أمراء الكوفة وحكامها

محمّد علي آل خليفة

أمراء الكوفة وحكامها

المؤلف:

محمّد علي آل خليفة


المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧

الكوفة" المعيّن من قبل الخليفة عثمان بن عفّان وكان آنذاك في المدينة ، فلمّا رجع سعيد نزل في العذيب ، أرسل إليه مالك الأشتر ألف فارس بقيادة يزيد بن قيس ، وعبد الله بن كنانة العبدي ، وأمرهما بمنع سعيد

من دخول الكوفة ، ويأمرانه بمغادرة مكانه حالا وبدون تأخير ، وإلّا فسوف يقتل ، فرجع سعيد إلى المدينة (١).

ثمّ اجتمع قرّاء أهل الكوفة ، ونصبوا يزيد بن قيس أميرا عليهم ، وبعد أن هدأت الحال بعزل سعيد عن الكوفة استجابة لمطاليب أهل الكوفة ، تمّ تعيين أبي موسى الأشعري أميرا فعزل يزيد (٢).

وكان يزيد بن قيس مع الإمام عليّ في حروبه ، وولّاه شرطته (٣).

ويزيد بن قيس هو : من الخطباء ، الفصحاء ، الشجعان ، فقد جاء إلى الإمام عليّ عليه‌السلام في أوائل أيّام حرب صفّين وقال له : (يا أمير المؤمنين ، نحن على جهاز وعدّه ، وأكثر الناس أهل قوّة ، ومن ليس بمضعّف وليس به علّة ، فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإنّ أخا العرب ليس بالسؤوم ، ولا النؤوم ، ولا من أمكنه الفرص أجلها ، واستشار فيها ، ولا من يؤخر الحرب في اليوم إلى غد وبعد غد) (٤).

وكان يزيد بن قيس من المحرضين على القتال في حرب صفّين ، فقد خطب وقال : (إنّ هؤلاء القوم ، والله ما إن يقاتلون على إقامة دين رأونا ضيعناه ولا إحياء عدل رأونا أمتناه ، ولن يقاتلونا إلّا إقامة الدنيا ، ليكونوا

__________________

(١) عبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر. ج ٦ / ١٣٨.

(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٥ / ٣٤ والزركلي ـ الأعلام. ج ٩ / ٢٤١.

(٣) المصدر السابق الثاني.

(٤) نصر بن مزاحم ـ وقعة صفّين. ج ٢ / ١١٣.

١٠١

جبابرة فيها ملوكا) (١).

وقال ثمامة بن حوشب يخاطب معاوية بن أبي سفيان :

معاوي لا تسرع السير نحونا

فبايع عليّا أو يزيد اليمانيا (٢)

ولمّا حصلت الهدنة بين الإمام عليّ عليه‌السلام ومعاوية بن أبي سفيان في حرب صفّين وتبودلت الرسائل والرسل بن الطرفين ، كان يزيد بن قيس من رسل الإمام عليّ عليه‌السلام (٣).

وعند ما رجع الإمام عليّ عليه‌السلام من البصرة إلى الكوفة سنة (٣٦) للهجرة ، عيّن يزيد بن قيس أميرا على المدائن وجوخا كلّها (٤) ، وعيّن مخنف ابن سليم على أصبهان وهمدان (٥).

وكان جماعة من وجوه أهل الكوفة ونسّاكهم قد كتبوا إلى الخليفة عثمان بن عفّان ، منهم : معقل بن قيس الرياحي ، وعبد الله بن طفيل العامري ، ويزيد بن قيس الأرحبي ، وسليمان بن صرد الخزاعي وغيرهم ، (أنّ سعيد ابن العاص كتب إليك عن جماعة من أهل الفضل والدين ، فحمّلك أمرهم على ما لا يحلّ ، وإنّا نذكرك الله في أمّة محمّد ، فإنّك قد بسطت يدك فيها ، وحملت بني أبيك على رقابها ... الخ). (٦)

قتل يزيد بن قيس في معركة صفّين سنة (٣٧) للهجرة (٧).

__________________

(١) الزركلي ـ الأعلام. ج ٩ / ٢٤١.

(٢) يزيد اليمانيا : هو يزيد بن قيس.

(٣) الزركلي ـ الأعلام. ج ٩ / ٢٤١.

(٤) وذكر الزركلي : بأن يزيد بن قيس عيّنه الإمام عليّ على إمارة الريّ وأصبهان وهمدان ـ نفس المصدر السابق.

(٥) نصر بن مزاحم ـ وقعة صفّين. ج ١ / ١٤.

(٦) عمر بن شعبة النميري البصري ـ تاريخ المدينة المنورة. ج ٢ / ٢٠٥.

(٧) نصر بن مزاحم ـ وقعة صفّين. ج ٤ / ٢٨٦.

