أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

ابن مروان قد علم بأنّ أكثريّة أهل الكوفة وخاصّة زعماؤها قد ابتعدوا عن عبد الله ببن الزبير لأسباب كثيرة منها : بخله وعدم اعطائهم ما وعدهم به عند حرب المختار ، فكتب عبد الملك إلى أهل الكوفة يدعوهم إلى مبايعته ويوعدهم بالأموال والمناصب والجاه اذا خذلوا مصعب بن الزبير عند مجيئه إلى العراق ، فاجابوه إلى ذلك وكان من جملتهم قطن الحارثي (١). وحينما وصلت جيوش عبد الملك إلى (مسكن) كاتب قادة مصعب بن الزبير وزعماء أهل الكوفة مؤكدا لهم بأنه لا زال عند وعده ـ إذا تخلّوا عن مصعب ـ فسوف يوليهم الإمارة ويزوجهم بأميرات أمويّة ، وكانت تلك الكتب تصل إلى إبراهيم بن مالك الأشتر ، وعند ما تلاقى الجيشان جاء إبراهيم بن الأشتر إلى مصعب وأخبره بمضمون كتب عبد الملك إلى قادته ، وطلب منه أن يتخذ الإجراءات اللازمة بحقّهم ، ولكن مصعب لم يتخذ أي قرار بشأنهم ولو على سبيل الاحتياط. (٢)

وعند ما بدأت الحرب بين الطرفين ، قال مصعب بن الزبير لحجّار بن أبحر : (تقدّم يا أبا سعيد) قال : إلى هؤلاء الأنتان؟! فقال له مصعب : إنّ ما تتأخر إليه هو أنتن وقيل إنّه قال له : (إنّ عدم تقدمك هو أنتن). ثمّ قال مصعب للغضبان بن القبعثري : تقدّم يا أبا الشمّط. فقال ابن القبعثري : ما أرى هناك. ثمّ التفت مصعب إلى قطن بن عبد الله الحارثي وقال له : قدّم خيلك. فقال قطن بن عبد الله : (أكره أن تقتل مذحج في غير شيء). فقال مصعب : (أفّ لكم). ثمّ قاتل القوم بقوة وبسالة وشجاعة حتّى قتل. (٣)

وبعد ما قتل مصعب دخل عبد الملك بن مروان إلى الكوفة وأعطى

__________________

(١) قطن الحارثي : وكان على قبيلتي مذحج وأسد في جيش مصعب.

(٢) ابن بكار ـ الأخبار الموفقيات. ص ٥٥٨. وأبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٩ / ١٢٤.

(٣) ابن بكار ـ الأخبار الموفقيات. ص ٥٥٨.

٢٦١

لزعمائها وقادة مصعب الأموال (١) والهدايا وعيّن قطن أميرا على الكوفة. (٢) ولكن سرعان ما عزله عبد الملك وعيّن أخاه بشر بن مروان أميرا على الكوفة ثمّ رجع عبد الملك إلى الشام.

٢٧ ـ بشر بن مروان :

هو بشر بن مروان بن الحكم بن العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. وكنيته : أبو مروان الأموي القرشيّ. (٣) ولّاه أخوه عبد الملك إمارة الكوفة سنة (٧٢) للهجرة وذلك بعد عزل أميرها السابق (قطن بن عبد الله الحارثي) (٤).

وقد خطب عبد الملك بن مروان في أهل الكوفة عند ما ولّى أخاه (بشر) إمارة الكوفة وقال : (... استعملت عليكم بشر بن مروان ، وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة والشدّة على أهل المعصية فاسمعوا له وأطيعوا) (٥). وقال الشاعر في بشر بن مروان : (٦)

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وعند ما رجع عبد الملك بن مروان من الكوفة إلى الشام ، أبقى جماعة من أهل الرأي والمشورة (من أهل الشام) مع بشر في الكوفة ، منهم : (روح ابن زنباع الجذاميّ) وكان بشر بن مروان : أديبا ، ظريفا ، يحب الشعر

__________________

(١) إنّما أعطاهم عبد الملك من أموال وهدايا لا تعادل ما كان يعطيهم مصعب بن الزبير.

(٢) لم يتمتع قطن الحارثي (بخيانته) على إمارة الكوفة سوى أربعين يوما ، وهي أشبه ما يكون بعرس الثعالب.

(٣) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٥ / ٢١٣.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٦ / ١٦٤. والذهبي ـ سيرة أعلام النبلاء. ج ٤ / ١٤٥.

(٥) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ١١٢.

(٦) ابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٧٩. وصالح خريسات ـ تهذيب تاريخ الطبري. ص ٤٠٠.

٢٦٢

والسمر ، والسماع والمعاقرة ، وقد تضايق بشر من روح بن زنباع ، فشكى أمره إلى بعض ندمائه ، فقال له أحدهم : سأعمد إلى حيلة تنجيك منه ، فتمكن هذا من الذهاب (خفية) إلى دار روح بن زنباع ، وكتب على حائط غرفته الأبيات التالية : (١)

يا روح من لبنيات وأرملة

إذا نعاك لأهل المغرب الداعي

إنّ ابن مروان قد حانت منيته

فاحتل لنفسك يا روح بن زنباع

ولا يغرّنك إبكار منعمة

واسمع هديت مقال الناصح الداعي

وحينما جاء روح بن زنباع ، ودخل غرفته ، وقرأ تلك الأبيات ، فخاف كثيرا ، وقال : لا مقام لي في العراق بعد اليوم ، فذهب إلى بشر بن مروان ، وطلب منه السماح له بالذهاب إلى دمشق لمواجهة عبد الملك. ولمّا وصل روح إلى دمشق ودخل على عبد الملك فتعجب منه وقال له : ما سبب مجيئك يا روح؟ ألأمر كرهته؟ أم أنّ حادث حدث لبشر؟ فقال روح : لا هذا ولا ذاك ، وإنّما لأمر أدهى وأعظم ، ثمّ أخبره بقصته. وأنشده الأبيات.

