تاريخ أفريقية والمغرب

رقيق القيرواني

تاريخ أفريقية والمغرب

المؤلف:

رقيق القيرواني


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفرجاني للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٢

١
٢
٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد

وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد

كان قيام دولة الأغالبة فى أفريقية عام ١٨٤ ه‍ ـ ٨٠٠ م مرتبطا ارتباطا وثيقا بما كان يسود بلادها من اضطراب وفوضى وصراع مذهبى وثورات الجند العرب والبربر فى الفترة الممتدة من خلافة هشام بن عبد الملك (١٠٥ ه‍ ـ ١٢٥ / ٧٢٤ م ـ ٧٤٣ م) إلى نهاية الدولة الأموية ١٣٢ ه‍ / ٧٥٠ م (١).

وفى الحقيقة كانت الخلافة العباسية مشغولة بمشاكلها فى المشرق لتثبت كيانها ووجودها. فكان عليها محاربة الزندقة والقضاء على حركات العلويين ووقف أخطار البيزنطيين ، ولهذا لم يتسع وقت الخليفة أبى العباس السفاح للاهتمام كثيرا بما يقع ويحدث فى بلاد المغرب ، لأن تفكيره كان منصبا نحو المشرق ، ومع ذلك لم تغفل عيناه عن الجناح الغربى لدولة الإسلام والذى كان يشتمل على «مصر وبرقة وإفريقية» ، فاكتفى بالاستجابة إلى ما طلبه عبد الرحمن بن حبيب فقد كان عبد الرحمن بن حبيب بن أبى عبيدة ابن عقبة بن نافع زعيما سياسيا واسع النشاط ، يعتمد على ما حققه جده عقبة بن نافع من شهرة وسمعة وإنجازات حربية ، ولكنه فى نفس الوقت انحرف عن نمط سياسة جده ، فكان رجلا طامعا فى الحكم فلم يقم بتنظيم أمور دولته كما فعل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك (١٣٨ ه‍ ـ ١٧٢ ه‍) ولكن كل همه البقاء فى إمارته دون سند شرعى (٢).

__________________

(١) محمود إسماعيل عبد الرازق : الأغالبة ص ٩.

(٢) ابن عذارى ، البيان المغرب فى أخبار المغرب ج ١ ص ٦٣ وابن خلدون فى كتاب «العبر من ديوان المبتدأ والخبر ج ٤ ـ ص ١٨٩ ـ ١٩٠». ونفس المعنى. عبد الواحد المراكشى فى «المعجب فى تلخيص المغرب ص ١٦».

٥

وكان عبد الرحمن بن حبيب من أكبر قواد العرب البلديين بإفريقية ولذا كان أشدهم تطلعا إلى ولاية إفريقية ، فقد كان يرى نفسه أهلا لها رغم معارضة الكثيرين من أمثاله من قادة العرب البلديين فى إفريقية. ولم يسبق فى تاريخ المسلمين حتى ذلك الحين أن وافقت دولة الخلافة على أن يستقل أحد الولاة بولايته عن الدولة سواء أكان استقلالا تامّا أم غير تام.

ولكن الأحوال فى دولة الإسلام كانت تمر ـ أثناء فترة الانتقال من الأمويين إلى العباسيين والتى بدأت من منتصف حكم مروان بن محمد الجعدى وطوال خلافة أبى العباس السفاح وجزء من ولاية أبى جعفر المنصور ـ بحالة من الفوضى وعدم الاستقرار ، ولم تستقر الأمور إلا بعد عشر سنوات من ولاية المنصور ، وأصبح الخليفة المنصور سيد الدولة الإسلامية بلا منازع (١).

فلما أعلن عبد الرحمن بن حبيب نفسه أميرا على القيروان بعث بطاعته إلى أبى جعفر المنصور ، ولم يكن لدى الخليفة العباسى حينئذ متسع من الوقت للنظر فى أمر إفريقية بعناية ، فأقره ريثما تسمح ظروفه (٢) بالتفرغ للجناح الغربى من دولته الكبيرة ثم طالبه المنصور بالمال ، وكان ذلك طبيعيّا من المنصور لأنه كان خليفة المسلمين والمفروض على جميع ولاة الدولة أن يرسلوا للحكومة المركزية بالمال المتبقى من خراج ولاياتهم ليستعين به الخليفة على مطالب الخلافة ، وقد فوجىء عبد الرحمن بن حبيب بهذا الطلب لأنه إلى ذلك الحين لم يكن صاحب السلطان على إفريقية لكى يستطيع استخراج المال الكافى منها لينفق على إدارتها ومرافقها من ناحية ، ثم لكى يرسل ما يتيسر له إلى الخلافة ، وكان يستطيع أن

__________________

(١) د / حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ص ٦٧.

(٢) وكان عبد الرحمن بن حبيب قد كتب إلى المنصور «أن إفريقية اليوم إسلامية كلها وقد انقطع السبى منها والمال ، فلا تطلب منى مالا» فرد عليه المنصور «إنى ظننت أن هذا الخائن يدعو إلى الحق ويقوم به ، حتى تبين لى خلاف ما بايعته عليه من إقامة العدل وإنى الآن قد خلعته كما خلعت نعلى هذا ، وقذفه من رجله». انظر النويرى : نهاية الراب فى فنون الأرب ج ٢٤ ص ٦٦ ، وابن الأثير : الكامل فى التاريخ ج ٤ ص ٢٨.

وابن عذارى البيان المغرب فى أخبار المغرب ج ١ ص ٦٧.

