أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

مالك سنة (٦٧) (١) للهجرة ، قتله ورقاء النخعي ، فقال ورقاء عند قتله السائب : (٢)

من مبلغ عنّي عبيدا بأننّي

علوت أخاه بالحسام المهند

فإن كنت تبغي العلم عنه فإنّه

صريع لدى الديرين غير موسد

وعمدا علوت الرأس منه بصارم

فأثكلته سفيان بعد محمّد

٢٣ ـ مصعب بن الزبير :

هو : مصعب ببن الزبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب القريشيّ ، الأسديّ. وكنيته : أبو عبد الله وقيل أبو عيسى. (٣)

دخل مصعب بن الزبير إلى الكوفة سنة (٦٧) للهجرة ، وذلك بعد قتل المختار بن عبيد الثقفيّ. (٤)

نشأ مصعب عند أخيه عبد الله بن الزبير ، فكان عضده القوي لتثبيت ملكه في الحجاز والعراق (٥). وكان مصعب بن الزبير شجاعا ، جميلا ، وسيما ، سفّاكا للدماء ، كان يحسد على جماله ، وقيل : ما رؤي أميرا قط أحسن من مصعب ، وكان يلقب ب (آنية النحل) وذلك لكثرة سخائه وعطاءه (٦) ، وفيه

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٦٣. وابن شاكر الكثبي ـ فوات الوفيات. ج ٤ / ٥١٦ وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٢٩٣.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٦ / ١٠٣.

(٣) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١٣ / ١٠٥.

(٤) البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٤٣.

(٥) الزركلي ـ الأعلام. ج؟ / ١٤٩.

(٦) إنّ الشجاعة والكرم ، صفتان متلازمتان في الإنسان ، فالرجل الشجاع لابّد أن يكون كريما إلّا في (أخيه) عبد الله بن الزبير ، فقد بلغ الغاية في الشجاعة كما بلغ الغاية في البخل ، ونوادره بذلك مشهورة وكثيرة ، منها (أكلتم تمري ، وعصيتم أمري).

٢٤١

قال عبيد الله بن قيس الرقيات : (١)

إنّما مصعب شهاب من الله

تجلت عن وجهه الظلماء

ملكه ملك عزّة ليس فيها

جبروت يخشى ولا كبرياء

يتّقي الله في الأمور وقد

أفلح من كان همّه الاتقاء

وكان عبد الله بن الزبير ، قد أرسل ابنه (حمزة) أميرا على البصرة سنة (٦٨) (٢) للهجرة ، وكان حمزة ضعيف الشخصية ، فاستضعفه أهل البصرة ، فعندها عزله أبوه وعيّن مكانه أخاه (مصعب) ، ولمّا وصل مصعب إلى البصرة ، خطب فيهم وقال : (يا أهل البصرة ، بلغني عنكم بأنّه لا يأتيكم أمير إلا ولقبتموه ، وإنّي ألقب نفسي (أنا الجزار) أو قال : (أنا القصاب». (٣)

وفي سنة (٦٧) للهجرة ، أمر عبد الله بن الزبير أخاه (مصعب) بالتوجّه إلى الكوفة لمحاربة المختار بن عبيد الثقفيّ ، ولمّا وصل مصعب إلى الكوفة ، حاصر المختار في قصر الإمارة ، ثمّ قتله وقتل جميع من كان معه ، وقتل زوجته (ابنة النعمان بن بشير الأنصاريّ) ، وفي قتلها قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت : (٤)

أتى راكب بالأمر ذي النبأ العجب

بقتل ابنة النعمان ذي الدين والحسب

بقتل فتاة ذات دلّ ستيرة

مهذّبة الأخلاق والخيم والنسب

أتاني بأن الملحدين توافقوا

على قتلها لا جبنّوا القتل والسلب

فلا هنأت آل الزبير معيشة

وذاقوا لباس الذلّ والخوف والحرب

إلى أن قال :

__________________

(١) ابن قتيبة ـ عيون الأخبار. ج ١ / ١٠٣. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٤ / ١٤٢.

(٢) ابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٧٦.

(٣) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٩٣. وابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٣ / ٤٣.

(٤) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١١. وتاريخ الطبري. ج ٦ / ١١٢.

٢٤٢

عجبت لها إذ كفّنت وهي حيّة

إلّا أنّ هذا الخطب من أعجب العجب

وقيل : بعد ما قتل المختار ، بقي معزولا عن البصرة ، عزله أخوه عبد الله ابن الزبير وولّى أبنه (حمزّه) ثمّ ذهب مصعب إلى (مكّة) فأعاده أخوه إلى إمارة البصرة. ولمّا قتل المختار في الكوفة ، رجع مصعب إلى البصرة ، واستخلف على الكوفة ، الحارث بن أبي ربيعة (١) (القباع).

وفي سنة (٧١) للهجرة ، ذهب مصعب إلى مكّة لاداء فريضة الحج ، ومعه وجوه وزعماء أهل الكوفة ، فدخل على أخيه (عبد الله) فقال له : (يا أمير المؤمنين ، قد جئتك بزعماء أهل العراق ، ووجهائهم). فقال عبد الله : (جئتني بعبيد أهل العراق؟ لا أعطهم مال الله ، ووددت والله أنّ لي بكلّ عشرة منهم رجلا من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم). (٢)

فخرج مصعب ، ومن معه من أهل العراق ثائرين ، غاضبين على عبد الله بن الزبير لأنّه حرمهم عمّا كانوا يأملون ، ثمّ فسدت قلوبهم ، وتغيّرت اتجاهاتهم ، فكتبوا سرّا إلى عبد الملك بن مروان ، للتخلّص من مصعب بن الزبير. (٣)

ولمّا استقرّت البيعة لعبد الملك بن مروان بالشام ، قرّر المجيء إلى العراق لمحاربة مصعب بن الزبير ، فقال له الحجّاج بن يوسف الثقفيّ : (سلطني يا أمير المؤمنين على أهل الشام ، والله لأخرجنهم معك جميعا). (٤)

فأخذ الحجّاج يحرق دار كلّ رجل يتخلّف عن اللّحاق بجيش عبد الملك بن مروان ، فلمّا رآى أهل الشام ذلك خرجوا جميعا ، فسار بهم عبد

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٦ / ١١٩ وابن الأثير. ج ٤ / ٢٧٩ و٢٨١.