فضحك عبد الملك كثيرا وقال لروح : لقد ثقلت على بشر وأصحابه حتّى احتالوا عليك بما رأيت فلا تخف.

وكان بشر بن مروان ، إذا صلى العصر ، خلا بنفسه في غرفة من غرف القصر فيأخذ من الشراب ما لذّ منه وطاب ، وليس معه سوى خادمه (أعين). فأخذت (هند) (٢) تتجسس عليه حتّى عرفت خبره ، فبعثت خادم لها ، فاشترى لها أطيب الشراب وأرقه وأصفاه ، وهيئأت طعاما شهيا

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٥ / ٢١٥.

(٢) هند : هي بنت أسماء بن خارجة الفزاري ، تزوجت من عبيد الله بن زياد ، وكانت تحبه حبا كبيرا ولمّا مات جزعت عليه حتّى قالت يوما : لإني لأشتاق إلى القيامة لأرى وجه عبيد الله بن زياد ، ثمّ تزوجها بعده بشر بن مروان ، فولدت له (عبد الملك) ثمّ مات بشر وتزوجها الحجّاج بن يوسف الثقفيّ ثمّ طلقها.

٢٦٣

(علمت بأن بشر يشتهيه) ثمّ أرسلت إلى أخويها (مالك وعيينة) وأرسلت إلى بشر بن مروان ، فقدمت له كلّ ما أعدته ، فأكل وشرب وكان (مالك) يسقيه و (عيينه) يحدثه و (هند) تنظر إليه ، فلم يزل في ذلك حتّى المساء.

فقال بشر : هل عندكم من هذا شيء نعود إليه غدا؟ فقالت هند : هذا دائم لك متى ترغب. وبقي معها بشر حتّى مات ، فلم تجزع عليه هند ولم تحزن ، فقال الفرزدق في ذلك : (١)

فإن تك لا هند بكته فقد بكت

عليه الثريا في كواكبها الزهر

وجاء الأخطل إلى الكوفة ليمتدح بشر بن مروان فدعاه سعيد بن بيان التغلبي (٢) إلى منزله فقدم له الطعام والشراب وزاد في إكرامه وتقديره ، فلمّا شرب الأخطل أخذ ينظر إلى وجه (برّه) (٣) وجمالها وإلى وجه سعيد وقبحه وقال له سعيد : أنت تدخل في بيوت الخلفاء والملوك والأمراء ، فما هي منزلتنا من منزلتهم؟ فقال الأخطل : ما لبيتك عيب غيرك ، فقال سعيد : أنا والله أحمق منك يا نصراني حين دعوتك إلى منزلي ثمّ طرده وخرج الأخطل وهو يقول : (٤)

وكيف يداويني الطبيب من الجوى

وبرّة عند الأعور ابن بيان

فهلا زجرت الطير إذا جاء خاطبا

بضيقة بين النجم والدّبران

وقيل : كان فتى من بني عجل (مع المهلّب بن أبي صفره في حربه مع الأزارقه) وكان عاشقا لأبنة عمّه ، فكتبت إليه ابنة عمّه تطلب زيارته ،

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٠ / ٣٦٥ /.

(٢) سعيد بن بيان : سيّد بني تغلب ورئيسها.

(٣) برّة : زوجة سعيد بن بيان ، وكانت من أجمل النساء.

(٤) ابن قتيبة ـ عيون الأخبار. ج ٤ / ٣٤.

٢٦٤

فكتب اليها : (١)

لو لا مخافة بشر أو عقوبته

أو أن يشدّ على كفي مسمار (٢)

إذن لعطلت ثغري (٣) ثمّ زرتكم

إنّ المحبّ إذا ما اشتاق زوار

فأجابته ابنة عمّه :

ليس المحبّ الّذي يخشى العقاب ولو

كانت عقوبته في فجوة النار

بل المحبّ الّذي لا شيء يفزعه

أو يستقرّ ومن يهواه في الدار

ولمّا قرأ ابن عمّها الكتاب ترك (ثغره) وذهب اليها وهو يقول : (٤)

أستغفر الله إذ خفت الأمير ولم

أخشى الّذي أنا منه غير منتصر

فشأن بشر بلحمي فليعذبه

أو يعف عفو أمير خير مقتدر

فما أبالي إذا أمسيت راضية

يا هند ما نيل من شعري ومن بشري

ثم ذهب الشاب إلى البصرة ، ولمّا رآه الواشون ، ذهبوا إلى بشر بن مروان وأخبروه بهروبه ، فأمر بشر بإحضاره ، ولمّا جيء بالشاب ، قال له بشر : يا فاسق ، تركت ثغرك!! هاتوا الكرسي. فقال الشاب : أعزّ الله الأمير ، إنّ لي عذرا ، فأنشده الأبيات المارة الذكر ، فقبل عذره ورقّ قلبه له ، وكتب إلى المهلّب بن أبي صفرة بإعفائه (٥) ، وقيل أعطاه بشر عشرة آلاف درهم ،

__________________

(١) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٣٨٠. وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٢ / ٢١٤.