١٠٢

١٧ ـ مالك الأشتر

وهو : مالك بن الحارث بن الأشتر النخعي (١). ثار بالكوفة سنة (٣٤) للهجرة على سعيد بن العاص" أمير الكوفة" المعيّن من قبل الخليفة عثمان بن عفّان ، ذلك لأن سعيد بن العاص ، قد خطب في أهل الكوفة فذّمهم ووصفهم بالشقاق والنفاق والخلاف ، وقال : (إنّما هذا السواد لأغيلمة من قريش) (٢). ثمّ سبب لأهل الكوفة ضررا كبيرا ، مما جعل أهل الكوفة يشكوه لدى الخليفة عثمان بن عفّان ، فرفض الخليفة شكواهم ، فثاروا على سعيد بن العاص وطردوه من الكوفة. ثمّ بعد ذلك اتّفق أهل الكوفة على أبي موسى الأشعري فعينوه أميرا عليهم (٣).

ومالك الأشتر ، من كبار الشجعان ، أدرك الجاهلية ، وأدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان رئيس قومه ، وشهد معركة اليرموك ، وذهبت عينه فيها ، وكان مع الإمام عليّ عليه‌السلام في حربي (الجمل وصفّين) وسكن الكوفة ، وله فيها ذرّية ، وله شعر جيد (٤).

أرسله الإمام عليّ عليه‌السلام أميرا على مصر ، خلفا لمحمد بن أبي بكر الصدّيق ، ولمّا سمع معاوية بن أبي سفيان بتوليته على مصر ، كتب إلى (الخانسيار) بأنّه إذا قتل مالك الأشتر ، فسوف لا يأخذ منه الخراج مادام حيّا ، فالتقى الخانسيار بالأشتر في طريقه إلى مصر ، وقال له : (إنّ عليّ

__________________

(١) ابن بكار ـ الأخبار الموفقيات ص ٥٢٩ والزركلي ـ الأعلام. ج ٦ / ١٣١.

(٢) عبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ ابن عساكر. ج ٦ / ١٣٨.

(٣) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ١٩٠ والسيوطي ـ تاريخ الخلفاء ص ١٧٨ وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٤٠ وبدران ـ تهذيب تاريخ دمشق. ج ٦ / ١٣٧.

(٤) الزركلي ـ الأعلام. ج ٦ / ١٣١.

١٠٣

خراجا كثيرا ، فانزل وخذه) فنزل الأشتر ، وجيء له بالطعام والشراب ، وقدموا له أيضا" عسلا" ووضعوا فيه سما ، فلمّا شربه ، مات الأشتر.

ولمّا سمع معاوية وعمرو بن العاص ، فرحا كثيرا فقال عمرو بن العاص : (إنّ لله جنودا من عسل) (١) ، وقيل غير ذلك في قتله.

وعند ما سمع الإمام عليّ عليه‌السلام بموت مالك قال : (رحم الله مالكا وما ملك ، لو كان من جبل لكان فندا (٢) ، أو من حجر لكان صلدا ، على مثل مالك فلتبكي البواكي وهل يوجد مثل مالك؟ فلقد كان لي ، كما كنت لرسول الله) (٣).

وقصّة مالك الأشتر مع عبد الله بن الزبير مشهورة ، وهي : في معركة الجمل الّتي دارت رحاها في البصرة بين طلحة والزبير وعائشة" أمّ المؤمنين" من جهة ، وبين الإمام عليّ عليه‌السلام من جهة أخرى ، كان عبد الله بن الزبير مع خالته" عائشة" وكان مالك بن الأشتر مع الإمام عليّ عليه‌السلام ، وعند ما بدأت الحرب بين الطرفين ، برز عبد الله بن الزبير ، فخرج له مالك الأشتر ، فكانا يتجاولان ويتصارعان ، فتارة يصرع مالك وتارة أخرى يصرع عبد الله بن الزبير ، وعند ما صرع عبد الله بن الزبير ، جلس مالك على صدره فقال عبد الله (٤) :

أقتلاني ومالكا

واقتلا مالكا معي

فافترقا ولم يقتل أحدهما الآخر.

__________________

(١) العسقلاني ـ تهذيب التهذيب. ج ١٠ / ١١ وابن تغري بردى ـ النجوم الزاهرة. ج ١ / ١٠٤.

(٢) الفند : الجبل العظيم.

(٣) نصر بن مزاحم ـ وقعة صفّين ص ٥٤٧ ، والزركلي ـ الأعلام. ج ٦ / ١٣١ وابن أبي الحديد ـ شرح النهج. ج ٢ / ٢١٤.

(٤) ابن تغري بردى ـ النجوم الزاهرة. ج ١ / ١٠٥.

١٠٤

وقيل إنّ" عائشة" أعطت عشرة آلاف درهم للّذي بشرها بنجاة ابن أختها عبد الله. وقيل : إنّ الأشتر دخل على أمّ المؤمنين" عائشة" بعد المعركة فقالت له : يا أشتر ، أنت الّذي أردت أن تقتل ابن أختي يوم الوقعة؟ فقال الأشتر (١) :

أعائش لو لا إنّني كنت طاويا

ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا

غداة ينادي والرماح تنوشه

بآخر صوت : اقتلاني ومالكا

فنجّاه منّي أكله وسنانه

وخلوة جوف لم يكن متمالكا

وقيل إنّ الأشتر قال لعبد الله بن الزبير أثناء المبارزة : (والله لو لا قرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبدا) (٢).

