تاريخ أفريقية والمغرب

رقيق القيرواني

تاريخ أفريقية والمغرب

المؤلف:

رقيق القيرواني


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفرجاني للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٢

خلافة سليمان بن عبد الملك ، ثم مكثوا بعده لا يجمعهم إمام.

وقال غير الواقدى : (١) بلغ عبد العزيز ما نزل بأبيه وأخيه وأهل بيته ، فخلع ، طاعة بنى مروان ، وخالفهم ، فأرسل إليه يتهدّده ، فلم يرجع إلى الطاعة ، وجاء بالكتاب إلى حبيب ابن أبى عبيدة إلى وجوه العرب ، فقالت لهم الرّسل : «ما يمنعكم من هذا اليهودى»؟ قالوا : لا طاقة لنا به. فقالوا : والله لئن لم تقتلوه لنخبرنّه ، فسقط فى أيديهم. وأقبل حبيب بن أبى عبيدة مشتمار على سيفه ، فلمّا خرج عبد العزيز إلى صلاة الصبح ، فقرأ فاتحة الكتاب ثم قرأ «الحاقة» فقال له حبيب : «حقّت والله عليك يا بن الفاعلة» وعلاه بالسيف ، فقتله ، وحمل رأسه ورأس عبد الله إلى موسى فوضعا بين يدى أبيهما ، ولم يزل موسى يعذّب حتى مات ، واستعمل محمد بن يزيد على الأندلس الحسن بن عبد الرحمن القيسى ، وكانت الأندلس إذ ذاك إلى والى إفريقية ، وكان محمد بن يزيد يبعث السرية إلى ثغور إفريقية فما أصابه خمّسه ثم قسّمه عليهم ، ثم قسّم الخمس أيضا.

وفاة سليمان بن عبد الملك

وولاية عمر بن عبد العزيز

فى سنة تسع وتسعين

توفى سليمان بن عبد الملك ، فى ربيع الأول سنة تسع وتسعين ، وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر ، ثم بويع لعمر بن عبد العزيز بالخلافة ، حين توفى سليمان فاستعمل على إفريقية إسماعيل بن عبد الله بن أبى المهاجر مولى بنى مخزوم فأقام بها واليا سنة مائة وسنة إحدى ومائة فى خلافة عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ وكان خير وآل ، وخير أمير ، وما زال حريصا على دعاء البربر إلى الإسلام فأسلم بقية البربر على يديه.

__________________

(١) وهو محمد بن عمر بن واقد الواقدى الأسلمى مولاهم المدنى قاضى بغداد ، روى عن الثورى والأوزاعى وابن جرير ، وعنه الشافعى ، ومحمد بن سعد كاتبه وأبو عبيد القاسم ، مات سنة ٢٠٧ ه‍ وقيل سنة ٢٠٩ ه‍

٦١

وفاة عمر بن عبد العزيز

ولاية يزيد بن عبد الملك

فى سنة إحدى ومائة

توفى عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بدير سليمان ، لستّ خلون من شعبان سنة إحدى ومائة. فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر ، ثم ولى يزيد بن عبد الملك ، واستعمل على إفريقية يزيد بن أبى مسلم ، مولى الحجاج وصاحب شرطته.

ولاية يزيد بن أبى مسلم مولى الحجاج (١)

فقدمها سنة ثنتين ومائة ، فمكث أشهرا وحرسه البربر خاصة ، ليس فيهم أحد من البرانس ، فقام يزيد بن أبى مسلم خطيبا على المنبر ، فقال : «أيّها الناس ، إنّى قد رأيت أن أسم حرسى فى أيديهم ، كما تفعل ملوك الروم بحرسها ، فأسم فى يمين الرجل اسمه ، وفى يساره «حرسى» ليعرفوا فى الناس بذلك من غيرهم ، فإذا دفعوا إلى أحد أسرع فيما أمرته به ، فلمّا سمع ذلك حرسه اتفقوا عليه ، وغضبوا ، وقالوا : «جعلنا بمنزلة النّصارى!».

ودبّ بعضهم إلى بعض وتعاقدوا على قتله ، فلما خرج من داره إلى المسجد لصلاة المغرب ، قتلوه فى مصلاه. فتكلّم الناس على رجل يقوم فيهم حتى يأتيهم أمر الخليفة ، فتراضوا بالمغيرة بن أبى بردة القرشىّ ، وكان شيخا كبيرا. فقال له ابنه ، عبد الله ، وهو الذى ولى بعد ذلك قضاء إفريقية : «أيّها الشيخ ، إنّ هذا الرجل ، يعنى : يزيد بن أبى مسلم ، قتل بحضرتك ، فإن قمت بهذا الأمر بعده لم آمن عليك أن يظن بك الخليفة قتله ، ويتهّمك أن تكون عملت فيه لنفسك ولكن الرأى أن تتراضى بمحمد بن أوس

__________________

(١) هو يزيد بن أبى مسلم مولى الحجاج وكاتبه وتلميذه ولاه الخليفة يزيد بن عبد الملك حكم المغرب سنة ١٠١ ه‍ / ٧٢٠ م ، قتلوه البربر سنة ١٠٢ ه‍.

٦٢

الأنصارى ـ وكان غائبا ـ بصقلية ، فإذا قدم كتب إلى الأمير بالأمر ، فإنه لا يتهمه وهو عامل علينا له ، وسيقبل قوله ويصدّقه. فقبل الشيخ رأى ابنه ، فلم يلبث محمد إلّا يسيرا حتى قدم بغنائم أصابها ، فقلّدوه أمر إفريقية فكتب إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما كان فى وجهه ، وبما حدث من الأمر بإفريقية ورضاء الناس به ، وبعث فى ذلك خالد بن أبى عبيدة التّجيبى ، وهو من أهل تونس ، فقبل منه وعفا عمّا كان من حديثهم. قال خالد : «فدعانى ، خاليا ، فسألنى أىّ رجل محمد بن أوس الأنصارى» ، فقلت : «رجل من أهل الدين ، والفضل ، معروف بالفقه» قال : «فما بها قرشى إلّا المغيرة بن أبى بردة» قال : «قد عرفته ، فما باله لم يقدم» قلت : «إنّى ذلك». فاستعمل يزيد على إفريقية بشرا.

ولاية بشر بن صفوان الكلبى (١)

فقدمها سنة ثلاث ومائة ، ثم إنّ بشرا وفد بعد ذلك إلى يزيد فألقاه قد هلك فى ربيع الأول سنة خمس ومائة ، فكانت خلافته أربع سنين وشهرا وأربعة أيام ، ثم ولى هشام بن عبد الملك ، فردّ بشر بن صفوان إلى إفريقية. فلمّا قدمها ولّى على الأندلس عبد الله بن سحيم الكلبى ، وعزل عنها الحسن بن عبد الرحمن القيسى ، ثم إن بشر بن صفوان غزا صقلية بنفسه ، فأصاب سبيا كثيرا ثم رجع من غزوته ، فتوفى بالقيروان سنة تسع ومائة ، فلما احتضر صاحت جارية عند رأسه : «وا شماتة الأعداء يا سيداه!» قال : «قولى للأعداء لا يموتوا» ، واستخلف فى موضعه العبّاس بن ناصعة الكلبى ، فكانت ولاية بشر بن صفوان فى المرة الأولى (أ) ، والثانية سبع سنين. ، فلما انتهى موت بشر بن صفوان إلى هشام استعمل على إفريقية عبيدة.