(٢) فعن الشعبي أنه قال : إذا ترك الرجل مركزه الحربي ، أو أخلّ أو تخلف عن الالتحاق بالمركز الحربي ، كانت عقوبته أيّام عمر وعثمان وعليّ هي : نزع عمامته ، والتشهير به أمام الناس ، ولمّا جاء مصعب بن الزبير قال : (ما هذا بشيء) وأضاف إلى تلك العقوبة حلق الرأس واللحية ، ولمّا جاء بشر بن مروان ، كان يعلق الرجل على الحائط ، وتدق يداه بالمسامير إلى أن يموت ، أو أن يخرق المسمار كفه فيسلم ، وعند ما جاء الحجّاج كانت عقوبته القتل لكل من يتخلف ، أو أن يعصى له أمرا.

(٣) الثغر : المركز الحربي ، أو جهة الحرب ، وتقابلها الآن : المعسكر.

(٤) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٥ / ٢١٤.

(٥) أبو عليّ القالي ـ الأمالي. ج ٢ / ٣٠.

٢٦٥

وقال له : إلحق بابنة عمّك. (١)

وقيل إنّ بشر بن مروان لمّا ولّاه أخوه إمارة العراقين ، كتب إليه يقول : (أما بعد يا أمير المؤمنين ، فإنّك قد شغلت إحدى يدي ، وهي اليسرى ، وبقيت يدي اليمنى فارغة لا شيء فيها). فكتب إليه عبد الملك قائلا : (فإنّ أمير المؤمنين ، قد شغل يمينك بمكة والمدينة والحجاز واليمن). وحينما وصل الكتاب إلى بشر ، أصيبت يمينه بالقرحة ، فاقترح عليه الأطباء بقطعها ، ثمّ أخذت القرحة تسير حتّى وصلت إلى كتفه ، عندها كتب إلى أخيه عبد الملك يقول : (أما بعد يا أمير المؤمنين ، فإني كتبت اليك وأنا في أوّل يوم من أيّام الآخرة ، وآخر يوم من أيّام الدنيا) ، ثمّ ختم رسالته بهذه الأبيات : (٢)

شكوت إلى الله الّذي أصابني

من الضرّ ما لم أجد لي مداويا

فؤاد ضعيف مستكين لما به

وعظم بدا خلو من الهمّ عاريا

فإن متّ يا خير البرية فالتمس

أخا لك يغني عنك مثل غنائيا

يواسيك في السراء والضرّ جهده

إذا لم تجد عند البلاء مواسيا

وقيل دخل الحسن البصري على بشر بن مروان (أمير البصرة) وكان بشرا جالسا على سرير عليه فراش وثير ، كاد أن يغوص فيه ، ورجل واقف عند رأسه يحمل سيفه ، فقال له بشر : من أنت؟ فقال : (أنا الفقيه ، حسن البصري) فقال له بشر : إجلس. ثمّ سأله بشر : ماذا تقول في زكاة أموالنا؟ أندفعها إلى السلطان ، أم إلى الفقراء؟ فقال الحسن البصري : (أيّهما فعلت ، أجزأ عنك). فتبسم بشر وقال : (لشيء ما يسود من يسود). وعند العشاء ، ذهب الحسن البصري إلى بشر بن مروان مرّة ثانية ، فرآه قد نزل

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٥ / ٢١٣.

(٢) المصدر السابق. ج ٥ / ٢١٦.

٢٦٦

عن سريره وهو يتململ وحوله الأطباء (١) ، وعند ما أصبح الصباح ، وإذا بالناعية تنعاه. ووقف الفرزدق على قبره يرثيه ، فما بقي أحد إلا وبكى وحزن عليه ، وحزن عليه أخوه عبد الملك حزنا عظيما ، وطلب من الشعراء أن يرثوه ، فقال الفرزدق : (٢)

أعينيّ إلّا تسعداني ألمكما

فما بعد بشر من عزاء ولا صبر

ألم تر أن الأرض دكت جبالها

وأنّ نجوم اللّيل بعدك لا تسري

فإن لا تكن هند بكته فقد بكت

عليه الثريا في كواكبها الزهر

مات بشر بن مروان في البصرة سنة (٧٣) (٣) للهجرة وقيل (٧٤) (٤) وقيل (٧٥) (٥) وهو أوّل أمير مات بالبصرة.

٢٨ ـ عمرو بن حريث : (٦)

استخلفه بشر بن مروان على إمارة الكوفة سنة (٧٣) للهجرة ، وهذه رابع مرة يستخلف فيها عمرو بن حريث.

٢٩ ـ الحجّاج بن يوسف الثقفيّ :

هو : الحجّاج (٧) بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن

__________________

(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٤ / ١٤٦.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) المنتظم ـ ابن الجوزي. ج ٦ / ١٣٢. وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٥ / ٢١٦.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٣٦٦.

(٥) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٢٤٩ وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٥ / ٢١٦. وعبد القادر عمر البغدادي ـ خزانة الادب ج ٩ / ٤١٣ وابن العماد ـ الشذرات ج ١ / ٨٣.

(٦) وقد كتبنا ترجمته في ج ١ / ٦٣ فى هذا الكتاب.

(٧) الحجّاج : وأسمه كليب ، وفي ذلك قال القائل :

٢٦٧

مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف ، وكنيته : أبو محمّد. (١)

ولّاه عبد الملك بن مروان إمارة الكوفة سنة (٧٥) للهجرة ، لإخماد ثورة الخوارج ، ولمّا وصل الحجّاج إلى القادسيّة ، أمر جيشه بالبقاء فيها ، وذهب هو وجماعة إلى الكوفة ، فدخلها في أوائل شهر محرّم من سنة (٧٥) للهجرة سنة (٦٩٤) للميلاد. (٢)

وذهب إلى المسجد ، ونودي في الناس (الصلاة جامعة) فجاء الناس إلى المسجد وكان الحجّاج جالسا على المنبر متلثما ، وحينما ازدحم المسجد بأهل الكوفة ، رفع الحجّاج اللّثام عن وجهه ، ثمّ قام ، وخلع العمامة عن رأسه فقال : (أنا الحجّاج) (٣).

