أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّي أخوك فانضرن ما تصنع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع

إنّي أنا الداعي نزارا فاسمعوا

في باذخ من عز مجد يفرع

به يضرّ قادر وينفع

وادفع غدا وأمنع

عزّ ألدّ شامخ لا يطمع

يتبعه الناس ولا يستتبع

هل إلّا أذنب وأكرع

وزمع مؤتشب مجمع

وحسب وغلّ وأنف أجدع

وقيل سأله عمر بن الخطاب يوما عن الناس. فقال جرير : (هم كسهام الجعبة منهم القائم الرائش ، والنصل الطائش) (١). وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أرسل جرير إلى هدم (ذي الخلصة) فهدمه (٢). وشارك جرير في (معركة الجسر) مع أبي عبيدة الثقفيّ وجعله سعد بن أبي وقّاص على ميمنة الجيش في (معركة القادسية) (٣).

ولمّا انتخب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام خليفة للمسلمين كتب إلى جرير بن عبد الله (وكان جرير آنذاك أميرا على ثغر همدان) من قبل عثمان بن عفّان ، يأمره بالمجيء إلى الكوفة ، ليذهب إلى الشام رسولا عنه إلى معاوية بن أبي سفيان. وكان مع الإمام عليّ عليه‌السلام ابن أخت جرير ، فكتب هذا إلى خاله كتابا وضمنه بالأبيات التالية : (٤)

جرير بن عبد الله لا تردد الهدى

وبايع عليا إنّي لك ناصح

فإنّ عليا خير من وطأ الحصى

سوى أحمد والموت غاد ورائح

ودع عنك قول الناكثين فإنّما

أولاك أبا عمرو كلاب نوائح

__________________

(١) الآلوسي ـ بلوغ الأرب. ج ١ / ٣٠١.

(٢) ابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٥٨.

(٣) ذي الخلصة : هو بيت لخثعم كان يعبد بالجاهلية ويسمى (كعبة اليمانية).

(٤) ابن الجوزي ـ تلقيح فهوم الأثر. ص ١١٣.

١٨١

وبايعه إن بايعته بنصيحة

ولا يكتمنها في ضميرك فادح

فإنّك إن تطلب الدين تعطه

وإن تطلب الدنيا فبيعك رابح

إلى آخر الأبيات.

ولمّا وصل الكتاب إلى جرير جمع الناس وخطب فيهم ، ثمّ سار بمن معه من الجيش حتّى وصل الكوفة ، ودخل على الإمام عليّ عليه‌السلام فبايعه ، وأنشأ يقول شعرا نقتبس منه : (١)

أتانا كتاب عليّ فلم

يناب الكتاب بأرض العجم

ولما نعص ما فيه لما أتى

ولما نظام ولما ندم

مضينا يقينا على ديننا

ودين بني بجل الظلم

له الفضل والسبق والمكرمات

وبيت النبوة والمدعم

ثم طلب الإمام عليّ عليه‌السلام من جرير أن يذهب إلى معاوية في الشام لمبايعته ، فلمّا وصل جرير إلى الشام ، دخل على معاوية وهو يخطب بالناس وهم يبكون حوله وقميص عثمان معلّق في رمح فأعطاه جرير الكتاب فقال رجل من أهل الشام لمعاوية : (٢)

إنّ بني عمّك عبد المطلب

هم قتلوا شيخكم غير كذب

وأنت أولى الناس بالوثب فثب

واغضب معاوي للإله وارتقب

بادر بخيل الأمّة الغار الأشب

بجمع أهل الشام ترشد وتصب

وسر مسير المحزئل الملتئب

وهزهز الصعدة لليأس الشغب

ثم أعطى ذلك الرجل كتابا إلى معاوية من الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، جاء فيه : (٣)

__________________

(١) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٢ / ٣٦٤ ـ ٣٦٧.

(٢) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٦ / ٢٧.

(٣) نفس المصدر السابق.

١٨٢

معاوي إنّ الملك قد جبّ غاربه

وأنت بما في كفّك اليوم صاحبه

أتاك كتاب من عليّ بخطه

هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه

فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه

فقبح ممليه وقبح كاتبه

وإن كنت تنوي رجع جوابه

فأنت بأمر اللامحال راكبه

فألقي إلى الحيّ اليمانين كلمة

تنال بها الامر الّذي أنت طالبه

تقول : أمير المؤمنين اصابه

عدوّ ومالهم عليه أقاربه

وكنت أميرا قبل الشام فيكم

وحسبي من الحقّ الّذي واجبه

فجيئوا ومن أوس بشيرا مكانه

ندافع بحرا لا تردّ غواربه

فأكثر وأقلل مالها الدهر صاحب

سواك فصرّح لست ممن تواربه

فقال معاوية لجرير : أقم عندنا ، ريثما يهدأ الناس ، فانّهم بعد مقتل عثمان قد نفروا. فبقي جرير عند معاوية أربعة أشهر. (١) ثمّ رجع جرير ، بعد ان رفض معاوية المبايعة.

وكان معاوية خلال هذه الفترة قد اتصل بعمرو بن العاص ، وتشاورا فيما بينهما ، واتفقا على عدم مبايعة الإمام عليّ عليه‌السلام.