(٢) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٢ / ٩٨.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٩ / ١٢٢.

(٤) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٤ / ٤١٠.

٢٤٣

الملك حتّى قرب من العراق ، وجاء مصعب بجيش أيضا حتّى التقى الجيشان في (مسكن) (١). وكان عبد الملك ، قد كاتب وجوه أهل العراق ، بأنه سيولّيهم المناصب ، ويغرق عليهم الأموال الطائلة ، إن هم خذلوا مصعب بن الزبير في الحرب ، ولمّا التقا الجيشان ، هرب أصحاب مصعب إلى جانب جيش عبد الملك ولم يبق مع مصعب سوى نفر قلّة ، فأخذ يقاتل مقاتلة الأبطال ، يضرب بالسيف تارة ، ويطعن بالرمح تارة أخرى ، وهو يقول : (٢)

وإنّي على المكروه عند حضوره

أكذّب نفسي والجفون له تنضي

وما ذاك من ذلّ ، ولكن حفيضة

أذبّ بها عند المكارم عن عرضي

وإنّي لأهل الشرّ بالشرّ مرصد

وإنّيّ لذي سلم أذلّ من الأرض

وقيل إنّ كافة الّذين كاتبوا عبد الملك من قادة أهل العراق قد أجابوه إلى طلبه ما عدا إبراهيم بن مالك الأشتر ، فإنّه ذهب إلى مصعب ، وأخبره بأن عبد الملك قد كتب إليه كتابا يعده بأمرة العراق إنّ هو ترك مصعبا ، وتخلّى عنه ، وأنه قد كتب كتبا مماثلة إلى فلان وفلان من وجوه أهل العراق ، وهي موجودة لديه ، ثمّ اقترح ابن الأشتر على مصعب ، أن يقتل أولئك الّذين كاتبهم عبد الملك ، فرفض مصعب وقال : (إذا تغضب عشائرهم). (٣)

فقال إبراهيم : (فاسجنهم لحين انتهاء الحرب). فقال مصعب : (إنّي لفي شغل عن ذلك). وعند ما التقى الجيشان ، هرب أشراف العراق ، والتحقوا بعبد الملك ، وهرب عتاب بن ورقاء وخذلوا (مصعب).

وفي ذلك قال عبد الله بن قيس الرقيات : (٤)

__________________

(١) مسكن : اسم مكان على نهر دجيل ، قرب دير الجاثليق ، وفيه قبر مصعب بن الزبير.

(٢) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١٣ / ١٠٧.

(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٩ / ١٢٤. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٤ / ١٤٤.

(٤) المصدر السابق. ج ١٩ / ١٢٨. ونفس المصدر التالي.

٢٤٤

إنّ الرّزية يوم مسكن

والمصيبة والفجيعة

بابن الحواري الّذي

لم يعده يوم الوقيعة

غدرت به مضر العراق

وأمكنت منه ربيعة

تا الله لو كانت له

بالدير يوم الدير شيعة

لوجدتموه حين يحدر

لا يعرس بالمضيعة

وقيل إنّ مصعب بن الزبير ، لما رأى غدر أهل العراق ، قال لابنه (عيسى) اذهب إلى عمّك أمير المؤمنين ، واخبره بما فعل أهل العراق ، ودعني فإنّي مقتول لا محالة ، فقال له ابنه (عيسى) لا أخبر قريشا عنك أبدا ولكن اذهب أنت إلى البصرة فهم على الطاعة ، أو الحقّ بأمير المؤمنين. فقال له أبوه مصعب : (لا تتحدث قريش بأنني فررت لخذلان ربيعة ، وما السيف بعار ، وما الفرار لي بعادة ولا خلق). فقاتل عيسى مع أبيه حتّى قتل. (١)

وقيل إنّ عبد الملك بن مروان قد عرض الأمان لمصعب على أن يوليه إمارة العراقين طيلة حياته ، ومليوني درهم على أن لا يقاتل ، فرفض مصعب ، وكان عبد الملك ودودا لمصعب وصديقا له. (٢)

وقيل إنّ مصعب بن الزبير سأل عروة بن المغيرة ، كيف قاتل الحسين ابن عليّ القوم ولم يستسلم فقال له متمثلا بقول سليمان بن قتة : (٣)

إنّ الأولى بالطفّ من آل هاشم

تأسّوا فسنّوا للكرام التأسيا

فقال عروة : (عندها علمت أنّ مصعب لا يفرّ أبدا).

ثم قتل مصعب بن الزبير عند (دير الجاثليق) على شاطئ الفرات سنة (٧٢) للهجرة وعمره أربعون سنة ، وقيل (٤٥) سنة ، قتله عبيد الله بن زياد

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٩ / ١٢٥.

(٢) الزركلي ـ الأعلام. ج ٨ / ١٤٩.

(٣) الدينوري ـ الأخبار الطوال. ص ٣١١.