٦

يشرح أمره للخليفة المنصور ولكن بدلا من ذلك قام عبد الرحمن بن حبيب بنزع شعار السواد ، وهو شعار بنى العباس ، وقطع ذكر اسم المنصور فى الخطبة وهذا أول الأخطاء الكبرى التى وقع فيها عبد الرحمن بن حبيب لأنه ظن أنه يستطيع التغلب على كل منافسيه فى ولاية إفريقية ، وفى نفس الوقت كان يعتقد أن الخليفة لا يملك قوة كافية لاستعادة السلطان على إفريقية ، إذ لم يكن من المناسب له وهو فى مرحلة تثبيت أمره أن ينفصل عن الدولة العباسية ويحمى نفسه من جيوشها ، خاصة وقد كان له الكثير من المنافسين من أمثاله فى ولاية إفريقية ، ثم إن الدولة العباسية كانت شديدة الاهتمام بولاية إفريقية التى كانت تشمل طرابلس وأفريقية والزاب تأمينا لولاية مصر والتى كانت تعتبر من أهم ولايات الدولة الإسلامية سياسيا وعسكريّا وماليّا (١).

وبعد أن أعلن عبد الرحمن بن حبيب انفصاله عن الدولة العباسية ، شرع فى تثبيت سلطانه معتمدا على ما كان تحت إمارته من الجند العربى ومن استطاع إدخاله فى خدمته من أهل إفريقية ، وساعده على ذلك أن أخاه إلياس بن حبيب كان قائدا عسكريا قادرا وهو الذى ثبت أقدام دولة أخيه ، وبدلا من أن يتعاون عبد الرحمن بن حبيب مع أخيه ويطهر له موفيا لما اتفق معه عليه من أن يكون إلياس وليا لعهده ، نجده يتخوف منه ويفكر فى عزله عن ولاية الجند ، ولكنّ إلياس نجح فى جمع طائفة كبيرة من الفرسان والمقاتلين من الجند البلدية فى إفريقية بجانبه (٢).

وزاد فى ضعف مركز عبد الرحمن بن حبيب أنه لم يفكر فى توحيد العناصر العربية الموجودة فى البلاد أو الاستعانة بالعنصر البربرى فى إدارة شئون الإمارة لكى يستطيع التثبت فى ولايته ، إذ ما ظهر له منافس أو ثار عليه ثائر أو خرج عليه خارج ، وتعجل

__________________

(١) ابن الرقيق القيروانى : تاويخ إفريقية والمغرب ص ١٣٤ ، والنويرى : نهاية الأرب ج ٢٤ ص ٦٧. وابن الأثير : الكامل فى التاريخ ج ٤ ص ٢٨١. وابن عذارى البيان المغرب ج ١ ص ٦٧. ومحمد ضياء الدين : الخراج ١٤٩.

(٢) ابن الأبار الحلة السيراء : ج ١ ص ٨٢.

٧

عبد الرحمن بن حبيب الأمر فعزل أخاه عن القيادة وأزمع المبايعة لابنه حبيب بولاية العهد مما جعل إلياس يحرض أهل إفريقية ويتآمر مع أخيه عبد الوارث لقتله.

وإزاء كل هذه الأخطاء لعبد الرحمن سواء من ناحية الدولة العباسية أو من ناحية إفريقية تحرج مركزه ووقع القتال بينه وبين أخيه إلياس ، وكان معه معظم رؤساء الجند ، فكانت النتيجة أن قتل عبد الرحمن بن حبيب فى سنة ١٣٧ ه‍ ، وفر ابنه حبيب إلى تونس (١).

وهكذا أسدل الستار على عبد الرحمن بن حبيب الفهرى بعد أن قضى فى الإمارة عشر سنوات وسبعة أشهر قضاها كلها فى حروب مع البربر.

ثم استعان ابنه حبيب بجماعات البربر لاستعادة ملك أبيه فى إفريقية ، ونجح فى قتل عمه إلياس ولكن لم يدم حكمه حتى استولى عمه عبد الوارث على القيروان ، ففر حبيب إلى قبيلة بربرية كبيرة مستعرية تعرف باسم ورفجومة (٢) وهى قبيلة طارق بن زياد ، وكان يرأس هذه القبيلة عاصم بن جميل (٣) ، وكان من الخوارج الصفرية وهو ابن أخت طارق بن زياد الذى تمكن من القضاء على حكم ونفوذ بنى حبيب فى إفريقية ، واقتحم مع رجال قبيلته القيروان وأقام فيها حكما خارجيا صفريا واضطهدوا أهل السنة حتى قيل إنهم دخلوا بخيلهم المسجد الجامع بالقيروان ، ولما بلغ ذلك أبا الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافرى إمام الخوارج الإباضية فى جبل نفوسة غضب لما أصاب المسجد ، فسار بجموعه

__________________

(١) الرقيق القيروانى ، تاريخ إفريقية والمغرب ص ١٣٤. والنويرى نهاية الأرب ج ٢٤ ص ٦٨.

والرقيق القيروانى المصدر السابق ص ١٣٩.

(٢) ابن عذارى ، البيان المغرب ج ١ ص ٨٠. والسيد عبد العزيز سالم تاريخ المغرب فى العصر الإسلامى ٢٥١. ود. حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ص ٦٩ ، وابن حزم ، جمهرة أنساب العرب ٤٩٧.

(٣) كان عاصم بن جميل زعيما كاهنا «إدعى النبوة والكهانة» فبدل الدين وزاد الصلاة وأسقط ذكر النبى صلّى الله عليه وسلّم من الأذان ، وقيل هو من بطون نفزاوة.

