أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ من بعدي) (١).

وفي حرب الخندق : جاء المشركون إلى المدينة فحاصروها ، وتقدّم قائدهم" عمرو بن ودّ العامري" فعبر الخندق ، ونادى : هل من مبارز؟ فلم يجبه أحد ثمّ نادى : ثانية وثالثة ، فكان في كلّ مرّة يقوم إليه الإمام عليّ عليه‌السلام ولكنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجلسه.

وأخيرا قام الإمام عليه عليه‌السلام ، وتقدّم نحو القائد المنادي ، عندها قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (برز الإيمان كلّه على الشرك كلّه). وبعد لحظات من المبارزة كبّر الإمام عليّ عليه‌السلام وما انجلت الغبرة ، إلّا وكان عمرو بن ودّ مجندلا على الأرض.

وجاءت أخت عمرو ، فشاهدت أخاها قتيلا ، لم يسلب (٢) منه أي شيء ، فسألت عن قاتل أخيها ، فقيل لها : إنه عليّ بن أبي طالب ، عندها قالت (٣) :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

بكيته ما أقام الروح في الجسد

لكن قاتله من كان لا نظير له

وكان يدعى أبوه" بيضة البلد"

ثمّ جاءت حرب خيبر ، وأمام حصنها المنيع عادت" أوّل يوم" كتيبة قوّية وكان يقودها أبو بكر الصدّيق ، ثمّ وفي اليوم الثاني ، رجعت كتيبة أخرى ، كان يقودها عمر بن الخطاب ، عندها غضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : (لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه) (٤).

__________________

(١) صحيح البخاري. ج ٥ / ٢٤ وخالد محمّد خالد ـ في رحاب عليّ. ص ١١٠.

(٢) لم يسلب : كان من عادة العرب أن تسلب من القتيل بعض حاجاته كالسيف أو الدرع ، انتقاصا منه.

(٣) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١ / ٢٠.

(٤) صحيح البخاري. ج ٤ / ٧٣.

١٢١

وفي الصباح ، نادى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين عليّ؟ وجيء بعليّ وهو أرمد ، فوضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ريقه الشريف على عينيّ الإمام عليه‌السلام فشفيتا في الحال ، ثمّ أعطاه الراية قائلا : (خذ هذه الراية ، فامضي بها حتّى يفتح الله عليك) (١).

فأخذ الإمام عليّ عليه‌السلام الراية ، وتقدّم نحو الحصن مهرولا وهو يقول (٢) :

أنا عليّ بن أبي طالب

أنا الّذي سمتني أمي حيدره

وما هي إلّا لحظات ، حتّى سمع القوم عليّا يصيح : الله أكبر ، الله أكبر.

وباب الحصن بين يديه (٣).

وقال أبو رافع" مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم" وكان ضمن كتيبة الإمام عليّ عليه‌السلام : (لقد هممت أنا وسبعة معي أن نحرك هذا الباب من مكانه على الأرض فما استطعنا) (٤).

وفي ذلك قال ابن أبي الحديد في قصيدته العينية (٥) :

يا قالع الباب الّذي عن هزها

عجزت أكفا أربعون وأربع

ثمّ جاءت حرب الجمل والنهروان ، وأخيرا حرب صفّين ، الّتي قتل فيها آلاف المسلمين ومن الصحابة الأجلاء" البدريين وغيرهم" مما تتفتت له الأكباد ، ويقطر القلب دما (٦).

وهكذا كانت حياة الإمام عليّ عليه‌السلام إلى أن خضّبت لحيته بدمه ، وهو

__________________

(١) خالد محمّد خالد ـ في رحاب عليّ ص ١٠٠.

(٢) ابن عنبه ـ عمدة الطالب. ص ٥٩.

(٣) خالد محمّد خالد ـ في رحاب عليّ ص ١٠١.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) نفس المصدر السابق ، وابن أبي الحديد ـ القصائد السبع العلويات. ص ٤٣.

(٦) سامح الله الّذين يدافعون عن معاوية ، ويخلقون له شتى المعاذير في تبرير قيامه بمحاربة خليفة زمانه الإمام عليّ عليه‌السلام ، وهم يعلمون علم اليقين بأن معاوية وجماعته هم أصحاب الفئة الباغية.

١٢٢

قائم يصلّي في المحراب ، ضربه عبد الرحمن بن ملجم ، صبيحة التاسع عشر من شهر رمضان من سنة (٤٠) للهجرة ، ولكن لم تنته أخلاقه وسمعته وزوّاره ومحبيه وستبقى ذكراه إلى أن تقوم الساعة.

ولقد أجاد الشاعر (١) حيث قال مخاطبا معاوية على قبره بقصيدة طويلة نقتطف منها (٢) :

أين القصور أبا يزيد ولهوها

والصافنات وزهوها والسؤدد

هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه

لأسال مدمعك المصير الأسود

كتل من الترب المهين بخربة

سكر الذباب بها فراح يعربد

ومنها :

قم وارمق النجف الشريف بنظرة

يرتدّ طرفك وهو باك أربد (٣)

تلك العظام أعزّ ربّك قدرها

فتكاد لو لا خوف ربّك تعبد

فسلام عليك يا أمير المؤمنين ، يوم ولدت في الكعبة ، ويوم قتلت في محراب صلاتك بالكوفة ، ويوم تبعث حيّا.