وفي حرب صفّين الّتي وقعت بين الإمام عليّ عليه‌السلام وبين معاوية بن أبي سفيان كان عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جيش معاوية ، ومعه أربعة آلاف مقاتل ، فقال له الإمام عليه‌السلام : (ويحك يا ابن عمر!! علام تقاتلني؟!! والله لو كان أبوك حيّا ، لمّا قاتلني) (٣).

ثمّ طلب عبيد الله بن عمر بن مالك الأشتر أن يبارزه ، فخرج الأشتر وهو يقول (٤) :

إنّي أنا الأشتر معروف السير

إنّي أنا الأفعى العراقي الذكر

لست من الحي ربيع أو مضر

لكنّني في مذحج البيض الغرر

فانصرف عبيد الله ، ولم يبارز الأشتر.

وقيل : إنّ عبيد الله بن عمر ، حينما برز أمام الناس في حرب صفّين

__________________

(١) ابن تغري بردى ـ النجوم الزاهرة. ج ١ / ١٠٦.

(٢) المصدر السابق. ج ١ / ١٠٥.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٨٠.

(٤) المصدر السابق ، ج ٢ / ٣٨١.

١٠٥

قال (١) :

أنا عبيد الله ينميني عمر

خير قريش من مضى ومن غبر

قد أبطأت في نصر عثمان مضر

غير نبي الله والشيخ الأغر

والربيعيون ، فلا أسقوا المطر

ومن شعر مالك الأشتر أنّه قال (٢) :

بقيت وفري وانحرفت عن العلى

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشنّ على ابن هند غارة

لم تخل يوما من شهاب نفوس

خيلا كأمثال السعالى شزبا

تعدو ببيض في الكريهة شوس

حمى الحديد عليهم فكأنّهم

لمعان برق أو شعاع نفوس

مات مالك الأشتر في الطريق" مسموما" في شهر رجب من سنة (٣٧) (٣) للهجرة وقيل سنة (٣٨) (٤).

١٨ ـ أبو موسى الأشعري (٥)

أعيد أبو موسى الأشعري إلى إمارة الكوفة" ثانية" سنة (٣٤) للهجرة ، من قبل أهل الكوفة ، بعد ثورتهم على سعيد بن العاص. ثمّ عزله الإمام عليّ عليه‌السلام في أواخر سنة (٣٥) للهجرة ، وعيّن مكانه عمارة بن شهاب.

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٨٠.

(٢) المرزباني ـ معجم الشعراء ـ ٣٩٦ وجمال الدين أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج ١ / ١٠٣.

(٣) العسقلاني ـ تهذيب التهذيب. ج ١ / ١١.

(٤) ابن بكار ـ الأخبار الموفقيات. ص ٥٢٩ وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٢١٨.

(٥) وقد تكلمنا عن أبي موسى الأشعري في ص ٥٩ ، فنرجو ملاحظة ذلك.

١٠٦

١٩ ـ عمارة بن شهاب

وعمارة بن شهاب من المهاجرين الّذين هاجروا من مكّة إلى المدينة ، وله صحبة (١).

ولّاه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إمارة الكوفة سنة (٣٥) للهجرة (٢) ، وقيل سنة (٣٦) (٣) ، وذلك بعد عزل أبي موسى الأشعري المعين من قبل الخليفة عثمان بن عفّان.

وعند ما وصل عمّارة بن شهاب إلى" زباله" (٤) عند ذهابه إلى الكوفة لقيه طليحة بن خويلد الأسدي (٥) ، وقد خرج مطالبا بدم عثمان ، وهو يقول :

" لهفي على أمر سبقني ، ولم أدركه".

" يا ليتني كنت جدع أكر فيها وأضع".

فقال له طليحة : من أنت؟ قال : عمّارة بن حسّان بن شهاب.

قال طليحة : وما الّذي جاء بك؟ قال عمارة : بعثت إلى الكوفة أميرا.

قال : ومن بعثك؟

قال عمارة : أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.

قال طليحة : (إلحق بطيّك ، فإنّ القوم لا يريدون بأميرهم أبي موسى الأشعري بدلا وإن أبيت ، ضربت عنقك) (٦).

__________________

(١) أبو الفداء ـ المختصر من أخبار البشر. ج ١ / ١٧٢ وابن الوردي ـ تتمة المختصر. ج ١ / ٢٣٦.

(٢) ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٧٣ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٧ / ٣٢٨.

(٣) ابن الوردي ـ تتمة المختصر. ج ١ / ٢٣٦ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ١ / ٣٢٧ وتاريخ الكوفة ـ البراقي ٢٤١ ومحمّد أحمد كنعان ـ تاريخ الخلافة الراشدة ص ٣٤٤.

(٤) زباله : اسم منطقة للإستراحة ما بين المدينة والكوفة" رحلة بن جبير ص ١٦٤".

(٥) طليحة : وقد ادّعى النبوّة في خلافة أبي بكر الصدّيق.

(٦) ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٧٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٢٠٢ ومحمّد أبو الفضل إبراهيم ـ أيّام العرب ص ٣٢٦.