٢٤٥

ابن ظبيان (ثأرا لأخيه). (١) وقيل قتله غلام لعبيد الله بن ظبيان ، ثمّ قطع رأسه وذهب به إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول : (٢)

نطيع ملوك الأرض ما أقسطوا لنا

وليس علينا قتلهم بمحرم

وقيل إنّ الّذي قتله هو زائدة بن قيس السعديّ ، وقيل الثقفيّ ، حيث طعنه بسهم وكان زائدة في جيش مصعب. (٣)

وقيل قتل مصعب بن الزبير في يوم الخميس من شهر جمادي الآخر سنة (٧١) (٤) للهجرة ، وقيل قتل يوم الثلاثاء ، في الثالث عشر من شهر جمادي الأولى من سنة (٧٢) للهجرة ، وقيل قتل في شهر ذي القعدة من سنة (٧٢) (٥) للهجرة. ثمّ استولى عبد الملك بن مروان على العراق ، فولّى أخاه (بشر بن مروان) وفيه قال الشاعر : (٦)

قد استولى ابن بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وقال عبد الله بن قيس الرقيّات يرثي مصعبا : (٧)

لقد أورث المصرين خزيا وذلّة

قتيل بدير الجاثليق مقيم

فما قاتلت في الله بكر بن وائل

ولا صبرت عند اللقاء تميم

ولكنه رام القيام ولم يكن

لها مغري يوم ذاك كريم

وقيل : لما وضع رأس مصعب أمام عبد الملك قال : (متى تلد قريش

__________________

(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٤ / ١٤٥.

(٢) ابن قتيبة ـ الإمامة والسياسة. ج ٢ / ٣٠. والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١٠٨.

(٣) الزركلي ـ الأعلام. ج ٨ / ١٤٩.

(٤) محمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ص ١٠٣.

(٥) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٦٥. وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٧٩. وصالح خريسات ـ تهذيب الطبري. ص ٤٠٠.

(٦) ابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٧٩.

(٧) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٦ / ٢٦٨. وأبو الفرج الأصبهاني ـ الاغاني. ج ١٩ / ١٢٦. وابن العمري ـ مسالك الأبصار. ج ١ / ٣٠٨.

٢٤٦

مثلك!!) ، ثمّ قال أيضا : (هذا سيّد شباب قريش). وقيل لعبد الملك : (هل كان مصعب يشرب الخمر؟) ، فقال : (لو علم مصعب أنّ الماء يفسد مروءته ما شربه). (١)

ولمّا سمع عبد الله بن الزبير بمقتل أخيه مصعب ، خطب بالناس قائلا : (الحمد لله الّذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ، إنّه لن يذلّ من كان الحقّ معه وإن كان فردا ، ولن يعزّ من كان أولياء الشيطان حزبه ، وإن كان معه الأنام). وقال في خطبته أيضا : (ألا إنّ أهل العراق ، أهل الشقاق والنفاق ، باعوه بأقلّ ثمن كانوا يأخذونه منه ... أما والله ، لا نموت حتف أنوفنا ، كما يموت بنو مروان ، ولكن قعصا بالرماح ، وموتا تحت ضلال السيوف ... الخ). (٢)

وقيل إنّ عبيد الله بن ظبيان ، لما قتل مصعب قال : (٣)

إنّ عبيد الله ما دام سالما

لسار على رغم العدو وغادي

نحن قتلنا ابن الزبير ورأسه

حززناه برأس النابئ ابن زياد

٢٤ ـ الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة :

هو : الحارث بن عبد الله (٤) بن أبي ربيعة (٥) بن المغيرة بن عبد الله بن

__________________

(١) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج ٤ / ٤١١.

(٢) المصدر السابق. ج ٤ / ٤١٢.

(٣) قال عبد الله بن ظبيان لما قتل مصعب (عن قتلنا ابن الزبير وراسه) النذوات ج ١ / ٧٩ ، يلاحظ المسعودي ج ٣ / ١٠٨.

(٤) عبد الله : وكان اسمه في الجاهلية (بحيرا) فسماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله ، وكانت قريش تسميه (العدل) وقد ولّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمارة (الجند) في اليمن.

(٥) أبي ربيعة : واسمه : حذيفة ، وكان أبو ربيعة يسمى (ذا الرمحين) وذلك لطوله ، وقيل أنه قاتل (يوم عكاظ) برمحين.

٢٤٧

عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. (١) استخلفه مصعب بن الزبير أميرا على الكوفة سنة (٦٧) (٢) للهجرة ، وذلك بعد مقتل المختار بن عبيد الثقفيّ ورجوع مصعب إلى البصرة. وقيل سنة (٦٨) (٣) للهجرة.

وولّاه عبد الله بن الزبير إمارة البصرة لمدّة سنة واحدة ، عزله بعدها. (٤) وعند مرور الحارث بن عبد الله بسوق البصرة ، رآى مكيالا فقال : (إنّ مكيالكم هذا القباع). (٥) فلقبه أهل البصرة ب (القباع). وقال أبو الأسود الدؤلي يهجوه : (٦)

أمير المؤمنين جزيت خيرا

أرحنا من قباع بني المغيره

بلوناه ولمناه فأعيا

علينا ما يمرّ لنا مريره (٧)

على أن الفتى نكح أكول

وولاج مذاهبه كثيره

كأنّا حين جئناه أطعناه

بضبعان تورّط في حضيرة

وكان الحارث بن عبد الله رجلا صالحا ، دينا ، خطيبا بليغا من زعماء قريش ، وكانت أمّه (شجا) حبشيّة ـ نصرانيّة ، تخفى عليه بقائها على دينها القديم ، فلمّا ماتت أمّه ، وجاء الناس لتشييعها ، جاءت إليه جارية من جواريه ، وأخبرته : بأنه وجد (صليب) في رقبة أمه عند تغسيلها ، عندها

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١ / ٦١. وابن حزم ـ جمهرة أنساب العرب. ص ١٤٧. والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٤ / ١٨١.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ١٤٧. وتاريخ الطبري. ج ٦ / ١١٨. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٢٧٩.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٢٨١ و٢٩٢.