٢٢ ـ أبو مسعود الأنصاري

هو : عقبة بن عامر" عمرو" بن نابي بن زيد ، وكنيته : أبو مسعود ، وقد غلبت كنيته على اسمه (٤).

وقيل : هو عقبة بن عمرو من بني خدارة بن عوف بن الحارث بن

__________________

(١) الشاعر : هو محمّد مجذوب من طرسوس بسوريا ، ألقيت قصيدته في النجف الأشرف سنة ١٣٦٧ للهجرة.

(٢) باقر القرشي ـ حياة الإمام الحسن بن عليّ. ج ٢ / ٣٤٧.

(٣) أربد : أسود

(٤) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٠١ والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٧٤.

١٢٣

الخزرج (١). وقيل : هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن اسبرة بن عسيرة الأنصاري (٢).

استخلفه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام على إمارة الكوفة سنة (٣٦) للهجرة (٣) ، وذلك عند ما ذهب الإمام عليه‌السلام لمحاربة معاوية بن أبي سفيان في صفّين.

وأبو مسعود الأنصاري ، صحابي جليل القدر ، يحفظ الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعند بيعة (العقبة الأولى) خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الموسم ، معلنا دعوته على القبائل ، فلقي جماعة من الخزرج ، فدعاهم إلى الإسلام ، وكانوا سبعة رجال ، كان من ضمنهم عقبة بن عامر (٤).

وفي الموسم الثاني ، جاء اثنا عشرة رجلا من الأنصار ، فلقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعقبة فبايعوه بيعة النساء ، وكان من بينهم عقبة بن عامر (٥).

وشارك أبو مسعود مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة أحد ، واشترك في معركة نهاوند سنة (٢١) للهجرة. وذكر بعض المؤرخين بأنّ أبا مسعود قد شهد معركة بدر الكبرى ، والحقيقة أنّه لم يشهدها ، وإنّما قيل له" البدري" لأنّه كان يسكن ماء بدر (٦).

وكان الخليفة أبو بكر الصدّيق ، قد منع الناس من التحدّث عن

__________________

(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٦ / ٩٤.

(٢) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٢ / ٤٩٤.

(٣) نصر بن مزاحم ـ وقعة صفّين. ج ١ / ١٣٦ وتاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٠٢ والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٧٤ وابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٧٠ والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ١٢٧ ومحمّد أحمد كنعان ـ تاريخ الخلافة الراشدة ص ٣٨٦.

(٤) تاريخ الطبري. ج ٢ / ٣٥٥

(٥) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٢ / ٩٦.

(٦) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١ / ١٥٩.

١٢٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحجّة أنّهم يختلفون في روايتها ، وقال كلمته المشهورة : (.. فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه) (١).

ولمّا جاء عمر للخلافة بعد أبي بكر ، سار على سنّة أبي بكر ، وأمر الناس ألّا يحدّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لا يختلفوا ، ولقد بلغ من شدته في تنفيذ هذا الأمر ، أن حبس ثلاثة من كبار الصحابة هم : " عبد الله بن مسعود" و" أبو الدرداء" و" أبو مسعود الأنصاري" لأنّهم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مع شدّة احتياطهم في رواياتهم.

ونتيجة لذلك فقد قلت رواية الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتّى قال أبو عمر الشيباني : (كنت أجلس إلى أبي مسعود حولا لا يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذته الرعشة وقال : (هكذا ، أو نحوذا ، أو قرب ذا) (٢).

وكان أبو هريرة ، ممن يكثرون الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد عمر ، فسأله أبو سلمة يوما : (أكنت تحدّث في زمان عمر هكذا؟). فقال أبو هريرة : (لو كنت أحدّث في زمان عمر مثلما أحدّثكم لضربني بمخفقته) (٣).

وعند ما خرج الإمام عليّ عليه‌السلام إلى حرب صفّين واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري ، تخلّف بعضهم ، واختبأ البعض الآخر عن اللّحاق بجيش الإمام ، فصعد أبو مسعود المنبر وقال : (أيّها الناس ، من كان تخبّأ فليظهر ، فلعمري لئن كان إلى الكثرة ، إنّ أصحابنا لكثير ، وما نعدّه قبيحا أن يلتقي هذان الجبلان غدا من المسلمين ، فيقتل هؤلاء هؤلاء ،

__________________

(١) محمّد حسنين هيكل ـ الفاروق عمر. ج ٢ / ٢٨٨.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) نفس المصدر اعلاه

١٢٥

وهؤلاء هؤلاء حتّى لم يبق إلّا رجرجة (١) من هؤلاء وهؤلاء ظهرت إحدى هاتين الطائفتين ، ولكن نعدّ قبحا ، أن يأتي الله بأمر من عنده ، يحقن به دمائهم ، ويصلح به ذات بينهم) (٢).

