أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

قال عدي : وولد لي غلام

قال شريح : يهنئك الفارس

قال عدي : وأردتّ أن أرحلها

قال شريح : الرجل أحقّ بأهله

قال عدي : وشرطت لها دارها

قال شريح : الشرط أملك

قال عدي : فاحكم الآن بيننا

قال شريح : قد حكمت

قال عدي : على من قضيت

قال شريح : على ابن أمك

قال عدي : بشهادة من؟

قال شريح : ابن أخت خالتك

وقيل إنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطأة : (إذا جاءك رجلان من مزينة ، فولّي (أحدهما) (١) قضاء البصرة. فدخل عليه القاضي بكر بن عبد الله المزنيّ ، فطلب منه عدي أن يتولّى القضاء في البصرة ، فقال بكر : (والله ما أحسن القضاء) فإن كنت صادقا ، فما يحلّ لك أن توليني ، وإن كنت كاذبا لأحراهما). (٢)

وقد ذكر صاحب العقد الفريد هذه القصّة بشكل آخر وهي : (٣)

كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي ابن أرطأة : أن يجمع بين أياس بن معاوية وبين القاسم بن ربيعة الجوشني ، ثمّ يختار أيّهما أصلح لتولي القضاء في الكوفة ، فأرسل اليهما عدي بن أرطأة وسألهما : فقال له أياس : سل عنّي وعن القاسم فقيهي البصرة (الحسن البصري وابن سيرين) ، وكان ابن أياس لا يحضر مجلسهما ، وكان القاسم الجوشني يحضرهما ، وأنّهما سوف يشيران بتعيينه ، فعندها قال القاسم : لا تسأل عنّي ولا عنه ، فو الله الّذي لا إله إلّا هو ، إنّ إياس بن معاوية : أفقه منّي ، وأعلم بالقضاء ، فإن كنت كاذبا ، فما ينبغي أن توليني ، وإن كنت صادقا فينبغي لك

__________________

(١) أحدهما : هما بكر بن عبد الله المزنيّ وأياس بن معاوية.

(٢) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ١ / ١٠٠.

(٣) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ١ / ١٩.

٣٤١

أن تقبل قولي.

فقال له أياس : إنّك جئت برجل ، فوقفته على شفير جهنّم ، فنجّى نفسه منها بيمين كاذبة ، يستغفر الله منها ، وينجو مما يخاف. فقال عدي بن أرطأة : (إما إذا فهمتها ، فأنت لها) (١) فاستقضاه.

قتل عدي بن أرطأة سنة (١٠٢) (٢) للهجرة ، قتله معاوية بن يزيد بن المهلّب ، وذلك عند ما سمع بقتل أبيه (يزيد).

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة : (بلغني أنّك تستنّ بسنن الحجّاج فلا تستنّ بسنّته ، فإنّه كان يصلّي الصلاة لغير وقتها ، ويأخذ الزكاة من غير حقها ، وكان لما سوى ذلك أضيع). (٣)

٥٥ ـ مسلمة بن عبد الملك :

هو : مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي ، الدمشقي ، الأمير الشجاع ، قائد الجيوش ، وكنيته : أبو الأصبغ وأبو سعيد ، ويلقب بالجرادة الصفراء. (٤)

ولّاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة البصرة ، وذلك لمحاربة يزيد بن المهلّب سنة (١٠١) للهجرة.

وعند ما تلاقت الجيوش ، أخذ الخوف يدب في جيش ابن المهلّب ، لما لمسلمة والعباس بن الوليد من سمعة في الشجاعة ، والبراعة في الحروب ، فلمّا رآى ابن المهلّب ذلك خطب في أصحابه وقال : (لم تخافون من مسلمة

__________________

(١) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ١ / ١٩.

(٢) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٥ / ٥٣.

(٣) بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر. ج ٦ / ٢٢٧.

(٤) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٥ / ٢٤١.

٣٤٢

والعباس؟ فو الله ما مسلمة عندي إلا جرادة صفراء ، قسطنطين بن قسطنطين ، وما العباس عندي إلا نسطوس بن نسطوس ، ومن هم أهل الشام؟ فو الله ما هم إلا سبعة أسياف خمسة منها لي ، وإثنان عليّ ، وإنّما أتاكم مسلمة والعباس في برابرة وأقباط وجرامقة وأنباط ، وجراجمة وأخلاط ، مغاربة وصقالبة ، زرّاعون وفلّاحون ، أوباش وأخناش). (١) ثمّ دارت معركة بين الطرفين ، انتهت بمقتل يزيد بن المهلّب وأخوته وأكثر أصحابه ، ثمّ أخذ الباقون أسرى ، ثمّ أرسلت الرؤوس والأسرى إلى الشام. ولمّا انتهى مسلمة ابن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلّب ، جمع له أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقين وخراسان وذلك سنة (١٠٢) (٢) للهجرة ، ثمّ عزل عن العراق وخراسان في أوائل سنة (١٠٢) للهجرة ، عزله أخوه يزيد وعيّن مكانه عمر ابن هبيرة الفزاري ، فعاد مسلمة إلى الشام. (٣)

وعند ما عزل مسلمة عن العراق ، قال الفرزدق : (٤)

راحت بمسلمة الركاب مودعا

فأرعي فزارة لا هناك المرتع

عزل ابن بشر (٥) وابن عمرو (٦) قبله

وأخو هراة (٧) لمثلها يتوقع

ولقد علمت لئن فزارة أمرت

أن سوف تطمع في الإمارة أشجع

من خلق ربّك ما هم ولمثلهم

في مثل ما نالت فزارة يطمع

__________________

(١) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٥.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ٢ / ٤٧٠ والزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ٣٠٣. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٨٩. وصالح خريسات ـ نهذيب تاريخ الطبري. ص ٤٣٠.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٩٧.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٦١٦.

