تاريخ أفريقية والمغرب

رقيق القيرواني

تاريخ أفريقية والمغرب

المؤلف:

رقيق القيرواني


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفرجاني للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٢

وقتلوا منهم وافترق أكثر الناس عن أبى كريب ، ورجعوا إلى القيروان ولم يعلموا ما حلّ بهم من البربر ، وثبت أبو كريب فى نحو من ألف رجل من وجوه الناس ، من أهل البصائر والخشية والدين مستبسلين إلى الموت ، فقاتلوا باجتهاد فقتل أبو كريب ـ رحمه الله ـ ومر به بعض أصحابه فغطاه برداء كان عليه لئلّا يراه الناس فيفشوا.

فقاتلوا حتى قتلوا ، ودخلت ورفجومة القيروان ، فاستحلوا المحارم وارتكبوا العظائم ، ونزل عاصم بعسكره فى الموضع الذى يسمى «مصلىّ روح» واستخلف على القيروان عبد الملك بن أبى الجعد النفزى ، وسار إلى حبيب ، وهو بقابس فقاتله فانهزم حبيب ولحق بجبل أوراس ، وهم أخوال أبيه ، فسار عاصم إلى أوراس فى طلب حبيب ، فالتقوا فهزم عاصم وقتل هو وأكثر أصحابه ، وأقبل حبيب إلى القيروان فخرج إليه عبد الملك بن الجعد ، فانهزم حبيب وتكالبت عليه نفزة من كل مكان ، فقتلوه فى شهر المحرم سنة أربعين ومائة ، وكانت ولاية عبد الرحمن بن حبيب عشر سنين وأشهر ، وولاية إلياس أخيه ستة أشهر ، وولاية حبيب ابنه سنة وستة أشهر.

ولما حكمت ورفجومة على القيروان قتلوا من كان بها من قريش وساموهم سوء العذاب وربطوا دوابهم فى المسجد الجامع ، وندم الذين أعانوهم ودعوهم أشد ندامة.

فحكى أبو حسان : أن رجلا من الإباضية دخل القيروان ، فرأى ناسا من الورفجوميين قد أخذوا امرأة وكابروها على نفسها ، وهو ينظر والناس ينظرون ، فترك حاجته التى أتى فيها ، وخرج حتى أتى أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافرى فأعلمه الذى رأى ، فخرج وهو يقول : «لبيك اللهم لبيك» ، واجتمع إليه أصحابه من كل مكان وتوجهوا نحو طرابلس ، فأخرجوا عمرو بن عثمان القرشى منها واستولى أبو الخطاب على طرابلس ، وبلغه أن المسوّدة قد أقبلوا إليه من ناحية برقة ، وعليهم العوام بن عبد العزيز البلخى ، فخرج ابن الخطاب لجمعه حتى إذا كان بودراسة وجه رجلا من أصحابه يقال له مالك بن سميران ... وفى ولاية عمر بن حفص اشتدت فتنة الخوارج الصفرية والإباضّية عليه ، وأحاطت به عساكرهم بمدينة طنبة بالزاب ، فأخذ

٨١

يستميل بعض أمرائهم لينصرف بعضهم عن بعض ومن ذلك أنه دفع إلى ابن أبى قرة أربعة آلاف درهم وأثوابا على أن يعمل فى صرف أبيه ، فرّد الصفرية إلى بلدهم ، فعمل ذلك فى ليلته ، فلم يعلم بذلك أبو قرّة حتى ارتحل العسكر منصرفين إلى بلادهم تجريدا ، فلم يجد بدّا من إتباعهم ، فلما انصرفت الصفرية وجه عمرو بن حفص معمر بن عيسى العبدى فى ألف وخمسمائة إلى ابن رستم ، وهو فى تهودة فى خمسة عشر ألف ، فالتقوا فانهزم ابن رستم ، وقتل من أصحابه نحو من ثلاثمائة ووصل ابن رستم منهزما إلى تيهرت ، ثم أقبل عمر بن حفص يريد القيروان ، واستخلف على طبنة المهنّأ بن المخارق بن عفّان الطائى فلما بلغ أبو قرة مسير عمر بن حفص أقبل فى جمع كثير حتى حصر المهنّأ ، فأرسل إلى أبى قرة يسأله الانصراف عنه ، فأرسل أبو قرة إليه : «نصيبى منك ومن قبلك أحرار ، ولكن لا سبيل إلى ترك غنيمة المسلمين» ، فلما قال له ذلك تحمّلوا عليهم ، فانهزم أبو قرّة واستباحوا عسكره ، وكان أبو حاتم لما حصر القيروان أقام عليها ثمانية أشهر ، وليس فى بيت مالها درهم ولا فى أهرائها شىء من الطعام ، وكان الجند تلك المدة يقاتلون البربر كل يوم فى طرفى النهار حتى أجهدهم الجوع ، وأكلوا دوابّهم وكلابهم ، وجعل الناس يخرجون فيلحقون بالبربر من الجهد.

وبلغ ذلك عمر فأقبل يريد القيروان فى نحو سبعمائة فارس من الجند ، حتى نزل مدينة الأربس ، فبلغ البربر إقباله فزحفوا إليه بأجمعهم وخلّوا عن القيروان ، فلما بلغه إقبالهم توجّه إلى ناحية تونس ، وأغذّ السير ومضى البربر حتى صاروا إلى سمنجة ، وسار عمر من تونس ، وخرج جميل بن حجر من القيروان ، فبث خيله حول القيروان وجعل يدخل ما يصلحه من الطعام والحطب والمرافق واستعد للحصار ، وخندق خندقا على باب أبى الربيع فسكن فيه الجند ، ثم أقبل أبو حاتم فى جنوده حتى وصل إلى بحيرة المسروقين ، فنهض إلى عمر بمن معه ، فقاتله أشّد قتال ثم تكاثرت البربر ، فانكشف حتى سار إلى القنطاط ثم تقاتلوا بالقنطاط ، وأشتد قتلهم وكاثروه حتى انحاز إلى خندقه بباب أبى الربيع ، ثم زحف أبو حاتم بعساكره حتى نزل بالقرب من باب أبى الربيع ، وأنزل عسكرا

٨٢

من باب سالم وباب أصرم وعسكرا بين باب نافع وباب عبد الله ، وفى هذا المعسكر عمرو بن عثمان الفهرى ، وكان قد سار معهم.