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

ثم قال (والله يا أهل العراق ، إنّي لأرى رؤوسا قد أينعت ، وحان قطافها ، وإنّي لصاحبها ، والله لكأنّي أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى .. إنّ أمير المؤمنين (عبد الملك) نثر كنافته بين يديه ، فعجم عيدانها عودا عودا ، فوجدني أمرّها عودا ، وأشدّها مكرا ، فوجّهني اليكم ، ورماني بكم ، يا أهل الكوفة ، أهل الشقاق والنفاق ، ومساوئ الأخلاق ... يا أهل العراق إنّما أنتم أهل قرية ، كانت آمنة مطمئنة ، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت

__________________

أينسى كليب زمان الهزال

وتعليمه سورة الكوثر

رفيق له فلكة ما ترى

وآخر كالقمر الأزهر

 (١) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٣٤٥. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٣٧٤. والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣١٩. وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ١٣٧ ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ١٠٧.

(٢) نفس المصدر أعلاه.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١٢٧. والقلقشندي ـ صبح الأعشى. ج ١ / ٢١٩.

٢٦٨

بأنعم الله ، فأتاها وعيد القرى من ربّها ، فاستوثقوا ، واعتدلوا ولا تميلوا ، واسمعوا وأطيعوا وشايعوا وبايعوا .. الخ). (١)

وقد اشتهر الحجّاج بكثرة خطبه بذم أهل العراق (٢) ، أكتفي بذكر خطبة قالها عند ما جيء برأس عبد الرحمن (٣) بن محمّد بن الأشعث ، فوضع بين يديه ، ثمّ صعد منبر الكوفة فقال : (يا أهل العراق ، إنّ الشيطان استبطنكم مخالط اللحم منكم والعظم والأطراف والأعضاء ، وجرى فيكم مجرى الدم ، وأفضى إلى الأضلاع والأمخاخ ، فحشا ما هنالك شقاقا ، واختلافا ، ونفاقا ، ثمّ أربع فيه فعشعش ، وباض فيه ففرخ ، واتخذتموه دليلا تتابعونه ، وقائدا تطاوعونه ، ومؤمرا تستأمرونه ، ألستم أصحابي بالأهواز؟

حين سعيتم بالغدر بي ، فاستجمعتم عليّ ، وحيث ظننتم أن الله سيخذل دينه وخلافته ، وأقسم بالله إنّي لأراكم بطرفي وأنتم تتسلّلون لواذا منهزمين ، سراعا مفترقين ، كلّ امرئ منكم على عنقه السيف رعبا وجبنا ، ثمّ (يوم الزاوية) (٤) وما يوم الزاوية ، بها كان فشلكم ، وبراءة الله منكم ، وتوليكم على أكتافكم السيوف هاربين ، ونكوص وليكم عنكم ، إذ وليتم كالأبل الشوارد إلى أوطانها ، لا يسأل الرجل عن بنيه ، ولا يلوي أمروء على أخيه ، حتّى عضتكم السلاح ، وقصفتكم الرماح ، ويوم (دير الجماجم) (٥) بها كانت الملاحم ، والمعارك العظام.

__________________

(١) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٧ / ٩.

(٢) أهل العراق : معناها الكوفة والبصرة ، ولكن الحجّاج يقصد بها الكوفة ، لأن الكوفة هي العراق.

(٣) عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث : هو أحد أمراء الكوفة ، وسوف نتكلم عنه في حينه.

(٤) يوم الزاوية : وهي إحدى المعارك الّتي خاضها الحجّاج مع عبد الرحمن بن محمّد الأشعث وقد قتل فيها الكثير من الطرفين.

(٥) دير الجماجم : وهي المعركة الثانية الّتي دارت رحاها بين الحجّاج وابن الأشعث ، انتصر فيها الحجّاج ، وهرب ابن الأشعث ، وقد قتل فيها الكثير من العلماء والفقهاء والقراء.

٢٦٩

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

فما الّذي أرجوه منكم يا أهل العراق؟ أم ما الّذي أتوقعه؟ ولماذا أستبقيكم؟ ولأيّ شيء أدخركم؟ للفجرات بعد العداوات؟ أم للنزوة بعد النزوات؟ وما الّذي أراقب بكم؟ وما الّذي أنتظر فيكم؟ إن بعثتم إلى ثغوركم جبنتم ، وإن أمنتم أو خفتم لما فقتم ، لا تجزون بحسنة ، ولا تشكرون نعمة .. يا أهل العراق ، هل استنبحكم نابح؟ أو استشلاكم غاو؟ أو استحثّكم ناكث؟ أو استنفركم عاص؟ إلّا بايعتموه وتابعتموه وآويتموه وكفيتموه؟

يا أهل العراق ، هل شغب شاغب ، أو نعب ناعب ، أو دب كاذب ، إلّا كنتم أشياعه وأتباعه؟ ... يا أهل العراق ، لم تنفعكم التجارب ، وتحفظكم المواعظ ، وتعضكم الوقائع ، هل يقع في صدوركم ، ما أوقع الله بكم عند مصادر الأمور ومواردها؟ (١)

ثم التفت إلى أهل الشام مخاطبا : (يا أهل الشام ، أنا لكم كالظيلم الرامح عن فراخه ، ينفي عنهم القذى ، ويكتنفهنّ من المطر ، ويحفظهنّ من الذئاب ، ويحميهن من سائر الدواب ، لا يخلص اليهن معه قذى ، ولا يقضي اليهن ردى ، ولا يمسهنّ بأذى .. يا أهل الشام ، أنتم العدة والعدد ، والجنة في الحرب ، إن نحارب حاربتم أو نجانب جانبتم ، وما أنتم وأهل العراق إلا كما قال نابغة بني جعدة : (٢)

وإن تداعي حظهم

لم ترزقوه ولم نكذب

كقول اليهود : قتلنا المسيح

ولم يقتلوه ولم يصلب

ولقد خاض الحجّاج معارك عنيفة ، ودامية ، فقد ذهب إلى مكّة وحاصر فيها عبد الله بن الزبير لمدّة خمسين ليلة ، ثمّ ضرب الكعبة

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١٣٢.