(٥) ابن بشر : هو عبد الملك بن بشر بن مروان.

(٦) ابن عمرو : محمّد بن عمرو بن الوليد بن أبي معيط.

(٧) أخو هراة : سعيد خدينة بن عبد العزي كان عاملا لمسلمة على خراسان.

٣٤٣

وعند ما ترك مسلمة العراق ، وعاد إلى الشام ، مدحه رجل من أهل الشام فقال : (١)

إنّ الّذي مدّ علينا نعمه

وقد أحاطت بالعراق الدمدمه

دعوة مشؤوم دعا بالمشأمة

فأتبع الظالم قوم ظلمه

فالله منهم بمسلمة

من بعدما وبعدما وبعدمه

كانت بنات الموت عند الغلصمه

كادت الحرّة أن تدعى أمه

وقال مسلمة لأخيه يزيد بن عبد الملك : يا أمير المؤمنين ، أيّهما أحبّ اليك؟ أخوك أم ابن أخيك؟ قال : بل أخي. فقال مسلمة : فأخوك أحقّ بالخلافة. فقال يزيد : إذا لم تكن في ولدي ، فأخي أحقّ بها من ابن أخي كما قلت. فقال مسلمة : إنّ ابنك لم يبلغ سن الرشد فبايع لهشام ، ومن بعده لأبنك الوليد فبايع يزيد بولاية العهد لأخيه هشام ، ومن بعده لأبنه الوليد.

ثمّ عاش يزيد حتّى كبر ابنه الوليد وبلغ سن الرشد ، فكان كلّما رآه تحسر وقال : (الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك). (٢)

وكان مسلمة بن عبد الملك ، أولى بالخلافة من سائر أخوته ، ولكنه لم يل الخلافة لأن أمّه كانت (أمّه) (٣) ، وكان الأمويون لا يولّون خليفة إلّا من أصل عربيّ. (٤)

وتسابق أبناء عبد الملك فيما بينهم ، فسبقوا مسلمة ، ولمّا سمع عبد الملك قال متمثلا بقول عمرو بن مبرد العبدي : (٥)

__________________

(١) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٢٥.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٩١.

(٣) الأمه : الغير عربية ، الخادمة من السبي.

(٤) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٥ / ١٢ والزركلي ـ الأعلام. ج ٨ / ١٢٢.

(٥) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٤.

٣٤٤

نهيتكم أن تحملوا هجناءكم

على خيلكم يوم الرهان فتدركوا

فتفتر كفاه ويسقط سوطه

وتخدر رجلاه فما يتحرك

وما يستوي المرء إن هذا ابن حرّة

وهذا ابن أخرى ظهرها مشترك

وأدركه خالاته فاختزلنه

إلا أنّ عرق السوء لابد مدرك

فقال له مسلمة : يغفر الله لك يا أمير المؤمنين : ليس مثلي ، ولكن كما قال عليّ بن المعتمر : (١)

فما أنكحونا طائعين بناتهم

ولكن خطبناها بأرماحنا قهرا

فما زادها فينا السباء مذلّة

ولا كلّفت خبزا ولا طبخت قدرا

ولكن خلطناها بغير نسائنا

فجاءت بهم بعضا غطارفة زهرا

وكأن ترى فينا من ابن سبيّة

إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا

فقال له أبوه : أحسنت يا بني ، ذلك أنت ، ثمّ أمر له بمائة ألف مثلما أخذ السابق.

وتشاجر الوليد بن عبد الملك مع أخيه مسلمة في شعر امرئ القيس والنابغة ، أيّهما أشعر في وصف اللّيل وطوله ، فقال الوليد : النابغة أشعر ، وقال مسلمة : بل امرئ القيس ، ثمّ اتفقا على أن يكون (الشعبي) هو الحكم بينهما ، فأرسلوا إليه وأحضر ، فأنشد الوليد قول النابغة : (٢)

كليني لهمّ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

تطاول حتّى قلت ليس بمنقض

وليس الّذي يرعى النجوم بآيب

وصدر أراح اللّيل عازب همّه

تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب

ثمّ أنشد مسلمة قول امرؤ القيس : (٣)

__________________

(١) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٤.

(٢) ابراهيم بن عليّ الحصري ـ زهرة الآداب. ج ٣ / ١٤٨. وسعيد الكرمي ـ قول على قول. ج / ٢٣٥.

(٣) نفس المصدرين السابقين.

٣٤٥

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطّى بصلبه

وأردف إعجازا وناء بكلكل

ألا أيّها اللّيل الطويل ألا إنجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأنّ نجومه

بكلّ مفاز الفتل شدت بيذبل

فطرب الوليد وأخذ يحرك رجلاه ، فقال (الشعبي) : بانت القضية.