__________________

(١) هو بشر بن صفوان الكلبى كان واليا على مصر حينما قتل يزيد بن أبى مسلم والى إفريقية فأمره الخليفة يزيد بن عبد الملك بأن يترك ولاية مصر لأخيه حنظلة ، وأن يتجه فورا نحو المغرب ، فذهب إلى القيروان فى نفس هذا العام ١٠٢ ه‍ ، واستمرت ولايته على المغرب بقية خلافة يزيد وجزءا من خلافة هشام حتى توفى نسخة ١٠٩ ه‍ / ٧٢٧ م.

٦٣

ولاية عبيدة بن عبد الرحمن السلمى (١)

وهو أخو الأعور السّلمىّ صاحب خيل معاوية ـ رحمه الله ـ بصفيّن ، فقدمها فى سنة عشر ومائة. فحكى موسى بن أشعث قال : «خرجت من منزلى إلى الرملة ، وكانت سكة للبريد ، فبينا أنا متوجّه نحو القيروان إذا أنا بركب ثمانية على دواب البريد ، فتصدّيت للقائهم ، فإذا قوم سراة ، أجد عرف المسك كلّما ضربت الريح إلىّ منهم ، فسلّم أحدهم وهو من أحسنهم هيئة وملبسا ومركبا ، فرددت عليه السلام ، وقال : «سر هاهنا» ، فملت إليه آخذ معهم نحو القيروان ، فسألنى عن بعض حديث الناس والبلد ، سؤال من لا يعرف البلد. فقلت : «إذا توالت الغيوث فالواحد مائة» قال : «ينبغى أن يكون فحصا مسناتا ، يعطى عاما فى أعوام» قلت : «أجل! وقد سألتنى فأخبرتك ، وأنا أحبّ ـ أصلحك الله ـ أن أعرف من أنت ، فإنّى أرى شارة» قال : «أنا أميرك عبيدة بن عبد الرحمن» ، فما زلت أساقطه الحديث ، مرة أنشىء ومرة أجيب ، حتى جئنا مدينة القيروان ، فمال إلى دار الإمارة وذلك يوم الجمعة فألفى العباس بن ناصعة الكلبى قد تهيأ لشهود الجمعة ، ولبس ثيابه ، فقيل له : «هذا عبيدة قد قدم أميرا» فقال : «لا حول ولا قوة إلّا بالله ، هكذا تقوم الساعة بغتة!» فألقى بنفسه ، فما حملته رجلاه ودخل عبيدة بن عبد الرحمن يجمع الناس ، وأخذ عمال بشر فحبسهم وأرغمهم وتحامل عليهم ، وعذّب بعضهم وكان فيهم أبو الخطار بن ضرار الكلبى وكان قائدا جليلا ورئيسا شريفا فى قومه ، مع فصاحة وبيان ، وقول حسن الشعر ، وولى فى إفريقية ولايات كثيرة فى إمارة بشر ابن صفوان ، وولى بعد ذلك إمارة الأندلس ، فقال :

أفادت بنو مروان قيسا دماءنا

وفى الله إن لم يعدلوا حكم عدل

وقيناكم حرّ القنا بصدورنا

وليس لكم خيل سوانا ولا رجل

__________________

(١) هو عبيدة بن عبد الرحمن السلمى حكم المغرب من سنة ١١٠ ه‍ ـ ١١٤ ه‍ / ٧٢٨ ـ ٧٣٢ م ، وكان هذا الوالى قيسيا مسرفا فى عصبيته ، فاستبد بالبربر وباليمينية واضطهد غمال بشر بن صفوان الذى حكم قبله ، وكان يمنيا ، فكاد يوقع المغرب فى فتنة عصبية ، فعزله هشام ، وأقام مكانة عبيد الله بن الحبحاب.

٦٤

وولى هشام إفريقية كلثوم بن عياض القشيرى (١)

فقدم فى شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائة ، وقد عقد له على اثنى عشر ألفا من أهل الشام ، وكتب إلى والى كل بلد أن يخرج معه ، فسار معه عمال مصر وبرقة وطرابلس حتى قدم إلى إفريقية ، فنكّب عن القيروان ونزل بسبيبة ، وكان على طلائعه بلج بن بشر القيسى ، فلما وصل بلج إلى القيروان قال : «يا أهل إفريقية ، لا تغلقوا أبوابكم ، حتى يعرف أهل الشام منازلهم» مع كلام يغيظهم به ، فكتب عرب إفريقية إلى حبيب بن أبى عبيدة ، وهو مواقف للبربر : إنّك تواقف عدوّا ، وهذا عدوّ قد نزل بنا ، يريد نزول ديارنا علينا ، وعرفّوه بما قال ، فكتب حبيب بن أبى عبيدة إلى كلثوم : أنّ ابن عمك السفيه قال لأهل بلدنا كذا وكذا ، فارحل بعسكرك عنهم ، وإلا حولنا أعنّة الخيل إليك «فكتب كلثوم إلى حبيب يعتذر إليه ، ويأمره أن يقيم بشلف ولا يجاوزه حتى يقدم عليه ، واستخلف كلثوم على القيروان عبد الرحمن بن عقبة الغفّارى ، وهو إذ ذاك قاضى إفريقية ، ثم سار كلثوم ووجه على مقدمته بلج بن بشر فوصل بها إلى عسكر حبيب ، فرفضه بلج واستهان به ، وخطب الناس فسبّ حبيب بن أبى عبيدة وانتقصه ، وقال : «هذا الذى يحول أعنة الخيل إلينا!» «فقام إليه عبد الرحمن بن حبيب ، وهو إذ ذاك حدث السن ، وقال يا بن أم بلج ، هذا حبيب فاعرض له إذا شئت ،» وصاح بالناس : «السلاح السلاح!!. فمال أهل إفريقية إلى ناحية ومعهم أهل مصر ، ومال أهل الشام إلى الناحية ، ثم سعى بينهم بالصلح.

وكان هذا الاختلاف سبب هلاكه مع سوء رأى ...

فلما بلغتم نيل ما قد أردتم

وطابت لكم فيها المشارب والأكل

تغافلتم عنّا كأن لم نكن لكم

صديقا وأنتم ما علمت لنا وصل

__________________

(١) كلثوم بن عياض القشيرى أحد قواد الدولة الأموية أرسله الخليفة هشام بن عبد الملك إلى المغرب على رأس جيش كبير من عرب الشام للانتقام من قبائل البربر التى أوقعت بجيوشه فى هزيمة الأشراف بالقرب من طنجة سنة ١٢٣ ه‍ ، ولكن كلثوم منى هو الآخر بهزيمة مماثلة أمام البربر ، وانتهى الأمر باستشهاده هو وأصحابه فى بقدورة بالقرب من تاهرت فى أواخر عام ١٢٣ ه‍ / ٧٤١ م.

٦٥

وبعث بها إلى الأبرش الكلبى ، فدخل بها على هشام ، وقرأها. فغضب هشام ، وأمر بعزل عبيدة بن عبد الرحمن عن إفريقية. فقفل منها ، واستخلف على إفريقية عقبة بن قدامة التّجيبىّ ، وذلك فى شوال سنة أربع عشرة ومائة ، وولىّ هشام بن عبد الملك على إفريقية عبيد الله.

ولاية عبيد الله بن الحبحاب مولى بنى سلول (١)

وكان رئيسا نبيلا ، وأميرا جليلا ، وكاتبا بليغا ، وحافظا لأيّام العرب وأشعارها ووقائعها وأخبارها ، وكان يقول الشعر ، وهو الذى بنى الجامع ، ودار الصناعة بمدينة تونس فى سنة ست عشرة ومائة.

