تاريخ أفريقية والمغرب

رقيق القيرواني

تاريخ أفريقية والمغرب

المؤلف:

رقيق القيرواني


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفرجاني للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٢

الفارسى ، وكان صاحب ابن الجارود ، فابتدأه يقطين بالإيمان التى وثق بها ليقينّ له بما يضمن فإن هو لم يقبل ما عرض عليه لا يخبرنّ به أحدا أبدا ، فلمّا سمع ذلك ابن الفارس قال : «أعرض مل شئت» قال : «علىّ قيادة ألف فارس وصلة وقطيعة فى أى المواضع شئت ، وأما الذى لنا عليك فتعلم رأى ابن الجارود إن كان يسلم إلى أمير المؤمنين ، فإن فعل وإلا زينت له الخروج إلى العلاء ، ثم دعوت الناس إلى الخروج عليه وخرجت معك ، فهو آية الظفر ، وتنال ما ذكرت لك مع رضا أمير المؤمنين ، وشكره» ، فسعى ابن الفارسى فى ... ابن الجارود ودعا أهل خراسان إلى ذلك ورغّبهم فى الطاعة واستمال قلوبهم حتى ساعدوه وسمع ما كان يحبّ الطّاعة والخلاف على ابن الجارود ، فأسرعوا إليه وبعث إلى من كان محبوسا فى السجن من القواد ومن كان مختفيا من ابن الجارود ، فأخرجهم وواعدهم أن يجتمعوا له بباب أبى الربيع ، ثم خرج فيمن معه وقام خطيبا ، فذكر الطاعة ... وحذر المعصية وعاقبتها ، وذكر نعمه على ابن الجارود.

وبلغ ابن الجارود خروج ابن الفارسى فوجّه إلى أبى النهار وأبى العنبر والعبّاس اللطيفى فقال لهم : إن ابن الفارسى قد خرج فى القواد وأهل القيروان معه ، وقد سار إليه شيبة بن حسان ، والجنيد بن سيار ، والنضير بت حفص وغيرهم ، فما ذا ترون؟ فقال أبو العنبر له : «لو كان ابن الفارسى حين خرج عليك مضى إلى العلاء ومن معه كان فى ذلك نصرة للقوم بنا ، فأمّا إذا أراد الانفراد بالأمر دون العلاء فعاجله» وقال أيضا عباس ابن اللطيفى : «إن ابن الفارسى لم يخرج حتى صانعه يقطين وليس له علم بالعرب فأسبقه إلى نفسه قبل أن يسير إلى العلاء» ، فقال ابن الجارود : «أصبتما ولاحتالن عليه بحيلة تحمد أن رأيى فيها إن شاء الله» ثم قال لرجل من أصحابه ، يقال له طالب : «اعمل بما أقول لك : أنا أدعوه إذا تواقفنا كأنى أريد أن أعاتبه وأطلب رجعته فانتبذ أنت كأنك تريد أن تقف من العسكر موضعا غير الذى كنت فيه ، ثم أدن فعارضنا حتى إذا علمت أنك قد صببت فرسك ولم يفتك ، فشدّ عليه ، فإنك إن قتلته لم يقف لنا منهم رجل» ، ثم إن عبد الله تهيأ فى أصحابه وخرج ، فلما تواقفا ناداه ابن الجارود فقال : «اخرج إلى حتى لا

١٢١

يسمع كلامى وكلامك غيرنا ، فلما رأيت أعجب من أمرى وأمرك!» ، فلما سمع ذلك منه ابن الفارسى سر به ، فقال : «ما على أن أخرج فأكون قريبا منه فما فى يده قناة يعاجلنى بها ولا قوس يرمينى عنها» ، فخرج إليه فقال له : «ما حملك على ما صنعت ، ألم تكن المطاع المنظور إلى رأيه المقبول مشورته ، وجعل يشاغله بتدارك الكلام والنظر إلى موضع آخر ، وجعل ابن الفارسى لا ينظر إلى غيره مخافة حيله ، وقام طالب كما وصف له ابن الجارود حتى إذا أمكنه غدرته دفع عليه فرسه ، فما قدر أن يثنى عنانه حتى زهقه فدق قلبه وانهزم أصحابه ، وأصرع شيبة بن حسان ، ففى ذلك يقول عبد الله بن الجارود

لقد راعنى ابن الفارسى بكيده

فوافق أمضى منه عزما وأكيدا

عشية أدعوه ليسمع منطقى

فأعجزه إصدار ما كان أوردا

أشرت إلى ذى نجدة فانكفى له

بأسمر خطى إذا نال أقصدا

فما زال قاب القوس إلا عامل

من الرمح دام بين حضنيه مزبدا

فقل للعلاء قد أظلت محمدا

منية يوم فارتقب مثلها غدا

وقدم يحيى بن موسى خليفة هرثمة بن أعين طرابلس ، فصلى بالناس يوم عيد الأضحى وخطبهم ، وكتب يحيى إلى هرثمة يعلمه من قدم عليه من القواد ، منهم أبو العنبر التميمى ، والجنيد بن سيار الأزدى ، وجعفر بن محمد الربعى ، وشهاب بن حاجب التميمى ، وعبد الصمد العبدى وغيرهم ، وأقبل بعد ذلك خالد بن بشير الأزدى ، واستعجل أمر يحيى ، وأقبل العلاء بن سعيد فيمن معه يريد القيروان ، فلما بلغ ذلك ابن الجارود اجتمع ... الناس ، وأنه لا طاقة له به ولا قوة بلقائه ، كتب إلى يحيى بن موسى أن اقدم إلى القيروان ، فإنى مسلم سلطانها ، وأجاب إلى طاعته فخرج يحيى بن موسى بمن معه من طرابلس سنة تسع وسبعين ومائة فى محرم ، فلما بلغ قابس تلقى بها

١٢٢

عامة الجند من القيروان ومعهم النضر بن حفص بن عمر بن معاوية ، فخرج ابن الجارود من القيروان مستهل صفر ، واستخلف عليها بن عباس اللطيفى. فكانت أيام عبد الله ابن الجارود سبعة أشهر.