(٤) ابن حزم الأندلسي ـ جمهرة أنساب العرب. ص ١٤٧. وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٦ / ١٥٩.

(٥) العسقلاني ـ تهذيب التهذيب. ج ٢ / ١٥٢. وتقريب التقريب. ص ٨٦. ومحمّد مرتضى الحسيني الزبيدي ـ تاريخ العروس. ج ٢١ / ٢٥٠.

(٦) بن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٢٩. وابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٢ / ١٩٢.

(٧) المريرة : الحبل المفتول جيدا.

٢٤٨

قال الحارث للناس : (يرحمكم الله ، إنّ لها أهل ملّة ، هم أولى بها منكم) ، فعظّمه الناس بعد ذلك واحترموه. (١) وعند ما جاءت الخوارج إلى الكوفة (في أيّام إمارته) لم يستعد الحارث ويتهيأ لملاقاتهم ، خوفا منه وجبنا ، فلامه الناس ، ثمّ شجعه إبراهيم بن مالك الأشتر لمحاربتهم ، فخرج الحارث متثاقلا حتّى وصل إلى (النخيلة). وفيه قال الشاعر : (٢)

إنّ القباع سار سيرا نكرا

يسير يوما ويقيم شهرا

ثمّ أخذ القباع يحث الناس ويعدهم بأنّه سيخرج على أثرهم ، والخوارج يعبثون ، حتّى أنّهم أخذوا امرأة وقتلوا أباها بين يديها ، ثمّ لحقوها بأبيها ، ثمّ جاءوا بامرأة أخرى ، والقباع على مقربة منهم ، والنهر ما بينهم وعليه جسر ، فأخذت تنهزم إلى جانب الخوارج ، عندها قطع القباع الجسر ، وأقام (هو) ما بين (دباها ودبيري) (٣) خمسة أيّام ، وهو يقول للناس في كل يوم : (إذا لقيتم العدو غدا فثبّتوا أقدامكم ، واصبروا فإنّ أوّل الحرب الترامي ، ثمّ أشراع الرماح ، ثمّ سلّ السيوف ، فثكلت رجلا أمّه فرّ من الزحف).

فقال بعضهم : أما الصفة فقد سمعناها ، فمتى يقع الفعل؟ وقال الراجز : (٤)

إنّ القباع سار سيرا ملسا (٥)

بين دباها ودبيري خمسا

وبعد أن عاث الخوارج في الكوفة فسادا ، رحلوا عنها ، فرجع القباع اليها.

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٦ / ١٥٩.

(٢) المبرد ـ الكامل. ج ٣ / ٣٣٩.

(٣) دباها ودبيري : قريتان من قرى بغداد.

(٤) المبرد ـ الكامل. ج ٣ / ٢٤٠.

(٥) ملسا : السير السريع.

٢٤٩

وكان الحارث بن عبد الله جالسا ذات يوم في مجلس عبد الملك بن مروان فسأله عبد الملك : ما ذا كان يقول الكذّاب (١) فيّ كذا وكذا؟ فقال الحارث : ما كان كذّابا. فقال له يحيى بن الحكم : من أمّك يا حار؟ قال الحارث : هي الّتي تعلم. فقال عبد الملك ليحيى : اسكت فهي أنجب من أمك.

ومن ظريف ما يحكى عن الحارث بن عبد الله ، أنّه ذهب ذات يوم لزيارة أخيه الشاعر (الذائع الصيت) عمر بن أبي ربيعه ، فلم يجده في الدار ، فنام الحارث في فراش عمر ، وغطى وجهه ، فجاءت (الثريا) (٢) وألقت بنفسها عليه ، وأخذت تقبله ، فانتبه الحارث وقال لها : (أغربي عنّي ، فلست بالفاسق ، أخزاكما الله).

فلمّا عرفت (الثريا) بأنّ النائم لم يكن (عمر) خرجت مسرعة ، وعند ما عاد عمر إلى الدار ، أخبره (الحارث) بخبرها ، فقال له عمر : (أما والله لن تمسّك النار أبدا ، ما دامت الثريا ألقت بنفسها عليك). فقال

__________________

(١) الكذّاب : يقصد به المختار بن عبيد الثقفيّ.

(٢) الثريا : بنت عليّ بن عبد الله بن الحارث بن أميّة الأصغر ، وهي مكيّة ، قرشية ، حباها الله بالفن والجمال ، والأصالة والكرم ، أحبت الشاعر عمر بن أبي ربيعة ، وبادلها هو بنفس الحبّ ، وقال فيها أشعارا كثيرة ، نقتطف منها هذه الأبيات عند ما هجرته :

من رسولي إلى الثريا فإني

ضقت ذرعا بهجرها والكتاب

سلبتني فجاجة المسك تحيّر منها

فسلوها ماذا حلّ اغتصابي

وهي مكنونة تحيّر منها

في أديم الخدين ماء الشراب

أبرزوها مثل المهاة تهادي

بين خمسا كواعب أتراب

ثم قالوا : تحبها قلت بهرا

عدد القطر والحصى والتراب

ثم تزوجت الثريا هذه من سهيل بن عبد الرحمن بن عوف فقال الشاعر :

ايها المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت

وسهيل إذا ما استقل يماني

٢٥٠

الحارث : (عليك وعليها لعنة الله).