وجاء الشعراء : (كثير عزّة والأحوص ونصيّب) إلى عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته ، وكانت تربطهم بينه صداقة قديمة ، فلم يأذن لهم بالدخول عليه ، فذهبوا إلى مسلمة بن عبد الملك ، فقال لهم : أما بلغكم أنّ أمير المؤمنين لا يقبل الشعر؟ فقالوا له : لم نكن نعلم ذلك ، فمكثوا عند مسلمة ضيوفا أربعة أشهر ، ومسلمة يطلب لهم الأذن من عمر ، فلا يؤذن لهم ، وذات يوم جمعة كان للعامّة ، فدخلوا عليه مع عامّة الناس ، فقال كثيّر عزه : يا أمير المؤمنين : طال الثواء ، وقلت الفائدة وتحدث العرب بجفائك إيّانا.

فقال عمر بن عبد العزيز : يا كثيّر ، (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ). (١) أفي واحد من هؤلاء أنت؟ قال كثيّر : نعم. فقال عمر بن عبد العزيز : ما أرى ضيف أبي سعيد (٢) منقطعا به.

فقال كثيّر : يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي في الإنشاد؟ قال عمر : نعم ، ولا تقل إلا حقّا. فقال كثيّر : (٣)

وليت فلم تشتم عليّا ولم تخف

بريّا ولم تقبل إشارة مجرم

__________________

(١) سورة التوبة. الآية : ٦٠.

(٢) أبو سعيد : كنية مسلمة بن عبد الملك.

(٣) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ٨٨ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٣.

٣٤٦

وصدّقت بالفعل المقال مع الّذي

أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم

وقد لبست لبس الهلوك ثيابها

تراءى لك الدنيا بكف ومعصم

فأعرضت عنها مشمئزّا كأنّما

سقتك معروفا من سمام وعلقم

إلى آخر القصيدة ، ثمّ تقدّم الأحوص ، وأنشد قصيدة طويلة نقتبس منها : (١)

وما الشعر إلّا حكمة من مؤلّف

بمنطق حقّ أو بمنطق باطل

فلا تقبلنّ إلّا الّذي وافق الرضا

ولا ترجعنا كالنساء الأرامل

فإنّ لم يكن للشعر عندك موضع

وإن كان ومثل الدرّ من نظم قائل

فإنّ لنا قربى ومحض مودّة

وميراث آباء مشوا بالمناصل

فأعطى لكثير عزة ثلاثمائة درهم ، ولكل من الأحوص ونصيب مائة وخمسون دينار.

وكتب مسلمة إلى أخيه الوليد ، عند ما غزا القسطنطينيّة : (٢)

أرقت وصحراء الطوانة (٣) بيننا

لبرق تلألأ نحو غمرة يلمح

أزاول أمرا لم يكن ليطيقه

من القوم إلا اللوذعي الصمحمح

وقال القعقاع بن خالد العبسيّ : (٤)

فأبلغ أمير المؤمنين رسالة

سوى ما يقول اللوذعي الصمحمح

أكلنا لحوم الخيل رطبا ويابسا

وأكبادنا من أكلنا الخيل تقرح

ونحبسها حول الطوانة طلعا

وليس لها حول الطوانة مسرح

فليت الفزاري الّذي غشّ نفسه

وغش أمير المؤمنين يفرح

__________________

(١) ابن عبد ربه الاندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ٨٨ وابن الاثير ـ الكامل. ج ٥ / ٤٣.

(٢) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ١٧٢.

(٣) الطوانة : أسم بلدة في ثغور المصيصة.

(٤) عز الدين محمّد بن عليّ بن إبراهيم ـ الأعلاق الخطيرة. ج ١ / ٢٣٢.

٣٤٧

وكان مسلمة قد تزوج من الرباب بنت زفر بن الحارث ، وكان يأذن لأخويها (الهذيل وكوثر) بالدخول عليه في أوّل الناس ، فجاء عاصم بن عبد الله بن يزيد ذات يوم إلى قصر مسلمة ، فدخل الهذيل وكوثر قبله ، وعند ما دخل على مسلمة قال (١) :

أمسلمة قد منيتني ووعدتني

مواعيد صدق إن رجعت مؤمرا

أيدعى الهذيل ثمّ أدعى وراءه

فيالك مدعا ما أذلّ وأحقرا

وكيف لم يشفع لك اللّيل كله

شفيع إذا ألقى قناعا ومئزرا

فلست براض عنك حتّى تحبّني

كحبّك صهريك الهذيل وكوثرا

فأجابه الهذيل قائلا (٢) :

ما فخر فخار عليّ وإنّما

نشأنا وأمّانا معا أمتان

أبي كان خيرا من أبيك وأفضلت

عليك قديما جرئتي وبياني

ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضه الّذي مات فيه وقال له : ألا توصي يا أمير المؤمنين؟. قال : بماذا أوصي؟ فو الله ليس عندي مال. فقال مسلمة : هذه مائة ألف اعط لمن شئت قال عمر : (ردها على من أخذتها منه ظلما). فبكى مسلمة ثمّ قال : (يرحمك الله لقد ألفت منّا قلوبا قاسية ، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا) (٣). وكان يزيد بن عبد الملك قد أحبّ جارية اسمها (حبابة) حتّى هام في حبّها وأنغمس في الشرب واللهو وترك أمور الناس حتّى أصابهم الظلم والجور من حاشيته فذهب إليه أخوه مسلمة وقال له : (لقد مات عمر بن عبد العزيز بالأمس وأنت تعرف ما كان من عدله ورعايته للناس ، فيجب عليك أن تظهر العدل

__________________

(١) ابن الكلبيّ ـ جمهرة الأنساب ج ٢ / ٥٦.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) الآبي نثر الدر ـ ج ٣ / ٧٢.