(٢) كقول اليهود : قتلنا المسيح ولم يقتلوه ولم يصلب.

٢٧٠

بالمنجنيق ، وقتل عبد الله بن الزبير ، وهو متعلقا بأستار الكعبة. (١)

ثم حارب الخوارج ، وخاصّة مع شبيب الخارجيّ وزوجته (غزالة) كما حارب عبد الرحمن بن الأشعث في معركة (يوم الزاوية) فأنهزم جيشه أمام جيش ابن الأشعث ، وقد قتل الحجّاج في يوم الزاوية أحد عشر ألف خدعهم بإعطائهم الأمان ، ثمّ لمّا جاءوا واستسلموا قتلهم جميعا.

ثم معركة (دير الجماجم) الّتي وقعت بينه وبين ابن الأشعث أيضا ، حيث قتل فيها الآلاف ، وقتل فيها الكثير من العلماء والفقهاء ورواة الحديث. (٢)

وقد أقسم الحجّاج بعد معركة (دير الجماجم) بأن لا يؤتى بأسير إلا قتله بل ويقتله شر قتلة (٣) ، وقيل إنّ عدد الّذين قتلهم الحجّاج صبرا قد بلغ مائة وعشرون ألفا. (٤)

ولمّا سمع عبد الملك بن مروان بقساوة الحجّاج ، في سفك الدماء ، وتبذير الأموال ، كتب إليه يستنكر ذلك ، وكتب في آخر الكتاب أبياتا نذكر منها : (٥)

إذا أنت لم تترك أمورا كرهتها

وتطلب رضائي بالذي أنا طالبه

وتخشى الّذي يخشاه مثلك هاربا

إلى الله منه ضيّع الدّرّ حالبه

فإن تر منّي غفلة قرشية

فيا ربّما قد غص بالماء شاربه

وإن تر منّي وثبة أموية

فهذا وهذا كل ذا أنا صاحبه

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١١٤.

(٢) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٢٣٣. والقلقشندي ـ نهاية الأرب. ص ٤٢٣.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١١٥.

(٤) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١٦٦. والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٠.

(٥) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١٣٤. وابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٢ / ٣٥.

٢٧١

فلا تلمني والحوادث جمّة

فإنك مجزيّ بما أنت كاسبه

فأجابه الحجّاج معتذرا ، وضمن كتابه بأبيات نذكر منها :

إذا أنا لم أتبع رضاك وأتقي

أذاك فيومي لا تزول كواكبه

أسالم من سالمت من ذي قرابة

ومن لم تسالمه فإني محاربه

إذا قارف الحجّاج منك خطيئة

فقامت عليه في الصباح نوادبه

فقف بي على حدّ الرضا لا أجوزه

متى الدهر حتّى يرجع الدرّ حالبه

وإلا فدعني والأمور فإنني

شفيق ، رقيق أهلتّه تجاربه

وعند ما جاء الحجّاج إلى الكوفة سنة (٧٥) للهجرة ، قيل له إنّ بين الكوفة والحيرة (دير هند) بنت النعمان بن المنذر (١) ، وهي بتمام صحتها وعقلها ، فذهب الحجّاج اليها ، فقيل لها : هذا الأمير (الحجّاج) على الباب ، فخرجت إليه. فقال لها الحجّاج : (يا هند ، ما هو أعجب ما رأيت)؟

قالت هند : (خروج مثلي إلى مثلك ، لا تغترنّ يا حجاج بالدنيا ، فإنا أصبحنا ونحن كما قال النابغة لأبي : (٢)

رأيتك من تعقد له حبل ذمة

من الناس ، يأمن سرجه حيثما ارتقى

ولم نمس إلا ونحن أذل الناس

وقلّ إناء امتلأ إلا انكفأ

فخرج الحجّاج مغضبا ، وأمر بإخراجها من الدير ، وبأخذ الخراج منها ، فأخرجت هند من الدير ، ومعها ثلاث جواري من أهلها ، فقالت إحداهن : (٣)

خارجات يسقن من دير هند

معلنات بذلة وهوان

__________________

(١) وقد تكلّمنا عنها عند ذهابها إلى سعد بن أبي وقّاص في القادسية ج ١ / ٢٠ ، وكذلك عند ما ذهب اليها المغيرة بن شعبة ج ١ / ٤٣.

(٢) العمري ـ مسالك الأبصار. ج ١ / ٣٢٥.

(٣) نفس المصدر السابق.

٢٧٢

ليت شعري أأوّل الحشر هذا

أم محا الدهر غيرة الفتيان

فسمعها فتى من أهل الكوفة ، فأخذته الغيرة والحميّة (والشهامة العربية) فشهر سيفه ، وخلصهن من جماعة الحجّاج ثمّ هرب.

ولمّا سمع الحجّاج بذلك قال : (إن أتانا فهو آمن ، وإن ظفرنا به قتلناه). (١) فلمّا سمع الفتى (الكوفي) بالأمان جاء إلى الحجّاج وسلم نفسه.