وكان الحارث ينصح أخاه ، وينهاه عن قول الشعر ، فقال له عمر : (إنّي لا أقدر على ذلك مادمت في مكّة ، فأعطاه الحارث ألف دينار ، على أن لا يقول الشعر ، فأخذ عمر الألف دينار ، وذهب إلى أخواله في اليمن ، وبقي عندهم أشهرا ، فأخذه الحنين إلى الثريا ، فأخذ يقول شعرا نقتبس منه ما يلي : (١)

هيهات من أمّة الوهاب منزلنا

إذا حللنا بسيف البحر من عدن

واحتلّ أهلك أجيادا وليس لنا

إلا التذكّر أو حفظ من الحزن

ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها

وموقفي كلانا ثمّ ذو شجن

وقولها للثريا ، وهي باكية

والدمع فيها على الخدين ذو سنن

بالله قولي له في غير معتبة

ماذا أردت بطول المكث في يمن؟

إن كنت حاولت دينا أو ظفرت بها

فما أخذت بترك الحجّ من يمن؟

وقال مرة بن محكان في الحارث : (٢)

أحار تبيّن في الأمور فإنه

إذا الأمير عدا في الحكم أو فسدا

فإنك محلول عليك وضاعن

فمهما تصبه اليوم تدرك به غدا

ولمّا حوصر عثمان بن عفّان في داره سنة (٣٥) للهجرة ، جاء الحارث ابن عبد الله لينصره ، لكنّه سقط عن دابته في الطريق فمات قرب مكّة. (٣) وقيل لما مرض عمر بن أبي ربيعة ، مرضه الّذي مات فيه ، أسف عليه أخوه الحارث ، فقال له عمر : (يا أخي ، إن كان أسفك لما سمعت من قولي : قلت

__________________

(١) إبراهيم بن عليّ المصري ـ زهر الآداب. ج ١ / ٤٢٣. وجبرائيل جبور ـ عمر بن أبي ربيعة. ج ٣ / ٣٦. وديوان عمر بن أبي ربيعة ـ تحقيق عليّ ملكي. ص ١٥٧.

(٢) القرطبي ـ بهجة المجالس. ج ١ / ٣٦١.

(٣) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٢ / ١٩٢. وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٢٠١.

٢٥١

لها ، وقالت لي ، فكلّ مملوك لي حرّ إنّ كان كشف فرجا حراما قط) (١). فقال الحارث : (الحمد لله ، طيبت نفسي). (٢)

٢٥ ـ عبد الملك بن مروان :

هو : عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن امية بن عبد شمس بن عبد مناف. وكنيته : أبو الوليد ويقال له : (أبو الأملاك) أو (أبو الملوك) لأنّه تولّى الخلافة من بعده أربعة من اولاده هم (٣) : ١ ـ الوليد ، ٢ ـ سليمان ، ٣ ـ يزيد ، ٤ ـ هشام. بويع بالخلافة في دمشق (بعد موت ابيه) في الثالث من شهر رمضان من سنة (٦٥) للهجرة ، وقيل سنة (٦٤) للهجرة وعمره (٥٧) (٤) سنة.

ودخل عبد الملك إلى الكوفة سنة (٧٢) للهجرة ، بعد مقتل مصعب ابن الزبير (٥). وعبد الملك بن مروان قد جالس العلماء والفقهاء ، وحفظ عنهم الكثير ، وكان خطيبا ، ينظم الشعر ، ويحفظ منه كثيرا ، سئل مرة وقيل له : قد أسرع الشيب إليك. فقال : (شيبتني كثرة إرتقاء المنابر مخافة اللّحن) (٦).

وعند ما بويع بالخلافة قال فيه أعشى بني شيبان (٧) :

عرفت قريش كلّها

لبني العاصي الإمارة

__________________

(١) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ٣١٥.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) ابن عبد ربه الإندلسي ـ العقد الفريد ج ٤ / ٣٩٨ والمزي ـ تهذيب الكمال ج ١٨ / ٤٠٨ وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق ج ١٥ / ٢١٩.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ١٠ / ٣٨٨ وابن منظور مختصر تاريخ دمشق ج ١٥ / ٢٢٤.

(٥) المسعودي ـ مروج الذهب ج ٣ / ١٠٨ وابن الجوزي ـ المنتظم ج ٦ / ١١٢ والتوفيقات الألهامية ـ محمّد مختار باشا ج ١٠٣.

(٦) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق ـ ج ١٥ / ٢١٩ و٢٧٧.

(٧) تاريخ الطبري ـ ج ٦ / ٤٢٢.

٢٥٢

لأبرها وأحقها

عند المشورة بالاشارة

المانعين لمّا ولّوا

والنافعين ذوي الضراوة

وهم أحقّهم بها

عند الحلاوة والمرارة

وفي أوّل خطبة له عند ما بويع بالخلافة قال عبد الملك : (أيّها الناس ، ما أنا بالخليفة المستضعف ، ولا بالخليفة المداهن ، ولا بالخليفة المأفون فمن قال برأسه كذا ، قلنا له بسيفنا : كذا). ثمّ نزل.