انظر : ابن خلدون : العبر من ديوان المبتدأ والخبر ج ٤ ص ٤٠٩ ، وابن الأثير : الكامل فى التاريخ ج ٤ ص ٢٨٠ ، والرقيق القيروانى : تاريخ إفريقية والمغرب ص ١٤١.

٨

ودخل القيروان وقتل عاصم بن جميل ، وبذلك انتهى حكم بنى عبد الرحمن بن حبيب فى إفريقية.

كل هذه الحوادث أفزعت أبا جعفر المنصور ، فأمر واليه على مصر آنذاك محمد بن الأشعث الخزاعى بالمسير إلى إفريقية وإخراج الإباضية الذين استولوا على إفريقية من الخوارج الصفرية وإعادتها إلى دولة أهل السنة والجماعة ، وكان جيش واليه يضم حوالى ٠٠٠ ، ٤٠ مقاتل ، وقد استطاع أن يعيد بن إفريقية مرة ثانية إلى مذهب السنة مذهب الدولة العباسية.

غير أن محمد بن الأشعث عين نائبا له فى إفريقية يسمى أبا الأحوص عمرو بن الأحوص العجلى ولكنه لم يتمكن من التغلب على ما كان يحدث فيها حتى طرده زعيم الخوارج الإباضية أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح بن مالك المعافرى ، وزاد خطر الخوارج الإباضية مما جعل المنصور يطلب من واليه بمصر مرة أخرى سرعة التوجه إلى إفريقية ودارت معركة فى منطقة تاورغا (الواقعة إلى الشرق من طرابلس) قتل فيها أبو الخطاب زعيم الإباضية ، فتولى زعامة الإباضية بعده يعقوب بن حاتم المعروف بأبى حاتم الملزوى (١).

وقام محمد بن الأشعث الخزاعى والى القيروان الجديد بعدة أعمال تميل إلى القسوة نذكر منها : أنه أنشأ معسكرا جديدا ، واتبع الشدة مع سكان القيروان حتى أنه أمر بقتل (٢) كل رجل يسمى بأسماء أموية مثل سفيان ومروان ، ولا نعرف سببا لهذه الظاهرة ، ولعله أراد أن يتخلص من كل شخصية يخشى منها على السلطة العباسية وإفريقية التى هى مسرح الحوادث ، وأمام هذا لابد أن نقف بعض الوقت عند هذه الولاية ، لنرى كيف كانت فى ذلك الوقت.

__________________

(١) انظر فى ذلك : النويرى ، المصدر السابق ج ٢٤ ص ٧٠ ـ ٧٤ ، وابن أبى دينار المؤنس فى أخبار إفريقيا وتونس ص ٤٦ ، وابن عذارى ، المصدر السابق ج ١ ص ٨٣ ، والأنصارى المنهل العذب فى تاريخ طرابلس الغرب ص ٦٦ ، ود / محمود إسماعيل عبد الرازق الخوارج فى بلاد المغرب ص ٧٦.

(٢) د. حسين مؤنس فتح العرب للمغرب ص ٨٢.

٩

لمحة سريعة عن إمارة إفريقية :

بعد أن انتصر المسلمون على الروم فى موقعة سبيطلة ٢٧ ه‍ ـ ٦٤٨ م بدأت ولاية إفريقية فى الظهور عندما أنشأ عقبة بن نافع الفهرى مدينة القيروان (١). ومسجده ومسجدها الجامع فيما بين سنتى (٥٠ ه‍ ـ ٥٥ ه‍ / ٦٧٠ م ـ ٦٧٥ م).

قامت ولاية إفريقية الإسلامية ولاية مستقلة بنفسها ، ولها واليها وإدارتها المستقلة عن إدارة مصر.

وعند ما تولى تلك الولاية حسان بن النعمان الغسانى (٧١ ه‍ ـ ٨٥ ه‍ / ٦٩٠ م ـ ٧٠٤ م) وضع أساس النظام الإدارى لتلك الولاية الجديدة وكانت حدودها الجغرافية والسياسية مطابقة لولاية إفريقية البيزنطية ، فإن إفريقية البيزنطية كانت تشمل ولاية طرابلس مضافا إليها إفريقية نفسها ، وتقابل على وجه التقريب جمهورية تونس الحالية ثم جزءا مما عرف فيما بعد بأقليم الزاب عند الجغرافيين المسلمين.

وكانت إفريقية البيزنطية بهذه الحدود ولاية كبيرة تضم مساحة واسعة من الشمال الإفريقى ، وإذا كنا نستطيع أن نحدّ حدودها الغربية بشكل دقيق نقول : إنها كانت تشمل إقليم قسطيلية وما يليه شمالا حتى ساحل البحر ، ويمتد غربا فيشمل النصف الشرقى من جبال أوراس وتقف عند حدود ما يعرف اليوم ببلاد القبائل فى الجزء الشرقى من

__________________

(١) قال ياقوت الحموى : القيروان معرب وهو بالفارسية كاروان ، وهذه مدينة عظيمة بإفريقية غيرت دهرا ، وليس بالغرب مدينة أجل منها إلى أن قدمت العرب بإفريقية. وقال اليعقوبى : مدينة القيروان التى اختطها عقبة بن نافع الفهرى سنة ستين من خلافة معاوية. وقال الإدريسى : أم الأمصار وقاعدة الأقطار ، وكانت أعظم مدن الغرب قطرا وأكثرها بشرا وأيسرها أموالا وأوسعها أحوالا وأتقنها بناء. وقال البكرى كانت موضع القيروان واديا كثير الأشجار غيضة مأوى للوحوش والحيتان بينما قال المؤرخ : NEVILLEBAROUR كانت القيروان أول عاصمة جديدة أنشئت فى بلاد المغرب.