٣٤٨

للناس وتترك اللهو ، فقد أقتدى (١) بك عمالك في سائر أفعالك وسيرتك) (٢).

فترك حبابة وأظهر الندم. ولمّا سمعت (حبابة) بذلك ارسلت إلى يزيد بن عبد الملك لزيارتها ، فلمّا دخل عليها قالت له : يا أمير المؤمنين ، اسمع منّي صوتا واحدا ، ثمّ افعل ما بدا لك ، فغنته قائلة :

ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا

فقد غلب المحزون أن يتجلدا

إذا كنت لم تعشق ولم تدري ما الهوى

فكن حجرا من يابس الصلد جلمدا

فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي

وإن لام فيه ذوو الشنآن وفندا

فأخذ يزيد يردد ما غنت (حبابة) وعاد إلى لهوه وشربه. ومرضت (حبابة) فلازمها يزيد صباح مساء حتّى ماتت وبقي أياما إلى جانبها (لم يدفنها) حزنا وجزعا عليها إلى ان خرجت جيفتها ، عند ذلك دفنها وجلس عند قبرها ، فدنا منه أخوه مسلمة ، وأخذ يعزيه ويؤنسه ، فقال له يزيد : قاتل الله ابن أبي جمعة ، كأنّه يرى ما نحن فيه حيث قال (٣) :

فان تسل عنك النفس أو تدع الهوى

فباليأس تسلوا النفس لا بالتجلدا

وكلّ خليل زارني فهو قائل

من أجلك : هذا ميّت اليوم أو غدا

وبعد أيّام على دفن (حبابة) مات يزيد بن عبد الملك وقيل أصيب بمرض الطاعون.

وكان مسلمة ، اذا تجمعّ عنده أصحاب الحوائج ، وخاف الضجر منهم ، أمر أن يحضر ندماؤه من أهل الأدب ، فيتحدثون عن مكارم الناس ، وجميل طرائفهم ومروءاتهم ، فيطرب مسلمة ويهيج ثمّ يقول : أدخلوا أصحاب

__________________

(١) (الناس على دين ملوكها) حسب المثل المشهور.

(٢) المسعودي ـ مروج الذهب ـ ج ٣ / ١٩٦.

(٣) المصدر السابق. ج ٣ / ١٩٨.

٣٤٩

الحاجة فلا يدخل عليه أحد إلا وقضى حاجته (١). وقال أبو نخيلة الشاعر يمدح مسلمة (٢) :

أمسلم إنّي يا ابن خير خليفة

ويا فارس الهيجاء يا جبل الأرض

شكرتك إنّ الشكر حبل من التقى

وما كلّ من أوليته نعمة يفضي

وأحسنت لي ذكري وما كنت خاملا

ولكن بعض الذكر أنبه من بعض

وقيل : إنّ مسلمة بن عبد الملك أوصى (قبيل وفاته) بثلث امواله لأهل الأدب وقال : (صناعة مجفو أهلها) (٣). مات مسلمة بن عبد الملك بالشام سنة (١٢٠) (٤) للهجرة ، وقيل سنة (١٢١) للهجرة (٥).

٥٦ ـ عبد الرحمن بن سليم الكلبيّ :

هو : عبد الرحمن بن سليم وقيل (سليمان) الكلبيّ. ولّاه مسلمة بن عبد الملك إمارة (العراقين) سنة (١٠٢) (٦) للهجرة ، ثمّ رجع مسلمة إلى الشام (٧).

ثمّ عزله يزيد بن عبد الملك عن العراق ، وولّاه خراسان بعد عزل اميرها السابق سعيد بن عمرو الحرشي ، ثمّ عزله وولّى مكانه إبن عمّه عبد الملك ابن بشر بن مروان (٨).

وعبد الرحمن بن سليم الكلبيّ ، من قادة بني أميّة فقد كان مع عبد

__________________

(١) الآبي ـ نثر الدر ـ ج ٣ / ٧٢.

(٢) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء ـ ج ٥ / ٢٤١.

(٣) الآبي ـ نثر الدر ج ٣ / ٧١.

(٤) تاريخ ابن خياط ـ ج ٢ / ٥١٩ والزركلي ـ الأعلام ـ ج ٨ / ١٢٢.

(٥) ابن العماد ـ شذرات الذهب ـ ج ١ / ١٥٩.

(٦) ابن الأثير ـ الكامل ـ ج ٥ / ٩٧.

(٧) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح ـ ج ٨ / ٢٥.

(٨) المصدر السابق ، ج ٨ / ٢٧.