قال عبد الله بن أبى حسان اليحصبى عن أبيه ، قال : «رأيت عبيد الله بن الحبحاب يوما ينظر فى دفتر العطاء ، ويملى لرسالة ويأمر بحاجات فى ناحية أخرى ، ويأمر فى خلال ذلك بالحكم بين رجلين متنازعين ، وكان أوله كاتبا ، ثم تناهت به الحال إلى أن ولى إفريقية ، وذلك فى ربيع الأول سنة ست عشرة ومائة ، واستخلف ولده القاسم على مصر ، واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج ، وعزل عنها عنبسة بن سحيم الكلبى ، واستعمل على طنجة ابنه إسماعيل ، وبعث حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب ، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان ، ولم يقابله أحد إلّا ظهر عليه ، وأصاب من الذهب والسبى أمرا عظيما ، ولم يدع فى المغرب قبيلة إلّا أداخها فملئوا منه رعبا وخوفا ، وكان فيما أصاب من سبى البربر جاريتان ليس لكل واحدة منهن إلا ثدى واحد وسبى من قبيل من قبائل البربر يقال لهم «مسوقة» فى طريق السودان نساء لهن جمال ، وكان لهن أثمان جليلة ما مثلها ، ورجع سالما حتى قدم على ابن الحبحاب ، وأقام ابن الحبحاب مدّة ، والأمر يجرى على ما يجب من الظفر والغلبة.

__________________

(١) كان واليا على خراج مصر حينما ولاه هشام بن عبد الملك على المغرب والأندلس بالإضافة إلى عمله بمصر وذلك سنة ١١٦ ه‍ / ٧٣٤ م ، وبهذا أصبح هذا الرجل يحكم غرب الدولة الإسلامية من العريش شرقا إلى المحيط الأطلسى غربا إلى جبال البرت شمالا.

٦٦

ثم غزا حبيب بن أبى عبيدة فى البحر إلى صقلية ، وذلك فى سنة اثنين وعشرين ومائة ، معه ابنه عبد الرحمن بن حبيب ، فلما نزل بأرضها وجه ابنه عبد الرحمن على الخيل ، فلم يلقه أحد إلّا هزمه عبد الرحمن ، وأظفر ظفرا لم ير مثله ، ومضى حتى نزل «سرقوسة» وهى أعظم مدينة بصقلية ، فقاتلوه فهزمهم حتى ضرب بابها بالسيف ، فأثّر فيه ، فهابه النصارى ، ورضوا بالجزية ، ثم توجّه إلى أبيه خوفا أن يخالفه العدوّ إليه ، وكان ابن الحبحاب قد ولى طنجة وما والاها عمر بن عبيد الله المرادىّ ، فأساء السيرة ، وتعدى فى الصدقات ، والقسم أراد أن يخمّس البربر ، وزعم أنهم فى المسلمين ، وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله ، وإنّما كانت الولاة يخمّسون من لم يؤمن منهم ، ولم يجب إلى الإسلام. فلما بلغ البربر خروج حبيب بن أبى عبيدة إلى بلد الروم انتقضوا على عبيد الله بن الحبحاب بطنجة ، وتداعت عليه بأسرها ، وعظم البلاء وذلك فى سنة اثنين وعشرين ومائة ، وهى أول فتن كانت بإفريقية فى الإسلام ، فعند ذلك خرج ميسرة المدغرى فقام على عمر بن عبيد المرادى ، فقتله.

وفى المغرب يومئذ قوم فيهم دعوة الخوارج وفيهم عدد كثير وشوكة ، وكتب عبيد الله بن الحبحاب إلى أبى خالد حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع بالرجوع من صقلية ، وولى خالد بن أبى حبيب الفهرى على أشراف إفريقية ووجوههم ، وشخص إلى ميسرة ووصل حبيب بن أبى عبيدة من صقلية ، فعقد له ابن الحبحاب ، وأمره أن يلحق بخالد ، فوجه حبيب فى أثره ، وسار خالد حتى عبر «وادى شلف» ، وهو نهر فى أرض البربر ، على ساحل من» تيهرت». ثم قدم حبيب بن أبى عبيدة حتى نزل على وادى شلف فأقام ولم يبرح ، ومضى خالد بن أبى حبيب من فوره حتى لقى ميسرة دون طنجة ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله ، ثم انصرف ميسرة إلى طنجة ، وأنكرت عليه البربر سوء سيرته ، وتغيّروا عما كانوا بايعوه عليه ، وقد بويع بالخلافة ، فقتلوه وولّوا أمرهم خالد بن حميد الزناتىّ : فالتقى خالد بن أبى حبيب والبربر ، فكان بينهم قتال شديد ، فبينما هم كذلك إذ غشيهم ابن حميد الزناتّى بعسكر عظيم ، فتكاثرت عليهم البربر وانهزموا ، فكره خالد أن ينهزم ، فألقى بنفسه هو وأصحابه إلى الموت ، فقتل خالد بن أبى حبيب وجميع من معه

٦٧

حتى لم يبق من أصحابه رجل واحد ، وقتل فيها جماعة العرب وفرسانهم ، فسميت تلك الوقعة «غزوة الأشراف» وانتقضت البلاد و... الناس ، وبلغ أهل الأندلس ثورة البربر ، فوثبوا على أميرهم عقبة بن الحجاج الساولى ، فقتلوه وولّوا عبد الملك بن قطنّ الفهرى ، واختلفت الأمور على عبيد الله بن الحبحاب ، واجتمع الناس وعزلوه عن أنفسهم ، وبلغ ذلك هشام بن عبد الملك ، وقال : اقتل أولئك الرجال الذين كانوا يفدون علينا من المغرب أصحاب الغنائم؟ قيل : «نعم يا أمير المؤمنين» قال : «والله لا غضبنّ لهم غضبة عربية ، ولأبعثنّ إليهم جيشا أوله عندهم وآخره عندى : ثم لا تركت حصن بربرى إلّا جعلت إلى جانبه خيمة قيسى أو تميمى.» ثم كتب إلى ابن الحبحاب بقدومه عليه ، فخرج فى جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائة.

وكان صفريا يعبد الله ، وهو الذى قدم على طليعة أهل الشام مع عبيد الله بن الحبحاب ، فتلقى مسلمة عكاشة بقابس فاقتتلا قتالا شديدا ، وقتل فيما بينهما عدد كثير وانهزم مسلمة ، ورحل عكاشة حتى وصل إلى المكنسة ، وهى من حدود تهودة مما يلى سبيبة. فسار إليه عبد الرحمن بن عقبة فى جيش عظيم. فانهزم عكاشة وقتل كثير من أصحابه ، وتفرق كثير منهم ، وهرب عكاشة وانصرف عبد الرحمن بن عقبة إلى القيروان. ولما بلغ هشام بن عبد الملك قتل كلثوم بن عياض وأصحابه ؛ وبعث إلى أفريقية حنظلة بن صفوان.

إمرة حنظلة بن صفوان الكلبى (١)

وكان عامله على مصر ، وولّاه عليه سنة تسع عشرة ومائة ، فأقام عليها حتى وجهه إلى

__________________

(١) كان واليا على مصر عندما كانت الجيوش الأموية تتلقى الهزائم المتتالية أمام البربر أيام عبيد الله بن الحبحاب وكلثوم بن عياض ، فأمر الخليفة هشام عامله على مصر حنظلة بن صفوان بالإسراع إلى المغرب لإنقاذ الموقف ، فوصل حنظلة إلى القيروان سنة ١٢٤ ه‍ / ٧٤١ م ، واستطاع أن يحرز نصرا على جيوش البربر فى موقعتى «القرن والأصنام» سنة ١٢٥ ه‍ / ٧٤٣ م ، واستمر حنظلة فى ولاية إفريقية مدة سنتين استتب فيهما السلام والهدوء إلى أن أخرجه منهما زعيم اليمنية عبد الرحمن بن حبيب ابن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى سنة ١٢٧ ه‍ / ٧٤٥ م.