١٠٧

فرجع عمارة ، وهو يقول : (احذر الخطر ما يماسك ، الشرّ خير من شرّ منه) (١). ثمّ أخبر الإمام عليّ بما جرى له مع طليحة. فعزله.

٢٠ ـ قرضة بن كعب الأنصاريّ

هو : قرضة بن كعب بن ثعلبة بن عمرو بن كعب بن مالك بن ثعلبة ابن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج ، الأنصاريّ الخزرجيّ ، حليف بني عبد الأشهل ، وكنيته : أبو عمر (٢).

ولّاه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إمارة الكوفة سنة (٣٦) للهجرة (٣) ، بعد إقالة أبي موسى الأشعري عنها" وبعد أن رجع عمارة بن شهاب إلى المدينة عند توليته الكوفة من قبل الإمام عليه‌السلام.

ثمّ استخلفه الإمام عليّ عليه‌السلام على الكوفة أيضا ، وذلك عند ذهابه إلى" صفّين" (٤). وكان قرضة بن كعب قد شهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرب أحد وما بعدها ، وفتح الله على يديه" الريّ" في خلافة عمر سنة (٢٣) للهجرة (٥) ، كما وكان على خيل الجيش عند ما ذهب أبو موسى إلى" تستر".

وقرضة بن كعب من الصحابة الأجلاء ، الّذين حفظوا الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّه منع من التحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام أبي بكر وعمر ، فقد جمع أبو بكر الناس بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لهم : (إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٥ / ١٦٢ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٢٠٢.

(٢) ابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٣٤٨ والخطيب البغدادي. ج ١ / ١٨٥ والمزني ـ تهذيب الكمال. ج ٢٣ / ٥٦٣.

(٣) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ١٨٠ وتاريخ الطبري. ج ٤ / ٤٩٩ والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٥٩.

(٤) المصدر السابق الأول. ج ١ / ٢٠٢.

(٥) المزني ـ تهذيب الكمال. ج ٢٣ / ٥٦٣.

١٠٨

بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه) (١).

وقرضة بن كعب هو : أحد العشرة من الأنصار ، الّذين بعثهم الخليفة عمر بن الخطاب إلى الكوفة ، وحينما خرجوا من الكوفة ، سار معهم حتّى أوصلهم خارج المدينة. ثمّ سألهم عمر : (أتدرون لم شيّعتكم؟) قالوا : نعم ، مكرمة لنا. قال : (ومع ذلك ، فإنّكم تأتون أهل القرية ، لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل ، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم ، جوّدوا القرآن ، وأقلّوا الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا شريككم) (٢). وكان قرضة بن كعب رئيس جماعته ، وهو المتحدّث فيهم. ولمّا وصل قرضة بن كعب إلى الكوفة ، قالوا له : حدّثنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (نهانا عمر) (٣).

وعند ما كان قرضة بن كعب أميرا على الكوفة ، كتب إلى الإمام عليّ عليه‌السلام يقول : (بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّي أخبر أمير المؤمنين ، أنّ خيلا مرّت بنا من قبل ناحية الكوفة ، متوجهة نحو" نفر" (٤) ، وأنّ رجلا من دهاقين أسفل الفرات قد صلّى ، يقال له" زاذان بن فروخ" أقبل من قبل أخواله في ناحية" نفر" فعرضوا له وقالوا له : (أمسلم أمّ كافر؟) فقال : بل أنا مسلم.

قالوا : فما هو قولك في عليّ؟

__________________

(١) محمّد حسنين هيكل ـ الفاروق عمر. ج ٢ / ٢٨٨.

(٢) المصدر السابق. ج ٢ / ٢٨٩.

(٣) المصدر اعلاه. ج ٢ / ٢٨٨.

(٤) نفر : بلدة قديمة واقعة على شاطئ الفرات الأيسر ، كان فيها هيكل" أنليل ونبلنلبل" من أوثان سومر وبابل نحو ٢٩٠٠ قبل الميلاد.

١٠٩

قال : أقول فيه خيرا ، أقول : أنّه أمير المؤمنين ، وسيد البشر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقالوا له : كفرت يا عدوّ الله. ثمّ حملت عليه عصابة منهم فقتلوه ، ثمّ مثلوا به وقطّعوه ووجدوا معه رجلا من أهل الذمّة ، فقالوا له : من أنت؟

قال : رجل من أهل الذمّة ، فتركوه. ثمّ جاء إلينا ذلك الذّميّ ، فأخبرنا بذلك. وقد سألت عنهم ، فلم يخبرني أحد عنهم بشيء ، فليكتب اليّ أمير المؤمنين برأيه فيهم والسلام) (١).

فكتب إليه الإمام عليّ عليه‌السلام : (أما بعد ، فقد فهمت ما ذكرت من العصابة الّتي مرّت بك فقتلت البرّ المسلم ، وآمن عندهم المخالف الكافر ، وأن أولئك قوم استهواهم الشيطان فضلّوا ، وكانوا كالذين حسبوا ألا تكون فتنة ، فعموا وصمّوا ، فاسمع بهم وأبصر يوم تخبر أعمالهم ، والزم عملك ، وأقبل على خراجك ، فإنّك كما ذكرت في طاعتك ونصيحتك ، والسلام) (٢).