فقال له الحجّاج : ما الّذي دعاك إلى ذلك؟!

فقال الفتى : إنّها الغيرة أيّها الأمير. فعفى عنه الحجّاج.

وعند ما كان الحجّاج بالبصرة ، قبض على رجل من الخوارج ، فأمر بصلبه ، وذهب الحجّاج مساء لينظر إليه ، فرآى رجلا واقفا بقرب المصلوب ، وسمعه يقول : (طال ما ركبت فأعقب) فسأل عنه الحجّاج فقيل له : إنه شظاظ اللص (٢). فقال الحجّاج : (والله ليعقبك). ثمّ أمر بصلب شظاظ في مكان المصلوب. (٣)

وعند ما خطب الحجّاج (هند بنت أسماء بن خارجة) أرسل اليها مائة ألف درهم وعشرين صندوقا من الثياب مع أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، ثمّ أرسل لها بعد ذلك ثلاثين جارية ، مع كلّ جارية صندوق ثياب.

وبعد أن تزوجها ، بنى لها قصرا في مدينة (واسط) يسمى (قصر

__________________

(١) العمري ـ مسالك الأبصار. ج ١ / ٣٢٥.

(٢) وشظاظ هذا من قطاع الطرق ، مع جماعة من أمثاله منهم : مالك بن الريب بن حوط الشاعر وأبو مروبة بن أثالة بن مازن وغويث بن كعب بن مالك بن حنظلة ، وفيهم قال الراجز :

الله نجاك من القصيم

وبطن فلح وبني تميم

ومن بني حروبة الأثيم

ومالك وسيفه المسموم

ومن شظاظ الأحمر الزنيم

ومن غويث فاتح العكوم

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢٢ / ٣٠٠.

٢٧٣

الحجّاج) فسألها ذات يوم : (هل رأيت أحسن من هذا القصر؟). فقالت : إنه قصر جميل. فقال لها الحجّاج : أصدقيني.

قالت هند : إذا كنت تريد الحقيقة ، فو الله ما رأيت أحسن من القصر الأحمر. (١)

وعند ما سمع العراقيون بوفاة محمّد بن الحجّاج وأخيه محمّد بن يوسف ، فرحوا كثيرا وقالوا : انكسر ظهر الحجّاج وكسرت جناحاه ، فخطب الحجّاج بالناس فقال : (يا أيّها الناس ، محمّدان في يوم واحد ، أما والله لقد كنت أحبّ أنّهما معي في الدنيا مع ما أرجوه لهما من ثواب الآخرة ، وأيم الله ليوشكنّ الباقي منّا ومنكم أن يفنى ، والجديد منّا ومنكم أن يبلى ... الخ). (٢)

وجزع الحجّاج على ابنه (محمّد) جزعا شديدا ، وقال : إذا غسلتموه وكفنتموه فأعلموني ، ولمّا انتهوا من تغسيله وتكفينه ، نظر الحجّاج إلى ولده وقال : (٣)

الآن لما كنت أكمل من مشى

وأفتر نابك عن شباة القارح

وتكاملت فيك المروءة كلّها

وأعنت ذلك بالفعال الصالح

ثم جلس الحجّاج للتعزية ، فدخل الناس عليه يعزّونه ، ومعهم الفرزدق ، فنظر إليه الحجّاج وقال : يا فرزدق ، أما رثيت محمّدا ومحمّدا؟

قال الفرزدق : نعم أيّها الأمير ، وأنشد يقول : (٤)

__________________

(١) القصر الأحمر : بناه عبيد الله بن زياد عند ما كان أميرا في البصرة ، وقد تزوج فيه بهند بنت أسماء بن خارجة.

(٢) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٤ / ١٢٢.

(٣) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ٤ / ٥٩.

(٤) المبرد ـ الكامل. ج ٢ / ١٠٧.

٢٧٤

إنّ الرزّية لا رزية مثلها

فقدان مثل محمّد ومحمّد

ملكان قد خلت المنابر منهما

أخذ الحمام عليهما بالمرصد

فقال الحجّاج : لو زدتني يا فرزدق ، فقال الفرزدق :

إنّي لباك على ابني يوسف جزعا

ومثل فقدهما للدّين يبكيني

ما سدّ حي ولا ميّت مسدهما

إلّا الخلائق من بعد النبيين

فقال الحجّاج : ما فعلت شيئا ، إنّما زدت في حزني ، فقال الفرزدق :

لئن جزع الحجّاج ما من مصيبة

تكون لمحزون أمض وأوجعا

من المصطفى والمصطفى من خيارهم

جناحيه لمّا فارقاه فودّعا

أخ كان أغنى أيمن الأرض كله

وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا

جناحا عقاب فارقاه كلاهما

ولو نزعا من غيره لتضعضعا

فقال الحجّاج : الآن أرحتني.

وكان الحجّاج يتعصب للقومية العربيّة ، حتّى أنّه أمر بأن لا يدخل الكوفة إلّا عربيّ ، كما أنه أمر بإخراج (النبط) من مدينة واسط عند ما نزل فيها ، ويقال إنّ الحجّاج قد جعل (وسما) (١) على أيدي النبط ، وفي ذلك قال الشاعر : (٢)

لو كان حيّا له الحجّاج ما سلمت

صحيحة يده من وسم حجّاج

ولكل بداية ، لابدّ من نهاية ، والإنسان مهما طال به العمر ، فلا بد أن يموت ، والموت كما يقولون : (قاهر الرجال) فقد مرض الحجّاج ، وشعر بقرب أجله ، وأيقن أنّ الموت لابدّ منه فقال : أسندوني ، وأذن للناس فدخلوا عليه ، فذكر الموت وكربه ، واللحد ووحشته ، والدنيا وزوالها ، والآخرة

__________________

(١) وسما : الوسم : العلامة ، وتكون هذه العلامة ثابتة.