ولمّا حوصر الخليفة عثمان بن عفّان في داره (عند حدوث الفتنة) كان عقبة بن عامر في الكوفة ، فأخذ يحثّ الناس (مع آخرين من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إعانة أهل المدينة) (٣).

مات أبو مسعود عقبة بن عامر في المدينة سنة (٤٠) (٤) للهجرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان ، وقيل مات بالكوفة في خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام وكان أميرا على الكوفة ، وقيل مات سنة (٣٩) (٥) للهجرة.

٢٣ ـ هاني بن هوذة النخعيّ

استخلفه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام على إمارة الكوفة سنة (٣٨) للهجرة ، ذلك عند ما ذهب إلى" النهروان" لمحاربة الخوارج ، ولم يزل باقيا حتّى قتل الإمام عليه‌السلام (٦).

هذا ولم نعثر له على ترجمة وافية في الكتب المتاحة لدينا ، لعلّ أن نعثر له على ترجمة مستقبلا. إن شاء الله.

__________________

(١) رجرجة : أراذل الناس ورعائهم الّذين لا عقول لهم.

(٢) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٢ / ٢٩٦.

(٣) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ١٦٠.

(٤) الطبقات ـ ابن سعد. ج ٣ / ١٦ والتوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج ٢ / ٢١١.

(٥) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١ / ١٥٩.

(٦) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٢٣٣.

١٢٦

٢٤ ـ الإمام الحسن بن عليّ

بويع الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بالخلافة في الكوفة بعد وفاة أبيه" أمير المؤمنين" عليه‌السلام في ٢٣ رمضان من سنة (٤٠) للهجرة (١) ، وقيل في (٢١) منه. وكان أوّل من بايعه هو قيس بن سعد بن عبادة. وقال الشاعر في ذلك (٢) :

نال الخلافة إذ كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

ولد الإمام الحسن عليه‌السلام بالمدينة في النصف من شهر رمضان من سنة (٣) للهجرة (٣) ، وكنيته : أبو محمّد ، وهو خامس الخلفاء الراشدين وآخرهم ، وثاني الأئمّة الإثنا عشر (٤).

ومن صفاته عليه‌السلام : أنّه كان جوادا كريما ، وكان أشبه الناس بجده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلقا وخلقا ، ومنطقا (٥). فعن عقبة بن الحارث أنّه قال : (رأيت أبا بكر يحمل الحسن على عاتقه وهو يقول : بأبي شبيهه بالنبيّ ، ليس شبيهه بعليّ) (٦) وكان عليّ معه يبتسم.

وقال أنس (لم يكن أحد أشبه بالنبيّ من الحسن بن عليّ) (٧).

وقيل عنه عليه‌السلام : (وكان أعبد الناس في زمانه ، وأزهدهم بالدنيا) (٨).

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٥ / ١٥٨ والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٤٢٦ والشيخ راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ٥٨.

(٢) الشيخ راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ٥٨.

(٣) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٢٣٤ والزركلي ـ الأعلام. ج ٢ / ٢١٤ وراضي آل ياسين ـ صلح الحسن ص ٢٥.

(٤) الزركلي ـ الأعلام. ج ٢ / ٢١٤.

(٥) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٠١ والشيخ راضي آل ياسين. ص ٢٦.

(٦) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج؟ / ١٣٩.

(٧) صحيح البخاري. ج ٥ / ٣٣.

(٨) الشيخ راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ٢٧.

١٢٧

وقال عليه‌السلام : (إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ، ولم أمش إلى بيته) فمشى على رجليه عشرين مرّة من المدينة إلى مكّة (١). وقال عمران بن سليمان : (الحسن والحسين : إسمان من أسماء أهل الجنة ، لم يكونا في الجاهلية) (٢).

والأحاديث النبوّية الشريفة المتواترة في حبّ النبيّ الكريم للحسنين كثيرة وكثيرة جدا منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هما ريحانتاي من الدنيا) (٣) ، ومنها : (من سرّه أن ينظر إلى سيّد شباب أهل الجنة ، فلينظر إلى الحسن) (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قطّ ، قبل هذه الليلة استأذن ربّه أن يسلّم عليّ ويبشّرني بأنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، وأنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) (٥).

وعن البراء بن عازب أنّه قال : (رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحمل الحسن على عاتقه ، وهو يقول : اللهم إنّي أحبّه فأحبّه) (٦).

وقال (عليه الصلاة والسلام) : (من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبّني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني) (٧). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اللهم إنّي أحبّهما فأحبّهما).

وأكتفي بهذا القدر من الأحاديث الشريفة ، لأعود فأذكر سيرة الإمام الحسن عليه‌السلام فأقول : فقد أحبّه أهل الكوفة كثيرا ، وقال فيه ابن كثير : (وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه) (٨).

__________________

(١) الحافظ أبو نعيم ـ حلية الأولياء. ج ٢ / ٣٧.

(٢) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٧ / ٧.

(٣) صحيح البخاري. ج ٥ / ٣٣.