٣٥٠

الملك بن مروان حين ثار عليه عمر بن سعيد الأشدق سنة (٦٨) للهجرة ، كما وجعله الحجّاج بن يوسف الثقفيّ على ميمنة جيشه في معركة (دير الجماجم). وكان عبد الرحمن الكلبيّ أيضا مع مسلمة بن عبد الملك في حربه مع يزيد بن المهلّب ، ثمّ بعد أن تولّى مسلمة (أو جمعت له ولاية العراقين) وخراسان سنة (١٠٢) للهجرة تولى عبد الرحمن بن سليم الكلبيّ إمارة البصرة. (١)

وذهب عبد الرحمن إلى المهلّب بن أبي صفرة أيّام حروبه مع الأزارقة فرأى أبناء المهلّب جميعهم متقلدين السيوف والرماح وهم يحاربون جنبا إلى جنب مع أبيهم (المهلّب) ، فقال عبد الرحمن : (شدّ الله الإسلام بتلاحقكم ، فو الله لئن لم تكونوا أسباط نبوّة إنّكم أسباط ملحمة) (٢).

وكان الحجّاج بن يوسف الثقفيّ قد أرسل عبد الرحمن الكلبيّ لمحاربة مطهر بن عمّار بن ياسر ، ولمّا وصل إلى حلوان أرسل له الحجّاج مددا مع (تخيت الغلط) (٣) وأرسل معه كتابا إلى عبد الرحمن ، فمرّ (تخيت) بالمدد وهم يعرضون في خانقين. (٤) وعند ما وصل (تخيت) سأله عبد الرحمن : أين تركت مددنا؟ فقال (تخيت) : (تركتهم يخنقون بعارضين). قال عبد الرحمن : أو يعرضون بخانقين. قال تخيت : نعم ، اللهم لا تخانق في باركين.

وعند ما ذهب (تخيت) الغلط ليجلس أراد عبد الرحمن أن يقول له : ألا تريد أن تتغدّى؟ قال له ألا تضرط؟ قال تخيت : قد فعلت ، أصلحك الله.

فقال عبد الرحمن : ما هذا قصدت ، قال تخيت : صدقت ولكن الأمير غلط

__________________

(١) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٣ / ٣٠٣.

(٢) التوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٧ / ١٩٨. والجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ٢ / ٦٦.

(٣) تخيت الغلط : قيل له ذلك لكثرة غلطه.

(٤) خانقين : مدينة حدودية مع إيران تقع في محافظة ديالى.

٣٥١

كما غلطنا ، فقال عبد الرحمن : أنا غلطت من فمي وغلط هو من إسته. (١)

٥٧ ـ عبد الملك بن بشر بن مروان :

وعبد الملك هو : ابن عم الخليفة يزيد بن عبد الملك ، وأمّه (هند) بنت أسماء بن خارجة ، ولّاه يزيد بن عبد الملك إمارة (العراقين) بعد عزل عبد الرحمن بن سليم الكلبيّ سنة (١٠٢) (٢) للهجرة.

وعند ما جاء أبوه (بشر بن مروان) إلى الكوفة أميرا عليها من قبل أخيه عبد الملك سنة (٧٢) للهجرة سأل عن هند بنت أسماء بن خارجة (وكانت آنذاك أرملة عبيد الله بن زياد) فخطبها وتزوجها وولدت له عبد الملك ، ولمّا مات بشر بن مروان لم تجزع عليه هند ولم تحزن فقال الفرزدق : (٣)

فإن تك لا هند بكته فقد بكت

عليه الثريا في كواكبها الزهر

ثمّ تزوجها بعد ذلك الحجّاج بن يوسف الثقفيّ ، ثمّ طلقها الحجّاج عند ذهابه إلى واسط وبنى قصره هناك.

وعن محمّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي أنه قال : ذهبنا يوما (ومعنا الحجّاج بن يوسف الثقفيّ) نعود عبد الملك بن بشر ، فسلّمنا عليه ثمّ خرجنا ، وقد تخلّف الحجّاج عنده ، فوقفنا ننتظره فلمّا خرج قال لي : لقد رأيت الآن هندا وهي أجمل مما كانت عليه قبلا ولا بد لي من الرجوع اليها ، فقلت له : أيّها الأمير إنّك قد طلقتها وإنّ الناس سوف يتحدثون عنك بما لا ترتضي. فقال له الحجّاج : صدقت. فقال محمّد : (والله

__________________

(١) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ٢ / ٣٤٧.

(٢) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٢٧.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٠ / ٣٦٥.

٣٥٢

ما كان منّي ذلك نظرا ، ولا نصيحة ، ولكني أنفت لرجل (١) من قريش أن تداس أمّه في كل وقت) (٢).

وكان عبد الملك بن بشر جوادا كريما حتّى قال فيه الشاعر : (٣)

جئت بشرا زائرا ووجدته والله سمحا

وقصدته متعمدا ليلا فما أصبحت صبحا

حتى رأيت نواعما يدلجن بالبدات دلجا

فلبست ثوبا للغنى وطويت للإفلاس كشحا

وعند ما جمعت ولاية (العراقين) وخراسان لمسلمة بن عبد الملك سنة (١٠٢) للهجرة ، جعل عبد الملك بن بشر أميرا على البصرة. (٤)

ولمّا قتل زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب بالكوفة سنة (١٢١) (٥) للهجرة وصلب جسده بالكناسة (٦) في إمارة يوسف بن عمر ، ذهب رجل من بني أسد إلى يحيى بن زيد بن عليّ وقال له : قد قتل أبوك ، وأهل خراسان لكم شيعة فالرأي عندي أن تذهب اليها ، فقال له يحيى : وكيف أذهب وجواسيس يوسف بن عمر تلاحقني؟ فقال له ذلك الرجل : تختفي لعدة أيّام حتّى يكف عنك الطلب ثمّ تخرج. ثمّ ذهب ذلك الرجل إلى عبد الملك بن بشر بن مروان وقال له : إنّ زيد بن عليّ قريبك وحقّه واجب عليك وهذا أبنه يحيى (وهو حدث) فإذا سمع به يوسف بن عمر فسوف يقتله وهو لا ذنب له ، لذا أرى أن تأويه لعدّة أيّام حتّى تهدأ الأمور. فقال

__________________

(١) الرجل : هو عبد الملك بن بشر.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٠ / ٣٦٨.