٦٨

إفريقية سنة أربع وعشرين ومائة ، فقدمها فى شهر ربيع الآخر منها. فكتب إليه أهل الأندلس ، ومن بها من أهل الشام وغيرهم ، يسألونه أن يبعث إليهم واليا ، فبعث إليهم أبا الخطّار بن ضرار الكلبى فسار فى البحر من تونس إلى الأندلس واليا عليها فأدّوا إليه الطاعة ، ودامت له البلاد ، فلم يمكث حنظلة بالقيروان إلّا يسيرا حتى زحف إليه عكاشة الصفرى الخارجى بجمع عظيم من البربر ، وقد كان حين انهزم من المكنسة فى قبائل البربر ، فزحف إلى حنظلة فى عسكر لم ير أهل إفريقية مثله قطّ من البربر ولا أكثر منه ، وزحف أيضا حنظلة عبد الواحد بن يزيد الهوارى فى عدد عظيم ، وكانا افترقا من الزّاب ، فأخذ عكاشة على طريق مجّانة ، فنزل القرن ، وأخذ عبد الواحد بن يزيد على طريق الجبال فنزل «طساس» وعلى مقدمته أبو عمره المغيلى ، فرأى حنظلة أن يجعل قتال عكاشة قبل أن يجتمع عليه البربر ، فزحف إليه بجماعة أهل القيروان ، والتقوا بالقرن ، فكان بينهم قتال شديد فنى فيه خلق كثير من الناس ، وهزم الله عكاشة وأصحابه ، فقتل من البربر ما لا يحصى كثرة ، وقيل إن حنظلة لما رأى كثرة ما دهمه من البربر قال لأصحابه : «نخندق على أنفسنا ونستمد أمير المؤمنين» ، فقال عمرو بن عثمان القرشى ، وهو إذ ذاك شاب حدث السنّ : «الله الله يا حنظلة ، اتستمد أمير المؤمنين والكرائم محصورات يمتن هزلا ، بل نخرج إلى عدونا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين».

فعزم حنظلة ، وعزم الناس ، ونزل العدو وخرج رجل من البربر من أصحاب عكاشة يدعو إلى البراز ، فلم يجبه أحد فقال حنظلة : «ألا أحد يبرز إلى هذا!؟» ، فبرز إليه حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع فصاح به أخوه : ارجع عن هذا الكلب! قال حنظلة : «ترد أخاك ، فيرد كل واحد وليه عن هذا الكلب ، خلوا لهذا الكلب الذمار ، امض يا بن أخى. فمضى القرشىّ ، فلما دنا من البربرىّ بدره البربرى بالضربة ، فأعطاه القرشى الدّرقة ، ثم ضرب ساقيه فبراهما ، وسقط البربرى ، فجلده القرشى بالسيف ، فقتله ، وقال حنظلة : «الحملة!» فحمل الناس ، فهزم الله عكاشة ومن معه ، وكانت النساء قد ركبن ظهور البيوت بالقيروان ، فإذا رأين الغبار سائرا إلى الجبل كبّرن وسجدن ، وإذا رأينه مقبلا صرخن واستغثن ، فبعث حنظلة البشير بهزيمة البربر ، وانصرف راجعا

٦٩

إلى القيروان خوفا أن يخالفه عبد الواحد إليها ، وقيل : إن عبد الواحد لما وصل إلى باجة أخرج إليه حنظلة بن صفوان رجلا من لخم فى أربعين ألف فارس ، فقاتلوه بباجة شهرا فى الخنادق والوعر.

قال عمر بن غانم : أخبرنى أبى ، قال : لما كان اليوم الذى انهزمنا فيه لم نصب شعيرا لخيلنا فعلفناها القمح ، ولم نظنّ أنه يكون ما كان من أمر الهزيمة ، فلما كان من غد انهزم اللخمىّ فلم تقم له قائمة حتى انتهى إلى القيروان ، فلما هزمنا وأخذنا الطرد أصاب خيلنا انتشار ، فلا تزال ترى صرعى ، فلما توافينا إلى القيروان تحاسبنا ، ففقدنا عشرين ألف فارس ووصلنا فى عشرين ألفا. قال : وتوافى عبد الواحد ، فنزل بالأصنام من جراوة ، ثلاثة أميال عن القيروان ، وكان فى ثلاث مائة ألف.

قال عبد الواحد بن أبى حسان : فأخرج حنظلة كلما كان فى الخزائن من السلاح ، وأحضر الأموال ، ونادى فى الناس ، فأوّل من دخل عليه رجل من تجيب ، من أهل قلعة مجّانة ، قال له : «ما اسمك؟» قال «نصر بن ينعم» قال : فتبسّم حنظلة كالمكذّب له ، ثم قال له : «بالله أصدق» قال : «والله مالى اسم غير ما ذكرت لك» فدعا عرّيفه فقال : «ما اسم هذا؟» قال : «نصر بن ينعم» فكبّر حنظلة عند ذلك ، وتفاءل به ـ ويقال «نصر بن فتح» ـ وأمر بدرع فصبت عليه ، وأمر بواحد بعد واحد يصب عليه الدرع ويعطيه خمسين دينارا ، فلم يزل يفعل ذلك حتى كثر النّاس عليه ، فردّ العطاء إلى أربعين ، ثم إلى ثلاثين ، ولم يكن يقدم إلّا شابا قويا فعبّأنا حنظلة اللّيل أجمع ، والشمع حوله وبين يديه ، فلم يصبح حتى عبّأ خمسة آلاف دارع وخمسة آلاف نابل ، وجعل على الطلائع شعيب بن عثمان ، وعلى السّاقة عمرو بن حاتم ، وعلى الميمنة عبد الرحمن بن مالك الشيبانى. فلما دنوا من البربر وهم متوارون بالقرب ، وإذا بمنصور الأعور ، وكان من أكبر فرسانه على الكدية الحمراء ، وهو على فرس أشهب معرفة ، فأشار إلى أصحابه ثم انحدر إلينا غير مكترث بنا ولا مبال بشىء حتى إذا كان غير بعيد منا أتبعه أصحابه وزحفنا إليه حتى أحسسنا بأنفاسهم فى وجوهنا ، وإذا بفارس يركض من عند حنظلة : أن قفوا!. قال : فوقفنا ، وإذا بقصّاص وقرّاء من أهل العلم والدين والفقه قد

٧٠

أرسلهم إلينا ، فتفرّقوا فينا ، وحرّضوا على الجهاد ، وذكروا فضله ، وذكروا مذهب عدونا الخوارج وعظم ما يريدونه بنا من السّبى وهتك الحريم ، وسفك الدم ، وأنه ليس ملجأ بعد هذا المقام. ومشى حنظلة على الصفوف ، وأقبلوا يحرضون الناس ويرغبونهم فى الجهاد ، وخرج نساء القيروان ، فعقدن الألوية ، وأخذن معهنّ السلاح ، وعزمنا على القتال ، واستبسلن للموت مع الرجال ، وحلفنا لأزواجهن : لئن انهزم أحد منكم إلينا مولّيا عن العدو لنقتتلنّه ، وعلمن ما يردن بهنّ الصّفرية من السبى والعبودية ووطنّ الناس على الموت ، فهش الناس للقتال ، واشتدت نصرتهم حتى استبطأوا فراغ القوم من كلامهم ما سمعوا ، ثم إن رسول حنظلة أتى إلى القراء فقال : «تنحّوا عن القوم ، وخلوا بينهم وبين عدوّهم على اسم الله وعونه». قال : فنهضنا نهضة رجل واحد وتقدم شعيب بن عثمان فسلّ سيفه وكسر جفنه ، وفعلنا مثلما فعل. قال : فلقد رأيت الجفون قد تطايرت على رءوسنا حتى صارت كالطير لكثرتها.