(٤) ابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٨ / ٣٤ وابن حجر ـ الصواعق المحرقة. ص ١٩٠.

(٥) المصدر السابق الثاني. ص ١٨٥.

(٦) صحيح البخاري. ج ٥ / ٣٣.

(٧) المصدر اعلاه. ج ٥ / ٣٢.

(٨) ابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٨ / ٤١.

١٢٨

وخطب الإمام الحسن عليه‌السلام في صبيحة اللّيلة الّتي توفّي فيها (أمير المؤمنين عليه‌السلام) فقال : (لقد قبض في هذه الليلة رجل ، لم يسبقه الأوّلون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقيه بنفسه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يوجهه برايته ، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن شماله ، ولا يرجع حتّى يفتح الله على يديه. ولقد توفي" عليه‌السلام" في اللّيلة الّتي عرج فيها بعيسى بن مريم ، وفيها قبض يوشع بن نون" وصي موسى عليه‌السلام" ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء ، إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله) ثمّ خنقته العبرة فبكى ، وبكى الناس معه ، ثمّ قال : (أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، أنا ابن السراج المنير ، أنا من أهل بيت فرض الله مودتهم في كتابه ، فقال تعالى : (" قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً)" (١) ، فالحسنة مودتنا أهل البيت) (٢).

وعند ما أراد الإمام الحسن عليه‌السلام مواصلة حرب صفّين كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يدعوه إلى المبايعة" كما بايعه المسلمون" فرفض معاوية ، وقال لرسولي الحسن (٣) : (ارجعا ، فليس بيني وبينكم إلّا السيف) (٤).

عندها خطب الإمام الحسن عليه‌السلام في مسجد الكوفة فقال : (أما بعد ،

__________________

(١) سورة الشورى الآية : ٢١.

(٢) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٩٠ وأبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٥١ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ١٦ والشيخ المفيد ـ الإرشاد. ص ١٨٨.

(٣) رسولا الإمام الحسن : هما جندب بن عبد الله الأزدي والحارث بن سويد التيمي.

(٤) راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ٨٨.

١٢٩

فإنّ الله كتب الجهاد على خلقه ، وسمّاه كرها ، ثمّ قال لأهل الجهاد : " اصبروا فإنّ الله مع الصابرين" ، فلستم أيّها الناس نائلين ما تحبّون إلّا بالصبر على ما تكرهون ، إنّه بلغني أنّ معاوية بلغه إنّا كنّا أزمعنا على المسير إليه فتحرّك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم في" النّخيلة" (١) ، حتّى ننظر وتنظرون ونرى وترون) (٢).

ثمّ ذهب الإمام الحسن عليه‌السلام إلى (معسكر النّخيلة) واستخلف على الكوفة ابن عمّه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب ، ليحثّ الناس على اللحاق به في معسكر النّخيلة (٣).

فبقي الإمام عليه‌السلام في النخيلة عشرة أيّام ، ولم يلتحق به سوى أربعة آلاف مقاتل ، فعاد إلى الكوفة ، ليحثّ الناس على الجهاد ، ثمّ خطب خطبته الّتي يقول فيها (وقد غررتموني كما غررتم من كان قبلي) (٤).

ثمّ سار الإمام الحسن عليه‌السلام بجيشه حتّى وصل إلى المدائن فجعلها مقرا لجيشه ، ثمّ أرسل جيشا وعلى إمرته (عبيد الله بن عبّاس بن عبد المطلب) ، فسار هذا بجيشه ووصل إلى" مسكن" (٥) فنزل فيها.

ولمّا علم معاوية بوصول عبيد الله إلى مسكن ، بعث إليه ، مغريا إياه بالمال والجاه ، فهرب عبيد الله إلى معاوية مع ثمانية آلاف من جنوده ، فكان لهذه الخيانة الأثر الكبير في أوساط جيش الإمام الحسن عليه‌السلام ، حيث أخذت جماعات كثيرة تنهزم وتلتحق بجيش معاوية ، وكادت هذه الخيانة أن

__________________

(١) النّخيلة : تصغير نخلة ، وهو أسم مكان تجتمع فيه العساكر ، قرب الكوفة على طريق كربلاء.

(٢) راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ٨٨.

(٣) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٤ / ١٥٣.

(٤) راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ١٠٢.

(٥) مسكن : اسم مكان على نهر الدجيل ما بين سامراء وسميكة.

١٣٠

تعصف بجيش الإمام المرابط في المدائن ، لو لا وقوفه (عليه‌السلام) ومعالجته الموقف بكلّ حزم وروّية ، يساعده في ذلك أنصاره المخلصين.

وقد استغلّ معاوية بن أبي سفيان هذا الظرف ، فأرسل إلى الإمام الحسن عليه‌السلام الكتب الّتي وصلته من زعماء أهل الكوفة ، ورؤساء قبائلها ، والّتي يبدون فيها استعدادهم لتسليم الحسن إليه أو قتله (١).