وكان الإمام عليّ عليه‌السلام يوصي (عمّاله) الرفق بالرعيّة ، والاهتمام بشؤون الناس جميعا ، فقد كتب كتابا إلى قرضة بن كعب جاء فيه : (أما بعد ، فإنّ رجالا من أهل الذمّة من عملك ، ذكروا أنّ نهرا في أرضهم قد عفا ودفن ، وفيه لهم عمارة على المسلمين ، فانظر ، أنت وهم ، وأصلح النهر ، فلعمري لئن يعمروا ، أحبّ اليّ من أن يخرجوا ، أو يقصّروا في واجب من صلاح البلاد ، والسلام) (٣).

ومن المتناقضات والمفارقات في هذه الدنيا" وما أكثرها" فقد كان لقرضة بن كعب ولدان هما" عمرو" و" عليّ". فكان عمرو من أصحاب

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٥١٧.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٧٩.

١١٠

الحسين عليه‌السلام في واقعة كربلاء وقاتل مع الحسين وهو يرتجز ويقول (١) :

قد علمت كتيبة الأنصار

إنّي سأحمي حوزة الذّمار

ضرب غلام غير نكس شاري

دون حسين مهجتي وداري

ثمّ استشهد ودفن مع الشهداء ، قرب قبر الحسين عليه‌السلام.

أما" عليّ" فقد كان مع جيش الأعداء ، مع" عمر بن سعد بن أبي وقّاص" (٢) ، وحينما رأى أخاه قد قتل ، نادى : يا حسين ، يا كذّاب ابن الكذّاب ، أضللت أخي وغررته حتّى قتلته. فقال له الحسين عليه‌السلام (إنّ الله لم يضلّ أخاك ، ولكنه هدى أخاك وأضلّك) فقال له" عليّ" : (قتلني الله إنّ لم أقتلك) ، فهجم على الحسين عليه‌السلام ، فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه ثمّ صرعه ، ثمّ جاء أصحابه فحملوه واستنقذوه (٣).

مات قرضة بن كعب الأنصاري بالكوفة ، في خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام وهو الّذي صلّى عليه ، وله عقب في الكوفة.

٢١ ـ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام

هو : عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن ناخور بن سود بن يعرب بن يشجب بن ثابت بن

__________________

(١) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٤٣٤.

(٢) عمر بن سعد : كان أميرا على (الريّ) عيّنه عبيد الله بن زياد قائدا عاما للجيوش الّتي أرسلها لمحاربة الحسين بن عليّ عليهما‌السلام في كربلاء ، وإذا رفض ذلك فسوف يعزله عن إمارة الريّ ، فقال عمر :

أأترك ملك الريّ والريّ منيتي

أم أرجع مأثوما بقتل حسن.

(٣) ابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٣٤٨.

١١١

إسماعيل بن إبراهيم (خليل الرحمن) بن تارح" وهو آزر" بن ناخور بن ساروخ بن ارعواء بن فالح بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم (عليهم‌السلام) (١).

وكنيته : أبو الحسن ، وأبو تراب (٢). دخل الكوفة في الثاني عشر من شهر رجب من (٣٦) للهجرة (٣) ، بعد رجوعه من البصرة ، ونقل مركز الخلافة اليها ، فأصبح" أميرا للكوفة" إضافة إلى كونه" أمير المؤمنين وخليفة المسلمين".

لست أدري ماذا أكتب عن الإمام عليّ بن أبي طالب؟ وأنا الفقير العاجز ، وما قدري ومعياري تجاه هذه الشخصية العظيمة ، الّتي كتب عنها آلاف الكتّاب والعباقرة ، والفلاسفة ، مسلمين وغير مسلمين ، وطبعت آلاف بل ملايين الكتب والنشرات وبشتّى اللغات ، تضم في صفحاتها حياة ذلك الرجل العظيم ، ولا أغالي إذا قلت : لا تخلوا أيّة مكتبة من مكتبات العالم ، إلّا وفيها كتاب عنه ، أو ذكر له.

وقبل هؤلاء الكتّاب وغيرهم ، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً)(٤). وقال عزّ من قائل : (وَيُؤْتُونَ

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٢٦٥" عند ذكر نسب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم".

(٢) أبو تراب : وقد كناه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. البخاري. ج ٥ / ٢٣ والعسقلاني ـ نزهة الألباب. ج ٢ / ٢٥٣.

(٣) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ٢٠١ وابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٢ / ٣٤٧ والمسعودي ـ المروج. ج ٢ / ٢٦٥ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٦٠ ومحمّد مقديش ـ نزهة الأنظار. ج ١ / ١٩٧.

(٤) سورة الإنسان ـ الآية : ٩.

١١٢

الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(١).

هاتين الآيتين الشريفتين وغيرهما (٢) من الآيات المباركة ، قد فسّرها أكثر المؤرخين بأنّها قد نزلت في حقّ عليّ بن أبي طالب.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ ، حينما آخى بين المهاجرين والأنصار : (وأنت أخي) (٣).

وقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، حين استخلفه على المدينة عند ذهابه إلى غزوة تبوك : (أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي) (٤).

وقال له أيضا : يا عليّ .." أنت منّي وأنا منك" (٥).

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في" غدير خم" : (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله) (٦).

فلقيه الخليفة عمر بن الخطاب فقال له : (بخ (٧) ، بخ لك يا ابن أبي

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية : ٥٨.

(٢) ومنها آية التطهير : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). سورة الأحزاب / ٣٣.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٥ / ٢٤٢ وخالد محمّد خالد ـ في رحاب عليّ ص ٦٠.

(٤) صحيح البخاري. ج ٦ / ٣ والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٣ / ١٤ وخالد محمّد خالد ـ رجال حول الرسول. ج ١ / ١٥٣.

(٥) صحيح البخاري. ج ٥ / ٢٢ وصحيح ابن ماجه ص ١٢ والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٨ / ٢٩٠ وابن حجر العسقلاني ـ الصواعق المحرقة ص ٢٥ والمسعودي ـ المروج. ج ٣ / ١٤.

(٦) صحيح الترمذي. ج ٢ / ٢٩٨ والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٨ / ٢٩٠ وصحيح ابن ماجه ص ١٢ والصواعق المحرقة. ابن حجر ص ٢٥ وباقر شريف القرشي ـ حياة الإمام الحسن بن عليّ. ج ١ / ١٠١.

(٧) بخ بخ : هنيئا هنيئا.

١١٣

طالب ، فلقد أصبحت مولاي ، ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة) (١).

وهذا الحديث أخرجه كثير من المؤرخين ، ومن العلماء أمثال : الترمذي (٢) والنسائي (٣) والإمام أحمد بن حنبل (٤) ، كما رواه ستة عشر صحابيّا ، وذكره عدد من الشعراء ، كان أولهم حسّان بن ثابت (٥) :

يناديهم ، يوم الغدير ، نبيهم

بخم ، واسمع بالنبيّ مناديا

وقال : فمن مولاكم ووليكم

فقالوا : ولم يبدوا هناك التعاليا

إلهك مولانا ، وأنت نبينا

ومالك منّا بالوصاية عاصيا

فقال له / قم يا عليّ ، فإننّي

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

وقال بولص (٦) سلامة (٧) :

يا إلاهي من كنت مولاه حقا

فعليّ مولاه غير نكير

يا إلاهي وال الّذين يوالون

ابن عمّي وانصر حليف نصيري

كن عدوّا لمن يعاديه واخذل

كلّ نكس وخاذل شرير

قالها آخذا بضبع (٨) عليّ

رافعا ساعد الإمام الهصور

حيدر زوج فاطم وأبو السبطين

الرمح يوم طعن النحور

وعن أبي هريرة أنّه قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو في محفل من أصحابه :

__________________

(١) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ٨ / ٢٩٠ وجورج جرداق ـ الإمام عليّ / صوت العدالة الإنسانية. ص ٤٠.

(٢) صحيح الترمذي. ج ٢ / ٢٩٩.

(٣) خصائص النسائي. ص / ١٩.

(٤) مسند الإمام أحمد بن حنبل. ج ٤ / ٣٧٢.

(٥) باقر شريف القريشي ـ حياة الإمام الحسن بن عليّ. ج ١ / ١٠١.

(٦) بولص سلامة : مسيحي ، من أدباء لبنان.

(٧) بولص سلامة ـ عيد الغدير. ص ١١٠.

(٨) ضبع : العضد.

١١٤

(إن تنظروا إلى آدم في علمه ، ونوح في همّه ، وإبراهيم في خلقه ، وموسى في مناجاته ، وعيسى في سنّه ، ومحمّد في هديه وعلمه ، فانظروا إلى هذا المقبل) فتطاول الناس بأعناقهم ، فإذا هو عليّ بن أبي طالب) (١).

وقال الوالد الشيخ عبد الحسين الشيخ سلمان آل خليفه" رحمه‌الله" بحقّ عليّ : (٢) :

لعالم الكون ربّ الكون صوره

كالروح للجسم أو كالنور للبصر

سرّ الخفيات كشّاف غوامضها

أعجوبة الدهر لا بل حيرة الحير

فلتخسأ الحكما عن حدّ مبدئه

من ذا يحدّد سرّ الله للبشر؟

حقيقة الغيب لم تدرك حقيقته

يجل عن حده أو رسمه الخطر

ولتقصر الشعراء عن وصفه مدحا

ولتعترف كلّها بالعجز والخور

ماذا تفوه به مدحا ومادحه

ربّ البرّية بالآيات والسور

الله عظّمه قدرا وشرّفه

على البرّية من بدو ومن حضر

ولادته : ولد الإمام عليّ عليه‌السلام في داخل الكعبة المشرفة ، ولم يولد قبله ولا بعده سواه ، وفي ذلك أيضا قال الوالد" رحمه‌الله" :

وذا عليّ ببيت الله مولده

أمّ القرى قد تردّت هيكل البشر

بوركت يا حرم الباري بمولده

وحزت أقصى مقام العزّ والظفر

أبوه : وأبوه" أبو طالب (٣) " سيد البطحاء ، وشيخ قريش ، ورئيس مكّة ، وهو الّذي آوى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفّله ، وربّاه ، وتحمّل الأذى في سبيله ، وخاصّة تلك المقاطعة الّتي فرضتها قريش على آل أبي طالب ، والّتي حدثنا

__________________

(١) جورج جرداق ـ الإمام عليّ / صوت العدالة الإنسانية. ص ٤١.