ويقال : إنّ عدتهم كانت فى ذلك اليوم مائة ألف وثلاثين ألفا ، وكان عمر يخرج إليهم فى كل يوم فيحاربهم ، فلم يزالوا كذلك حتى ضاق أمرهم وأكلوا دوابّهم وسنانيرهم وكلابهم ، وأخذ الناس فى أكل لحوم الخيل ، فغلا الملح حتى انتهى : أوقية بدرهم ، واضطرب على عمر أمره ، وضّج أصحابه وساءت آراؤهم ، فقال لمن معه من الجند : «قد كان أصابكم من الجهد أمر عظيم حتى قدمت عليكم ، ففرّج الله عنكم بعض ما كنتم فيه ، وقد ترون ما أنتم الآن فيه ، فإن شئتم خرجتم على ذراريهم وبلادهم وجعلت عليكم أى الرجلين شئتم : جميلا أو المخارق ، وأخرج فى ناس من الجند فأغيره على نواحيهم ونحتكر الميرة؟ قالوا «قد رضينا» قال : «وكان أبو حاتم الإباضى فى ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا ؛ الخيل منها خمسة وثمانون ألفا ، فلما هم بالخروج قالوا : «تريد أن تخرج أنت ونبقى نحن فى الحصار!» ، فقال : «أقيم معكم اسرّح جميلا أو المخارق ومن أحببتم وأخرج أنا فى أناس من الجند وأغير على نواحيهم؟» ، قالوا «نعم» فلما جاء إلى باب المدينة قالوا : «تخرج أنت ونقيم نحن ، لا تفعل» فغضب عمر وقال : «والله لأوردنكم ونفسى حياض الموت».

وجاءه وهو محصور كتاب خليدة بنت المعارك ، امرأته تخبره أن أمير المؤمنين استبطأه ، فبعث يزيد بن حاتم ، وهو قادم على إفريقية فى ستين ألفا فقال : «لا خير فى الحياة بعد هذا!». قال خداش بن عجلان : «فأرسل إلى فجئته ، وقد قام عرق بين عينه وهو علامة غضبه ، فأقرأنى الكتاب فدمعت عيناى ، قال : «مالك؟!» قلت : «وما عليك أن يقدم عليك رجل من أهلك فتخرج من هذا الحصار فترجع إلى أمير المؤمنين فيوليك خراسان ـ وكانت مناه ، فقال : «تتحدث نسوة العتيك أنّ يزيدا أخرجنى من الحصار ، إنّما هى رقدة حتى أبعث للحساب ، ارجع إلى أهلك واحفظ وصّيتى» ، وكان قد كتب وصيتة. قال خداش : فوصّى بما أحبّ ، وخرج من الغد فلم يزل يطعن ويضرب

٨٣

حتى قتل ، وذلك يوم السبت للنصف من ذى القعدة سنة أربع وخمسين ومائة ، وبايع الناس جميل بن حجر ، وكان أخا عمر لأمه ، فلما طال عليه الحصار دعاه ذلك إلى موادعة أبى الحاتم ، فصالحهم على أن جميلا وأصحابه لا يخالفون طاعة سلطانهم ولا ينزعون سوادهم ، على أن كل دم أصابه الجند من البربر فهو هدر ، وعلى ألّا يكرهوا أحدا من الخيل على بيع سلاحهم ودوابهم ، فأجابهم إلى ذلك أبو الحاتم ، ودخل معهم فى الشّرط عمرو بن عثمان الفهرى على الوفاء بذلك ، ففتح جميل أبواب المدينة وخرج أكثر الجند إلى طبنة ، وأحرق أبو حاتم أبواب المدينة وأفسد فى سورها وبلغه قدوم يزيد بن حاتم ، فتوجه إلى طرابلس واستخلف على القيروان عبد العزيز بن السمح المعافرى ، وبعث إليه أبو حاتم يأمره بأخذ سلاح الجند ، وأن لا يجتمع منهم اثنان فى مكان وأن يوجه إليه بهم واحدا بعد واحد. فاجتمعوا واستوثق بعضهم مع بعض بالأيمان ألّا يرضوا بهذا وقويت قلوبهم بيزيد بن حاتم ، فلقوا عمرو بن عثمان الفهرى ، فقالوا له : قد كنتم حلفتم لنا الوفاء بما اشترطنا عليكم وإنّ هؤلاء القوم قد غدروا بنا وأرادوا أخذ سلاحنا ليفرقوا بيننا وبينهم ، فقال لهم عمرو بن عثمان : «ليس يجمعنى من البربر خلق ولا دين» قالوا : «إمّا أنت فقد جامعتهم على قتل والى أمير المؤمنين عمر بن حفص وشيعته وأنصاره ، فهل لك بجنود أمير المؤمنين من طاقة أم تستطيع أن تحرز منهم دمك ونفسك ومالك وأهلك ، ولكن هل لك فى أمر تمحو به ذنوبك القديمة والحديثة؟» قال : «ما هو؟» قال : «تقوم بطاعة أمير المؤمنين معنا ، وتنتقم على أبى حاتم غدره بنا». قال : ففعل ذلك عمرو بن عثمان ، وتولى الأمر وقام به وقتل أصحاب أبا حاتم واتصل ذلك به ، فزحف إليه من طرابلس فلقيه عمرو بن عثمان ومن معه من الجند وغيرهم فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل من البربر خلق كثير ومضى عمرو بن عثمان وأصحابه متوجهين نحو تونس ، ومضى جميل ابن حجر والجنيد بن سياق هاربين نحو المشرق وخرج أبو حاتم فى طلب عمرو بن عثمان ، ووجه قائدا من قواده يقال له حريز بن مسعود المديونى على مقدمته ، فأدركه بجيجل من ناحية كتامة ، فقاتلوه فقتل حريز بن مسعود وأصحابه وانصرف عمرو والمخارق

٨٤

فدخلاها ، ومضى أبو حاتم إلى طرابلس حين بلغه قدوم يزيد بن حاتم ولحق جميل بن حجر وأصحابه يزيد وهو بسرت وأقاموا إلى أن لقيه أبو حاتم فقتله ، فيقال إنّه كان بين الجند والبربر من لدن قاتلهم عمرو بن حفص إلى انقضاء أمرهم ثلاثمائة وخمسا وسبعين وقعة.