ثمّ أنّ معاوية ، وبكلّ ما لديه من حيلة ، ومكر ، ودهاء ، وبمعرفة أحوال أهل الكوفة ، أمر جواسيسه ، وعملائه ، ببث الإشاعات وإعطاء الرشوات ، وواعدا زعماء أهل الكوفة ، والمتنفذين فيها ، برئاسة جيش ، وولاية قطر ، ومصاهرة على أميرة أموية (٢). فاستجاب له كثير من باعة الضمائر ، الّذين كانوا مع الإمام عليه‌السلام في الظاهر ، ولكنّهم جواسيس وعملاء معاوية في الباطن (٣).

فهؤلاء هم أهل الكوفة ، الّذين قال فيهم أبوه (أمير المؤمنين عليه‌السلام" بالأمس" أما بعد يا أهل الكوفة ، أكلّما أقبل منسر من مناسر أهل الشام ، أغلق كلّ امرئ بابه ، وانجحر في بيته انجحار الضب والضبع الذليل في وجاره ، أوف لكم ، لقد لقيت منكم يوما أناجيكم ، ويوما أناديكم ، فلا إخوان عند النجاء ، ولا أحرار عند النداء) (٤).

وهؤلاء هم أصحاب الإمام الحسن عليه‌السلام" اليوم" لم يتغيّروا ، بل تعدّدت فيهم الاتّجاهات ، وكثرت بينهم النزعات ، فقد ظهر" الحزب الأموي" (٥)

__________________

(١) راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ١٦١.

(٢) باقر شريف القرشي ـ حياة الإمام الحسن بن عليّ. ج ٢ / ١٠٠.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٩٥.

(٥) الحزب الأموي : ومن متبعيه ودعاته : عمرو بن حريث وعمر بن سعد بن أبي وقاص وعمارة بن الوليد ابن عقبة وغيرهم.

١٣١

وكذلك نشطت" الخوارج" (١) ، وكذلك وجود" الشكّاكون" (٢) ، إضافة إلى وجود" جماعة الحمراء" (٣) ، ولم يخف على الإمام الحسن عليه‌السلام ما يحاك حوله من مؤامرات خبيثة ، وخيانات لئيمة ، ونظر إلى حوادث" مسكن" فبعد التحاق عبيد الله" قائد جيشه" بمعاوية أخذت الجيوش الأخرى من" الكوفيين" تنفر من القتال ، وتركن إلى الفرار ، وتنبذ العهود والمواثيق ، فكان لا بدّ والحال هذه أن يعلن للناس ويصارحهم عن موقفه ، فبعث إلى معاوية بقبوله الصلح معه (٤).

إنّ أهمّ حدث في حياة الإمام الحسن عليه‌السلام" بعد حادثة مقتل أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام" هو قبوله الصلح مع معاوية بن أبي سفيان ، ولو نظرنا باتقان وإمعان إلى ما كان يدور ويحاك من مؤامرات حوله ، وما لاقاه من خيانة أصحابه" أهل الكوفة" وهروب قائد جيشه إلى جانب معاوية ، لأعطيناه العذر كما أنّنا لو ألقينا نظرة على شروط الصلح لوجدناها سليمة ، ونابعة عن وعي وإدراك عميقين ، واليك أيّها القارئ الكريم بنود الصلح :

المادة الأولى : تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبسيرة الخلفاء الراشدين. (٥)

المادة الثانية : أن يكون الأمر للحسن من بعده ، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين ، وليس لمعاوية أن يعهد لأحد (٦).

__________________

(١) الخوارج : وهم الّذين خرجوا على الإمام عليّ عليه‌السلام بعد التحكيم ، وهم ألد أعدائه وفيهم شبث بن ربعي والأشعث بن قيس ، وشمر بن ذي الجوشن.

(٢) الشكاكون : وهؤلاء هم المذبون من سكان الكوفة وهم آلة مسخرة في أيدي المعتدين.

(٣) الحمراء : وهم المهجنون من الموالي والعبيد ، وهم الّذين يحسنون الخدمة حين يغريهم الطمع.

(٤) راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ٢٥٦.

(٥) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ٤ / ٨.

(٦) جمال الدين الحسين ـ عمدة الطالب. ص ٥٢ والمصدر أعلاه. ج ٤ / ٨.

١٣٢

المادة الثالثة : أن يترك سبّ أمير المؤمنين ، والقنوت عليه بالصلاة ، وأن لا يذكر عليّا إلّا بخير (١).

المادة الرابعة : استثناء ما في بيت مال الكوفة ، وهو خمسة آلاف درهم ، فلا يشمل تسليم الأمر ، وعلى معاوية أن يحمل للحسين كلّ عامّ ألفي ألف درهم ، وأن يفضل بني هاشم في العطاء والصلاة على بني عبد شمس ، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل ، وأولاد من قتل معه بصفّين ألف ألف درهم (٢) ، وأن يجعل ذلك من خراج" أبجرد" (٣).