(٣) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٣٦.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٨٩. وتاريخ الطبري ج ٦ / ٦٠٥.

(٥) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ١٣٦.

(٦) الكناسة : أسم محلة مشهورة في الكوفة. ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٢٧٢.

٣٥٣

عبد الملك : نعم وكرامة. فأجاره عنده وأخفاه ، فسمع يوسف بن عمر بأن يحيى بن زيد عند عبد الملك فأرسل يوسف إلى عبد الملك قائلا : (قد بلغني مكان هذا الغلام عندك ، فو الله لئن لم تأتني به لأكتب فيك إلى أمير المؤمنين). (١)

فقال له عبد الملك : (ما كنت لآوي مثل هذا الرجل وهو عدوّنا وابن عدوّنا). (٢) فصدقه يوسف بن عمر وبعد أن هدأت الأحوال واستقرت الأمور خرج يحيى بن زيد من الكوفة وذهب إلى خراسان.

وقيل إنّ امرأة من أهل السواد كانت لها ديون على بعض الناس فخافت أن ينكروها عليها فذهبت إلى الحكم بن عبدل الأسديّ فاستنجدت به وقالت له : بأنّها امرأة وليس لها زوج وأنّ لها ديون على جماعة وتخاف أن ينكروها عليها ثمّ عرضت عليه الزواج منها فخرج معها ابن عبدل فاستحصل لها كافة ديونها ثمّ ذهبت تلك المرأة إلى أهلها وكتبت إليه هذين البيتين : (٣)

سيخطيك الّذي حاولت مني

فقطع حبل وصلك من وصالي

كما أخطاك معروف بشر

وكنت بعيد ذاك رأس مالي

فذهب ابن عبدل إلى عبد الملك بن بشر وقرأ عليه البيتين فقال له ابن بشر : أيّهما أحبّ اليك خمسمائة نقدا؟ أو ألف دينار في العامّ القادم؟ ولمّا جاء العامّ القادم قال له عبد الملك : ألف أحبّ اليك أو ألفان في العامّ القادم؟

فقال ابن عبدل : بل ألفان ، فذهب ابن عبدل وجاء في العامّ القادم فوجد عبد الملك قد مات.

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٧ / ١٨٩.

(٢) ابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٩ / ٣٣١.

(٣) وكيع ـ اخبار القضاة. ج ٢ / ٤١٨.

٣٥٤

وكان عبد الملك بن بشر مولعا بالصيد ، وسباق الخيل ، وكانت له عدّة فهود ، فطلب من أبي النجم الشاعر أن يصف فهوده فقال : (١)

إنّا نزلنا خير منزلات

بين الحميرات المباركات

في لحم وحش وحباريات (٢)

وإن أردن الصيد ذا اللذّات

جاء مطيعا لمطاوعات

علّمن أو قد كنّ عالمات

فسكن الطرف بمطرفات

تريك آماقا مخططات

وقيل : عند ما قتل يزيد بن عمر بن هبيرة في واسط سنة (١٣٢) للهجرة ، أعطى أبو جعفر المنصور الأمان لكافة من كان مع أبن هبيرة ما عدا عبد الملك بن بشر بن مروان وآخرين معه. (٣)

٥٨ ـ محمّد بن عمرو (ذو الشامة):

هو : محمّد بن عمرو (ابو قطيفة) بن الوليد بن عقبة بن أبو معيط ، ولقبه (ابو شامة). اما (قطيفة) فيقال كان كثير الشعر في اللحية والوجه والصدر. (٤)

أقرّه يزيد بن عبد الملك أميرا على الكوفة ، وقيل إنّ الّذي أقرّه هو مسلمة بن عبد الملك ، وذلك عند ما جمع له أخوه (يزيد بن عبد الملك) ولاية (المصرين) سنة (١٠٢) للهجرة ، حيث ذهب مسلمة إلى البصرة وأستخلف محمّد بن عمرو على الكوفة (٥). وعند ما قتل يزيد بن المهلّب ،

__________________

(١) ابو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٠ / ١٦٠. والزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٢ / ٣٦٦.

(٢) الحباريات : مفردها حباري وهو طائر يضرب به المثل في البلاهة والحمق.

(٣) ابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١٠ / ٥٥.

(٤) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح ـ ج ٨ / ٣ وابن الأثير ـ الكامل ـ ج ٥ / ٨٠.

(٥) تاريخ الطبري ج ٦ / ٦٠٤ وصالح خريسات ـ تهذيب تاريخ الطبري ص ٤٣٠ وابن الجوزي ـ المنتظم ـ ج ٧ / ٨١ وابن الأثير ـ الكامل ـ ج ٥ / ١٠٢.