ولاية يزيد بن حاتم بن قبيصة بن الملهب

حاله فى جوده وكرمه وشجاعته وبعد صيته ونفاذ رأيه وتقدمه ، وعلم الخاصة والعامة به يغنى عن كثير من شرح أمره. وقدم إفريقية فأزال الفساد منها وأصلحها ورتب القيروان فى أسواقها وجعل كل صناعة فى مكانها وجدد بناء المسجد الجامع ، حتى لو قيل إنه الذى مصرها لم يبعد من الحق لو قدمها ، ولكنه حسنها وزاد فى قدرها وكان غاية فى الجود ، وهو القائل :

ما يألف الدّرهم المضروب خرقتنا

إلّا لماما قليلا ثمّ ينطلق

يمرّ مرّا عليها ثمّ يلفظها

إنّى امرؤ لم تحالف خرقتى الورق

وكان يزيد كثير الشبه بجده الملهب فى حروبه ودهائه وكرمه وسخائه ، وكان له أولاد مذكورون مشهورون بالشجاعة والإقدام والكرم والأنعام فى أيام أبيهم وبعد وفاته بالمشرق ، لما صاروا إليه ، يقال : إن الذى أوقع من الملهب إلى الأرض ثلاثمائة من الذكور والإناث بين من مات منهم ومن عاش ، وورثه ثمانية عشر ذكرا سوى الإناث ، رئيسهم بعد أبيهم يزيد بن الملهب.

وذكر المدائنى : أن سليمان بن عبد الملك الكلبى قدم عليه المهلب ، وقد ركب فى بنيه ، وقال : سرّ الله الإسلام بتلاحقكم وو الله لئن لم تكونوا أسباط نبوءة إنكم لأسباط ملحمة ، فقال الملهب : «لئن قلت ذلك ، فو الله ما ألقوا قط فى سواد إلا بيضوه

٨٥

ولا بياض إلا سودوه» ويقال إن معاوية قال يوما لأصحابه : «إنى رأيت فى منامى البارحة كأن رجلا قدم علىّ وافدا من العراق ، فلما مثل بين يدى طال حتى بلغ السماء» ، قال : فلما كان بعد ثلاثة أيام قدم عليه المهلّب ، فقال معاوية : «هذا الرجل الذى رأيت فى منامى».

قال ابن سلام : وقدم الملهب على ابن الزبير بمكة ، فخلا به يشاوره ، فقال له عبد الله بن صفوان : «يا أمير المؤمنين من الذى يشغلك يومك هذا؟» قال : «أما تعرفه؟» قال «لا» قال : «هذا سيد أهل العراق» قال : «أهو المهلب»!؟ قال : «نعم» ، فقال المهلب : «من الذى يكلمك يا أمير المؤمنين؟» قال : «سيد قريش» قال : «أهو عبد الله بن صفوان» قال : «نعم» ، قال : وكان يزيد بن حاتم خاصا بأبى جعفر المنصور ، فكان لا يحجب عنه ، وتولى ولايات كثيرة قبل قدومه المغرب ، منها أرمينية والسند ومصر وأذربيجان ، وهو أحد من دبر معه قتل يزيد بن عمر بن هبيرة الفزارى ، وقال : «أيها الأمير إنّ ابن هبيرة يأتى فيتضعضع له العسكر وما نقص من سلطانه شىء!» فدبر معه أمره حتى قتله أبو جعفر ، مع الذى كتب بينه وبينه وبعث برأسه إلى أخيه أبى العباس ، فوضع بين يديه ثم التفت إلى إسحاق بن مشكم العقيلى ، فقال : «يا إسحاق ما أعظم رأس ابن عمك!» قال : «طينة عهدكم التى نزل بها من قصره وفرق بها جمعه كانت أعظم!» فاحتملها أبو العباس ، وولى أبو الجعفر يزيد بن الحاتم مصر فى ذى الحجة سنة أربع وأربعين ومائة.

وكان أبو جعفر عالما بالمغرب خائفا عليه ، وكان لا يبعث إليه إلا أهل ثقته من ذوى الرأى الأصيل والخطر الجليل ، قال يزيد بن حاتم : «لما ولانى المنصور مصر دخلت عليه ، وكنت لا أحجب عنه» فقال لى : «يا أبا خالد ، بادر هذا النيل قبل خروج الرايات الصفر وأصحاب الدواب البتر» قال يزيد : ولمّا ولانى المغرب انتهى فى تشييعى إلى فلسطين ، فحسدنى أقوام منهم شبيب بن شيبة بن عقال ، ورفع إليه ابن شيبة بن عقال كتابا لم يأل فيه من الحمل على والذكر لمساوى وتخويفه الغوائل ، قال : فأرسل إلى

٨٦

فحضرت ، فرمى إلىّ بالكتاب فقرأته وذهبت لأتكلّم ، فقال : «كفيت مؤونة الاحتجاج ، وقال لهما : «لو لا أنى لم اتقدم إليكما لقتلتكما» قال يزيد : «فأخذت الكتاب وخرجت ، فجعلت الكتاب فى كتب كانت معى وقدمت إلى إفريقية فما لبث أن وجه إلّى شيبة بن عقال فى بعض ما توجّه الخلفاء فيه ، فبلغت فى برّه وإكرامه فوق ما أملّه ، فلمّا أراد الانصراف لم يكن قط إلّا على المودّة والمحبّة ، فضربت بيدى إلى ذلك الكتاب فأخرجته ورميته إليه وقلت له : «ولا غرو كتبت هذا الكتاب؟!» فسألنى الإقالة والتغمّد ، فقلت له : «لو لا أنك تستغفلنى ما عرفّتك هذا» ، فسأل دفع الكتاب إليه ، فلم آمن أن يدفعه إلى أبى جعفر ، فأمرت به فخرق.

وكان يزيد بن حاتم حسن السيرة بإفريقية ، مذ جاء تفد الشعراء عليه لطلب صلته وإحسانه ، فأخد من وفد عليه بإفريقية ربيعة بن ثابت الرقّى ، من أسد ، فمدحه بأشعار كثيرة ، منها قصيدته التى يمدحه فيها ويهجو يزيد بن أسيد السّلمىّ ، التى أولها :

ألا طرقتنا باللّوى أمّ عاصم

وقد زارنا منها خيال مجاشم

ألّمت بركب عرّسوا بتنوفة

هجوع لدى أعصار خوص سواهم

وبتنا كأنّ المسك ببين رحالنا

يفوح علينا من عباب اللّطائم

وأنّى اهتدت تسرى إلينا غزيزة

مخصّبة الأطراف ريّا المعاصم

فقلت لها إنّى شعرت بفتية

نشاوى من الإدلاج مثل النّعائم

حلفت يمينا غير ذى مثنويّة

يمين امرء آلى وليس بآثم

لشتّان ما بين اليزيدين فى النّدى

يزيد سليم والأغّر ابن حاتم

فهمّ الفتى الأزدىّ اتلاف ماله

وهمّ الفتى القيسىّ جمع الدّراهم

فلا يحسب التّمتام أنّى هجوته

ولكنّنى فضّلت أهل المكارم

أبا خالد أنت المنوّه باسمه

إذا نزلت بالنّاس إحدى العظائم

كفيت امير النّاس كلّ عظيمة

وكنت من الإسلام خير مزاحم

٨٧

فصار قوله : «لشتّان ما بين اليزيدين فى النّدى» مثلا يتمثّل به فى كل بلدة وناحيّة ، وكان وجب على ربيعة وقومه ديّات ، فقصد يزيد بن أسد ، فلم يحل منه بطائل ، ثم رحل إلى يزيد بن حاتم ، وهو بالقيروان ، فأعطاه عشرة ديّات ، ووصله وأحسن إليه إحسانا عظيما.