ولمّا استتبت الأمور لعبد الملك بالشام ، جهّز جيشا كبيرا (بقيادته) لمحاربة مصعب بن الزبير وكان قبل ذلك قد كتب عبد الملك إلى زعماء وقادة أهل العراق يدعوهم إلى مبايعته ، وانه سيوليهم المناصب ، ويعطيهم الأموال الطائلة إن هم خذلوا (مصعب) عند التقاء الجيشين ، فسار عبد الملك بجيشه حتى وصل إلى قرية (مسكن) فالتقى بجيش مصعب وعلى مقدمته إبراهيم ابن مالك الأشتر ، وبعد معركة ضارية ، قتل فيها إبراهيم الأشتر (١). فتقدم عبد الملك بجيشه حتّى وصل إلى (دير الجاثليق) من أرض السواد ، وحدثت معركه عنيفة بينه وبين مصعب ، قتل خلالها مصعب ، وجيء برأسه إلى عبد الملك في الثالث عشر من شهر جمادي الأولى من سنة (٧٢) (٢) للهجرة ، وقيل إنّ الّذي جاء برأسه هو عبيد الله بن زياد بن ظبيان وهو يقول (٣) :

نعاطي الملوك ما قسطوا لنا

وليس علينا قتلهم بمحرم

وبعد مقتل مصعب ، خطب عبد الملك في النخيلة فقال : (أيّها الناس ، دعوا الأهواء المضلّة ، والآراء المتشتته ، ولا تكلّفونا أعمال المهاجرين ، وأنتم لا تعلمون بها ، فقد حاربتمونا إلى السيف ، فرأيتم كيف صنع الله بكم ، ولا

__________________

(١) وقبره في الدجيل قرب (سميكة) وقد سميت بناحية الإبراهيمية ، نسبة إليه.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ٢٦٥ وابن العماد ـ الشذرات ج ١ / ٧٩.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب ج ٣ / ١٠٨.

٢٥٣

أعرفنكم بعد الموعظة تزدادون جرأة فإنّي لا ازداد بعدها إلّا عقوبة ، وما مثلي ومثلكم ، إلا كما قال أبو قيس الأسلت (١) :

من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة

يصل بنار كريم غير غدّار

أنا النذير لكم مني مجاهرة

لي لا ألام على نهيي وأعذار

فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا

أن سوف تلقون خزيا ظاهر العار

وصاحب الوتر ليس الدهر ومدركه

عندي وإنّي لطلّاب لأوتار

أقيم عوجته إن كان ذا عوج

كما يقوم قدح النبعة الباري

ثمّ بعد ذلك دخل عبد الملك إلى الكوفة ، وتمّت له البيعة فعيّن الولاة (الأمراء) وأعطى الهدايا لمن واعدهم بذلك وعيّن (قطن بن عبد الله الحارثي) (٢) أميرا على الكوفة ثمّ عزله ، وولّى مكانه اخاه (بشر بن مروان).

ثم صعد عبد الملك بن مروان منبر الكوفة فقال : (إنّ عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ، ولم يغرس ذنبه في الحرم) (٣). ثمّ قال : (إنّي قد استعملت عليكم بشر بن مروان وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة ، والشدّة على أهل المعصية ، فاسمعوا له وأطيعوا) (٤). وعن عبد الملك ابن عمير بن سويد أنّه قال : (كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الإمارة ، حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه ، فرآني عبد الملك بوضع مرعب ، فقال لي : ماذا بك؟! فقلت : أعيذك بالله يا أمير المؤمنين ، فقد كنت بهذا القصر وبهذا المكان مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين ابن عليّ بن أبي طالب بين يديه ، ثمّ رأيت رأس عبيد الله بن زياد قد جيء

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني ج ١٧ / ١٣١.

(٢) ولم تدم امرة قطن الحارثي على الكوفة سوى اربعين يوما (عرس واوية) كما يقول المثل العامي.

(٣) الحرم : بيت الله الحرام (الكعبة).

(٤) تاريخ الطبري ج ٦ / ١٦٤.

٢٥٤

به ووضع في هذا المكان بين يدي المختار ، ثمّ رأيت رأس المختار قد جيء به فوضع بين يدي مصعب بن الزبير ، ثمّ جيء برأس مصعب (هذا) فوضع بين يديك). فقام عبد الملك من مكانه ، وأمر بهدم ذلك الطاق (الّذي كنّا فيه) (١).

ثمّ أنّ عبد الملك بن مروان ، أمر الحجّاج بن يوسف الثقفيّ بالذهاب إلى (مكّة) لقتال عبد الله بن الزبير ، فذهب الحجّاج إلى مكّة في أوائل شهر ذي الحجّة من سنة (٧٢) للهجرة وحاصرها لمدّة خمسين ليلة ثمّ ضربها بالمنجنيق فاحتمى عبد الله بن الزبير بالكعبة وهو يقول : (٢)

يا ربّ إنّ جنود الشام قد كثروا

وهتكوا من حجاب البيت أستارا

يا ربّ إنّي ضعيف الركن مضطهد

فابعث إليّ جنودا منك أنصارا

ثم تفرقت عنه أصحابه ، وقتل عبد الله بن الزبير في الرابع عشر من شهر جمادي الأولى من سنة (٧٣) (٣) للهجرة ، وقيل سنة (٧٢) (٤) ، ثمّ صلبه الحجّاج في مكّة.

وذهب وفد من أهل الكوفة إلى عبد الملك بن مروان ، فلمّا دخلوا عليه ، شاهد فيهم رجلا طويل القامة أسود الوجه ، فكلّمه عبد الملك فأجابه ذلك الرجل بكلّ أدب ورقّة فعجب به عبد الملك ، وعند ما خرج ذلك الرجل من مجلس عبد الملك ، تمثل عبد الملك بقول عمرو بن شاش : (٥)

فإنّ عرارا أن يكن غير واضح

فإنّي أحبّ الجون (٦) ذا المنكب العمم (٧)

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب ج ٣ / ١١٠ وإبن خلكان ـ وفيات الأعيان ج ٣ / ١٦٤.

(٢) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١١٤.

(٣) طبقات ابن خياط. ص ٢٣٢.

(٤) ابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٣٠٧.

(٥) ابن قتيبة ـ عيون الأخبار. ج ٤ / ٤٢.

(٦) الجون : الأسود.

(٧) العمم : الطويل

٢٥٥

فالتفت ذلك الرجل عند خروجه إلى عبد الملك وضحك ، فأمر عبد الملك بإحضاره وأحضر ، فقال له عبد الملك : (ما الّذي أضحكك؟!) فقال : (أنا والله عرار). فأكرمه عبد الملك ولاطفه إلى أن انصرف.