انظر فى ذلك : معجم البلدان ج ٧ ، ١٩٣ ، البلدان ١٣٦ ، نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق ٢٨٤ ، ASurvey of North The West Africa.

١٠

جمهورية الجزائر الحالية ـ فتدخل فيها قلعة أو قلاقل لمبيزة وباغاية وتصل إلى البحر فتشمل ولاية بيجيا الحالية وتصل إلى مجرى نهر شلف ، ونظن أن هذه كانت حدود ولاية إفريقية فى التنظيم الذى وضعه حسان بن النعمان (١).

وعندما تولى أمور إفريقية موسى بن نصير اللخمى أكمل هو وأولاده فتح المغرب الأوسط والمغرب الأقصى ، وأنشأ موسى ثلاث ولايات جديدة الأولى ولاية المغرب الأقصى وتشمل النصف الشمالى للمملكة المغربية الحالية ، والثانية ولاية سلجماسة وكانت تطلق على النصف الجنوبى من المملكة المغربية الحالية ، أما الولاية الثالثة فهى تلك المساحة التى امتدت من الحدود الغربية لولاية إفريقية إلى حدود ولاية المغرب الأقصى وهى تشمل جزءا كبيرا من أراضى جمهورية تونس الحالية (٢).

وفى أواخر الدولة الأموية ونتيجة لأحداث الفتنة المغربية الكبرى التى بدأت فى المغرب من سنة ١٢٢ ه‍ فى ولاية عبيد الله بن الحبحاب واستمرت حتى نهاية العصر الأموى. ورغم الجهود الكبيرة التى بذلها هشام بن عبد الملك لإيقاف هذه الفتنة والقضاء على ثورات الجماعات الخارجية ما بين صفرية وإباضية التى كانت قد أخرجت المغربين الأوسط والأقصى عن السلطان الفعلى للخلافة الأموية ، فلم يبق لها سلطان ملموس إلّا على نهر شلف الذى ينبع من جبال أوراس ويتجه إلى الشمال حتى جنوب مدينة الجزائر الحالية ، فيتجه غربا ويقترب من البحر ويواصل سيره حتى يصب فى البحر المتوسط إلى الشرق من مدينة وهران الحالية. ويفهم من كلام الجغرافى اليعقوبى (٣) أن سلطان دولة الخلافة لم يجاوز المجرى الأعلى لهذا النهر وعلى الأخص من العصر العباسى ، وواضح أن العباسيين عندما ورثوا الخلافة من الأمويين وجدوا أن دولتهم تمتد وتغطى مساحة شاسعة جدا لم

__________________

(١) انظر فى ذلك اليعقوبى ، البلدان ص ٣٤٥ ، والنويرى نهاية الأرب فى فنون الأدب ج ٢٤ ـ ص ٣٦

(٢) انظر ابن الأبار الحلة السيراء ج ٢ ـ ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، والرقيق القيروانى تاريخ إفريقية والمغرب ٦٨ ـ ٦٩.

(٣) وانظر كذلك : د. حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ص ٦٣ ، واليعقوبى المصدر السابق ٣٤٧.

١١

تستطع قواهم أن تسيطر عليها سيطرة كاملة خاصة وأن انتقال مركز الدولة من دمشق إلى بغداد زاد من مسئوليتها الآسيوية ، وفرض عليها مطالب جديدة لم تكن تشغل بال الأمويين بالصورة التى كانت عليها أيام العباسيين.

ونتيجة لذلك نجد أن العباسيين ركزوا جهدهم كله فى المحافظة على ذلك الجزء الذى كان لدولتهم بصورة فعلية من إفريقية.

أما ما وقع غربى نهر شلف أى بيد المغربين الأوسط والأقصى فليس لدينا ما يدل على أن العباسيين كان لهم قيد من سلطان أو حتى حاولوا أن يبسطوا عليه سلطانهم ، وهذا هو الذى جعل عبد الرحمن بن رستم (١) بعد هزيمة الخوارج الإباضية ومقتل أبى الخطاب عبد الأعلى بن السمح بن مالك المعافرى سنة ١٤٤ ه‍ يفر إلى غرب نهر شلف ويحاول إنشاء دولة خارجية إباضية فى بلاد كانت خارج سلطان العباسيين وبذلك يأمن على دولته من جيوشهم.

ولم تتمكن الحكومة المركزية العباسية من أن تسيطر على ولاية إفريقية بسبب عدم الاستقرار فيها نتيجة للصراع الداخلى الذى شغل الخلافة العباسية ، ولم يترك لها من الفراغ ما يمكنها من محاولة بسط سلطانها على بقية بلاد المغرب.

ولما عزل محمد بن الأشعث الخزاعى ، أسند أبو جعفر المنصور ولاية إفريقية لزعيم من زعماء العرب وهو الأغلب بن سالم بن عقال التميمى (٢) وكان من كبار جند مصر ، فسار

__________________

(١) هو عبد الرحمن بن رستم بن بهرام الفارسى ، وكان بهرام جده من موالى عثمان بن عفان ، وقد ذكر بعض الكتاب أن نسبه يرجع إلى ملوك الفرس القدماء ، تربى عبد الرحمن بن رستم فى القيروان وأخذ العلم عن فقهائها ومال إلى تعاليم الخوارج حيث تأثر بسلامة بن سعيد الذى كان يدعوا إلى مذهب الخوارج الإباضية. انظر فى ترجمته : الدرجينى : طبقات مشايخ إفريقية ج ١ ـ ١٩ ، وابن خلدون العبر من ديوان المبتدأ والخبر ج ٦ ـ ١٢١ ، والبكرى : المغرب فى ذكر بلاد إفريقية والمغرب ٦٧.

