خالد وقال : صدق والله عد ولا تجالس شابا ولا معربدا.

وقيل إنّ أعرابيا قال لخالد القسريّ : ليأمر لي الأمير بملئ جرابي

__________________

(١) محمّد أبو الفضل إبراهيم ـ قصص العرب. ج ١ / ٢٤٤.

(٢) حنين : بن بلوع الحيري ، كان شاعرا ومغنيا ، ومن فحول المغنين في الحيرة وكان نصرانيا.

(٣) العود : آلة موسيقية.

(٤) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٥ / ٤٢٧ و٤٢٨.

٣٧٩

دقيقا ، فقال خالد : أملؤوه له دراهم. فقال الأعرابي : (سألت الأمير ما أشتهي فأمر لي بما يشتهي). (١)

وقيل أيضا إنّ أعرابيا أنشد خالد القسريّ فقال : (٢)

أخالد بين الحمد والأجر حاجتي

فأيّهما يأتي فأنت عماد

أخالد إنّي لم أزرك لحاجة

سوى إنّني عاف وأنت جواد

فقال خالد : سل حاجتك ، قال الأعرابيّ : مائة ألف ، فقال خالد : لقد أسرفت يا أعرابيّ. فقال الأعرابي : فهل أحطّ للأمير؟ قال : نعم. قال الأعرابي : حططتك تسعين ألفا ، فتعجب خالد منه. فقال الأعرابي : سألتك على قدرك وحططتك على قدري ، وما أستهلّه على نفسي. قال خالد : لا والله لا تغلبني ، يا غلام اعطه مائة ألف. (٣)

ولمّا مات أسد بن عبد الله (أخو خالد القسريّ) بعث إليه مسلمة بن هشام بن عبد الملك (أبو شاكر) يعزيه بالأبيات التاليّة : (٤)

أراح من خالد فأهلكه

ربّ أراح العباد من أسد

أمّا أبوه فكان مؤتشبا

عبدا لئيما لأعبد فقد

يرى الزنا والصليب والخمر

والخنزير حلّا والغيّ كالرشد

وأمّه همّها وبغيتها

همّ الإماء العواهر الشّرّد

كافرة بالنبيّ مؤمنة

بقسّها والصليب والعمد

ولمّا قرأ خالد الأبيات قال : يا عباد الله ، أهذه تعزية رجل فقد أخاه؟! ويقال : إنّ خالدا القسريّ سبق له أن قال : (أنا كافر بكلّ خليفة يكنّى أبا

__________________

(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٥ / ٤٢٧ و٤٢٨.

(٢) نفس المصدر اعلاه.

(٣) انظر المصدر السابق.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٢١٧.

٣٨٠