ودخلت ذات يوم (بثينة) (١) و (عزّة) (٢) على عبد الملك ، فقال لعزّة : (أنت عزّة كثير) فقالت : (لست لكثير بعزّة ، ولكننّي أم بكر) فقال عبد الملك : (وهل تحفظين قول كثير؟) (٣) :

وقد زعمت أني تغيرت بعدها

ومن ذا الّذي يا عزّ لا يتغير؟!

تغير خلقي والمودة كالذي

عهدت ولم يخبر بسري مخبر

قالت عزّة : لست أحفظ هذا ولكننّي أروي قوله :

كأني أنادي أو أكلم صخرة

من الصم لو تمشي بها العصم زلت

صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة

فمن ملّ منها ذلك الوصل ملتّ

وقيل التقى عبد الملك بن مروان بأعرابي وكان لوحده فقال له : أتعرف عبد الملك؟ فأجابه الأعرابي : (إنّه جائر ، بائر). فقال له عبد الملك : (ويحك ، أنا عبد الملك بن مروان). فقال الأعرابي : (لا حيّاك ولا بيّاك ، ولا قرّبك ، أكلت مال الله وضيعت حرمته). فقال عبد الملك بن مروان : (أنا أضر وأنفع). فقال الأعرابي : (لا رزقني الله نفعك ، ولا دفع عنّي ضرك).

وحينما جاء حرّاس عبد الملك وأصحابه ، قال الأعرابي : (أكتم ما جرى بيننا

__________________

(١) بثينة : بنت حبّان بن ثعلبة العذرية ، كان جميل بن عبد الله بن معمر الشاعر العذري قد أحب بثينة هذه منذ الصغر ، فلمّا كبر خطبها إلا أن أهلها رفضوا خطبته فهام بها ، وقيل (جميل بثينة). وقد ماتت بثينة بعد موت جميل بمدّة قصيرة. ماتت سنة (٨٢) للهجرة.

(٢) عزّة : بنت جميل العمرية ، وكثير عزة : هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر الخزاعي ، شاعر متيم من أهل المدينة ، أحب (بثينة) حبا عنيفا ثمّ هام في حبها ، وقال الأشعار الكثيرة فيها ، وأثناء موته قال : قومي بثينة فاندبي بعويل وابكي خليلا دون كل خليلي.

(٣) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ١ / ٤٨٠.

٢٥٦

فالمجالس أمانة). (١)

وقيل أيضا : إنّ عبد الملك بن مروان قال لزفر بن الحارث الكلابي : ما بقي من حبّك للضحاك بن قيس؟ قال : ما لا ينفعه ولا يضرّك. فقال عبد الملك : لكثرة ما أحببتموه يا معاشر قريش؟ فقال زفر : أحببناه ولم نواسه ولو كنّا فعلنا أو أدركنا ما فاتنا عنه. فقال عبد الملك : وما منعك من مواساته يوم المرج (٢)؟ قال زفر : الّذي منع أباك مواساة عثمان يوم الدار (٣).

وجيء إلى عبد الملك برجل كان مع بعض من ثار عليه ، فأمر عبد الملك بقتله ، فقال الرجل : (يا أمير المؤمنين ، ما كان جزائي منك هذا)؟ فقال عبد الملك : (وما هو جزائك؟) فقال الرجل : (والله ما خرجت مع فلان إلّا من أجلك ، ذلك أنّي رجل مشؤوم ما خرجت مع رجل قط إلا غلب وهزم ، وقد تبيّن لك صحّة قولي وكنت عليك خيرا من مائة ألف معك) (٤).

فضحك عبد الملك وخلى سبيله.

ووقف عبد الملك بن مروان على قبر أبيه فقال : (٥)

وما الدهر والأيام إلا كما أرى

رؤية مال أو فراق حبيب

وإن إمرأ قد جرّب الدهر لم يخف

تقلّب عصريه لغير لبيب

وكتب الحجّاج بن يوسف الثقفيّ إلى عبد الملك بن مروان يقول :

__________________

(١) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٢ / ٣٢٣.

(٢) يوم المرج : (مرج راهط) وهي المعركة الّتي قتل فيها الضحّاك بن قيس وكان زفر بن الحارث قد هرب فيها.

(٣) يوم الدار : وهو اليوم الّذي حوصر فيه الخليفة عثمان بن عفّان في داره فقتلوه ولم يكن مروان بن الحكم (أبو عبد الملك) قد دافع عن عثمان آنذاك.

(٤) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ١٥ / ٢٢٩.

(٥) المصدر السابق. ج ١٥ / ٢٣١.

٢٥٧

(إن أردت أن يثبت لك ملكك فأقتل عليّ بن الحسين) (١). فكتب إليه عبد الملك : (أما بعد فجنبني دماء بني هاشم فانّي رأيت آل أبي سفيان لما أوصوا فيها ، لم يلبثوا إلى أن أزال الله الملك عنهم) (٢).

والتقى عبد الملك بن مروان ذات مرة بالإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام وكان ذلك عقيب الطواف حول الكعبة ، فقال له : يا عليّ بن الحسين ، إنّي لست قاتل أبيك ، فما يمنعك من زيارتي؟ فقال له عليه‌السلام : إنّ قاتل أبي أفسد فعله دنياه عليه ، وأفسد عليه أبي بذلك آخرته ، فإن أحببت أن تكون مثله فكن.