فذكر بن أبى حسّان عن أبيه عن رجل من الصّفرية ، قال : شهدت ذلك اليوم ، فلما رأينا الجفون على رءوسهم أنكرنا ذلك : فقال بعض أصحابنا ، هؤلاء بنو إسماعيل قد كسروا أغماد سيوفهم ، فانظروا إلى الرجال كيف يكونون ، فجعل عبد الواحد يحرض أصحابه وينادى : «يا أهل البصائر ، قال : أول من خرج إلىّ رجل كالبعير عظما ، يدعو إلى البراز ، فخرج إليه شعيب بن عثمان ، فبدره البربرى بالضربة ، فقعد شعيب على مقعدته ثم وثب إليه ، فقتله واحترز رأسه والتحم القتال وتنازل الأقران ، وتداعى الأبطال ولزم الرجالة الأرض ، وجثوا على الرّكب فلا تسمع إلّا وقع الحديد وتواخذوا بالأيدى ، فكانت كسرة على مسيرة العرب حتى جاوزوا قصر الماء ، وانكسرت مسيرة البربر قبلهم ثم كرت مسيرة العرب على ميمنة البربر فكانت الهزيمة وفتح الله عز وجل لنا ، فقتلناهم إلى جلولاء وخرجت إلينا الصّبيان والنساء بالماء والسّويق ، وكان ذلك يوم الثلاثاء ، فأقمنا إلى يوم الخميس ونحن لا نعلم بموت عبد الواحد عدوّ الله ، حتى أتى إلى حنظلة برأسه ، فخر لله ساجدا وقيل : ما علم فى الأرض مقتله كانت أعظم منها وأخذ عكاشة أسيرا بجبل آخر بمضيق ، وأتى به حنظلة فقتلة ، وأراد حنظلة أن يحصى من قتل بينهم ، وأمر

٧١

بعددهم فما قدر على ذلك فأمر بقطع القصب وأمر أن تطرح قصبة على كل قتيل ثم جمعت القصب وعدّت ، فكانت القتلى مائة ألف وثمانين ألفا ، وكانوا صفرية يستحلون الدماء وسبى النساء ، وكتب بذلك حنظلة إلى هشام بن عبد الملك ، فكان اللّيث بن سعد يقول : ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة أحب إلى من غزوة القرن والأصنام.

ولاية عبد الرحمن بن حبيب

كان عبد الرحمن بن حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى قد هرب إلى الأندلس عند هزيمة كلثوم بن عياض فى الوقعة التى قتل فيها أبوه كلثوم : فلم يزل وهو بالأندلس يحاول أن يغلب عليها فلم يمكنه ما يريد إلى أن وجه حنظلة بن صفوان أبا الخطّار إلى الأندلس فخاف عبد الرحمن على نفسه ، ولم يتهيأ له فخرج متسترا ، فركب البحر إلى تونس فنزل بها ، وذلك فى شهر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائة ، فدعا الناس إلى نفسه ، فأجابوه فسار حتى نزل بسمنجة ، فأراد أصحاب حنظلة الخروج إليه والزحف لقتله ، فكره حنظلة ذلك كراهية شديدة لهراقتة دماء المسلمين ، وكان رجلا ورعا عن الدنيا ولا يرى السيف إلا فى الكفرة وفى مثل الصفرية ، الذين يستحلّون دماء المسلمين وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم ، وكان ذا دين وتقوى ، فوجه إليه حنظلة جماعة من وجوه إفريقية يدعونه إلى مراجعة الطاعة والنزوع عما هو عليه.

فلما قدموا على عبد الرحمن أوثقهم فى الحديد وأقبل بهم راجعا إلى القيروان ، وقال : «إن رمانى أحد من أوليائهم بحجر قتلتهم» فبلغ ذلك من الناس كل مبلغ ، وكان القوم الذين ظفر بهم وجوههم وأشرافهم ، فلما رأى ذلك حنظلة دعا القاضى وجماعة من أهل الفضل والدين ففتح بيت المال بحضرتهم ، وأخذ منه ألف دينار وترك الباقى. وقال : «ما أنا بماشّ منه إلّا بقدر ما يكفينى ويبلّغنى». ثم شخص عن إفريقية فى جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة وأقبل عبد الرحمن بن حبيب حتى دخل القيروان ، ونادى مناديه «لا يخرجنّ أحد إلى حنظلة ولا يشّيعه» فرجع الناس خوفا من عبد الرحمن.

٧٢

فلما كان بالليل ركب عد العزيز بن قيس فرسه ولبس سلاحه ـ وهو عم أبى محرز القاضى ـ يريد توديع حنظلة ، فلما صار بقصر الماء سمع من خلفه وقع حوافر دابّة ، فراعه ذلك ووقف للدفاع عن نفسه مستعدا ، فإذا هو عمر بن غانم ، فسأل بعضهما عن بعض وتساءلا وتوجها حتى لحقا حنظلة ، فراعه وقع حوافر دوابهما وظن أن عبد الرحمن وجه فى طلبه خيلا ، فلما وصلا إليه سرّ بهما ، وجزاهما خيرا ، وسألاه أن يصحباه ، فأبى من ذلك كراهة أن يحالفهما إلى أهلهما مكروه من عبد الرحمن ، فودعّاه وانصرفا إلى القيروان ، فبلغ ذلك عبد الرحمن فبعث إليهما وقال : «خالفتما أمرى وارتكبتما نهيى» فذكرا أنه أحسن صحبتهما وأولاهما جميلا ، فبعث إليهما وعفا عنهما ، وقبل عذرهما وسالهما أن يتوليا من أمره ما كان يتوليان من حنظلة ، ورغب فى وفائهما ، فكان عمر بن غانم على حجابته ، وعبد العزيز بن قيس على شرطته ، فلما قفل حنظلة ، إلى المشرق دعا ، وكان مستجابا ، فقال : «اللهم لا تهنّ عبد الرحمن هذا الملك ولا أهله وأسفك دماء هم بأيديهم ، وابعث عليهم شرار خلقك» ودعا على أهل إفريقية فوقع الوباء والطاعون ، فأقام بإفريقية سبع سنين ، لا يكاد يرتفع إلّا وقتا فى الصيف ووقتا فى الشتاء.