٣٥٥

أرسل بروؤسهم إلى الشام ، وأرسل الأسرى وعددهم ثلثمائة رجل إلى محمّد بن عمرو لحبسهم في الكوفة. (١)

ثمّ أمر يزيد بن عبد الملك بقتل جميع الأسرى الّذين هم في سجون الكوفة ، فأخذ محمّد (ذو الشامة) يقتل عشرين شخصا كلّ يوم ، ثمّ زادهم إلى ثلاثين ، ثمّ قام ثلاثون رجل من بني تميم فقالوا : نحن الّذين انهزمنا بالناس ، فابدأوا بنا قبل الآخرين ، فقال (العريان) (٢) : أخرجوا على اسم الله ، وأرسل إلى (ذي الشامة) يخبره بإخراجهم ومقالتهم فبعث إليه (ذو الشامة) أن إضرب أعناقهم جميعا ، وبعد أن قتلوا كلّهم أمر مسلمة بن عبد الملك بالكفّ عن قتل الأسرى. فقال صاحب بن ذبيان من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم : (٣)

لعمري لقد خاضت معيط دمائنا

بأسيافها حتّى انتهى بهم الوحل

وما حمل الأقوام أعظم من دم

حرام ولا ذحل إذ التمس الذحل

حقنتم دماء المصلتين عليكم

وجرّ على فرسان شيعتك القتل

وقى بهم العريان فرسان قومهم

فيا عجبا أين الأمانة والعدل؟

وقال محمّد (ذو الشامة) يرثي عبد العزيز وابنه الأصبغ ، وكان محمّد أميرا على مصر : (٤)

تقول غداة قطعنا الجفا

ر والعين بالدمع مغرورقة

فقال امرؤ كاره للفرا

ق تاع البلاد وباع الرقه

وفارق إخوانه كارها

وأهل الصفاء وأهل الثقة

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٦ / ٥٩٧ وابن الأثير ـ الكامل ـ ج ٥ / ٧٥.

(٢) العريان : رئيس شرطة الكوفة.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٥٩٩.

(٤) الكنديّ ـ الولاة في مصر. ص ٧٧.

٣٥٦

أبعد الخليفة عبد العزيز

وبعد الأمير كذا وأبقه

فما مصر لي بعد عبد العزي

ز والأصبغ الخير بالموفقه

إمامي هدى وهدييّ تقى

وأهل الوفاء وأهل الثقة

سقى الله قبريهما والصدى

وما جاورا ديمة مغدقة

فإن تك مصر أشارت بها

إلى الشرّ يوما يد موبقة

فقدما تقرّ بمصر العيو

ن في لذّة العيش مغدودقة

٥٩ ـ عمر بن هبيرة الفزاري :

هو : عمر بن هبيرة بن معاوية بن سكين ، الفزاري ، الشامي ، أمير العراقين ، وكنيته : أبو المثنى. (١)

ولّاه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقين سنة (١٠٢) (٢) للهجرة ، وقيل سنة (١٠٣) (٣) للهجرة ، ثمّ أضاف اليهما خراسان. (٤) جاء عمر بن هبيرة من البادية (من بني فزارة) إلى دمشق الشام ، وكان يتمنّى أن لا يموت قبل أن يتولّى إمارة العراق. (٥)

وفي سنة (٩٧) للهجرة كان عمر بن هبيرة قد غزا أرض الروم عن طريق البحر وبقي فيها إلى انتهاء فصل الشتاء. (٦) ثمّ غزا الروم (ثانية) عن

__________________

(١) الذهبي ـ سيرة أعلام النبلاء. ج ٤ / ٥٦٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي. ج ٣ / ٥٣. وتاريخ الطبري. ج ٦ / ٦١٧. وابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٣٥. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٩٧.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٢٠١. وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٧ / ٨٣. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١٠٦. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٤ / ٥٦٢. والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلاميّ. ج ١ / ٦٨١.

(٤) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٢٠١.

(٥) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ٩٨.

(٦) عز الدين محمّد بن عليّ بن ابراهيم ـ الأعلاق الخطيرة. ج ١ / ٢١٨ ـ ٢١٦.

٣٥٧

طريق أرمينية سنة (١٠٣) للهجرة فهزمهم ، وأسّر الكثير منهم ، قيل حوالي سبعمائة أسير. (١)

وفي سنة (١٠٤) للهجرة كان عمر بن هبيرة أمير العراق والمشرق كلّه. (٢) وفي سنة (١٠٥) للهجرة عزل ابن هبيرة عن العراق ، عزله هشام بن عبد الملك وعيّن مكانه خالد بن عبد الله القسريّ. (٣)

وكان عمر بن هبيرة يتردد على أولاد عبد الملك بن مروان ، وعند ما تزوّج أحد أولاد عبد الملك ابنة الحجّاج بن يوسف الثقفيّ أخذ ابن هبيرة يقدّم الهدايا الثمينة والعطايا الجليلة إلى ابنة الحجّاج وكانت هذه تكتب إلى أبيها تخبره بذلك ، فعظم شأنه لدى الحجّاج كما وعظم شأنه في الشام فقد استخلفه عمر بن عبد العزيز على الجزيرة عند ما تولّى الخلافة ، ولمّا جاء يزيد بن عبد الملك إلى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز ورآى ابن هبيرة سيطرت (حبابة) في عواطف يزيد وهيامه بحبّها أخذ يكثر من هداياه إلى (حبابة) وإلى يزيد بن عبد الملك فتمكنت (حبابة) من إقناع يزيد من تولية ابن هبيرة العراق فولّاه.