وفيما يؤثر من الأخبار : أن نخّاسا عرض على أحمد بن يزيد السّلمى ، ابن هذا المهجوّ ، جاريتين ، فقال : «أيّهما أحسن ، هذه أو هذه ،» فقال : بينهما ـ أعز الله الأمير ـ ما قاله الشّاعر :

* لشتّان ما بين اليزيدين فى النّدى*

فقال أحمد : «خذوا بيد ابن الفاعلة» ، فاغتمّ بما سمع ، وأنّ الشعر قد سار فى الناس ، وأنّ الرجل تمثّل به ولم يدر فيمن قيل ، وبلغ هذا الشعر أبا الشّمقمق ، فقال يمدح يزيد بن مزيد الشّيبانى :

لشتّان ما بين اليزيدين فى النّدى

إذا عدّ فى النّاس المكارم والمجد

يزيد بنى شيبان أكرم منهما

وإن غضبت قيس بن عيلان والأزد

كان أحمد بن يزيد وأبوه شريفين مذكورين. قال أشجع السّلمىّ فى علّة اعتلّها ثم أفاق :

لئن جرحت شكانك كلّ قلب

لقد قرّت بصحّتك العيون

تبيت من الحذار بنو سليم

عليك وكلّهم وجل حزين

وحقّ لّها بأن تخسى المنايا

عليك وأنت منكبها اليمين

ولو فقدتك قيس يا فتاها

إذا لتضعضعت منها المتون

ولو أنّ المنون بدت لقيس

لما نالتك أو يفنى المنون

٨٨

فلما مات أحمد بن يزيد رثاه أشجع السلمىّ بشعر قال فيه :

رحم الله أحمد بن يزيد

رحمة تغتدى وأخرى تروح

جبلا أطبقوا عليه بجرجا

ن ضريحا ما ذا أجنّ الضّريح

ولربيعة الرّقّى فى يزيد بن حاتم أشعار كثيرة ، ويقال إنه لما مدحه بالقصيدة التى فضّله فيها على يزيد السّلمىّ استبطأ برهّ وصلته ، فقال :

أرانى ـ ولا كفران لله ـ راجعا

بخفّى حنين من يزيد بن حاتم

فنمى ذلك حتى بلغ إلى يزيد ، فدعا به فلما دخل عليه قال :

«انتزعوا خفّيه ، فملأهما دراهم ودنانير ، وكانا كبيرين كأخفاف الجند ، ثم وصله بعد ذلك بصلات كثيرة».

واكثرت الشعراء من مدح يزيد وهو بالمشرق ، من ذلك قول ابن المولى ، وهو محمد بن عبد الله بن مسلم :

يا واحد العرب الّذى دانت له

قحطان قاطبة وساد نزارا

إنّى لأرجو إن لقيتك سالما

ألّا أعالج بعدك الأسفارا

رشت النّدى ولقد تكسّر ريشه

فعلى النّدى فوق البلاد فطارا

وفيه يقول أيضا :

وإذا تباع كريمة أو تشترى

فسواك بائعها وأنت المشترى

وإذا توعّرت المسالك لم يكن

منها السّبيل إلى نداك بأوعر

وإذا صنعت صنيعة تمّمتها

بيدين ليس نداهما بمكدّر

وإذا القبائل عدّدت كرماؤها

كنت المقدّم فيهم بالخنصر

يا واحد العرب الّذى ما إن لهم

من مذهب عنه ولا من معشر

٨٩

وفيه يقول أيضا :

يا واحد العرب الّذى

أضحى وليس له نظير

لو كان مثلك ثانيا

ما كان فى الدنيا فقير

حكى الزبير بن بكّار عمن حدّثه عن ابن المولى قال : كنت أمدح يزيد بن حاتم من غير أن أعرفه ولا ألقاه ، فلما ولّاه المنصور مصر أخذ على طريق المدينة ، فأنشدته منذ خرج من مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن صار إلى مسجد الصّخرة ، فأعطانى رزمتين ثيابا وعشرة آلاف درهم ، فاشتريت بها ضياعا تغلّ ألف دينار ، أقوم فى أدناها فأصيح أغنى أغنى ، فلا يسمعنى من هو فى أقصاها.

ومن أخبار يزيد بالقيروان ، ما حكاه ابن النّخلى الفقيه ، قال : كان لإسحاق (أ) بن مكرم الأشعرى ، وهو ابن أبى المنهال ، من يزيد بن حاتم خاصّة لم تكن لغيره ، ولم يكن قدم معه ، ولكن أتى بعد مستقرّه ، فخدم يزيد لثقته به وعلمه بديانته ، وكان عالما أديبا راوية لاشعار العرب وأخبارها ، وكان قريبا من يزيد ، فقال له يزيد ليلة : «يا أبا العياقيب ، فيمن قيل هذا الشعر» :

إنّ العرانين تلقاها محسدة

ولن ترى للئام النّاس حسّادا

قال : «يقوله بعض ما دحيكم فيكم» وأنشده القصيدة كلّها. فقال يزيد : «يا غلام علىّ بخمسمائة دينار لأبى العياقيب» قال : «كأنى قائلها» قال : «سبحان الله ، تحفظ مكارمنا وننام عنها ولا نكافيك على ذلك!».

وكان سحنون بن سعيد ـ رحمه الله ـ يقول : كان يزيد بن حاتم يقول : «والله الذى لا إله إلّا هو ما هبت شيئا قطّ هيبتى رجلا واحدا يزعم أنى ظلمته ، وأنا أعلم أن لا ناصر إلّا الله».

٩٠

قال : ومن أخباره المشهورة بإفريقية أنّ بعض وكلائه أتاه يوما فقال : «أعز الله الأمير ، أعطيت فى الفول الذى زرعناه فى فحص القيروان كذا وكذا ، وذكر مالا جليلا ، فسكت عنه وأمر قهرمانة وطبّاخه أن يخرجا إلى ذلك الموضع وأمر فرّاشيه أن يضربوا فيه ، مضارب كثيرة ، وخرج مع أصحابه فتنزّه فيه وأطعم ، فلمّا أراد الانصراف دعا بالوكيل وأمر بأدبه ، وقال : «يا بن اللّخناء ، أردت أن أعيّر بالبصرة ، فيقال : يزيد بن حاتم باقلّانى أمثلى يبيع الفول ـ لا أم لك ـ؟» ثم أمر بإباحته ، فنادى فى أهل القيروان بالخروج إليه ، فخرج إليه الناس ، فمن بين آكل وشارب ومتنزه حتى أتوا على آخره.