ثم جاء كتاب آخر من الوليد بن عقبة إلى معاوية جاء فيه : (٢)

ألا أبلغ معاوية بن حرب

فإنك من أخي ثقة مليم

قطعت الدهر كالسدم المعنى

تهدر في دمشق وما تريم

فإنّك والكتاب إلى عليّ

كرابعة وقد حلم الأديم

فلو كنت القتيل وكان حيّا

لشمّر لا ألّف ولا سؤوم

وقيل إنّ جرير توضأ فمسح على خفيّه فقيل له أتمسح على خفيّك؟

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٦ / ٢٧.

(٢) نفس المصدر السابق.

١٨٣

قال : (ومالي لا أمسح ، وقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح؟. (١)

وقيل إنّ حديث جرير (هذا) هو أوثق حديث في المسح ، لأن جرير أسلم في العام الّذي مات فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول آية الوضوء.

وقيل إنّ جرير البجليّ أنتقل من الكوفة إلى (قرقيسياء) وقال : (لا أقيم في بلدة يشتم فيها عثمان). ثمّ أعتزل الفريقين (الإمام عليّ ومعاوية).

وقال (الأخطل) (٢) مادحا جرير بن عبد الله بقصيدة نختطف منها (٣)

عندي بنائلة الإحسان والصفدا (٤)

إنّي امتدحت جرير الخير إن له

إنّ جريرا شهاب الحرب يسعرها

إذا توكّلها أصحابها وفدا

جرّ القبائل ميمون نقيته

يغشى بهن سهول الأرض والجددا

تحمله كلّ حرارة مجلّلة

تخال فيها إذا ما هرولت حردا

مات جرير بن عبد الله البجليّ في الكوفة سنة (٥١) للهجرة وقيل سنة (٥٤) (٥).

٩ ـ زياد بن أبيه :

وكنيته : أبو المغيرة (٦). وقد اختلف في نسبه (أي في أبيه) ، فقيل : إنّ الحارث بن كلدة الثقفيّ (طبيب العرب المشهور) كان عنده خادما روميّا

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٦ / ٣٤.

(٢) الأخطل : اسمه غياث بن غوث ، ولقبه الأخطل ، شاعر هجاء من شعراء بني أميّة.

(٣) مجيد طرّاد ـ شرح ديوان الأخطل. ص ٢٠١.

(٤) الصفد : العطاء.

(٥) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٥٨. وابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٥٥. والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١ / ١٨٨. وعبد القادر عمر البغدادي ـ خزانة الأدب. ج ٨ / ٢٢. وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٥٨. وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٦ / ٣٠.

(٦) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٩ / ٧٢.

١٨٤

اسمه (عبيد) فزوّجه من (أمه) اسمها (سميّة) فولدت له زيادا) ، فكان يقال له : (زياد بن عبيد) و (زياد بن سمية) و (زياد بن أبيه) و (زياد بن أمّه) وذلك قبل أن يستلحقه معاوية بن أبي سفيان بأبيه (أبي سفيان) (١).

وفي سنة (٤٤) (٢) للهجرة ، استلحقه معاوية بأبيه (أبي سفيان) فصار يقال له (زياد بن أبي سفيان). واليك أيّها القارئ الكريم القصة : يقال إنّ أبا سفيان ذهب في الجاهلية إلى الطائف ، فنزل على أبي مريم ، فقال له أبو سفيان (بعد إن شرب الخمر حتّى سكر) : إنّي قد اشتهيت النساء ، فجاءه أبو مريم ب (سميّة) فواقعها فولدت منه زيادا ، ثمّ نشأ زياد ، وجاء يوما في خلافة عمر بن الخطاب ، فقال له عمر وبمحضر من الصحابة : (لو كان أبو هذا الغلام من قريش لساق العرب بعصاه) (٣).

وقيل إنّ أبا سفيان قال لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : (إنّي لأعرف من وضعه في رحم أمه) ، فقال له عليّ عليه‌السلام : (فما يمنعك من استلحاقه؟). فقال أبو سفيان : (أخاف أن يضربني عمر بالدّرّة) (٤).

ولمّا رأى معاوية ، الذكاء والدهاء عند زياد ، ادعى بأنه نزل من ظهر أبيه ، وفي ذلك قال عبد الرحمن بن أمّ الحكم ، وقيل يزيد بن مفرغ الحميريّ : (٥)

ألا أبلغ معاوية بن حرب

مغلفة عن الرجل اليماني

أتغضب أن يقال : أبوك عف

وترضى أن يقال : أبوك زاني

فاشهد أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الأتان

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٩ / ٧٢. تاريخ الطبري. ج ٦ / ٢١٤.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٢١٤.

(٣) أبي حنيفة الدينوري ـ الأخبار الطوال. ص ٣٨٥.

(٤) الحائري ـ مقتبس الأثر. ج ٦ / ٣٦٠.

(٥) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٨. والحائري ـ مقتبس الأثر. ج ٦ / ٣٦٠.

١٨٥

ولّاه معاوية بن أبي سفيان ، إمارة الكوفة سنة (٤٩) للهجرة ، وقيل سنة (٥٠) (١) وذلك بعد وفاة المغيرة بن شعبة ، وكان زياد قبل ذلك أميرا على البصرة ، فجمع له معاوية إمارة (العراقين) (٢). وهو أوّل من جمعت له الإمارتين في عصر الأمويين (٣).