(٢) حسين هادي القرشي ـ أضواء على سيرة العلامة الشيخ عبد الحسين آل خليفة ص ٢٥.

(٣) أبو طالب : واسمه" عبد مناف". ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١ / ١١.

١١٥

التاريخ عن بشاعتها ومأساتها ذلك هو" شعب أبي طالب" (١).

وعند ما شعر أبو طالب بقرب أجله ، أوصى قريشا وصيته المشهورة ، نقتطف منها :

(يا معشر قريش ، أوصيكم بتعظيم هذا البيت ، فإنّ فيه مرضاة الربّ ، وقوام العيش ألا وإنّي أوصيكم بمحمّد خيرا ، فإنّه الأمين في قريش ، والصادق في العرب ، وهو الجامع لكلّ ما أوصيكم به) (٢).

ثمّ التفت إلى بني هاشم وقال : (وأنتم معاشر بني هاشم ، أجيبوا محمّدا ، وصدّقوه تفلحوا وترشدوا). ثمّ قال أبو طالب معبرا عن حبّه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) :

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب

لدينا ، ولا يعني بقول إلّا باطل

حليم رشيد عادل غير طائش

يوالي إلاها ، ليس عنه بغافل

وأبيض ، يستسقي الغمام بوجهه

شمال اليتامى عصمة للأرامل

جدّه : وأما جدّه ، فعبد المطلب ، واسمه الحقيقي" شيبة" ولكثرة محامده سماه العرب : " شيبة الحمد" ووصفوه بأنّه ذلك الرجل الّذي يطعم الناس في السهل ، والوحوش في الجبال ، وهو الّذي هداه الله إلى مكان بئر زمزم ، فحفرها ، وتفجّرت منها المياه (٤).

وعبد المطلب : هو الّذي قال كلمته المشهورة لأبرهة الحبشي حينما جاء ليهدم الكعبة : (أمّا إبلي فهي لي ، وأما البيت فله ربّ يحميه) (٥).

__________________

(١) الشعب : وهو المكان الّذي حاصر به المشركون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآل أبي طالب وبني هاشم بعد إعلان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته.

(٢) خالد محمّد خالد ـ في رحاب عليّ. ص ٣٣ / ٣٠ / ٢٨.

(٣) خالد محمّد خالد ـ في رحاب عليّ. ص ٢٨ و٣٠ و٣٣ والرمهرمزي ـ أمثال الحديث. ص ١٠٨.

(٤) المصدران السابقان.

(٥) نفس المصدرين.

١١٦

أمّه : وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، وهي الّتي أسمته" حيدرة" (١) وكانت أول هاشمية تزوجها هاشمي (٢). وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّها كثيرا ، ويناديها : (أمّي) أو (يا أمّاه) ، ولمّا ماتت ، كفّنها بقميصه ، ونام في قبرها (٣) ، فقال له أصحابه : (إنّا ما رأيناك يا رسول الله صنعت بأحد مثل ما صنعت بها؟) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّه لم يكن أحد" بعد أبي طالب" أبرّ بي منها ، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة ، واضطجعت معها ، ليهون عليها ضغطة القبر) (٤).

زوجته : وأما زوجته ، فهي فاطمة الزهراء" البتول" بنت نبيّ الرحمة محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي قال فيها أبوها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها أغضبني) (٥).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أيضا : (فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة) (٦).

وعن عائشة" أمّ المؤمنين" أنّها قالت : دعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة في مرضه الّذي مات فيه ، فهمس في أذنها" فبكت". ثمّ همس في أذنها مرّة ثانية" فضحكت" ثمّ سألتها فيما بعد عن ذلك ، فقالت : سارّني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرني أنّه يقبض في مرضه هذا فبكيت ، ثمّ سارّني مرّة أخرى فأخبرني بأنّي أوّل اللّاحقين به من أهل بيته فضحكت (٧).

وهناك الكثير من الأحاديث النبويّة الشريفة الّتي قيلت بحقّ

__________________

(١) حيدرة : الأسد.

(٢) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ١٣٧ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١ / ١٣.

(٣) عبد العزيز سيد الأهل ـ أبو طالب. ص ١٠٢.

(٤) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١ / ١٤.

(٥) صحيح البخاري. ج ٥ / ٢٦ و٣٦.

(٦) المصدر السابق. ج ٥ / ٢٥ و٣٦.

(٧) نفس المصدر. ج ٥ / ٢٦.

١١٧

فاطمة عليها‌السلام.