ومن مشهور أخباره : أنه خرج من القيروان يوما متنزها إلى منية الخيل ، وهو الذى حفر البئر العذبة وبناها ، وجعل خيله هناك فى اصطبلات ، أمر ببنائها فى هذه المنية ، فبذلك سميت «منية الخيل».

ونظر يوما فى طريقه إلى غنم كثيرة ، فقال : «لمن هذا الغنم؟» ، فقالوا : «لإسحاق ابنك» ، فدعا به ، فقال : «الك هذه الغنم؟» قال : «نعم» ، قال : «لم أردتها؟» قال : «آكل من خرافها ، وأشرب من ألبانها ، وانتفع بأصوافها» قال : «فإذا كنت أنت تفعل هذا ، فما بينك وبين الغنّامين والجزّارين فرق» ، وأمر بالغنم أن تذبح وتباح للناس ، فانتهبوها وذبحوها وأكلوا لحمها ، وجعلوا جلودها على كدية ، فهى تعرف من ذلك الوقت إلى اليوم «بكدية الجلود».

وحضر عبد الله بن الفروخ الفقيه جنازة فى باب نافع ، فرأى إسحاق بن يزيد قد أغرى كلابه على ظبى ليضربها الصّيد فنهشته ومزقّت جلده ، فلمّا انصرف استوقفه ابن فرّوخ ، فوقف له إسحاق ، فما كنّاه ابن فرّوخ ولا زاد أن قال له : «يا فتى ، أنّى رأيتك تغرى كلابك آنفا ببهيمة ، وما أحب ذلك» ، قال له إسحاق : «صدقت أبا محمد ، جزاك الله خيرا» ولم يزل لديه مكينا معظما عنده ، ثم قال له : «والله لا فعلت ذلك بعد يومى هذا أبدا».

وكان سبب قدومه إفريقية أنّه اتّصل بأبى جعفر المنصور : أن عمر بن حفص قتل

٩١

عمّه ذلك وشغله ، وأخبر بفساد البلد وكثرة اجتماع البربر وصنيعهم بجنده ، رأى أن يوجّه يزيد لعلمه بقيامه وحزمه ونكايته ، ولأن عمر بن حفص عمّه ، فهو لا يألو فى طلب ثأره فوّجه إليهم فى ثلاثين الفا من خراسان وستين ألفا من أهل البصرة والكوفة والشام ، وأقبل حتى صار فى ناحية سرت ، فاجتمع بجميل بن صخر وبمن معه من الجند القادمين عليه من القيروان ، وسار نحو طرابلس ، فسار أبو حاتم إلى جبال نفّوسة ، وجعل يزيد على مقدّمته سالم بن سوادة التميمى ، وأمر شبيبة بن حسان أن يسير نحو قابس ، وتقدم سالم فالتقى هو وأبو حاتم ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم سالم وأصحابه ، فرجعوا إلى عسكر يزيد ، وهال أبو حاتم أمر يزيد ، فطلب له عزّ المنازل وأوسعها ، فعسكر فيها وخندق على عسكره ، فأتاه يزيد من ناحية الخندق ، وأصبح يزيد فعبأ عساكره وأصحابه ، وترجّل أبو حاتم فى أهل البصائر من أصحابه ، ثم التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، فأراد يزيد الحملة ، فنزل إليه المهلّب بن المغيرة ، فأخذ بلجام فرسه ، فرفع السّوط ليضربه ، فشد يزيد على يد المهلّب ، فقال : «والله لو قطعتها ما تركتك ، أنا أعلم بقتال القوم منك ، فمر بعض ولدك أن يحمل ، فإنّ للبربر حملة لا تطاق ، ثم احمل أنت بعده ، إذا شئت» فأمر ابنه عبد الله فحمل ، فرد البربر ، ثم قال : «احمل أنت الآن» فحمل ، فقتل أبو حاتم فى أهل البصائر من أصحابه ، وانهزم الباقون وطلبهم يزيد ، فقتلهم ، قتلا زريعا ، وبعث خيله فى طلبهم إلى كل ناحية ، فكانت عدة من قتل منهم ثلاثين ألفا ، ويقال : إنه لم يقتل من الجند إلّا ثلاثة رهط.

وكان ذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائة. وجعل آل المهلّب يقتلون البربر ، ويقومون بالثارات فى عمر بن حفص ، ثم أقام يزيد بمكانه ذلك نحوا من شهر وبثّ خيوله فى طلب الخوارج ، فقتلهم فى كل سهل وجبل. ثم رحل حتى نزل قابس ، وكان قد كتب إلى المخارق بن غفار بالقيام بأمر القيروان فدخلها لعشر بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة. ومات أبو جعفر المنصور بعد دخول يزيد بن حاتم القيروان بثلاث سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يوما.

٩٢

وبعث يزيد بن حاتم المخارق إلى آخر الزّاب ، فنزل طبنة ، وكان عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهرى مع أبى حاتم ، فهرب حتى أتى كتامة ، فنزل بجيجل ، فكتب يزيد إلى المخارق بالمسير إليه ، فسار حتى نزل بكتامة ، وضمّ إليه يزيد قوّادا من أهل خراسان وأهل الشام ، فأقام المخارق محاصرا له ثمانية أشهر ، فبعث يزيد العلاء بن يزيد المهلّبى ، فصار حتى دخل القلعة التى بها عبد الرحمن من موضع غير الموضع الذى نزل به المخارق ، ودخل المخارق من ناحيته التى كان بها ، فهرب عبد الرحمن وقتل جميع من كان معه ، وانصرف العلاء إلى القيروان والمخارق إلى طبنة ، وهرب البربر فى كل ناحية ، وخافوا خوفا شديدا. فلم يزل البلد هادئا فى أيامه إلى أن بلغه انتفاض أمر ورفجومة ، فأرسل إليهم ابن مجزأة المهلبىّ ، فالتقوا ، وعلى البربر رجل يقال له أبو زرجونة الورفجومى. ولمّا التقوا انكشف الجند ولم يناصحوا ، فقتل منهم. وقد كان يزيد عزل المخارق عن الزّاب ، وولىّ مكانه المهلّب بن يزيد ، فكتب المهلّب إلى أبيه يستأذنه فى الخروج إلى ورفجومة ، فأمره أن يثبت حتى يأتيه أمره ، فوجه إليه يزيد العلاء بن سعيد بن مروان المهلّبى ، وكتب إلى المهلّب ابنه ، وهو على طبنة وكتامة وما يليها ، أن يستخلف على عمله من يثق به وينضم إلى العلاء ، وكانت ورفجومة تقول : إنّما كان أمر يزيد بن مجزّاة أملا كاذبا ، ثم التقوا وانهزم البربر وقتلوا قتلا زريعا ، وطلبوا بكلّ سهل وجبل ، حتى أتى على آخرهم ولم يصب من الجند أحد ، وأقبلوا إلى يزيد بالقيروان فولى العلاء على طرابلس وعزل ابنه المهلّب عن الزّاب وكتامة ، واستعمل على الزّاب وكتامة ابنه محمد بن يزيد.