وزياد بن أبيه ، هو أوّل من رسّخ ووطدّ الحكم لمعاوية في العراق ، فقد شهر سيفه ، وأخذ بالظنّه ، وعاقب على الشبهة ، فخاف منه الناس وهابوه ثمّ أخذ يوزع الأموال على أنصاره وأتباعه من أهل البصرة ، فأعطى لشيوخها ما بين (٣٠٠ ـ ٥٠٠) درهم لكل واحد منهم ، فقال فيه حارثة بن بدر العبدي قصيدة نقتطف منها الأبيات التالية : (٤)

ألا من مبلغ عنّي زيادا

فنعم أخو الخليفة والأمير

فأنت إمام معدلة وقصد

وحزم حين تحضرك الأمور

أخوك خليفة الله ابن حرب

وأنت وزيره ، فنعم الوزير

تصيب على الهوى منه وتأتي

محبّك ما يجنّ له الضمير

يدر على يديك لمّا أرادوا

من الدنيا لهم حلب غزير

وقيل إنّ زياد بن أبيه ، كان أبرع شخصية تسلمت (الولاية) في عصر الأمويين ، ومن أقوى أهل زمانه بطشا وشدّة. وقد قال الأصمعي : (الدهاة أربعة : معاوية للرويّة ، وعمرو بن العاص للبديهة ، والمغيرة بن شعبة للمعضلة ، وزياد لكل كبيرة وصغيرة). (٥)

__________________

(١) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٤٩. وتاريخ الطبري. ج ٥ / ٢٣٢. والمسعودي ـ المروج. ج ٣ / ٢٥. وأبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ١٣٤. وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ١٣٥.

(٢) العراقين : الكوفة والبصرة.

(٣) العسكري ـ الأوائل. ص ٢٢٩.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٢٢٣. وابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٤ / ١٧٥.

(٥) حنا الفاخوري ـ تاريخ الأدب العربي. ص ٣٢٧.

١٨٦

وقيل إنّ زياد بن أبيه قال لأخيه أبي بكرة (١) : (ألم تر أنّ أمير المؤمنين (٢) يريدني على كذا وكذا ، وقد ولدت على فراش عبيد ، وقد أشبهته ، وقد علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (من ادّعى إلى غير أبيه فليتبوء مقعده من النار) (٣).

وعند ما عزل زياد بن أبيه عن إمارة البصرة ، عزله الخليفة عمر بن الخطاب ، سأله زياد : لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ العجز ، أم خيانة؟! فقال له : (لم أعزلك لأيّ واحدة منهما ، ولكننّي كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس) (٤).

وكان زياد بن أبيه من أصحاب الإمام عليّ عليه‌السلام ، وكان عامله على البصرة ، ثمّ انقلب بعد ذلك عليه ، وأصبح ضدّه ، وانحاز إلى جانب معاوية ابن أبي سفيان (٥).

ثم ولّاه معاوية إمارة البصرة سنة (٤٥) للهجرة ، فخطب في أهل البصرة قائلا : (... والله لآخذنّ المقبل بالمدبر ، والمحسن بالمسيء ، والمطيع بالعاصي ، حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول : (يا سعد ، أنج ، فإن سعيدا قد قتل) (٦).

وقيل إنّ زياد بن أبيه هو أوّل من عرّف العرفاء ، ورتّب النقباء ، وربّع الأرباع (٧) بالكوفة والبصرة ، وأوّل من جلس الناس بين يديه على

__________________

(١) أبو بكرة : أخو زياد لأمه.

(٢) أمير المؤمنين : معاوية بن أبي سفيان.

(٣) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤٩٥.

(٤) فاروق مجدلاوي ـ الإدارة الإسلامية في عهد عمر. ص ٣٧٥.

(٥) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٩٤.

(٦) الكرمي ـ قول على قول. ج ١٠ / ٢٢٠ والزركلي ـ الاعلام. ج ٣ / ٥٣.

(٧) ماسينيون ـ خطط الكوفة. ص ٦٠.

١٨٧

الكراسي من أمراء العرب ، وأوّل من اتخذ العسس والحرس في الإسلام ، وأوّل أمير سارت الرجال بين يديه تحمل الحراب والعمد ، كما كانت تفعل الأعاجم (١).

وقال عنه ابن حزم : (امتنع زياد ، وهو فقعة القاع ، لا عشيرة ولا نسب ولا سابقة ولا قدم ، فما أطاقه معاوية إلا بالمداراة ، وحتى أرضاه وولّاه) (٢).

وقيل جاء الحكم بن الحارث الفهمي (الشاعر) إلى معاوية يشكو من زياد ، فقال (٣) :

وإنّكم قوم ميامين كنتم

وأهل خلود لا يضيق بها سرب

وإنّ زيادا موعث في أديمكم

وشائمكم والشؤم ليس له نجب

وتارككم في لعنة بعد مدحكم

وذا الصحاح أن تصافحها الحرب

والله لا لينهي زيادا وغيه

سوى أن تقول لا زياد ولا حرب

فقال له معاوية : (قبّح الله رأي زياد ، أما والله فقد أوصيته بك). ثمّ طلب معاوية منه أن يصفح عن إساءة زياد له. وكان زياد بن أبيه (سابقا) كاتبا لعتبة بن غزوان ولعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولعبد الله بن عباس ، ولأبي موسى الأشعري ، ولعبد الله بن عامر ، وقد أثرى زياد بن أبيه عند ما كان كاتبا لعبد الله بن عباس في البصرة ، فقال فيه الشاعر : (٤)

قد أنطقت الدراهم بعد عيي

رجالا طالما كانوا سكوتا

فما عادوا على جار بخير

ولا رفعوا لمكرمة بيوتا

__________________

(١) الزركلي ـ الأعلام. ج ٣ / ٥٣.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) عبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر. ج ٤ / ٣٩٥.