المادة الخامسة : على أن الناس آمنون حيث كانوا في أرض الله ، في" شامهم" و" عراقهم" و" حجازهم" و" يمنهم" وأن يؤمّن الأسود والأحمر وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم ، وأن لا يتبع أحدا بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنه ، وعلى أمان أصحاب عليّ وشيعته حيث كانوا ، وأن لا ينال أحدا من شيعة عليّ بمكروه ، وأنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم ، وأن لا يتعقّب عليهم شيئا ، ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه ، وعلى ما أصاب أصحاب عليّ حيث كانوا ، وعلى أن لا يبغى للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غائلة ، سرا ولا جهرا ، ولا يخيف أحدا منهم

__________________

(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيين. ص ٢٦ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ٤ / ١٥.

(٢) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٩٢.

(٣) أبجرد : ولاية في خراسان قرب الأهواز.

١٣٣

في أفق من الآفاق (١).

هذا وقد كتب معاوية بن أبي سفيان هذه الشروط بخطّه ، وختمها بخاتمه ، وأعطى العهود المؤكّدة ، والأيمان المغلظة ، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام ثمّ أرسلها إلى الإمام الحسن عليه‌السلام في النصف من شهر جمادي الأوّل من سنة (٤١) للهجرة (٢).

وقد سميت هذه السنة" عام الجماعة" ، وكانت فيها نهاية دولة الخلفاء الراشدين وبداية دولة ملوك بني أميّة ، الّتي جعل فيها معاوية" الخلافة" وراثية لا انتخابية ، كما كانت في زمن الراشدين (٣).

ثمّ اتّفق الفريقان على أن تكون الكوفة ، مقرا لاجتماعهما ، وعلى مسمع من الناس ، ووصل معاوية إلى الكوفة في الخامس والعشرين من شهر ربيع الاوّل من سنة (٤١) للهجرة (٤).

ولمّا اجتمع الفريقان في" مسجد الكوفة" خطب معاوية قائلا : (يا أهل الكوفة ، أتروني قاتلتكم على الصلاة ، والزكاة ، والحجّ؟ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون ، ولكنّني قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وإليّ رقابكم ، وقد أتاني ذلك وأنتم كارهون .. الخ) (٥).

ثمّ ذكر عليّا فنال منه ، ثم نال من الحسن.

ثمّ خطب بعده الإمام الحسن فقال :

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٦ / ٩٧ وأبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبين. ص ٢٦ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ٤ / ١٥.

(٢) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٠٣ وابن قتيبة ـ الإمامة والسياسة ص ٢٠٠ وباقر القرشي ـ حياة الإمام الحسن. ج ٢ / ٢٣١.

(٣) محمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج ١ / ٧٣.

(٤) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٢٣١.

(٥) البسوي" النسوي" ـ المعرفة والتاريخ. ج ٢ / ٣١٨ وباقر القرشي ـ حياة الإمام الحسن.

١٣٤

(الحمد لله كلّما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلّا الله ، كلّما شهد له شاهد ، وأشهد أنّ محمّدا عبد الله ورسوله ، أرسله بالهدى ، وائتمنه على الوحي ، أما بعد ، فو الله إنّي لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه ، وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريدا له سوء ولا غائلة ، ألا وإنّ ما تكرهون في الجماعة ، خيرا مما تحبّون في الفرقة ، ألا وإنّي ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردوا عليّ رأيي ، غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإيّاكم لمّا فيه المحبّة والرضا.

أيّها الناس ، إنّ الله هداكم بأولنا ، وحقن دمائكم بآخرنا ، وإنّ لهذا الأمر مدّة ، والدنيا دول ، قال الله عزوجل لنبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(١).

ثمّ التفت إلى معاوية فقال :

(أيّها الذاكر عليّا ، أنا الحسن وأبي عليّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمّي فاطمة ، وأمّك هند ، وجدّي رسول الله ، وجدك عتبة بن ربيعة ، وجدتي خديجة ، وجدتك فتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا وشرفا ، قديما وحديثا ، وأقدمنا كفرا ونفاقا) (٢).

وقد تعرّض الإمام الحسن عليه‌السلام بانتقادات لاذعة من أصحابه ، حتّى قال له بعضهم" يا مذلّ المؤمنين" فأجابه عليه‌السلام : " بل ناصر المؤمنين" (٣).

وقد أجاب" عليه‌السلام" أحد أصحابه العاتبين : (والله لو وجدت أنصارا ، لقاتلت معاوية ليلي ونهاري) (٤). وقال" عليه‌السلام" : (علّة

__________________

(١) سورة الانبياء ، الآية ١١١.

(٢) باقر القرشي ـ حياة الإمام الحسن بن عليّ. ج ٢ / ٢٤٦.

(٣) برز الأيمان كلّه على الشرك كلّه.

(٤) باقر القرشي ـ حياة الإمام الحسن بن عليّ. ج ٢ / ٢٧٣.

١٣٥

مصالحتي معاوية ، علّة مصالحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبني ضمرة ، وبني أشجع ، ولأهل مكّة ، حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل) (١).