وبنى يزيد المسجد الأعظم بالقيروان وجدّده ، سنة سبع وخمسين ومائة ، وأقام والأمور مستقيمة والبلاد هادئة ، ثم توفّى يزيد فى شهر رمضان سنة سبعين ومائة ، فى سلطان هارون الرشيد ، وكانت وفاته بدار الإمارة التى كانت بالموضع المعروف برحبة التمر ، وقيل توفّى بمنية الخيل ، مما يلى باب سالم ، وكان سمى له البصرة ، فوّلى عليها غيره.

٩٣

أخبار القضاة فى أيامه

كان عبد الرحمن بن زياد بن أنعم من جلّة المحدّثين والعلماء المتقدّمين ، منسوبا إلى الزّهد والورع ، متفنّنا فى علم العربيّة والشّعر ، وكان يروى عن أبيه أبى أيوب الأنصارىّ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، ويروى هو عن سفيان الثّورى وأبى يوسف القاضى وكثير غيرهم. وولى القضاء بإفريقية ، الأولى فى أيام بنى أميّة ، وولّاه مروان بن محمد ، ولمّا قدم على أبى جعفر مستنصرا على البربر ولّاه القضاء ، فبقى إلى أن توفى فى أيام يزيد بن حاتم.

وكان عبد الرحمن قد أسره الروم ، ومضوا به إلى القسطنطينية ، ثم أفتك فيمن أفتك من الأسارى فى ناحية المشرق ، فكان يقول :

أسرت أنا وجماعة معى ، فرفعنا إلى الطاغيّة ، فبينما نحن فى حبسه إذ غشيّه عيد ، فبعث إلينا بأصناف من الطعام ، واتصل ذلك بامرأة الملك ، وكانت تقيّة عنده فمزقت ثيابها ، ونشرت شعرها وخمشت وجهها. وأقبلت إليه تقطرسما ، وقالت : «العرب قتلت أبى وأخى وزوجى ، وأنت تفعل بهم الذى رأيت!» فغضب وقال : «علىّ بهم» فصرنا بين يديه سماطين ، فأمر سيّافه ، فضرب عنق رجل رجل منّا ، حتى قرب الأمر منى ، فحركت شفتىّ وقلت : «الله ربى لا أشرك به شيئا ، فأبصر فعلى» فقال : «قدموا شمّاس العرب ـ يريد عالمها ـ ، فقال لى : «نبينا ـ عليه السلام ـ أمرنا بها» قال : «وعيسى فى الإنجيل» وأطلقنى ومن معى.

ودخل يوما على أبى جعفر ، فقال له : «يا بن أنعم ، ألا تحمد الله الذى أراحك مما كنت فيه بباب مروان بن محمد» قال : «إمّا ما كنت أرى بباب مروان لا أرى اليوم شطره» قال : «فبكى لها أبو جعفر» ، قال : «فما منعك أن ترفع ذلك إلينا وأنت تعلم أن قولك عندنا مقبول» ، قال : «إنى رأيت للسلطان سوقا وإنّما يرفع إلى كل سوق ما ينفق فيها» قال : «فبكى لها أبو جعفر» ثم رفع رأسه وقال : «كأنك كرهت صحبتنا!» ،

٩٤

قال : «ما يدرك المال والشرف إلا فى صحبتك ، ولكنى تركت عجوزا وأريد مطالعتها» ، وكتب عهده على قضاء القيروان ، وقال : «اذهب فقد أذّنا لك».

وقال عيسى ، ولىّ عهد المنصور ، لعبد الرحمن بن زياد يوما : «ما يمنعك من إتياننا؟» قال : «وما أصنع عندك إن أتيتك ، إن أدنيتنى قتلتنى وإن أقصيتنى أخزيتنى ، وليس عندك ما أرجوه ولا عندى ما أخافك عليه».

قال أبو عثمان المعافرى : كنت يوما عند عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، قاضى إفريقية ، وهو يتنفّس الصّعداء ، والكآبة ظاهرة عليه ، حتى أتاه شاب معه مخلاة فأسرّ إليه كلاما فأسفر وجهه وتبسّم ، وقال لغلامه : «جئنا بالفول الذى طبخوه البارحة لنا» ، فجاءه به ، فقال : «تقرّب» ، قال أبو عثمان : فقلت : «لا أفعل» قال : «ولم يا أبا عثمان ، أظننت ظنا؟» ، قلت له : «نعم» ، قال : «أحسب يا أبا عثمان أنك قلت إذا رأيت هذه الهدية دخلت دار القاضى : فاعلم أن الأمانة قد خرجت من كوّة داره ، وليس هو هديّة» قال : فقلت له : «إنّى كنت رأيتك مغموما فلمّا أتاك هذا الطّعام انطلقت وأسفر وجهك» ، فقال لى : «إنّى أصبحت وقد بعد عهدى بالمصائب ، فخفت أن أكون قد سقطت من عين الله ، فلمّا أتانى هذا الغلام ذكر لى أن أكفأ عبيدى وأقومهم بضيعتى توفى ، فزال عنى الهمّ والغمّ واسترحت.

وكان ابن أنعم يقول «لكل شىء آفة تستعبده ، وآفة العبادة الرّياء ، وآفة الحلم الذّل ، وآفة الحياء الغضب وآفة اللّب الإعجاب ، وآفة الظّرف الصّلف ، وآفة العلم النيسيان ، وآفة الجود السّرف».