(٤) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٩ / ٧٤.

١٨٨

كذاك المال يجبر كلّ عبئ

ويترك كلّ ذي حسب صموتا

وقال فيه الأصمعي : (مكث زياد على العراق تسعة سنين ، لم يضع لبنة على لبنة ولم يغرس شجرة) (١). وعند ما كان زياد بن أبيه أميرا على فارس من قبل الإمام عليّ عليه‌السلام كتب إليه الإمام عليّ عليه‌السلام يقول : (أما بعد فإن رسولي أخبرني بعجب ، زعم أنّك قلت له فيما بينك وبينه أن الأكراد هاجت بك وكسرت عليك كثيرا من الخراج وقلت له : لا تكلّم بذلك أمير المؤمنين ، يا زياد وأقسم بالله إنّك لكاذب ، وإن لم تبعث بخراجك لأشدنّ عليك شدّة تدعك قليل الوضر ثقيل الظهر ، إلّا أن تكون بما كسرت من الخراج محتملا) (٢).

ودخل الحارثة بن زيد العدواني (يوما) على زياد بن أبيه وكان في وجهه آثار خدوش فقال له زياد : ما هذا الأثر في وجهك؟ فقال حارثة : (أصلح الله الأمير ركبت فرسي الأشقر فجمح بي حتّى صدمني الحائط).

فقال له زياد : أما إنّك لو ركبت فرسك الأشهب لم يصبك مكروه. (وكان حارثة هذا سكيرا) (٣).

وسأل رجل ذات يوم زياد بن أبيه فأعطاه زياد درهما واحدا فقط ، فتعجب السائل وقال : أمير العراقيين أسأله فيعطيني درهما واحدا!! فقال له زياد : (من بيده خزائن السماوات والأرض ، ربما رزق أخصّ عباده عنده ، وأكرمهم لديه : التمرة واللقمة ، وما يكبر عندي أن أصل رجلا بمائة ألف درهم ولا يصغر عندي أن أعطي سائلا رغيفا إنّ كان رب العالمين فعل

__________________

(١) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٩ / ٧٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٠٤.

(٣) النويري ـ نهاية الإرب. ج ٤ / ٩٥.

١٨٩

ذلك ، قال الشاعر (١) :

يا ربّ جود جرّ فقر امرئ

فقام الناس مقام الذليل

فاشدد عرى مالك واستبقه

فالبخل خير من سؤال البخيل

وقيل إنّ رجلا من أهل الكوفة ، هرب من زياد بن أبيه خوفا منه ، وذات يوم مرّ زياد على جماعة ، فشاهد رجلا ، فسأل عنه ، فقيل له : (هذا أوفى بن حصن الطائي). فقال زياد : (أتتك بحائن رجلاه) (٢).

فقال أوفى :

إنّ زيادا أبا المغيرة لا

يعجل والناس فيهم عجلة

خفتك والله فأعلمن حلفي

خوف الخفافيث (٣) صولة الأصّله

فجئت إذ ضاقت البلاد فلم

يكن عليها لخائف وأله (٤)

وكان زياد بن أبيه قد حفر في البصرة نهر (معقل) وطلب من معقل أن يفتتحه لأنّه من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ أعطى زياد لأحد رجاله ألف درهم ، وقال له : اذهب واسأل الناس : من الّذي حفر نهر معقل؟ فإذا قال أحدهم : إنّه نهر زياد فأعطه الألف درهم.

فخرج ذلك الرجل ، وأخذ يسأل الناس : من الّذي حفر نهر معقل؟

فكلهم كانوا يجيبونه بأنه «نهر معقل». فرجع الرجل إلى زياد بن أبيه واخبره بذلك. فقال زياد : (ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء) (٥). وحينما الحقّ نسب زياد بأبي سفيان ، علم بأن العرب سوف لن تعترف له ، ولا تقرّ

__________________

(١) النويري ـ نهاية الإرب. ج ٣ / ٢١٦.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) الخفافيث : مفردها (حيّة) وهي من أخبث الحيات.

(٤) من أمثال العرب ، وقيل إنّ أوّل من قاله هو عبيد بن الأبرص.

(٥) جمع الوزير ابن المغربي ـ الإيناس بعلم الأنساب. ص ١٩٢.

١٩٠

بذلك لمعرفتهم بنسبه الحقيقي ، لذلك عمل زياد على تأليف كتاب أسماه «المثالب» ألصق فيه العرب ، كل عيب وعار ، وباطل وبهتان ، وخاصّة الأشراف منهم ، وأهل البيوتات العريقة ، وقد سار على نهجه فيما بعد الهيثم ابن عدي ، وأبو عبيدة معمر بن المثنى ، لأن الأول كان اصله «دعيا» والثاني كان يهوديا. (١)

وذهب زياد بن أبيه إلى الشام ، فدخل على معاوية بن أبي سفيان ، ومعه الهدايا الكثيرة ، ومن ضمنها «عقد ثمين» فأعجب به معاوية كثيرا ، فقال زياد : (يا أمير المؤمنين ، دوخت لك العراق ، وجبت لك برها وبحرها وحملت إليك لبها وسرّها). فقال له يزيد بن معاوية (وكان جالسا عند أبيه) : (أما إنّك إذ فعلت ذلك ، فإنّا نقلناك من ثقيف إلى قريش ، ومن عبيد إلى أبي سفيان ، ومن القلم (٢) إلى المنابر) (٣).