(٢) ذكر البلاذرى أن أصله يرجع إلى مرو الروذ بمعنى أنه كان من الجند العربى الخراسانى أى من أصحاب أبى مسلم الخراسانى ، وفد مع القوات العباسية إلى مصر وأصبح من جندها ، عرف الأغلب بالشجاعة والبلاء وحسن الرأى ، ولقب بلقب الشهيد.

انظر ترجمته فى السلاوى : الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى ج ١ ـ ٥٧ ، والبلاذرى : أنساب ـ ـ الأشراف ٣٥٠ ، ود. السيد عبد العزيز سالم : المرجع السابق ٢٦١.

١٢

الأغلب بن سالم وابنه إبراهيم إلى إفريقية غير أن زعيم الخوارج أبو حاتم تمكن من قتله وفر ابنه إبراهيم إلى منطقة الزاب ، وبدأ يمهد الأمر لنفسه.

وكانت الدولة العباسية تنظر إلى إفريقية على أنها بلد بعيد عن مركز الخلافة يعيش فيها جماعات متعددة متحاربة متعادية بعضهم سنة ، وبعضهم من الخوارج بشتى مذاهبهم ، وبعضهم عرب ، وبعضهم بربر ، فانتهى رأى المنصور إلى تقليد ولاية إفريقية لرجل من ذوى الكفاية وهو من بنى المهلب بن أبى صفرة القائد المعروف الذى حقق المنجزات والانتصارات العسكرية فى العصر الأموى ، هذا الوالى هو عمر بن حفص بن قبيصة بن المهلب ويكنى أبا جعفر والمعروف بهزار مرد يعنى ألف رجل أى يعادل ألف رجل فى ميدان الحرب وهذا مبالغ فيه (١).

ولما كان عمر بن حفص هذا لا يستطيع أن يثق بالقواد الخراسانيين المقيمين فى إفريقية ، ولا بالقبائل العربية المستوطنة هناك ، فقد جلب معه جيشا جديدا ، وبرغم تغلغل الجيش العباسى فى إفريقية فإن الخوارج ظلوا يحتفظون بسمعة طيبة وشعبية كبيرة من العرب والبربر أيضا مما جعل الجيش العباسى يرابط فى القلاع والحصون دون الاندماج بسكان إفريقية.

وفى عهده انفجرت ثورات الخوارج الإباضية بقيادة أبى حاتم يعقوب بن تميم الكندى وتمكنوا من الاستيلاء على القيروان ، أما فى طبنة كما يقول ابن عذارى فقد اتحد الخوارج الصفرية والإباضية على قتال الجيش العباسى تحت لواء أبى قرة الصفرى المغيلى الذى أعلن نفسه إماما وحاصروا القائد العباسى عمر بن حفص الذى استطاع أن يكسر حصارهم ويفر بحياته عائدا إلى القيروان ، ثم تفككت وحدة الخوارج الإباضية والصفرية ولم يتمكنوا من الاستيلاء عليها ، واستمرت القيروان للوالى العباسى (٢).

__________________

(١) انظر د. حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ٥٥ ، وابن حزم جمهرة أنساب العرب ٣٧٠ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ـ ٧٩.

(٢) انظر : النويرى المصدر السابق ج ٢٤ ، ٨١ ، والرقيق القيروانى المصدر السابق ١٤٣ ، وابن عذارى المصدر السابق ج ١ ـ ٨٨ ، وابن خلدون والعبر من ديوان المبتدأ والخبر ج ٤ ـ ١٩٣.

١٣

كتب عمر بن حفص إلى المنصور يطلب منه إرسال النجدات الجديدة ولكنه قتل قبل أن تصله النجدات والتعزيزات سنة ١٥٤ ه‍ / ٧٧١ م ، واحتل أبو حاتم الإباضى القيروان سنة ١٥٥ ه‍ / ٧٧٢ م ، وهكذا تمكن الخوارج من السيطرة على إفريقية وأصبح تعداد أنصارهم ما يقرب من ٠٠٠ ، ٤٠ مقاتل.

استخدم المنصور الحماس الدينى ضد الخوارج باسم الجهاد ، فأسند ولاية إفريقية ليزيد بن حاتم بن قبيضة المهلبى لما كان للمهالبة من أدوار بارزة فى محاربة الخوارج والقضاء عليهم فى العصر الأموى.

وكان يزيد بن حاتم كثير الشبه بجده المهلب بن أبى صفرة فى حروبه وكرمه ويكنى أبا خالد ، فاشتهر يزيد بن حاتم بالكفاءة والمهارة السياسية وحسن القيادة ، وكان قد تقلد لأبى جعفر المنصور عدة ولايات منها أرمينية والسند ومصر وأذربيجان (١).

وكانت أكبر الولايات التى تولاها يزيد بن حاتم هى مصر التى حكمها من ١٤٤ ه‍ إلى ١٥٢ ه‍ ، فأعد المنصور جيشا من ٥٠ ألف مقاتل بالإضافة إلى مقاتلين من الشام والجزيرة وأرسلهم إليه ، وأمره بالمسير إلى إفريقية وأنفق المنصور بسخاء على إعداد الجيش حيث بلغ ما أنفقه عليه ٦٣ مليون درهم ، وللتأكيد على أهمية الحملة رافق المنصور الجيش حتى وصل إلى مدينة القدس فى فلسطين ، وبعد عدة معارك طاحنة استطاع الوالى يزيد بن حاتم أن يقضى على معظم ثورات الخوارج بإفريقية ويقتل أبا حاتم الإباضى سنة ١٥٥ ه‍ / ٧٧٢ م بالقرب من مدينة طرابلس على حين فر بقية أصحابه إلى مناطق جبال نفوسة التى كانت تسكنها جماعات من الخوارج.