وأقام عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضيا على إفريقية المرة الثانية إمارة ابن الأشعث والأغلب بن سالم وعمر بن حفص حتى قدم يزيد بن حاتم فأقام مدّة ثم انعزل ، وكان فيما روى عن سليمان بن عمران قال : كانت امرأة تدخل إلى نساء يزيد بن حاتم ، وكان لها خصومة عند عبد الرحمن ، فكتب لها كتاب حكم ، وختمه ، وأعطاها إياه فأخذته ودخلت به إلى دار يزيد بن حاتم ، فقال لها : «ما هذا؟» فأعلمته ، فأخذه وفضّ خاتمه

٩٥

وقرأه ، وصاحت فقال لها : «لا عليك ، أنا أبعث به إليه يختمه» ثم بعثه إليه فقال : «ما أختمه حتى تعيد البيّنة مرة أخرى (فردّه عليه ثانية ليختمه فأبى» ، فقال : «ما أفعل» فلما ولىّ رسول يزيد أخذ عبد الرحمن خاتمه فكسره وأخذ جلده ، وقال : «والله لا أحكم بين اثنين أبدا» ، قال : «فوّلى يزيد بعده ابن الطّفيل التّجيبى ، وكان يسكن فى سوق اليهود فى الدّرب المعروف إلى اليوم بابن الطّفيل ، وكان يركب إلى دار عبد الرحمن بن زياد يشاوره فى أمره ، وكان يقرع الباب» ، فيقول الخادم : «من أنت؟» فيقول له : «قل لمولاك هذا الذى عزلك» وكان ربّما حضره الطعام فيأكل معه ابن الطفيل ، ويركب حمارا له حتى يأتى المسجد الجامع ، فينزل ويجلس ، ويخلّى الحمار فينطلق الحمار يريد دار يزيد بن الطّفيل بغير قائد ولا سائق ، فيأكل ما يلقى فى الأزقة من حشيش وبقل ، وهو فى ذلك يمشى حتى يأتى دار ابن الطّفيل ، فيؤخذ فيدخل ، فإذا كان الوقت الذى يعلمون أنه ينصرف ، اسرجوا الحمار فيذهب حتى يأتى الجامع فيخرج فيركبه وينصرف.

قال سليمان : ثم عزل يزيد بن حاتم بن الطّفيل ، وذلك أنه رفع إليه أنه رفع كتبه عند رجل من البراّزين ، فقال له : «لم فعلت هذا؟» ، فقال له : «إنّها مختومة وأنا أحفظ ما فيها» ، فقال له : «وإن كان ، فليس هذا من سير القضاة» وعزله. قال سليمان : وكان سبب وفاة عبد الرحمن بن زياد أنه أكل عند يزيد بن حاتم سمكا وشرب لبنا ، وذلك فى الليل ثم انصرف ، وكان يحيى الطّبيب حاضرا ، وكان عبد الرحمن قد جاوز السبعين ، فقال يحيى : «إن كان الطبّ حقا ، فإنّ الشيخ يهلك» ، وكان يزيد فى عليّة له فى دار الإمارة ، إذ سمع بكاء فى الليل ، فقال : «ينبغى أن يكون هذا البكاء على عبد الرحمن» فكان كذلك ، فلج فمات ، ووقف يزيد بن حاتم خارجا من باب نافع ينتظر الجنازة فلمّا أقبلت ، ونظر إلى جماعة النّاس وكثرتهم وازدحامهم تمثّل بهذا البيت :

يا كعب ماراح من قوم ولا ابتكروا

إلّا وللموت فى آثارهم حادى

٩٦

ولاية داود بن يزيد بن حاتم

واستخلف يزيد فى مرضه داود ابنه ، فانتفض عليه أمر البربر ... صالح بن نصير فى الإباضّية فلقيه ... بباجة فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة فوجه إليهم داود سليمان بن الصمّة بن يزيد بن حبيب بن المهلّب فى عشرة آلاف ، فهرب البربر فتبعهم فقتل منهم أكثر من عشرة آلاف وسلم الجند ، وهرب صالح بن نصير فانضم إليه جماعة من مشيخة أهل البصائر من البربر ، ممن لم يكن شهد الوقعة الأولى بشقبنّاريّة من كورة الأربس ، فزحف إليهم سليمان بن الصمّة فلقّيهم فقتلهم وقتل أهل البصائر منهم ، ولم يصب من الجند أحد ، وانصرف إلى القيروان ، وكان داود جعل على شرطته خالد بن بشير ، وولىّ على الزّاب المهلّب بن يزيد.

وأقام داود واليا على إفريقية إلى أن قدم عمّه روح أميرا على المغرب ، فكانت ولاية داود سبعة أشهر ونصف شهر. وسار داود إلى المشرق فكان أجلّ قائد عند الرّشيد ، وولّاه ولايات كثيرة ، وولى مصر سنة أربع وسبعين ومائة ، ثم ولّاه السند ، فمات بها وهو أمير عليها ، ومدحه الشعراء وذكرت مناقبه وأفعاله ، فمن ذلك قول مسلم بن الوليد الأنصارى :

لا تدع بى الشوق إنىّ غير معمود

نهى النهى عن هوى الهيف الرّعاديد

وهى من القصائد المختارة لحسن ألفاظها وبديع معانيها ، يقول فيها :

الله أطفأ نار الحرب إذ سعرت

شرقا بموقدها فى الغرب داود

داويت من دائها كرمان وانتصفت

بك المنون لأقوام مجاهيد

خلىّ بها فزعا أخلى معاقلها

من كلّ أبلخ سامى الطّرف صنديد

٩٧

ولاية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب

ثم وجه هارون الرشيد روح بن حاتم إلى المغرب ، وكان أكبر سنّا من يزيد وأكثر ولايات بالمشرق ، وحجب أبا جعفر المنصور فى أول أيّامه ، ثم ولّاه البصرة ، وولى الكوفة فى أيّام محمد المهدى ، وولى السند وطبرستان وفلسطين وولايات كثيرة.

روى عن عبد الله بن عمر بن غانم القاضى أنه قال : حدّثنى الأمير روح بن حاتم ، قال : «كنت عاملا لهارون الرشيد على فلسطين ثم صرفنى عنها ، فخرجت منها أريد بغداد ، فوافق موت أخى يزيد ، فأرسل إلىّ هارون فلمّا دخلت عليه قال لى : «يا روح ، أحسن الله عزاءك فى أخيك يزيد فقد توفّى ، ولا أشك أنّ له صنائع بإفريقيّة ، فإن ولى مكانه غيرك لم آمن عليهم من عدو يتشفّى منهم ، ولكن اخرج من فورك إلى إفريقيّة» ، ويقال إن روح بن حاتم بعث إلى كاتب له بثلاثين ألف درهم ووقّع إليه : قد بعثت إليك بثلاثين ألف درهم ، لا استقلّها لك تكبيرا ولا استكثرها لك تمنّنا ، ولا استثنيك عليها ثناء ، ولا أقطع عنك بها رجاء ، والسلام.

وكانت فى روح عصبيّة ، قال خداش بن عجلان : قال لى روح بن حاتم : «رأيت إنسانا يطوف بالبيت وهو يقول : اللهم اغفر لى ولا تغفر لأمى ، قلت : «ولم ويحك؟!» قال : هى من الأزد والرجل روح».