وكان زياد بن ابيه سفاكا للدماء ، شأنه شأن ابنه عبيد الله والحجّاج ابن يوسف الثقفيّ ، فقد قتل الكثير من أهل الكوفة ، ومن ضمنهم (حجر (٤)

__________________

(١) الآلوسي ـ بلوغ الأرب. ج ١ / ١٦٠.

(٢) القلم : كان زياد أوّل أمره كاتبا لأبي موسى الأشعري (وغيره) وقد ذكرنا ذلك سابقا.

(٣) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٦ / ٣٥٦.

(٤) حجر بن عدي بن معاوية بن جبلة بن ربيعة بن معاوية الأكرمين الكندي ، كان ممن وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وممن شارك في حرب القادسية ، وكان مع الإمام عليّ عليه‌السلام في حربي الجمل وصفّين ومن شيعته. وكان المغيرة بن شعبة حينما يخطب بالناس في مسجد الكوفة يسب الإمام عليّ عليه‌السلام على مرآى ومسمع من أهل الكوفة ، وكان (حجر) يستنكر ذلك ويقول : (أنا أشهد أن من تذمّون أحقّ بالفضل ومن تزكون أولى بالذمّ). البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٦٨. وعند ما جاء زياد بن أبيه أميرا على الكوفة (بعد وفاة المغيرة) أخذ يسبّ الإمام عليّ عليه‌السلام ويذّمه ويمدح آل أمية ، فقال له حجر كما كان يقول للمغيرة ، فغضب زياد وأمر بالقبض عليه وعلى جماعته وهم : (١) حجر بن عدي الكندي. (٢) الأرقم بن عبد الله الكندي. (٣) شريك بن شداد الحضرمي. (٤) صيفي بن فسيل الشيباني. (٥) قبيصة بن ضبيعة العبسي.

(٦) كريم بن عفيف الخثعمي. (٧) عاصم بن عوف البجلي. (٨) ورقاء بن سمي البجلي. (٩) كدام بن حيان ـ العنزي. (١٠) عبد الرحمن بن حسان العنزي. (١١) محرز بن شهاب التميمي. (١٢) عبد الله بن حوية السعدي التميمي. (١٣) عتبة بن الأخنس. (١٤) سعد بن نمران الهمداني.

١٩١

ابن عدي الكنديّ) وجماعته حيث دبر لهم تهمة وأرسلهم إلى معاوية بن أبي سفيان فقتلهم معاوية (١).

وعند ما ألقي القبض على (حجر) وجماعته ، أرسل زياد كتابا إلى معاوية جاء فيه : (بسم الله الرحمن الرحيم : لعبد الله معاوية بن أبي سفيان ، أمير المؤمنين ، من زياد بن أبي سفيان ، أما بعد ، فان الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء فأداله من عدوّه وكفاه مؤنة من بغي عليه ، إنّ طواغيت الترابية (٢) ، السابة وعلى رأسهم حجر بن عدي خلعوا أمير المؤمنين وفارقوا جماعة المسلمين ونصبوا لنا حربا فأطفئها عليهم وأمكننا منهم وقد دعوت خيار أهل المصر (٣) ، وأشرافهم وذوي النهى والدين فشهدوا (٤) عليهم بما رأوا وعلموا ، وقد بعثت إلى أمير المؤمنين وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم في أسفل كتابي هذا). (٥).

وعند ما سمع شريح بن هاني بكتاب زياد بن أبيه كتب إلى معاوية كتاب جاء فيه : (بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله معاوية ، أمير المؤمنين ، من

__________________

(١) طبقات خليفة بن خياط. ص ١٤٦. والمسعودي ـ المروج. ج ٣ / ٣. وابن عماد ـ الشذرات. ج ١ / ٥٧.

(٢) الترابية : نسبة إلى الإمام عليّ عليه‌السلام حيث كناه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أبو تراب). وهم جماعة الإمام عليّ عليه‌السلام.

(٣) أهل المصر : أهل الكوفة.

(٤) الشهود : كانوا بادئ بدء أربعة وهم : (١) عمرو بن حريث. (٢) خالد بن عرفطة. (٣) قيس بن الوليد.

(٤) أبو بردة بن أبي موسى الأشعري. وهؤلاء هم رؤساء الأرباع في الكوفة آنذاك. البراقي ـ تاريخ الكوفة. ص ٢٧١. ثم جاء بشهود آخرين هم : (١) اسحق وموسى ابنا طلحة بن عبيد الله. (٢) المنذر بن الزبير. (٣) عمارة بن عقبة بن أبي معيط. (٤) عمر بن سعد بن أبي وقاص. (٥) شريح بن الحرث القاضي.

(٦) شريح بن هاني. (٧) أسماء بن خارجة. (٨) شمر بن ذي الجوشن. (٩) شبث بن ربعي. (١٠) عمرو بن الحجاج. (١١) حجار بن أبجر العجلي.

(٥) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ١٤٦ ، ١٤٨.

١٩٢

شريح بن هاني ، أما بعد ، فقد بلغني أن زيادا كتب اليك بشهادتي على حجر وأن شهادتي على حجر : إنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، حرام المال والدم ، فإن شئت فاقتله ، وإن شئت فدعه) (١).