(٢) احمد امين ـ ضحى الاسلام ج ١ / ٢٤.

٢٧٥

وأهوالها ، وكثرة ذنوبه ، ثمّ قال : (١)

إنّ ذنبي وزن السماوات والأر

ض وظنّي بخالقي أن يحابي

فلئن منّ بالرضا فهو ظنّي

ولئن مرّ بالكتاب عذابي

لم يكن ذاك منه ظلما وهل يظ

لم ربّ يرجى لحسن المآب

ثمّ بكى ، وبكى جلساؤه ، ثمّ أمر كاتبه أن يكتب إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان : (أما بعد ، فقد كنت أرعى غنمك ، أحوطها حياطة الناصح الشفيق برعية مولاه ، فجاء الأسد فبطش بالراعي ، ومزّق المرعي كلّ ممزّق ، وقد نزل بمولاك ما نزل بأيوب الصابر ، وأرجو أن يكون الجبّار ، أراد بعبده غفرانا لخطاياه ، وتكفيرا لما حمل من ذنوبه). ثمّ كتب في آخر الرسالة :

إذا ما لاقيت الله عنّي راضيا

فإنّ شفاء النفس فيما هنالك

فحسبي بقاء الله من كلّ ميّت

وحسبي حياة الله من كلّ هالك

لقد ذاق هذا الموت من كان قبلنا

ونحن نذوق الموت من بعد ذلك

مات الحجّاج بن يوسف الثقفيّ في السابع والعشرين من شهر رمضان من سنة (٩٥) (٢) للهجرة في مدينة واسط ، وله من العمر (٥٣) سنة أو (٥٤) أو (٥٥) وأجري الماء على قبره فاندرس. (٣)

وقد استخلف الحجّاج على إمارة الكوفة (قبل وفاته) ابنه عبد الرحمن وقيل عبد الله ، وقيل يزيد بن أبي كبشة على الصلاة ، ويزيد بن أبي

__________________

(١) ابن الكلبيّ ـ جمهرة النسب. ج ٢ / ٧٨. ـ المجلسي ـ البحار. ج ٤٦ / ٢٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٩٠. وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٣٣٥. وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ١٣٨. والعسقلاني ـ تهذيب التهذيب. ج ٢ / ١٨٦. وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ١٠٦. ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ١٢٧.

(٣) البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٠.

٢٧٦

مسلم على الخراج. (١)

واليك أيّها القارئ الكريم بعض ما قيل في الحجّاج بن يوسف الثقفيّ :

١ ـ كان الحجّاج : سفّاكا ، سفاها باتّفاق معظم المؤرخين. (٢)

٢ ـ وكان الحجّاج يعترف ويقول : (بأنّ أكبر لذاته سفك الدماء). (٣)

٣ ـ وكان الحسن البصريّ (فقيه عصره) يسمي الحجّاج : (فاسق ثقيف). (٤)

٤ ـ إنّه أمر بأحد الأسرى ، فشدّ في القصب الفارسيّ ، ثمّ سلّ عنه حتّى شرّح جسمه ، ثمّ صبّ عليه الخلّ والملح حتّى مات. (٥)

٥ ـ وكان الحجّاج في القتل وسفك الدماء ، والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها. (٦)

٦ ـ وكان عدوّ الله (الحجّاج) يتزيّن بزيّ المومسة ، ويصعد المنبر فيتكلم بكلام الأخيار ، وإذا نزل عمل عمل الفراعنة ، وكان في حديثه أكذب من الدجّال وكان يقيد الجماعة في المسجونين في قيد واحد ، وفي مكان ضيّق ، لا يجد الرجل إلا مكان مجلسه ، وفيه يأكلون ، وفيه يتغوّطون ، وفيه يصلون. (٧)

٧ ـ وكتب الحجّاج لعبد الملك بن مروان : (إن أردت أن يثبت ملكك فاقتل عليّ بن الحسين (زين العابدين) بن عليّ بن أبي طالب ، فكتب إليه عبد الملك : (أما بعد .. فجنبني دماء بني هاشم ، واحقنها ، فإنّي رأيت آل أبي

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٣٣٥.

(٢) الزركلي ـ الأعلام. ج ٢ / ١٧٥.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٢٧. وابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ١ / ٣٤٢.

(٤) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٢ / ٣٢٧.

(٥) المبرد ـ الكامل. ج ٢ / ٢٠٧.

(٦) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ١ / ٣٤٣.

(٧) الجاحظ ـ البيان والتبيين ص ٤٠.

٢٧٧

سفيان ، لما أو هو فيها لم يلبثوا إلى أن أزال الله الملك عنهم). (١)

٨ ـ قتل الكثير من القرّاء (حفظة القرآن) والفقهاء في معركتي (يوم الزاوية والجماجم). (٢)

٩ ـ وقال عمر بن عبد العزيز العادل : لو جاءت كلّ أمّة بخبيثها ، وجئنا بالحجّاج لغلبناهم. (٣)

١٠ ـ وبعث عمر بن عبد العزيز بأهل (بيت الحجّاج) إلى الحارث بن عمر الطائي (الأمير على البلقاء) وكتب إليه : (أما بعد .. فقد بعثت اليك بآل أبي عقيل وبئس والله أهل البيت في دين الله ، وهلاك المسلمين ، فأنزلهم بقدر هوانهم على الله وعلى أمير المؤمنين). (٤)

وبعد هذا ، وغير هذا كثير ، وكثير جدا ، فقد قال فيه (أحدهم) : (بأنّ الحجّاج رجل الدولة المفترى عليه). وأنا أسأل هذا (الشخص) : هل عندك عرق ينبض بالإنسانيّة؟ أم إنّك شبيه بالحجّاج؟! وقد قيل : (شبيه الشيء منجذب إليه).