مكث يزيد بن حاتم واليا على إفريقية حوالى خمسة عشر عامّا ، تعد من أحسن فترات الولاة على إفريقية وأكثرها خيرا سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو المعمارية :

__________________

(١) انظر فى ذلك : ابن أبى دينار المؤنس فى أخبار أفريقية وتونس ٤٦ ، والنويرى نهاية الأرب ج ٢٤ ـ ٨٢ ، ومحمود إسماعيل عبد الرازق الأغلبية ١١ وابن الخطيب أعمال الأعلام ج ٣ ص ٨٢ ، وابن عذارى المصدر السابق ج ١ ص ٩٣ ، والرقيق القيروانى المصدر السابق ١٥١.

١٤

فأعاد بناء المسجد الأعظم بالقيروان ، وأعطى للفقهاء المالكية مكانة وأهمية كبيرة واعتمد عليهم فى محاربة الخوارج ، فكان يستشيرهم ويأخذ برأيهم ، مما جعل إفريقية قاعدة للمذهب السنى أو قاعدة للسنة على مذهب الإمام مالك بن أنس فى بلاد المغرب ، وهذه صبغة ذات مغزى بعيد فى تطور تاريخ المغرب الإسلامى وسنتحدث عن ذلك بالتفصيل فيما بعد (١).

ولما توفى يزيد بن حاتم تقلد ولاية إفريقية بعده ابنه داود الذى أخذ له يزيد البيعة بولاية العهد فى أثناء مرضه ، فاستمر فى الحكم تسعة شهور ونصف يحارب أمراء قبائل البربر الخوارج ، فثار عليه زعيم البربر نصير بن صالح الإباضى فبعث داود إليه أخاه المهلب بن يزيد فهزموه وقتلوه هو ومن معه من أصحابه ، فوجه إليهم داود قائده سليمان بن يزيد فى جيش يقدر ب ١٠٠٠٠ مقاتل ، فهرب البربر من أمامه ، فتتبعهم وقتل منهم أكثر من عشرة آلاف قتيل ، وظل داود مقيما فى إفريقية حتى قدم عمه روح بن حاتم ليتقلد إمارة إفريقية من قبل هارون الرشيد ، أما داود فأسند إليه هارون ولاية مصر ثم ولاية السند وظل بها حتى مات فيها.

كان روح قد تقلد عدة مناصب إدارية قبل مجيئه إفريقية منها ولاية البصرة والكوفة وطبرستان وفلسطين والسند ، وكان روح أكبر سنا من أخيه يزيد ، ولكنّ حكمه لإفريقية لم يدم ، إذ عزله الرشيد وأسند ولايتها لنصر بن حبيب المهلبى.

وعلى أى حال فقد كان آخر أمراء المهالبة لإفريقية الفضل بن روح بن حاتم الذى تولى سنة ١٧٧ ه‍ / ٧٩٣ م ولم يمكث فى حكمه إلا سنة ونصف تقريبا ، وثار عليه جند إفريقية والمغرب لاستبداده بالسلطة ، فقام عبد الله بن عبدويه الجارود قائد جند تونس ، فتمكن من الإستيلاء على السلطة وقتله سنة ١٧٨ ه‍ ـ ٧٩٤ م (٢).

__________________

(١) انظر فى ذلك : د. حسين مؤنس معالم تاريخ المغرب والأندلس ٥٧ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ص ٨٦ ـ ٨٨ ، وابن الأبار الحلة السيراء ج ١ ص ٧٣.

(٢) انظر فى ذلك : ابن عذارى البيان المغرب ج ١ ص ٩٩ ـ ١٠٦ ، والسيد عبد العزيز سالم المرجع السابق ص ٢٧٣ ، والطبرى تاريخ الرسل والملوك ج ٨ ص ٢٧٢ ، والنويرى نهاية الأرب ج ٢٤ ص ٨٩.

١٥

وهكذا التهت رئاسة المهالبة فى إفريقية التى استمرت حوالى ربع قرن من الزمان أى من أواخر أيام أبى جعفر المنصور إلى عهد هارون الرشيد ، ذلك لأن تجربة إسناد حكم إفريقية إلى فرد بعينه مع بقائه على التبعية لدولة الخلافة كانت تجربة ناجحة ، فقد أفادت إفريقية فائدة محققة من فترة المهالبة فاستقرت خلالها الأحوال ، وعمرت المدن وبنيت المساجد واطمأن الزراع والتجار وزاد الدخل خصوصا فى أيام أكبر أولئك المهالبة وهو يزيد بن حاتم الذى حكم خمسة عشر سنة.

وبعد نهاية حكم المهالبة عادت إفريقية إلى التبعية المباشرة لدولة الخلافة وتوالى عليها ولاة بغداد ، ولكن الفوضى سادتها إذ اشتد تنافس زعماء العرب فى البلاد فى الوصول إلى السلطان فى القيروان أو الانفراد بالسلطة السياسية فى نواحيهم.