فقتل معاوية سبعة منهم وهم : (١) حجر بن عدي الكنديّ. (٢) شريك بن شدّاد الحضرميّ. (٣) صيفي بن فسيل الشيبانيّ. (٤) قبيصة بن ضبيعة العبسيّ. (٥) محرز بن شهاب التميميّ. (٦) كدام بن حبان العنزيّ.

(٧) عبد الرحمن بن حسان العنزيّ).

قتلهم سنة (٥١) للهجرة (٢) ، وقيل سنة (٥٣) (٣) ، في مرج عذراء القريبة من دمشق ، هذا وقد استنكر المسلمون قتل حجر بن عدي بما فيهم أم المؤمنين (عائشة) حيث قالت له (عند ما زارها بالمدينة) : (أقتلت حجرا وأصحابه؟ فأين غرب حلمك عنهم؟ أما إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : (يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السماوات) ، فقال لها معاوية : (لم يحضرني رجل رشيد يا أم المؤمنين) (٤).

وقالت امرأة (٥) من كندة ترثي حجرا وقيل ابنته : (٦)

ترفّع أيّها القمر المنير

لعلك أن ترى حجرا يسير

يسير إلى معاوية بن حرب

ليقتله كما زعم الأمير

ألا يا ليت حجرا مات موتا

ولم ينحر كما نحر البعير

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ١٤٦ ، ١٤٨.

(٢) طبقات خليفة بن خياط. ص ١٤٦.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٣. وابن عماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٥٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٠٦.

(٥) الإمرأة : هي هند بنت زيد الأنصاريّة.

(٦) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٣. وأبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ١٥٣.

١٩٣

ترفّعت الجبابرة بعد حجر

وطاب لها الخورنق (١) والسدير

ألا يا حجر بن عدي

تلقتك السلامة والسرور

أخاف عليك سطوة آل حرب

وشيخا في دمشق له زئير

يرى قتل الخيار عليه حقّا

له من شرّ منه وزير

فإن تهلك فكن زعيم قوم

إلى هلك من الدنيا يصير

وقيل لمّا ولّاه معاوية إمارة (العراقين) بعد موت المغيرة بن شعبة ، ذهب إلى الكوفة واستخلف على البصرة (سمرة بن جندب) ولمّا عاد إلى البصرة ، سمع بأن سمرة بن جندب قد قتل ثمانية آلاف رجل من خيار أهل البصرة (٢). وقال الشاعر يهجو بني أميّة وزياد بن أبيه : (٣)

غصبت أميّة إرث آل محمّد

سفها وشنت غارة الشنآن

وغدت تخالف في الخلافة أهلها

وتقابل البرهان بالبهتان

لم تقتنع لكامهم بركوبهم

ظهر النفاق وغارب العدوان

وقعودهم في رتبة نبوّيّه

لم يبنها لهم أبو سفيان

حتّى أضافوا بعد ذلك أنّهم

أخذوا بثار الكفر في الإيمان

فأتى زياد في القبح زيادة

تركت يزيد يزيد في النقصان

وفي سنة (١٦٠) للهجرة ، أمر الخليفة العباسي (المهديّ) بإرجاع آل زياد وآل أبي بكرة إلى أنسابهم الأصليّة ، وقيل في سبب ذلك ، إنّ رجلا من آل زياد اسمه (الصفديّ بن مسلم بن حرب بن زياد) جاء إلى الخليفة

__________________

(١) الخورنق والسدير : الخورنق شيّده النعمان ملك الحيرة ، وقام بتصميمه البناء الرومي (سنمار) ، ولمّا أكمل بناءه قتله النعمان ، لذا قيل المثل المشهور : هذا جزاء سنمار. أما السدير فقد شيده النعمان الأكبر قرب الخورنق وهما قصران في الحيرة قرب النجف والكوفة.

(٢) العسكري ـ الأوائل. ص ٢٩٩.

(٣) الحائري ـ مقتبس الأثر. ج ٦ / ٣٦٥.

١٩٤

(المهديّ) فسأله المهديّ : (من أنت؟) فقال : ابن عمّك.

فقال المهديّ : ومن أي أبناء عمومتي أنت؟ فذكر له نسبه ، فعند ذلك غضب المهديّ وقال : (يا ابن سميّة الزانية ، متى كنت ابن عمي؟!).

ثمّ كتب المهديّ إلى عامله بالبصرة ، بإخراج جميع آل زياد من ديوان قريش والعرب ، وإرجاعهم ال ثقيف. فقال خالد النجار (البخاريّ): (١)

إنّ زيادا (٢) ونافعا وأبا

بكرة عندي من أعجب العجب

ذا قريش كما يقولون وذا

مولى وهذا بزعمه عربي

إنّ رجالا ثلاثة خلقوا

من رحم أنثى مخلفي النسب

وكان زياد بن أبيه ، قد كتب إلى معاوية بن أبي سفيان كتابا قال فيه : إنّي ولّيت العراق بيميني ، وشمالي فارغة) وكان قصده من ذلك أن يولّيه معاوية الحجاز واليمامة والبحرين ، إضافة إلى (العراقين) ، فلمّا سمع عبد الله ابن عمر بن الخطاب قال : (اللهم إنّك تجعل القتل كفارة لمن شئت من خلقك فموتا لأبن سميّة لا قتلا). (٣)

وعند ما مات زياد ، وسمع به ابن عمر قال : (إذهب اليك أبن سميّة ، لا بقيت لك ، ولا الآخرة أدركت) (٤).