وبعد الصلح بأيّام غادر الإمام الحسن عليه‌السلام" الكوفة" قاصدا مدينة جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعند ما وصل إلى" دير هند" في الحيرة ، نظر إلى الكوفة نظرة مودّع فقال (٢) :

ولا عن قلى فارقت دار معاشري

هم المانعون حوزتي وذماري

ورجع الإمام الحسن عليه‌السلام إلى المدينة ، وبقي إلى قبر جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحيط به الصحابة الكرام ، وآله الطاهرون ، أمّا معاوية بن أبي سفيان ، فلم يهدأ له بال ، ولم تقرّ له عينا ، مادام الحسن حيّا ، فقد حاول عدّة مرّات أن يسمّه ولكن الإمام كان ينجو من ذلك.

وذهب معاوية بن أبي سفيان إلى المدينة ، ليدعو أهلها لمبايعة ابنه" يزيد" بالخلافة ، فرفض أهل المدينة طلبه ، وذلك لوجود الإمام الحسن عليه‌السلام بين ظهرانيهم وكرههم ليزيد ، فكان لا بدّ لمعاوية أن يتخلص من الإمام الحسن عليه‌السلام بأيّة طريقة كانت ، فلجأ إلى ملك الروم ، وطلب منه أن يرسل له سمّا سريع التأثير ، فأجابه ملك الروم : (أنّه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا) (٣).

فكتب إليه معاوية" ثانية" وطلب منه إرسال السمّ" بعد أن أبدى له مشروعيته" فأرسل له السمّ ، وأرسل معاوية السمّ بيد مروان بن الحكم إلى

__________________

(١) باقر القرشي ـ حياة الإمام الحسن بن علي ، ج ٢ / ٢٧٤.

(٢) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ٤ / ٦ وراضي آل ياسين ـ صلح الحسن ص ٢٨٩ وباقر القرشي ـ حياة الإمام الحسن بن عليّ. ج ٢ / ٢٧٩.

(٣) باقر شريف القرشي ـ حياة الإمام الحسن بن عليّ. ج ٢ / ٤٦٧.

١٣٦

جعدة (١) بنت الأشعث بن قيس ، وأوعدها بأن يعطيها مائة ألف درهم ، ويزوجها من ابنه يزيد إن هي قتلت الحسن ، فوافقت جعدة على ذلك ، ووضعت السمّ في لبن ، وقيل في عسل وقدمته إلى الإمام الحسن عليه‌السلام وكان صائما في يوم شديد الحرّ ، ولمّا شعر الإمام بالسمّ قال لها : (يا عدوة الله ، قتلتيني ، قتلك الله ، والله لا تصيبين منّي خلفا ، ولقد غرّك (٢) ، وسخر منك ، يخزيك الله ويخزيه) (٣).

ولمّا مات الحسن عليه‌السلام بعث لها معاوية بالمال ، وكتب إليها يقول : (إنّا نحبّ يزيد ، ولو لا ذلك لوفينا لك بتزويجه) (٤). وقال الشاعر في موت الحسن عليه‌السلام (٥) :

تأسّ فكم لك من سلوة

تفرج عنك غليل الحزن

بموت النبيّ وقتل الوصي

وقتل الحسين وسمّ الحسن

وبينما كان الإمام الحسن عليه‌السلام يجود بنفسه من أثر السمّ ، دخل عليه أخوه الإمام الحسين عليه‌السلام فسأله : من الّذي سقاه السمّ؟ فقال له الحسن عليه‌السلام : (إنّي مفارقك ، ولا حق بربّي ، وإنّي لعارف من سقاني ، وأنا أخاصمه يوم القيامة إلى الله سبحانه وتعالى) ، ثمّ قال : (وادفنّي مع جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّي أحقّ به وببيته ، فإن منعوك ، فأنشدك الله بالقرابة الّتي قرّب عزوجل منك ، والرحم الماسّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا تريق في أمري دما ، حتّى نلقى رسول الله ونختصم إليه ، ونخبره بما كان من الناس فينا) (٦).

__________________

(١) جعده : زوجة الإمام الحسن عليه‌السلام.

(٢) غرك : المقصود به معاوية بن أبي سفيان.

(٣) راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ج ٢ / ٣٦٥.

(٤) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٤٢٧.

(٥) المصدر السابق. ج ٢ / ٤٢٨.

(٦) الحافظ أبي نعيم ـ حلية الأولياء. ص ٢٨ وراضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ٣٢.

١٣٧

مات الإمام الحسن عليه‌السلام بالسمّ في المدينة سنة (٤٩) للهجرة (١) ، وصلّى عليه أخوه الإمام الحسين عليه‌السلام وقيل إنّ الّذي صلّى عليه هو سعيد بن العاص" أمير المدينة آنذاك" ودفن بالبقيع (٢) مع جدته فاطمة بنت أسد وكان عمره الشريف (٤٦) سنة ، وكانت مدّة خلافته ستّة أشهر وخمسة أيّام ، وقيل سبعة أشهر وأربعة وعشرين يوما ، وقيل سبعة أشهر وسبعة أيّام ، وقيل مات سنة (٥٠) للهجرة.