ولمّا كانت الخلافة العباسية شديدة الاهتمام بشئون ولاية إفريقية التى تشمل طرابلس وإفريقية والزاب ، والتى ذكر اليعقوبى الذى زار إفريقية فى عصر الأغالبة أن منتهى سلطة العباسيين غربا كانت حتى مدينة إربة الواقعة على المجرى الأعلى لنهر شلف ـ ولّى هارون الرشيد على إفريقية عاملا عربيا من طراز فريد فى معدنه هو هرثمة بن أعين وكان من أكبر رجال الحزب العربى فى بلاط الرشيد ، وكان شيخا مجربا فى فن الحروب وحكم الولايات (١).

حكم هرثمة بن أعين إفريقية قرابة من العامين من (١٨٠ ه‍ ـ ١٨١ ه‍ / ٧٩٦ م ـ ٧٩٧ م) وخلال هذه الفترة القصيرة ساد إفريقية هدوء واستقرار ، فعمل هرثمة على تجديد ما تخرب من المدن والموانىء والمنشأت ليعيد ثقة الناس فى الدولة العباسية ، فجدد ميناء تونس ، وأصلح مسجد القيروان ونظم الأسواق فيها ، واهتم ببناء قصور العبادة.

__________________

(١) راجع فى ذلك : د. حسين مؤنس معالم تاريخ الغرب والأندلس ص ٧٩ ، وابن عذارى : المصدر السابق ١١٠ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ص ٩٥ ـ ٩٦.

١٦

وبعد هاتين السنتين ـ كما يذكر ابن خلدون ـ رأى هرثمة بن أعين أنه قد قام بمهمته فى إفريقية فى إرساء قواعد الأمن والاطمئنان فى البلاد ، ولكن الحقيقة أنه تعب وضاقت نفسه وفضل العودة إلى بغداد ، فعاد إليها سنة ١٨١ ه‍ ـ ٧٩٧ م وأصبح من خواص هارون وأهل ثقته ، فأسند إليه منصب قائد الحرس (١).

وفى سنة ١٨١ ه‍ ولّى أمير المؤمنين الرسيد على إفريقية بعد هرثمة محمد بن مقاتل العكى (٢) ، وكان رضيع الرشيد ، وكان أبوه من كبار أهل دولته ، ولم يكن محمود السيرة فيما تولى للرشيد من ولايات ، ولذلك فإنه عندما دخل إفريقية لم يسر فى حكمها بطريقة تعجب الناس ، فاضطربت الأمور فى إفريقية ، وعلى الأخص فيما فعله مع الفقيه البهلول بن راشد بضربه بالسياط حتى مات مما أثار عليه غضب الفقهاء والعلماء وأهل إفريقية لما كان يتمتع به هذا الفقيه من مكانة ومنزلة فى نفوس أهلها ، كما اختلف عليه جنده لإنقاص رواتبهم مما جعلهم ينضمون إلى ثورة تزعمها ابن تميم التميمى (٣).

__________________

(١) انظر فى ذلك :

ابن الخطيب المصدر السابق ج ٣ ص ١١ ، وأحمد بن الضياف اتحاف أهل الزمان ج ١ ص ٩٨ ، وابن خلدون المصدر السابق ج ٤ ص ٤١٩ ، وابن أبى دينار المصدر السابق ص ٤٨. والطبرى المصدر السابق ج ٨ ص ٣٢٣ ، والنويرى المصدر السابق ج ٢٤ ، والرقيق القيروانى المصدر السابق ص ٢٠٣.

(٢) وكان جعفر بن يحيى البرمكى شديد العناية بمحمد بن مقاتل العكى ، فقدم إلى القيروان سنة ١٨١ ه‍ ، وكان أبوه من كبار القائمين بالدعوة العباسية ، وحضر مع قحطبة بن شبيب حروب المارونية ، ثم قتله عبد الله بن على لما خلع وإدعى الأمر.

انظر ابن الأبار : الحلة السيراء ج ١ ص ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) هو تمام بن تميم التميمى جد أبى العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام صاحب كتاب طبقات إفريقية وهو ابن عم إبراهيم بن الأغلب صاحب إمارة الأغالبة ، خرج تمام بتونس على محمد بن مقاتل العكى والي إفريقية واستطاع دخول القيروان فى رمضان سنة ١٨٣ ه‍ ، فنهض إبراهيم بن الأغلب الذى كان فى ذلك الوقت حاكم الزاب لنصرة محمد بن مقاتل العكى ، فكتب تمام إلى إبراهيم بن الأغلب كتابا يستدعيه ويستعطفه ، وقد وصف لنا ابن الأبار كيفية استقبال تمام كتاب إبراهيم ومدى الخوف والرعب الذى نزل به نقلا عن فلاح الكلاعى أنه قال («كنت عند تمام يوم قرأ كتاب إبراهيم ، فذهب لونه ثم ارتعد حتى سقط الكتاب من يده») وكان تمام مشهورا بالصرامة والشجاعة

١٧

وسادت البلاد الفوضى ووقعت الحروب بين زعماء الجند ، وفى هذه الظروف برز إبراهيم بن الأغلب على مسرح الأحداث السياسية فى إفريقية.

__________________

ـ قال أبو العرب عن جده («تمام بن تميم هذا هو جدنا ، وهو ابن القادم من المشرق ، وتوفى سنة سبع وثمانين ومائة ببغداد») وذكر فى كتاب المغرب ، فى أخبار المغرب : أن إبراهيم بن الأغلب لما صار الأمر إليه بعث به وبجماعة معه من وجوه الجند الذين كان شأنهم الوثوب على الأمراء إلى الرشيد ، فأما تمام فإنه حبس إلى أن مات فى حبسه. وهناك رواية حكيت أن الرشيد وعد أخاه سلمة بن تميم بإطلاق صراح تمام ، فلما بلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب كتب إلى عمته وهى ببغداد فى سمه ، فاشتهى تمام حوتا فسمته له فمات من أكله بعد أن ذهب بصره فعلم الرشيد بذلك فترحم عليه ويوجع له ، وأحسن إلى سلمة أخيه وصرفه إلى إفريقية.