مات زياد بن أبيه بالكوفة سنة (٥٣) (٥) للهجرة ، ودفن بالثوية إلى

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٨. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٦ / ٤٨.

(٢) زياد ونافع وأبو بكرة : هم أخوة لأم.

(٣) محمّد بن شاكر ـ فوات الوفيات. ج ٣ / ٣٢.

(٤) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٤ / ٢٠٣. وتاريخ الطبري. ج ٥ / ٢٨٩.

(٥) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٤٩٤. وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ١٣٥. وابن العماد ـ شذرات الذهب. ج ١ / ٩٥. وابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٩ / ٨١. ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٨٥.

١٩٥

جانب الكوفة ، فرثاه مسكين الدارمي فقال : (١)

رأيت زيادة الإسلام ولت

جهارا حين ودّعنا زياد

فرد عليه الفرزدق قائلا : (٢)

أمسكين أبكى الله عينيك إنّما

جرى في ضلال دمعها فتحدرا

بكيت أمرءا من أهل ميسان كافرا

ككسرى على عدّانه أو كقيصرا

أقول له لما أتاني نعيه

به لا بضبي بالصّريمة أعفرا

١٠ ـ عمرو بن حريث : (٣)

استخلفه زياد بن أبيه أميرا على الكوفة سنة (٥٠) للهجرة. وهذه (ثاني مرة) يستخلف فيها عمرو بن حريث على الكوفة.

١١ ـ خالد بن عبد الله بن أسيد :

هو خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة. (٤)

استخلفه زياد بن أبيه أميرا على الكوفة سنة (٥٣) للهجرة ، وذلك قبيل وفاته ، ثمّ كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يعلمه بذلك ، فقال معاوية : (لا والله ، لا أستعمله على صلاتها ولا على خراجها) فعزله ، ثمّ ولّى (ابن أخته) عبد الرحمن بن أمّ الحكم. (٥)

ولمّا سمع خالد بن عبد الله بعزله ، ذهب إلى بيت المال ، فأخذ منه ألفي

__________________

(١) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٤ / ٢٠٣. وتاريخ الطبري. ج ٥ / ٢٨٩. وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٤٩٤.

(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٤٩٤.

(٣) وقد تكلّمنا عن عمرو بن حريث في الجزء الأول. ص ٩٥.

(٤) ابن حزم ـ جمهرة أنساب العرب. ص ٩١.

(٥) ابن بكار ـ الأخبار الموفقيات. ص ٢٩٨ و٢٩٩.

١٩٦

ألف درهم ، ثمّ ذهب إلى مكّة. (١)

وكان الخليفة عثمان بن عفّان قد زوج ابنته من عبد الله بن خالد ، وطلب عثمان من عبد الله بن عامر (أمير البصرة آنذاك) أن يعطي إلى عبد الله بن خالد ستمائة ألف درهم من بيت مال البصرة. (٢)

وذهب الخليفة عثمان بن عفّان إلى ابنته ذات يوم يتفقدها ، فرآها هزيلة نحيفة ، فقال : يا بنية مالي أراك مهزولة؟ لعل زوجك يغيرك؟ (٣) فقالت : لا ، ما يغيرني. ثمّ قال لزوجها : لعلك يا عبد الله تغيرها؟

فقال عبد الله : (نعم ، فلغلام يزيده في بني أمية أحبّ إليّ منها).

وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب إذا ذهب إلى مكّة ينزل ضيفا على آل عبد الله بن خالد ثلاثة أيّام ، ثمّ بعدها ينزل إلى السوق فيشتري حوائجه ولوازمه. (٤)

وذهب عبد الله بن خالد مرة إلى الخليفة عثمان بن عفّان ، وطلب منه أن يعطيه مالا ، كما أعطى لأقربائه ، فأعطاه عثمان أربعمائة ألف درهم. (٥)

١٢ ـ الضحّاك بن قيس الفهريّ :

هو الضحّاك بن قيس بن خالد الفهريّ ، القرشيّ ، وكنيته : أبو أمية ، وقيل : أبو أنيس ، وقيل : أبو عبد الرحمن ، وقيل : أبو سعيد. (٦)

__________________

(١) ابن بكار ـ الأخبار الموفقيات. ص ٢٩٨ و٢٩٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٦٨.

(٣) يغيرك : أي يسبب لك الغيرة بزواجه من امرأة ثانية.

(٤) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٤ / ١٥٨.

(٥) ابن قتيبة ـ المعارف. ص ١٩٥.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٣٠٠.

١٩٧

ولّاه معاوية بن أبي سفيان إمارة الكوفة سنة (٥٣) (١) للهجرة في شهر صفر ، وقيل سنة (٥٥) (٢) وذلك بعد عزل (٣) عبد الله بن خالد بن أسيد.

ثم عزله سنة (٥٨) وقيل سنة (٥٧) (٤) للهجرة ، وعيّن مكانه عبد الرحمن بن أمّ الحكم (٥). ثمّ ولّاه إمارة دمشق بعد عزله عن الكوفة.