ولمّا سمع معاوية بن أبي سفيان بموت الإمام الحسن عليه‌السلام فرح كثيرا ، وخرّ ساجدا إلى الأرض ، وسجد من كان معه ابتهاجا بموته. فقال أحد الشعراء (٣) :

أصبح اليوم ابن هند شامتا

ظاهر النخوة إذ مات الحسن

يا بن هند تذق كأس الردى

تك في الدهر كشيء لم يكن

لست بالباقي فلا تشمت به

كلّ حيّ للمنايا مرتهن

وعند ما دفن الإمام الحسن عليه‌السلام وقف أخوه" محمّد بن الحنفية" على قبره قائلا : (يا أبا محمّد ، لئن طابت حياتك ، لقد فجع مماتك ، وكيف لا تكون كذلك؟ وأنت خامس أهل الكسا ، وابن محمّد المصطفى ، وابن عليّ المرتضى ، وابن فاطمة الزهرا ، وابن شجرة طوبى ، ثمّ أنشأ يقول (٤) :

أأدهن رأسي أمّ تطيب مجالسي

وخدك معفور وأنت سليب

أأشرب ماء المزن من غير مائه

وقد ضمن الأحشاء منك لهيب

__________________

(١) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٣٤ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٢٥ والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١ / ١٤٠ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٤٦٠ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ٤ / ١٨٧ وابن خلكان ـ وفيات الأعيان. ج ٢ / ٦٦ وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٥٦ وراضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ٣٣.

(٢) البقيع : مقبرة أهل المدينة.

(٣) أبو النداء ـ المختصر في أخبار البشر. ج ١ / ١٨٣.

(٤) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٤٢٩.

١٣٨

سأبكيك ماناحت حمامة أيكة

وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب

غريب وأكناف الحجاز تحيطه

ألا كلّ من تحت التراب غريب

ووقف رجل من ولد أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب على قبر الحسن فقال :

(أمّا أقدامكم قد نقلت ، وأعناقكم قد حملت إلى هذا القبر وليّا من أولياء الله ، ليسر نبي الله بمقدمه ، وتفتح أبواب السماء لروحه ، وتبتهج الحور العين بمقدمه ، وتبشر به سيّدات نساء الجنة من أمهاته ، ويوحش أهل الحيّ والدين فقده ، رحمة الله عليه وعند الله نحتسب المصيبة) (١).

وقال فيه الشاعر (٢) :

ما دب من فطن الأوهام من حسن

إلّا وكان له الحظّ الخصوصي

كأنّ جبهته من تحت طرته

بدر يتوجه اللّيل البهيمي

قد جلّ عن طيب أهل الأرض عنبره

ومسكه فهو الطيب السماوي

٢٥ ـ المغيرة بن نوفل

هو المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمه ضريبة بنت سعيد بن القشب ، وكنيته : أبو يحيى (٣).

استخلفه الإمام الحسن بن عليّ عليه‌السلام سنة (٤٠) للهجرة أميرا على الكوفة ، وذلك عند ذهابه لمعسكر النّخيلة استعدادا لملاقاة معاوية في حرب صفّين (٤).

__________________

(١) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج ٤ / ١٩٤.

(٢) راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ٢٧.

(٣) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٢٢.

(٤) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٤ / ١٥٣ والشيخ راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ١١٦.

١٣٩

وكان المغيرة يعتقد بأنّه لن يتأخر أحد من أهل الكوفة عن تلبية دعوة الإمام الحسن عليه‌السلام ، ولكنّ الّذي حصل هو عكس ما كان يعتقده ، إذ لم يلتحق بمعسكر النّخيلة إلّا عدد ضئيل ، وحتّى السرايا الّتي كان الإمام عليّ عليه‌السلام قد أعدها للعودة إلى محاربة معاوية" قبل قتله"" قد تمرّد أكثرها ، وتثاقل بعضها (١).

وفي معركة بدر الكبرى أخذ المشركون معهم من بني هاشم المقيمين في مكّة" عنوة" وذلك لمحاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان من بينهم نوفل بن الحارث" أبو المغيرة" فأنشد يقول (٢) :

حرام عليّ حرب أحمد إنّني

أرى أحمدا مني قريبا أواصره

وإن تك فهر ألّبت وتجمعت

عليه فإن الله لا شكّ ناصره

فوقع" نوفل" أسيرا في تلك المعركة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أفد نفسك يا نوفل) فقال نوفل : لا يوجد عندي شيء أفدي به نفسي يا رسول الله.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إفد نفسك برماحك الّتي في" جدة" ، (٣) فتعجب نوفل من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لا يعلم بالرماح غيره. بعدها أسلم نوفل وقال : (أشهد أنّك رسول الله) ففدى نفسه بها ، وكان عددها ألف رمح. ثمّ قال (٤) :

إليكم إليكم إنّني لست منكم

تبرأت من دين الشيوخ الأكابر

لعمركم ما ديني بشيء أبيعه

وما أنا إذا أسلمت يوما بكافر

شهدت على أنّ النبيّ محمّد

أتى بالهدى من ربّه والبصائر

__________________

(١) الشيخ راضي آل ياسين ـ صلح الحسن. ص ١٠٢.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٤ / ٤٥.

(٣) جده : ميناء كبير في المملكة العربية السعودية.

(٤) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٤ / ٤٥.

١٤٠