فقال له عبد الملك : (كلّا ، ولكن تعال الينا ، لتنال من دنيانا). (٣)

وكان عبد الملك بن مروان قد وضع الجواسيس لمراقبة الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام فكانت تصل إلى عبد الملك تقارير مفصّلة عن جميع نشاطات الإمام عليه‌السلام سواء منها الشخصيّة أو الاجتماعيّة ، وحتى العباديّة منها.

وأخبر عبد الملك بأن عليّ بن الحسين ، قد تزوج جارية له ، فكتب عبد الملك إلى الإمام عليه‌السلام يقول : أما بعد فقد بلغني تزويجك مولاتك ، وعلمت أنه كان في أكفائك من قريش تمجد به في الصهر ، وتستنجبه في الولد ، فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت ، والسلام).

فرد عليه الإمام زين العابدين عليه‌السلام قائلا : (.. وإنّما كانت ملك يميني ، خرجت منّي أراد الله عزوجل ، وما منّي بأمر التمست به ثوابه ، ثمّ ارتجعتها على سنته ، ومن كان زكيا في دين الله فليس يخلّ به شيء من أمره ، وقد رفع الله بالاسلام الخسيسة ، وتمم به النقيصة ، وأذهب اللؤم ، فلا لؤم على

__________________

(١) عليّ بن الحسين : بن أبي طالب ولقبه (زين العابدين) لكثرة عبادته ، كان مع ابيه يوم عاشوراء ولكنه لم يشارك في المعركة لمرضه. وهو رابع الأئمة الأثنا عشر.

(٢) المجلسي ـ البحار. ج ٤٦ / ٢٨.

(٣) المصدر السابق. ج ٤٦ / ١٢١.

٢٥٨

امرئ مسلم إنّما اللؤم لؤم الجاهلية والسلام).

فلمّا قرأ عبد الملك الكتاب ، أعطاه إلى ابنه سليمان ، فلمّا قرأه سليمان ، قال لأبيه : يا أمير المؤمنين ، لشدّ ما فخر عليك عليّ بن الحسين. فقال له أبوه : (يا بنيّ ، لا تقل ذلك ، فإنّها ألسن بني هاشم ، الّتي تفلق الصخر ، وتغرف من بحر ، إنّ عليّ بن الحسين يا بنيّ ، يرتفع من حيث يتّضع الناس). (١)

وقال عبد الملك للحجّاج بن يوسف الثقفيّ : (ما من أحد إلّا ويعرف عيوب نفسه ، فقل لي ما هي عيوبك ولا تخفي منها شيئا)؟ فقال الحجّاج : (يا أمير المؤمنين : أنا لجوج ، وحقود). فقال عبد الملك : (إذن بينك وبين إبليس نسب). فقال الحجّاج : (إنّ الشيطان إذا رآني سالمني). (٢)

ودخل جرير على عبد الملك (وكان عنده الشعراء) فمدحه بقصيدة نقتطف منها : (٣)

أتصحوا أم فؤادك غير صاحي

عشيّة همّ صحبك بالرواح

تقول العاذلات علاك شيب

أهذا الشيب يمنعني مزاحي؟

تعرت أم حزرة ثمّ قالت

رأيت الموردين (٤) ذوي لقاح

ثقي بالله ليس له شريك

ومن عند الخليفة بالنجاح

سأشكر إن رددت إليّ ريشي

وأنبت القوادم في جناحي

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح؟

فقال عبد الملك : من مدحنا منكم ، فليمدحنا بمثل هذا ، أو فليسكت.

__________________

(١) المجلسي ـ البحار. ج ٤٦ / ١٦٥.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٤ / ٥٨٦.

(٣) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ١ / ٣٢٥.

(٤) الموردين : الواردين.

٢٥٩

وقال الأخطل يخاطب عبد الملك بن مروان : (١)

إذا ما نديمي علنّي ثمّ علني

ثلاث زجاجات لهن هدير

خرجت أجرّ الذيل حتّى كأننّي

عليك أمير المؤمنين أمير

مات عبد الملك بن مروان بدمشق في يوم السبت في الرابع عشر من شهر شوال سنة (٨٦) (٢) للهجرة وصلى عليه ابنه الوليد وكان عمره (٦٠) سنة وقيل (٥٧) (٣) سنة وكانت مدّة خلافته ٢١ سنة وشهرا وخمسة عشر يوما.

٢٦ ـ قطن بن عبد الله الحارثي :

ولّاه عبد الملك بن مروان إمارة الكوفة سنة (٧٢) للهجرة ، ثمّ عزله وولى أخاه بشر بن مروان. (٤)

وعند ما كان المغيرة بن شعبة أميرا على الكوفة سنة (٤٥) للهجرة ، زاره في تلك السنة زياد بن ابيه ، فظن المغيرة بان زيادا جاء يزاحمه على الأمارة فدعا قطن بن عبد الله الحارثي وقال : (هل من خير تكفيني الكوفة حتّى آتيك من عند الخليفة)؟. قال قطن : (ما انا بصاحب ذا). ثمّ دعا عتيبة ابن النهّاش فقبلها (٥).

وكان قطن بن عبد الله الحارثي ، هو أحد الشهود الّذين شهدوا على حجر بن عدي الكنديّ وجماعته ، مما تسبب في قتلهم (٦). وكان عبد الملك

__________________

(١) النويري ـ نهاية الأرب. ج ٤ / ١٠٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي. ج ٣ / ٢٥. والمسعودي ـ المروج. ج ٣ / ٩١. وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٩٧.

(٣) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ١٥ / ٢٢٤.

(٤) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٩٤. وتاريخ الطبري. ج ٦ / ١٦٤ وابن الجوزي ـ المنتظم. ج ٦ / ١١٢.

(٥) تاريخ الطبري ج ٥ / ٢١٧.

(٦) المصدر السابق ج ٥ / ٢٦٩.

٢٦٠