وقيل في نسبه أيضا هو : الضحّاك بن قيس بن خالد الأكبر بن وهب ابن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك. (٦)

وكان الضحّاك بن قيس من المقربين عند معاوية بن أبي سفيان ، فعندما شعر معاوية بدنو أجله ، أرسل إلى الضحّاك (وكان آنذاك مدير شرطته) وقال : بلّغ (٧) وصيتي هذه : (أنظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك ، فأكرم من قدم عليك منهم ، وتعاهد من غاب ، وانظر أهل العراق ، فإن سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملا فافعل ، فإنّ عزل عامل أحبّ إليّ من أن تشهر عليك مائة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبك ، فإن نابك شيء من عدوّك فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم ، فإنّهم إن أقاموا بغير بلادهم ، أخذوا بغير أخلاقهم ، وإنّي لست أخافها من قريش ، إلّا ثلاثة : حسين بن عليّ وعبد الله بن عمر بن الخطاب

__________________

(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٢٤٣. ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٨٥.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٣٠٠ وتاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ٣١٥. ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٨٧.

(٣) وذكر ابن بكار بأن الّذي ولي إمارة الكوفة بعد عبد الله بن خالد هو : عبد الرحمن ابن أمّ الحكم ـ الموفقيات. ص ٢٩٨.

(٤) محمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٨٩.

(٥) تاريخ ابن خلدون. ج ٣ / ١٣٦. ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٩٠.

(٦) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ١١ / ١٢٩.

(٧) بلغ : أي أخبر ولدي (يزيد). لأن يزيد كان خارج دمشق عند موت معاوية.

١٩٨

وعبد الله بن الزبير ... الخ). (١)

ولمّا مات معاوية سنة (٦٠) للهجرة ، غسّله وكفّنه الضحّاك ، وخطب في الناس قائلا : (إنّ ابن هند قد مات ، وهذه أكفانه على المنبر ، ونحن مدرجوه فيها ، ومخلون بينه وبين ربّه ، ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة ، ولو كان يزيد حاضرا ، لم يكن للضحاك ولا لغيره أن يفعل من هذا شيئا). (٢)

وكان الضحّاك بن قيس أوّل من بايع يزيد بن معاوية بالخلافة ، وذلك حينما عهد معاوية بولاية العهد لأبنه يزيد سنة (٥٩) للهجرة ، وفي ذلك قال عبد الرحمن بن همّام السلوليّ : (٣)

فإن تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

وفي حرب صفّين الّتي دارت رحاها بين الإمام عليّ عليه‌السلام وبين معاوية ابن أبي سفيان كان الضحّاك بن قيس على الرجّالة (٤) كلها بجانب معاوية. (٥)

ولمّا مات يزيد بن معاوية سنة (٦٤) للهجرة ، كتب الضحّاك إلى قيس ابن الهيثم : (السلام عليك ، أما بعد ، فإن يزيد بن معاوية قد مات ، وأنتم إخواننا فلا تسبقونا بشيء حتّى نختار لأنفسنا). (٦)

ثم بايع أهل دمشق (الضحّاك) على أن يصلي بهم ويتولى أمورهم لحين الاتّفاق على انتخاب خليفة جديد.

وحينما مات معاوية (الثاني) بن يزيد بن معاوية ، كان النعمان بن بشير الأنصاريّ هو أوّل من بايع عبد الله بن الزبير بالخلافة (وكان آنذاك أميرا

__________________

(١) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ٢ / ١٣١.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ٢١٢.

(٣) وبقية الأبيات ذكرناها في ص ٦.

(٤) الرجّالة : أي المقاتلين وليس عندهم خيول أو جمال أو غيرها ، أي المشاة.

(٥) وذكر نصر بن مزاحم بأن الضحّاك بن قيس كان على أهل دمشق (وهم القلب). وقعة صفّين. ج ٣ / ٢٣٣.

(٦) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٥٠٤.

١٩٩

على حمص) وكذلك بايعه زفر بن الحارث وكان أميرا على (قنسرين). أمّا الضحّاك فكان يدعو في (دمشق) لعبد الله بن الزبير (سرّا) ثمّ بعد ذلك أعلن الضحّاك بيعته لأبن الزبير (علانية) ، ولمّا سمع عبد الله بن الزبير بذلك ، ولّى الضحّاك إمارة دمشق. (١)

أما أكثرية بني أميّة (ومن تبعهم) فقد ذهبوا إلى الأردن ، وتجمعوا هناك مع مروان بن الحكم. (٢)

وقيل إنّ مروان بن الحكم ذهب إلى مكّة لمبايعة عبد الله بن الزبير ، فلقيه في الطريق عبيد الله بن زياد وقال له : (أتبايع أبا خبيب (٣) ، وأنت سيّد بني مناف؟ والله لأنت أولى بها (٤) منه) (٥).

وعندها رجع مروان بن الحكم إلى دمشق ، واجتمع مع بني أميّة ومواليهم على البيعة له ، فبايعوه ، وذلك سنة (٦٤) للهجرة ، ثمّ سار بجيشه إلى (مرج راهط) ومعه ألف فارس ، فطلب الضحّاك بن قيس من النعمان بن بشير الأنصاريّ (أمير حمص) مساعدته ، ثمّ دارت معركة عظيمة بين الطرفين ، قتل خلالها الكثير من الجانبين ، وفي ذلك قال مروان بن الحكم : (٦)

لما رأيت الناس صاروا حربا

والمال لا يؤخذ إلا غصبا

دعوت غسانا لهم وكلبا

والسكسكين رجالا غلبا

والقين تمشي في الحديد نكبا

والأعوجيات يثبن وثبا

يحملن سروات ودينا صلبا

__________________

(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣٩.

(٢) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٢٤٣.

(٣) أبو خبيب : كنية عبد الله بن الزبير.

(٤) أولى بها : أي بالخلافة والأمر.

(٥) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٤٢.

(٦) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ٨٧.

٢٠٠