ولما ولى عبد الرحمن ثار عليه جماعة من العرب والبربر ، ثم ثار عليه عروة بن الزبير الصدفى ، واستولى على تونس ، ثم ثار عليه عرب الساحل وقام ابن عطّاف الأسدى حتى نزل بطساس ، وهرب البربر من الجبال ، وثار ثابت الصنهاجى بباجة ، فأخذها. فدعا عبد الرحمن أخاه إلياس ، فقال له : «امض فى ستمائة فارس حتى تمرّ بعسكر ابن عطّاف الأزدى ، فإذا تراءت له خيلك فأظهر أنك تزهق عنه إلى تونس حتى إذا انتهيت إلى موضع كذا وكذا ، فقف حتى يأتيك جاسوس أدسه فى عسكر ابن عطّاف ، فخرج إلياس ودعا عبد الرحمن برجل ، فأعطاه أطمارا وأعطاه كتابا ، وقال له : امض حتى تدخل عسكر ابن عطّاف ، فإذا أشرف عليهم إلياس ورأيتهم تداعوا بالسلاح فأقم فيهم ، فإذا زهق إلياس عنهم ووضعوا السلاح وتمحقوا ، تسلل حتى تأتى إلياس فى مكان كذا وكذا ، فقد أمرته أن يقف لك هنالك ، فمضى الرجل حتى دخل عسكر ابن عطّاف ، فلما طلع إلياس عليهم

٧٣

صاحوا بالسلاح ، ثم زهق إلياس عنهم ، فقالوا : «قد دخل بين لحى الأسد ، ونحن من هنا وأهل تونس من هناك ، نستريح ونعلف ، ثم نزحف إليه على أثره» ونزل القوم عن الخيل وحطّوا السلاح وتضجعوا وانسلّ الرجل إلى إلياس حتى جاءه فى المكان الذى أمره عبد الرحمن أن يقف فيه ، فدفع إليه الكتاب ، فإذا فيه : أن القوم قد أمنوا فانسلّ إليهم حتى تخرج عليهم من كثب وهى فى غفلتهم. فتخلل إلياس الأشراف حتى خرج عليهم ، فلم يدرك القوم لبس الدّروع ، وكان همّهم أخذ السيوف ، فقتلوا وقتل ابن عطّاف ، وأصبح عبد الرحمن على كدية الجلود ينتظر ، حتى طلعت عليه الشمس ، إذ قيل له : هذا فارس قد أقبل وتجاب ، قال : هل ترى غيره؟ قال : «لا» قال : «فهذا بريد ، وهو الفتح» وجاء البريد ، فلما رآه أقبل إليه ورمى برأس ابن عطّاف بين يديه فدعا بدواة وقرطاس وكتب إلى إلياس : «إن عروة بن الزبير وأهل تونس سيظنون أنّا نغتنم هذا الفتح ، فإذا جاءك كتابى ، فانزل واسترح واعلف ، ثم سر إلى تونس ، فإن قدرت أن تصبح عليهم فافعل ، فإنى لا أشك أنهم فى غفلة» فمضى إلياس ، فسار ليلته حتى أصبح دون تونس ، وعروة فى الحمام.

وكان إلياس قد فرق خيله مائتين على طريق الجزيرة ومائتين على طريق باجة وهو فى مائتين على طريق القيروان ، فقيل لعروة : «أصلح الله الأمير ، خيل على طريق الجزيرة!» فقال : «هؤلاء أهل الجزيرة جاءوا مددا لنا» فقالوا : «وخيل على طريق باجة!» قال : «ابن قويدر جاء مددا لنا» قالوا : «وخيل على طريق القيروان!» ، فعندها أيقن وبادر وخرج ، فما أدرك إلا ملحفة يتنشّف بها حتى دخل إلياس فبادر عروة إلى فرسه عريانا ، ولم يمهل حتى يسرج له ، وولى ، فلما خشى إلياس أن ينجو ، صاح به : «يا عروة ، يا فارس العرب!» فكّر عليه جاهزا فى سراويل وملحفة بغير سلاح ، فضربه إلياس فتلقاها بالملحفة وعانقه ، فوقعا إلى الأرض ووقع عروة على إلياس ، فجعل ينازعه على قائم السيف ، حتى غشيه أفرنجى من موالى عبد الرحمن فطعنه برمح بين كتفيه فأخرجه من صدره واحتزّ رأسه ، وحمله إلى عبد الرحمن فأقام إلياس بتونس حتى كتب إليه

٧٤

عبد الرحمن أن يخرج إلى قويدر ، وخرج بناحية طرابلس رجلان يقال لأحدهما عبد الجبار والآخر الحارث ، وهما من البربر يدينان بدين الخوارج ، وكان بطرابلس عامل لعبد الرحمن يقال له بشر بن حنش مولى لقيس ، فخرج فى جماعة من مشائخهم إلى البربر ليصالحوهم ، فقتلوهم عن آخرهم. فبلغ ذلك عبد الرحمن ، وهو بالقيروان فى وقت القائلة فخرج فى ذلك الوقت ثم لحقته المضارب وأتاه الناس فسار حتى انتهى إلى مدينة قابس ، فهمّ الناس وأرادوا عزله ونفيه وتولية شعيب بن عثمان بن أبى عبيدة ، فأبى ذلك شعيب فانتهى ذلك إلى ابن حبيب فانصرف من قابس ، فلما عاد إلى القيروان أصلح ما كان يخشى فساده ، فلما اعتدلت له الأمور عاود غزوة طرابلس ، سنة إحدى وثلاثين ومائة ، وخلّف على القيروان عمر بن نافع ، فانتهى عبد الرحمن إلى طرابلس فقاتل عبد الجبار والحارث ، فقتلهما وكان الذى ولّى قتالهما شعيب بن عثمان وكان يدينان بدين الإباضية ، ويدعوان إليها وأوعب عبد الرحمن فى قتل البربر ، وامتحى الناس بهم وابتلاهم بقتل الرجال صبرا : يؤتى بالأسير من البربر ، فيأمر من يتهمه بتحريم دمه بقتله ، فابتلى جماعة من الناس فما سلم منهم غير عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، أبى ذلك وعصمه الله منه.

وكان فى موضع طرابلس وحاضرتها وموضع جماعتها يومئذ نهر جار ، فأمر بالرّحيل إلى مدينة طرابلس ، وبنى عليها السور وانتقلوا إليها ، وذلك سنة اثنين وثلاثين ومائة ، وكان عبد الرحمن بن حبيب قد كتب إلى مروان بن محمد وأهدى إليه هدايا وتقول على حنظلة ونسب إليه أهوالا كذب فيها ، فكتب إليه مروان بولايته على إفريقية والمغرب كله والأندلس ، وفى حين كونه بطرابلس كتب إليه مروان بن محمد كتابا يستدعيه إلى القدوم عليه ، وخلّف عبد الرحمن على طرابلس بكر بن حسين القيسى ، وأقام ابن حبيب على القيروان حتى كان سنة خمسين وثلاثين ومائة ، فغزا تلمسان حتى انتهى إليها ، وخلّف على القيروان حبيبا ابنه ، فظفر بما لم يظفر به أحد قبله. ثم بعث إلى إفريقية فأتى إليه من سبيها بما لم يؤت بمثله من بلد ، ودوّخ المغرب كلّه وأذل من به من القبائل ، ولم يهزم له عسكر ولا ردّت له راية ، وتداخل جميع أهل المغرب خوفه والحذر من سطوته.