ومما يؤثر من :

أخبار روح بإفريقية

إنه أتى برجل من موالى نهشل ، فكان يتلصّص ما بين برقة ومصر ، فأمر بضرب عنقه ، فقال له : «أيها الأمير ، إنّ لى عليك يدا» قال : «وما هى؟» قال : «إنك جئت إلى مجلس قومى وهو محتفل ، فلم يتحفّز لك أحد منهم ، فقمت لك من مكانى حتى جلست فيه ، ولو لا كريم محتدك وشرف مجدك ونباهة ذكرك ما ذكّرتك هذا عند مثل هذه

٩٨

الحال» فقال روح : «يد والله» ، وأمر بتخليته ، وولّاه على تلك النّاحية ووصله وأخرجه إليها.

وجلس يوما فى قصره ينظر من علّية مع جاريّته طلّة الفندهاريّة ، وكانت حظيّة عنده لجمالها وحسنها وأدبها وعلمها ، فطلع خادم له وبيده قادوس فيه ورد أحمر وأبيض فى غير زمان الورد ، فاستظرفه وسأله عن أمره ، فأعلمه أن رجلا أتى به هديّة إليه ، فأمره أن يجعل فى طبق بين يديه ، وأمر أن يملأ له القادوس دراهم. فقالت له طلّة : «ما أنصفته» قال : «ولم؟» قالت : «لأنه أتى به ملوّنا أحمر وأبيض ، فلوّنه له» ، فأمر أن يخلط له دنانير ودراهم ويدفع إليه.

قال : وكان وصوله إلى القيروان فى رجب سنة إحدى وسبعين ومائة ، وكان شيخا حازما قد حلب الدّهر أشطره ، وذهب أكثر عمره فى إمارة يديرها أو حرب يسرها ، فلمّا وصل أقرّ العلاء بن سعيد على طرابلس ، وعزل المهّلب بن يزيد على طنبة ، واستعمل عليها ابنه الفضل بن روح ، واستعمل على تونس الجنيد بن سيّار ، ثم عزله واستعمل عليها إسحاق بن يزيد بن حاتم ، وكان وصوله فى خمسمائة فارس من الجند ثم لحقه ابنه قبيصة فى ألف وخمسمائة فارس ، فولّاه أبوه برقة ، فمن يوم مات روح عزلت برقة عن عمل إفريقيّة ، ولم تزل البلاد معه هادئة والسبل آمنة ، ورغب فى موادعة عبد الوهّاب بن رستم الإباضى صاحب تيهرت وهو الذى تنسب إليه الوهبيّة ، فلبث روح والأحوال حسنة مستقيمة إلى أن توفىّ لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة ، فكانت ولايته ثلاث سنين وثلاثة أشهر ، وكان له أولاد مذكورون منهم الفضل وقبيصة ، وكان أبوه ولّاه برقة ، وفيه يقول أبو عيينة المهلبى ابن عمه :

أقبيص لست ولو عرضت ببالغ

سعى ابن عمّك ذى النّدى داود

داود محمود وأنت مذمّم

عجبا لذلك وأنتما من عود

ومنهم بشر بن روح ، وكان قد رجع ... وصار على شرطة علىّ بن المهدى ، وأمّ علىّ ريطة بنت أبى العبّاس السفّاح ، وكان المهدى ولىّ موسى العهد بعده ثم هارون من

٩٩

بعد موسى ثم عليا من بعد هارون. فلمّا صار الأمر إلى الرشيد خلع علىّ بن المهدى وعوّضه من ذلك عشرين ألف ألف درهم ، وكان متولى القضاء لروح رجل من أهل تونس ، يقال له العلاء بن عقبة ، وكان صالحا ورعا ، فحكم لرجل من أهل باجة بحكم ففضّه روح ووقف عليه ، وبلغ ذلك العلاء ، فقام من المسجد فبعث روح ورائه ، فالتمسوه فلم يوجد فى داره ولا موضع قضائه ، فلقيه يوم ومعه جلده ودرّنه وهو سائر إلى تونس ، فبعث روح إلى عبد الله بن فرّوخ ليولّيه القضاء ، فأبى وامتنع ، فأجبره وأمر من يقعده فى الجامع ، فأقعدوه ودعوا بالخصوم ، فتقدّم إليه خصمان فقال لهما : «أنا شد كما الله أن تكونا أشأم رجلين علىّ» ، فقاما ، فلم ييأس منه وعرض عليه ، فأبى ثم قال له : «أشر علىّ» فأبى ، فأمر روح أن يصعد به إلى بعض السطوح ، وقال : «إن أشار وإلّا ألقوه إلى الأرض» فقال : «هذا الفتى عبد الله بن عمر بن غانم كانت لنا معه صحبة». فكأنه أومأ نحوه. قال : فولى روح القضاء عبد الله بن عمر بن غانم ، وكان لا يجيب مشيره فى الخصومات ، فيأبى ويقول : لم أتقلّد هذا قاضيا أتقلّده مستشارا!» ، وكان هذا سبب خروجه إلى مصر ، وبها توفى.

وكان عبد الله بن عمر بن غانم فقيها ورعا عالما مقدّما مع فصاحة لسان وحسن بيان ، وبصر بالعربية ورواية للشّعر وكان قائلا له حسن العلم به ، وهو أحد القضاة الذين يفخر بهم أهل إفريقية ، وأقام على القضاء نحوا من عشرين سنة ، وكان قد رحل إلى مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ وسفيان الثّورى وأبى يوسف القاضى وغيرهم. وكان يقول : «دخلنا على سفيان الثّورى ، فقال : ليقرأ علىّ أفصحكم لسانا ، فإنّى لا سمع اللّحنة فيتغيّر لها قلبى» فقرأت عليه إلى أن فارقته ، فما ردّ علىّ حرفا واحدا ... فنظرت فى حاجات وخرجت إلى ... فخرج هارون يشيّعنى ثم ودّعنى ثم لحقنى وصاح : يا روح ، لا تنزل ولا ترجع ... وأنا مقيم ثم سايرنى ، فقال : عليك بالزّاب املأه خيلا ورجلا ، وكان ذا رأى وحزم وعلم مع شجاعة وجود وصرامة ، وهو أنبه ذكرا بالمشرق من يزيد ، ويزيد أكثر أخبارا منهم بإفريقيّة لطول مقامه بها ، ويقال إنّ المنصور وجّه يزيد إلى إفريقيّة لمّا انتقضت عليه بقتل عمر بن حفص ، وبعث روحا إلى السند ،

١٠٠