١٨

الحياة الاجتماعية فى إفريقية

حتّى قيام دولة الأغالبة

أما عن الحياة الاجتماعية فى إفريقية قبل قيام دولة الأغالبة فيجدر بنا أن نأتى بنبذة عن تاريخ انتشار الإسلام فى إفريقية لكى نتبين كيف تم هذا العمل العظيم من أيام المهالبة وحتى قيام العصر الأغلبى فنجد إفريقية بلدا إسلاميا عربيا يعيش فيها العرب والبربر المستعربون كما كان يعيش فيها قلة من الروم.

١ ـ الروم : وهم البيزنطيون الذين وجدوا فى البلاد إذاك وكانوا حكام البلاد ، ومع الفتح العربى اختفى معظمهم ولم يبق منهم إلا جماعات قليلة كانت تقيم على السواحل ومدنها وخاصة قرطاجنة وكذلك فى بعض بلاد الجريد ، وأغلبهم اعتنقوا الإسلام وذابوا فى سكان البلاد إلا من هاجر منهم إلى صقلية وغيرها من بلاد الجنوب الأوربى.

٢ ـ البربر : وهم سكان البلاد الأصليون ويقسمون إلى طائفتين : طائفة البربر الحضر المعروفين بالبرانس الذين يسكنون النواحى الخصبة والسفوح المزروعة ، وهؤلاء يعملون بالزراعة والصناعة ، نتيجة لاتصالهم بحضارة القرطاجيين واللاتينيين والبحر المتوسط ، وطائفة البربر البدو المعروفين بالبتر الذين يقيمون فى الصحارى والواحات وهؤلاء يعيشون على الرعى ويميلون إلى الإغارة على ما يجاورهم من نواحى العمران (١)

٣ ـ الأفارقة أو الأفارق : فهم أخلاط من الناس كانوا يسكنون النواحى الساحلية حيث يعملون بالزراعة والصناعة ، وقد ذكر ابن عبد الحكم فى تاريخه عنهم قوله : «وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم».

__________________

(١) راجع فى ذلك : د. السيد عبد العزيز سالم المرجع السابق ص ٣٣٣ ، ود. حسين مؤنس فتح العرب للمغرب ص ٢٨٤ ، ود. حسين مؤنس أيضا فى تاريخ معالم المغرب والأندلس ص ٢٣.

١٩

أما العنصر العربى فقد دخل مع مطلع الفتوحات الإسلامية لبلاد المغرب ، فالعنصر العربى دخل بلاد المغرب فى صورة جيوش فاتحة ، وقد استقر رجال هذه الجيوش فى نواحى المغرب كله بعد إتمام الفتح ، ولحقت بهم جماعات أخرى من الجند والمهاجرين العرب مع استمرار حركة الفتح ، وكانت نتيجة ذلك قيام مجتمعات عربية صغيرة معظمهم فى المدن والمعسكرات ، ومن هذه المراكز بدأوا ينتشرون فى نواحى البلاد ، ولحقت بهم جماعات من المهاجرين غير العسكريين أو غير الرسميين ، وهؤلاء جميعا تكون منهم ما يعرف بالعرب البلديين (١) أى عرب إفريقية فهم الذين استقروا فيها واعتبروها وطنا لهم دون أن يتخلوا عن عروبتهم ، فكانوا يتمسكون بأصولهم القبلية ويتحدون ضد الجند العربى الذى كانت ترسلهم الحكومة المركزية لإقرار الأمن فى البلاد ، وقد عرف هؤلاء الجند العربى بالشاميين لا لأنهم جميعا من أهل الشام ، بل لأنهم كانوا يأتون من الشام وهى قاعدة الحكم فى العصر الأموى.

ومن الواضح أن الجند العربي كان يتحول الكثير من رجالهم إلى عرب بلديين نتيجة للاستقرار فى البلاد ومخالطة أهلها ، وبهذه الطريقة كانت أعداد البلديين تتزايد بصورة مستمرة حتى نهاية العصر الأموى مما جعل غالبية هؤلاء البلديين ـ مع أنهم العنصر الهام للسلطان ـ يتحولون بمرور الزمن وتعاقب الأجيال إلى عرب إفريقيين ، ومن بينهم ظهر كبار الفقهاء والعلماء أمثال بهلول بن راشد وعبد الرحمن بن حبيب الفهرى وأسد بن الفرات وحبيب بن سعيد وأخيه سحنون وغيرهم ، ومع تخطيط عقبة بن نافع الفهرى لمدينة القيروان ٥٠ ه‍ ـ ٥٥ ه‍ بدأت فى إفريقية حركة التعرب بانتشار الإسلام واللغة العربية وعلوم الفقه والحديث ، حيث دخل نفر من البربر الإسلام ، وقد ذكر ابن خلدون أسماء القبائل البربرية التى اشتركت فى بناء القيروان واعتنقت الدين الإسلامى وهى لواته ونفوسه ونفراوة (٢).

__________________

(١) ابن عبد الحكم فتوح مصر والمغرب ١٨.

(٢) ابن خلدون العرب من ديوان المبتدأ والخبر ج ٦ ص ٤.

٢٠