٧٥

وقتل مروان بن محمد ، وزالت دولة بنى أمية ، وعبد الرحمن أمير على إفريقية ، وهرب جماعة من بنى أمية عند قتل مروان خوفا من بنى العباس ومعهم حرمهم ، فتزوج عبد الرحمن وأخوته فيهم ، وكان فيمن قدم ابنان للوليد بن يزيد بن عبد الملك ، يقال لأحدهما القاضى والآخر المؤمن وكانت ابنة عمهما تحب إلياس بن حبيب فأنزلهما عبد الرحمن بدار شبيبة بن حسان ، وكانت معهما عجوز فى الدار ، فدّس إليها عبد الرحمن بن حبيب أن توصله إلى موضع تسمعه منه كلامهما ، فقالت له : «إن البيت الذى هما فيه سقفه غرّة ، فإن شئت فأنا اوصلك ليلا إلى ظهر البيت حتى تطلع عليهما ولا يعلمان» ، فقال : «افعلى». فلما كان فى الليل اطلع عليهما ، وهما على نبيذ لهما ، ومولاهما يسقيهما ، إذ قال القاضى : «ما أغفل عبد الرحمن أيظن أنه يتمنى معنا ولاية ونحن أولاد الخليفة» ، فلما سمع هذا منهما نزل وانصرف ثم دعا القاضى والمؤمن ، فسلّما مع الناس فأظهر لهما عبد الرحمن بشرا ولم يبد عليه شىء من التجهّم ، حتى أتاهما من أخبرهما أن عبد الرحمن سمع كلامهما الذى تكلما به ، فحذرا منه وعزما على الهرب وخافا ، فلما كان أول الليل ركبا جملين خصيين ، وركب مولاهما جملا ثالثا ، وخرجوا هاربين على طريق مجّانة ، فاستبطاهما عبد الرحمن من الغد ، فأرسل إلى منزلهما ، فوجده خاليا ففّرق الخيل والنجب على كل طريق فجاءه البشير بأنهما أدركا بطريق مجّانة ، فخرج إلى تونس واستخلف على القيروان ابن عم له يقال له عمر بن نافع ، وخرج إلى تونس وأمره أن يضرب أعناقهما ويعتق مولاهما ، فلما قدم بهما أمر عمر بن نافع بقتلهما ، وقتل مولاهما فقتلوا. وكانت ابنة عمهما عند إلياس ، فقالت له : «إنه قد قتل أخيك تهاونا بك ، وجعل العهد من بعده لحبيب ابنه ، وأنت صاحب حربه ، وسيفه الذى يصول به» ، ولم تزل تغريه عليه.

وذكر أشياخ من أهل القيروان : أن مروان بن محمد الجعدى حين بلغه أن عبد الرحمن يقتل كل من ورد عليه خوفا من الرواية التى أخبره بها الحنفى ، أنه يقتلك أخوان فجاءه كتاب مروان : لا تقتل الناس فإنما أصحابك أخواك إلياس وعبد الوارث. فهمّ أن يبعث إليهما ثم بدا له فبعث إلى مولى لهم يقال له «برد» ، فأتاه فرمى إليه كتاب مروان فقرأه ،

٧٦

وضحك برد ، وقال : «أصلح الله الأمير هذا أمكر بنى أمية أراد أن يشتت عليك أمرك ، لمّا نزل بهم من الأمر ما نزل فكأنه كسره عما أراد» ، فقالت له امرأته اللخمية : وهى أخت موسى بن على بن رباح : «لا تقتل أحدا فإنك لن تقدر أن تقتل من يقتلك» ، ووجه عبد الرحمن كتابا إلى أبى العباس السفاح : بسمعه وطاعته وقدم عليه فى ذلك اليوم رسول موسى بن كعب بفتح السند. فدخل عليه عمر بن عيسى بن على ، فأخبره فوجم وتغيّر لونه وقال : إنّا كنّا نذكر ونتحدّث أن وفاة القائم منّا بالأمر يأتيه فتح المشرق والمغرب فى يوم واحد ، فمات لثمانى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة ست وثلاثين ومائة. فلما صار الأمر إلى أخيه أبى جعفر عبد الله بن محمد ، كتب إلى عبد الرحمن يدعوه إلى الطاعة ، فأجابه ودعا له ، وكتب إليه بطاعته ، ووجه إليه بهدية نزرة كان فيها بزاة وكلاب وكتب إليه : أن إفريقية اليوم إسلامية كلّها ، وقد انقطع السبى منها فلا تسألنى ما ليس قبلى. فغضب أبو جعفر ، وكتب إليه يتوعده ، فلما وصل إليه الكتاب غضب غضبا شديدا ، ثم نادى : الصلاة جامعة فلم يبق أحد من أشراف الناس ولا أعيانهم إلا اجتمع فى المسجد الجامع ثم خرج عبد الرحمن فى مطرف خزّ وفى رجليه نعلان ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم أخذ فى سبّ أبى جعفر ، ثم قال «إنى ظننت أن هذا الجائر يدعوا إلى الحقّ ويقوم به حتى تبين لى خلاف ما بايعته عليه من إقامة الحق والعدل ، وأنا الآن قد خلعته كما خلعت نعلىّ هذين» وقذفهما وهو على المنبر ، ثم دعا بخلعه أبى جعفر الذى أرسل إليه فيها بسواره ، وقد كان لبسهما قبل ذلك ، ودعا فيها لأبى جعفر ، وهو أول سوار لبس بإفريقية ، وأمر بتخريق الخلعة فخرقت خرقا ثم حرقت ، وأمر كاتبه خالد بن ربيعة أن يكتب كتابا يخلعه ، وقرأه على جميع الناس.

وكان عبد الرحمن يخرج أخاه إلياس فى كل من خرج عليه يقاتله ، فإذا ظفر به نسب ذلك الظفر إلى ابنه حبيب ، وحوّل العهد لابنه حبيب ، وكان إلياس يظن أن العهد له من بعده ، ففسدت نيته عليه ولم تزل امرأته الأموية تغريه به وتحرضه عليه ، وتقول له : «إنه يستخف بك ، وقتل أصهارك وولىّ حبيبا عهده» فاجتمع رأى إلياس بن حبيب

٧٧

وعبد الوارث على قتل عبد الرحمن ، ووالاهما على ذلك جماعة من أهل القيروان من العرب وغيرهم ، على أن يؤم إلياس بن حبيب ويدعوا إلى أبى جعفر فروى أن عبد الرحمن بن زياد ابن أنعم ليلة قتل عبد الرحمن تعشى على مائدة ومعه صهر له يقال له شراحيل ، ممن كان وقف على سر القوم فى عبد الرحمن ، فقال لابن أنعم : «ابنتك طالق إن رفعت هذه المائدة الليلة من بين أيدينا حتى يقتل عبد الرحمن بن حبيب» فقال : «ويحك! حرمت عليك ...» فهم كذلك حتى سمع الصيحة ، فسألا فقيل : قتل عبد الرحمن بن حبيب. وكانت ليلة الأسداس. فأتاه إلياس فاستأذن عليه بعد العشاء الآخرة ، فقال : «ما جاء به وقد ودّعنى ، وقد كان إلياس على أن يخرج إلى تونس ، هل بقيت له حاجة ائذنوا له» فدخل فوجده فى غلالة وردية ، وابن له صغير له فى حجرة ، فقعد طويلا وعبد الوارث يغمزه ، فلمّا قام يودعه أكب عليه يعانقه ، فوضع السكين بين كتفيه حتى صارت إلى صدره ، فصاح عبد الرحمن وقال : «فعلتها يابن اللخناء! ثم ردّ إلياس بيده إلى السيف فضربه فاتقاه بمرفقه فأزال يده ثم ضربه حتى أثخنه ، وكانت جارية لعبد الرحمن ، فأخذت شعر إلياس من ... ، فالتفت إليها فهربت منه ، وخرج إلياس هاربا دهشا ، وجعل عبد الرحمن كلّما أراد أن ينهض سقط ، فلما خرج إلياس قال له أصحابه : «ما فعلت؟» قال : «قتلته» قالوا : «ارجع فحزّ رأسه وإلا قتلنا بآخرنا» فرجع ففعل وثارت الصيحة ، فأخذ إلياس أبواب دار الإمارة ، وسمع حبيب بن عبد الرحمن الصيحة ، فسأل عنها فأخبر بقتل أبيه ، وكان مع أبيه فى قصر الإمارة فلم يقدر على الخروج ، وخاف أن يقتله إلياس فسّرح نفسه إلى ناحية السماط ، ثم تحامل على وجهه إلى باب تونس حتى خرج من القيروان ، فلقيه عمرو بن عثمان القرشى راجعا من بعض منازله ، فلما رأه راجلا قال : «ما وراءك؟» قال : «قتل أبى» قال : «ومن به؟» قال : «عمى إلياس» فنزل عمرو بن عثمان ، ثم قال له : «دونك الفرس فاطلب بدم أبيك» ودخل عمرو بن عثمان القيروان مستترا ليلا ، يعرف فينكر مشيه راجلا ، وظن إلياس أن حبيبا فى دار الإمارة حين أخذ عليه الأبواب فأصبح حبيب بقرب تونس فاجتمع مع عمه عمران بن حبيب ، فأخبره بخبر أبيه ولحق بهما موالى عبد الرحمن من كل ناحية ،