وقال الفرزدق حينما جاء عمر بن أبي هبيرة أميرا على العراق : (٤)

راحت بمسلمة البغال عشية

فأرعي فزارة لا هناك المرتع

ولقد علمت إذ فزارة أمّرت

إن سوف يطمع بالإمارة أشجع

وقال الفرزدق أيضا يهجو عمر بن هبيرة : (٥)

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٧ / ٨٩. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١١٦.

(٣) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٣٦. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٥ / ١٢٤. والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلاميّ. ج ١ / ٦٨٧.

(٤) المبرد ـ الكامل. ج ٣ / ٨٢.

(٥) نفس المصدر السابق.

٣٥٨

أمير المؤمنين وأنت برّ

أمين لست بالطبع الحريص

أأطعمت العراق ورافديه

فزاريا أحذ يد القميص

تفهّق بالعراق أبو المثنى

وعلّم قومه أكل الخبيص

ولم يكن قبلها راعي مخاضا

ليأمنه على وركي قلوصي

وكان شريك النميري (وقيل سنان بن مكحل النميري) يساير عمر بن هبيرة ذات يوم وهو على بغلته فسبقت بغلته بغلة ابن هبيرة ، فقال له ابن هبيرة : (غضّ من بغلتك). (١) فقال له شريك : (إنّها مكتوبة). فقال ابن هبيرة : ما قصدت ذلك. فقال شريك : ولا أنا أردته. فظن شريك أن عمر أراد بقوله (غض من بغلتك) قول جرير :

فغض الطرف إنّك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وقصد شريك بقوله (إنّها مكتوبة) قول سالم بن داره :

لا تأمننّ فزاريا خلوت به

على قلوصك واكتبها (٢) بأسيار

وكان أبو دلامة (٣) ، قد مدح عمر بن هبيرة أيّام ظهور الدعوة العباسية (لأتخذنّ لك منهم عبدا صالحا يخدمك). ولمّا انتهت الدولة الأموية وجاءت الدولة العباسيّة ، قال أبو دلامة : (ليت الله قيّض لي منهم مولى صالحا أخدمه). وعند ما أراد عمر بن هبيرة أن يرسل الحكم بن عبدل غازيا فاعتذر عليه بوجود عاهة لديه فجيء بابن عبدل ونزعت ملابسه وتبين أنّه أعرج فعفا عنه وجعله من حاشيته ، فقال ابن عبدل : (٤)

لعمري لقد جردتني فوجدتني

كثير العيوب سيء المتجرد

__________________

(١) ابن قتيبة ـ عيون الأخبار. ج ٢ / ٢٠٣.

(٢) أكتبها : شدّها.

(٣) أبو دلامة : هو زند بن الجون ، شاعر كوفي من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية.

(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢ / ٤١٧.

٣٥٩

فأعفيتني لما رأيت زمانتي

ووفقت منّي للقضاء المسدد

وكان عمر بن هبيرة عند ما يصعد إلى المنبر يقول : (اللهم إنّي أعوذ بك من عدو يسري ومن جليس يغري ، ومن صديق يطري). (١) وقال أيضا : (اللهم إنّي أعوذ بك من طول الغفلة وإفراط الفطنة ، اللهم لا تجعل قولي فوق عملي ، ولا تجعل أسوء عملي ما قارب أجلي). (٢) وقال أيضا : (ما يمنعني من قول الشعر ، إلّا أكون قادرا عليه لو أردته ، لكنّي رأيته وضع النابغة الذبياني وهو سيّد غطفان). (٣)

وكان عمر بن هبيرة أميّا (لا يقرأ ولا يكتب) وكان إذا جاءه كتاب فتحه ونظر فيه (كأنه يقرأه) فإذا ذهب إلى بيته ، أخذ الكتاب معه وكان في بيته (جارية) تقرأ له الكتب ثمّ يأمرها بأن توقع هي الكتب الّتي يرسلها.

وكتب بعض أصحابه كتابا على لسان أحد عماله ثمّ طواه وأعطاه إلى ابن هبيرة مقلوبا فأخذه أبن هبيرة كما هو ولم يجعله بصورة صحيحة ، فعند ذلك عرف بأنّ ابن هبيرة أميّا). (٤)

وعند ما تولّى هشام بن عبد الملك الخلافة سنة (١٠٥) للهجرة عزل عمر بن هبيرة عن العراق وولّاه خالد بن عبد الله القسريّ وأمره أن يأخذ ابن هبيرة ويعذّبه حتّى يعطيه الأموال الّتي جباها من العراق ، فذهب خالد القسريّ إلى البصرة وقبض على ابن هبيرة وسجنه وأخذ يعذّبه أنواع العذاب ، ولمّا سمع أهل البصرة بذلك تألّموا عليه كثيرا لأنّهم كانوا يحبّونه. (٥)

__________________

(١) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ٢ / ٣٩٣.

(٢) المصدر السابق. ج ٣ / ٢٧١.

(٣) البلاذري ـ أنساب الأشراف. ج ١ / ٤١٠.

(٤) التوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٥ / ١١٣.

(٥) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٨ / ٣٦.

٣٦٠