٣٠ ـ عروة بن المغيرة بن شعبة : (٥)

استخلفه الحجّاج بن يوسف الثقفيّ على إمارة الكوفة سنة (٧٥) للهجرة وذلك عند ما ذهب الحجّاج إلى البصرة ليحثّهم على قتال الأزارقة.

ثم عزله وولّى مكانه حوشب بن يزيد الشيبانيّ.

__________________

(١) المجلسي ـ البحار. ج ٤٦ / ٢٨.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٨٢. وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٢٣١. وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ٩٢.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٥٨٦. والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٣٠.

(٤) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج ٥ / ٧٧. والتوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٢ / ٥٨٦. والزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ٣١٨.

(٥) وقد تكلّمنا عن عروة بن المغيرة في ص ١٧٧ فنرجو ملاحظة ذلك.

٢٧٨

٣١ ـ حوشب بن يزيد الشيبانيّ

هو : حوشب بن يزيد بن الحارث بن رويم الشيبانيّ (١) ، ولّاه الحجّاج ابن يوسف الثقفيّ إمارة الكوفة سنة (٧٥) (٢) للهجرة ، وذلك بعد عزل عروة ابن المغيرة بن شعبة ، ثمّ عزله وولّى مكانه البراء بن قبيصة. ثمّ أعيد تعيينه مرّة ثانية من قبل الحكم بن الصلت (خليفة يوسف بن عمر) على الكوفة. (٣)

ويزيد (أبو حوشب) من القادة الأمراء ، شاعر وأديب ، أدرك عصر النبوة ، وأسلم على يد الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وشهد حرب اليمامة وقال فيها : (٤)

تدور رحانا حول راية عامر

يراقبنا بالأبطح المتلاحق

يلوذ بنار كنار معد ويبقى

بنا غمرات الموت أهل المشارق

وعند ما مرض يزيد (أبو حوشب) ذهب الإمام عليه‌السلام إلى الحارث بن رويم (جدّ حوشب) وقال له : (عندي جارية لطيفة الخدمة ، أبعث بها اليك).

فسماها يزيد (لطيفة).

وقال ابن حوشب لبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، يعيّره بأمّه : (يا ابن حوراء). فأجابه بلال : (إنّ الأمّ تسمى حوراء وجيداء ولطيفة). (٥)

وعند ما جاء عبيد الله بن الحرّ إلى الكوفة سنة (٦٨) للهجرة لغرض الاستيلاء عليها ، فحاربه مصعب بن الزبير ، فانهزم ابن الحرّ وذهب إلى

__________________

(١) ابن الاثير ـ الكامل ج ٥ / ٥٨٤. والزركلي ـ الاعلام ج ٩ / ٢٣١.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٩٤. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٣٨٠. والذهبي ـ تاريخ الأعلام. ج ٤ / ٣٥٤.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ٣٩.

(٤) الزركلي ـ الاعلام ج ٩ / ٢٣١.

(٥) المبرد ـ الكامل. ج ٣ / ٣٤٢.

٢٧٩

المدائن. فكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رويم (أمير المدائن) يأمره بمحاربة ابن الحرّ ، فأرسل يزيد ابنه (حوشب) فتلاقى الجيشان في (باجسرا). (١) فدارت بينهما معركة ضارية انهزم فيها حوشب ، ثمّ جاء ابن الحرّ ودخل المدائن وتحصّن فيها ، ثمّ أخذ يغير على السواد ويجبي الخراج ، وفي ذلك قال ابن الحرّ : (٢)

سلوا ابن رويم عن جلادي وموقفي

بإيوان كسرى لا أليهم ظهري

أكرّ عليهم معلما وتراهم

كمفرى تحنّى خشية الذئب بالصخر

وبيتهم في حصن كسرى بن هرمز

بمشحوذة بيض وخطيّة سمر

فأجزيتهم طعنا وضربا تراهم

يلوذون فيا موهنا بذرى القصر

يلوذون منّي رهبة ومخافة

لواذا كما لاذ الحمائم من صقر

وعند ما استولى الخوارج على ما بين الأهواز وأصفهان سنة (٦٨) للهجرة ، فأخذوا يقتلون وينهبون ، ثمّ ذهبوا إلى الريّ (٣) وكان أميرها حينذاك يزيد ابن رويم ، فقاتلهم يزيد ابن رويم قتالا شديدا ، ولمّا رأى كثرتهم ، وأنّه لا قدرة له على قتالهم ، دخل المدينة واعتصم بها ، ثمّ جاء الخوارج فحاصروه ، فلمّا طال عليه الحصار ، خرج وقاتلهم ومعه ابنه (حوشب) وأثناء المعركة ترك (حوشب) أباه يقاتل لوحده وهرب ، ثمّ انقلب أهل الريّ ، وانظموا إلى الخوارج فقتل يزيد بن رويم وقتلت معه زوجته (لطيفة) ، فقال الشاعر في حوشب : (٤)

مواقفنا في كلّ يوم كريهة

أسر وأشفى من مواقف حوشب

__________________

(١) باجسرا : اسم منطقة قرب ناحية أبي صيدا (با صيدا) في محافظة ديالى.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٦ / ١٣٥.

(٣) الريّ : عاصمة خراسان.

(٤) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٢٨٥. والمبرد ـ الكامل. ج ٣ / ٣٤٣. والزركلي ـ الأعلام. ج ٩ / ٢٣١.

٢٨٠