٧٨

فخرج إلياس إلى «سمنجة» فوافاه حبيب وعمران ومن معهما فهّموا بالقتال ، ثم اصطلحوا على أن يعود عمران إلى ولاية تونس وصطفورة والجزيرة ، ويكون حبيب على قفصة وقصطيلية ونفزاوة ، وإلياس بسائر إفريقية والمغرب.

ومضى إلياس مع عمران إلى تونس ، وانصرف حبيب إلى القيروان ، فوثب إلياس على أخيه عمران ، وعلى عمرو بن نافع بن أبى عبيدة الفهرى والأسود بن موسى بن عبد الرحمن بن عقبة فشّدهم وثاقا ، ووجه بهم إلى يوسف بن عبد الرحمن بن عقبة فى سفينة ، وهو إذ ذاك والى الأندلس ، فوصلوا إليه وولى على تونس محمد بن المغيرة القرشى ، وانصرف إلى القيروان فبلغه عن حبيب أخبار كرهها ، فأغرى الناس للقيام عليه فى ما يتزيد به من ضياع أبيه ، وأرسل إليه من زّين له الخروج إلى الأندلس إرادة الراحة منه ، ففعل وجهّزه إلياس ، فوجه معه شقيقه عبد الوارث ، ومن أحب من مواليه ، فركبوا فى البحر ، فوقعوا فى طرقة ، فتعذرت عليهم الريح ، فكتب إلى إلياس : بأنّ الريح قد ردّته ، وأن السير لم يمكنه. فاتهمه إلياس ، وخاف إلياس من ناحيته وكتب إلى عامله سليمان بن زياد الرّعينى يحذّره أمره. وسمع موالى عبد الرحمن وصنائعه بخبر حبيب فأتوا إليه من كل ناحية وطرقوا سليمان بن زياد ليلا ، وهو معسكر يحارس حبيبا ، فأسروه وشدو وثاقه ، ومضوا إلى حبيب فأخرجوه إلى البرّ ، وأظهروا أمره فتوجه إلى الأربس فأخذها وبلغ خبره إلياس خرج يريده ، واستخلف على القيروان محمد بن خالد القرشى ، فلما قرب إلياس منهما تحاربا حربا خفيفا لم يتناجز فيه ، فلما أمسى حبيب أوقد النيران ليظن إلياس أنه مقيم ثم يفد إلى القيروان ، فأوقع بمحمد بن خالد خليفة إلياس ، وكسر باب السجن وأخرج منه سلّام بن عبد الرحمن بن حبيب أخاه ، وجماعة من صنائع أبيه ومواليه ورجع إلياس فى طلبه ونزل على القيروان ، وفسد عليه أكثر من معه وخرج فى جمع عظيم ، فكان على ميمنة إلياس عمرو بن عثمان الفهرى ، وعلى مسيرته أبو شريك الجزرى ، فخذلا إلياس ومضيا عنه فلّما التقى إلياس وحبيب ، قال له حبيب : «لم تقتل موالينا وصنائعنا بيننا ، وهم لنا حصن ، ولكن أبرز أنت وأنا فأينا قتل صاحبه استراح منه ، إن قتلتنى ألحقتنى بأبى ، وإن قتلتك

٧٩

أدركت ثأرى منك» فارتاب إلياس ساعة ، فنادى الناس : «قد أنصفك فلا تجبن ، فإن ذلك سبة عليك وعلى ولدك من بعدك» فخرج كل واحد منهما إلى صاحبه ، ووقف أهل العسكر ينظرون إليهما وإلى جلدهما وصبرهما ، فتطاعنا ساعة ثم تضاربا بسيفهما ، ولا ينال أحدهما من صاحبه إلا ما ينال الآخر ، وعجب الناس من ذلك ، ثم ضرب إلياس حبيبا ضربة فأعمل السيف فى ثيابه ودرعه حتى وصل إلى جسمه ، ثم عطف عليه حبيب فضربه بالسيف ضربة سقط من فرسه إلى الأرض ، وألقى حبيب بنفسه عليه ، فحزّ رأسه وأمر به فرفع على رمح ، ومرّ به إلى القيروان ، وهرب عبد الوارث بن حبيب ومن كان معه ممن فلّ من عسكر إلياس إلى بطن من البربر يقال لهم «ورفجومة» ، ودخل حبيب القيروان وبين يديه رأس إلياس عمّه ، ورأس محمد بن أبى عبيدة بن نافع ، عمّ أبيه ، ورأس محمد بن المغيرة بن عبد الرحمن ، وجاءه محمد بن عمرو بن مصعب القرشى ، وهو زوج عمّة أبيه مهنئا له فأمر بضرب عنقه ، فضربت وذلك كلّه فى شهر رجب سنة ثمان وثلاثين ومائة.

وكان إلياس لما قتل أخاه وجه بطاعته وفدا من وجوه الناس إلى أبى جعفر المنصور. ولما وصل عبد الوارث بن حبيب ومن معه إلى ورفجومة من نفزة ، نزلوا على عاصم بن جميل الورفجومى ، فكتب إليه حبيب : يأمره بأن يوجه بهم إليه ، فلم يفعل فزحف إليه حبيب فلقيه ، ولقيه عاصم ومن معه وكل من هرب من حبيب فالتقوا واقتتلوا ، فانهزم حبيب ، وكان إذ خرج إليهم استخلف على القيروان أبا كريب جميل بن كريب القاضى ، فقوى أمر ورفجومة ، ثم زيّنوا له أمر المسير إلى القيروان وواعدهم أن يخذلوا الناس عن حربهم ، وكاتبهم بعض وجوه أهل القيروان خوفا على أنفسهم منه ، فيهم : عمر بن غانم وأظهروا أنهم يريدون أن يدعوا لأبى جعفر وظن العرب أن البربر تفى لهم بما وعدتهم وأعطتهم ، فزحف عاصم بن جميل وأخوه مكّرم بالبربر ومن لجأ إليهم من العرب بعد أن هزموا حبيبا ، وصار بناحية قابس ، فلما قربوا من القيروان خرج إليهم أبو كريب القاضى مع أهل القيروان ، فعسكروا بالوادى المعروف بأبى كريب ، حتى إذا دنا بعضهم من بعض خرج من عسكر جميل جماعة من أهل القيروان ، فخذلوا الناس ودعوهم إلى عاصم ،

٨٠