ولداه : وولداه من فاطمة عليه‌السلام هما : الحسن والحسين عليهما‌السلام ، اللّذان قال فيهما جدّهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الحسن والحسين ، سيدا شباب أهل الجنّة) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا) (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هذان ابناي ، وابنا ابنتي ، اللهم إنّي أحبّهما ، وأحبّ من يحبّهما) (٣). وهناك الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة في ولديه الحسن والحسين" عليهما‌السلام" ولكنّني أكتفي بهذا القدر.

نشأته : ولمّا بلغ" عليه‌السلام" من العمر أربع سنوات ، أخذه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعيش معه ومع خديجة الكبرى في دار واحدة. وعند ما جاء" الوحي" كانت خديجة أوّل المسلمات وكان عليّ عليه‌السلام أوّل المسلمين ، ومن ذلك الوقت ، أصبح عليه‌السلام ملازما للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يفارقه ، يصلّي معه ، ويصغي إليه ، وكم من آية وآيات كان عليه‌السلام أوّل من يسمعها ويعيها. وإذا صعب عليه فهم بعضها ، سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ، حتّى قال عليه‌السلام : (سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ما شئتم ، فو الله ما من آية من آياته ، إلّا وأنا أعلم أين نزلت ، ومتى نزلت ، وفيمن نزلت ، أفي ليل أمّ نهار) (٤).

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أقضاكم عليّ) (٥).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا مدينة العلم ، وعليّ بابها) (٦).

__________________

(١) ابن حجر ـ الصواعق المحرقة. ١٨٥.

(٢) صحيح البخاري. ج ٥ / ٣٣ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٨ / ٤١.

(٣) صحيح البخاري. ج ٥ / ٣٢.

(٤) خالد محمّد خالد ـ في رحاب عليّ. ص ٥٥.

(٥) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١ / ١٨.

(٦) جورج جرداق ـ صوت العدالة. ص ٧١.

١١٨

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : (أنت منّي ، وأنا منك) (١).

وهكذا كان الإمام عليّ عليه‌السلام في كافّة العلوم ، ففي علم الفقه ، كان الخليفة عمر بن الخطاب يرجع إليه في كثير من المسائل الّتي أشكلت عليه ، وعلى غيره من الصحابة ومن أقوال عمر المأثورة : (لو لا عليّ لهلك عمر) (٢).

وقال : (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن) (٣).

وثالثة : (لا يفتين أحد في المسجد وعليّ حاضر) (٤).

ورابعة : (عليّ أقضانا) (٥).

وأمّا فصاحته : فهو إمام الفصحاء ، وسيّد البلغاء ، وكلامه دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوق ، وكتابه نهج البلاغة خير دليل.

وأما علم النحو والعربية : فهو الّذي ابتدعه وأنشأه ، وأملى قواعده على أبي الأسود الدؤلي (٦).

وأمّا عبادته : فكان" عليه‌السلام" يأنس باللّيل إذا سجى ، لأنّه يتفرّغ لعبادة الله سبحانه وتعالى ، قال ضرار (٧) يصف عليّا في مجلس معاوية : (كان والله ، بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان والله ، غزير العبرة ، طويل

__________________

(١) صحيح البخاري. ج ٥ / ٢٢ وصحيح الترمذي. ج ٢ / ٢٩٩ ومسند الإمام أحمد بن حنبل. ج ١ / ١٠٨ وخصائص النسائي ص ١٩

(٢) خالد محمّد خالد ـ في رحاب عليّ ص ١٢٨.

(٣) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١ / ١٨.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) السيوطي ـ تاريخ الخلفاء ص ١٩٤.

(٦) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١ / ٢٠.

(٧) ضرار : بن ضمرة الكناني.

١١٩

الفكرة ، يقلّب كفّه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ، كان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، وينبأنا إذا استنبأناه ، ونحن مع تقريبه إيّانا ، وقربنا منه ، لا نكاد نكلّمه لهيبته ، ولا نبتدئه لعظمته ، يعظّم أهل الدين ، ويحبّ المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى اللّيل سدوله وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه ، قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا غري غيري ، أأليّ تعرضت؟ أمّ إليّ تشوّقت؟

هيهات .. هيهات ، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وخطرك حقير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق) (١).

فبكى معاوية ، وقال : رحم الله أبا الحسن فلقد كان كذلك. فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال : (حزن من ذبح واحدها في حجرها) (٢).

وأما شجاعته وحروبه : فقد اعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء ، وفاقت شجاعته كلّ ما يتصوّره الإنسان ، ومبيته عليه‌السلام على فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الهجرة ، كانت منتهى الشجاعة والتضحية ، حيث أجمعت قبائل قريش على قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانتخبت فارسا من كلّ قبيلة لكيلا يتمكّن بنو هاشم من المطالبة بدمه (٣).

ولقد شارك" عليه‌السلام" مع النبيّ في جميع حروبه مع المشركين ، ما عدا غزوة تبوك ، فقد استخلفه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، ولمّا استفسر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبب إبقائه في المدينة قال الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ألا

__________________

(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٤٢١ وخالد محمّد خالد ـ في رحاب عليّ. ص ٢٣٨.

(٢) أبو عليّ القالي ـ أمالي القالي. ج ٢ / ١٤٧.

(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٢٧٩.

١٢٠