وأقبل العلاء بن سعيد بن يحيى بن موسى متسابقين إلى القيروان ، فسبقه العلاء إليها ، فقتل جماعة من أصحاب الجارود ، فبعث إليه يحيى : أن يفرق جموعه إن كان فى الطاعة ، فأمر كل من كان معه أن ينصرفوا إلى مواضعهم ، ورحل العلاء فى نحو من ثلاثمائة من أصحابه وخاصته إلى طرابلس ، وكان ابن الجارود وصل إليها قبل وصول العلاء فلقى بها يقطين بن موسى ، فخرج معه سائرا يريد المشرق ، فلقوا هرثمة بن أعين بأجدابية فصيره إلى منصور بن زياد ببرقة ، فخرج به هو ويقطين حتى وصل إلى هارون الرشيد ، وكان العلاء قد كتب إلى منصور وهرثمة يعلمهما أنه هو الذى أخرج ابن الجارود من إفريقية وكتب إليه بالقدوم ، وأجازه بجائزة سنية ، ووصل إلى مصر ، وبلغ وصوله أمير المؤمنين هارون ، فكتب له بمائة ألف درهم ، سوى الكساء فلم يلبث إلا يسيرا حتى توفى بمصر.

ولاية محمد بن مقاتل بن حكيم العكى

لما كتب هرثمة إلى هارون ، يسأله المعافاة وجّه ابن مقاتل أميرا للمغرب ، وكان رضيع هارون ، وكان أبوه مقاتل من كبار أهل دعوتهم وجلة من قام فيها ، وكان من قحطبة ابن شبيب فى حروبه حتى ظهر أمر المسودة ، وكان مقاتل بن حكيم مع أبى جعفر لا يفارقه ، وولّاه على حرّان ، فلما خلع عبد الله بن على وحاصر مقاتل بن حكيم بحران ، ثم آمّنه واحتال عليه حتى قتله ، وكان جعفر بن يحيى شديد العناية بمحمد بن مقاتل. فقدم القيروان فى شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة ، ولم يكن بالمحمود السيرة ، فاضطربت أموره واختلف جنده ، ولم يكن من قبح سوء رأيه وسيرته وقبيح ما يؤثر من أخباره إلّا إقدامه على عابد زمانه وورع عصره البهلوان بن راشد فإنه ضربه بالسياط ظلما وحبسه ، وكان ...

١٢٣

ولاية هرثمة بن الأعين

وقدم هرثمة بن أعين القيروان مستهل ربيع الآخر سنة سبع وسبعين ومائة ، فأمن الناس وسكنهم وأحسن إليهم ، وهو الذى بنى القصر الكبير بالمنستير ، وذلك سنة ثمانين ومائة على يدى زكرياء بن قادم وبنى أيضا سور مدينة طرابلس مما يلى البحر ، وواتر الكتب إلى هارون الرشيد فى الاستعفاء من إفريقية ، لما رأى من الاختلاف بها وسوء طاعة أهلها ، فكتب إليه هارون بالقدوم إليه فرجع فى أول شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة.

ذلك سبب موته وروى أنه لما حبس قال : «أما إنى كنت أمر بالسجن فما سألت ربى العافية منه».

وكان سبب عزل ابن العكى عن المغرب : أنه اقتطع من أرزاق الجند وأساء السيرة فيهم وفى الرعية ، وأن فلاحا القائد مشى فى أهل الشام وأهل خراسان ، فلم يزل بهم حتى اجتمع رأيهم على تقديم مرّة بن مخلد الأزدى وخرج عليه تمام بن تميم التميمى وكان عامله عليها ، وقد بايعه جماعة من القواد ، وأهل الشام وأهل خراسان ، فزحف فى النصف من شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائة متوجها إلى القيروان ، وخرج إليه ابن العكى فيمن معه ، فاقتتلوا قتالا شديدا فى منية الخيل ، فانهزم ابن العكى ، فدخل القيروان ، ومضى إلى دار كان قبل بناها ، فتحصن فيها وخلى عن دار الإمارة. فأقبل تمام فعسكر خلف الوادى ، بباب أبى الربيع عند مصلى روح بن حاتم ، فلما أصبح تمام فتحت له أبواب القيروان ، فدخلها يوم الأربعاء لخمس باقين من شهر رمضان ، فأمّنه تمام على دمه وماله ، على أن يخرج عنه فخرج عنها تلك الليلة ، فسار حتى وصل إلى طرابلس ثم مضى منها إلى سرت ، ولحق بطرابلس قوم من أهل خراسان ، منهم عباس بن طرحون صاحب شرطته ، وأبو العنبر كاتبه ، فأجمع رأيهم على أن يكتبوا إليه بالرجوع إلى طرابلس ، فأرسلوا إليه وهو مقيم بسرت ، فرجع إلى طرابلس ، وأقام تمام بالقيروان فنهض إليه إبراهيم بن الأغلب من الزاب فى نصرة ابن العكى. فلما بلغ تماما إقباله إليه جلا من القيروان ومضى إلى تونس ،

١٢٤

ودخل إبراهيم بن الأغلب القيروان بعد أن قدم عمران بن مخالد ونادى ... ممن انتهب دارا أو كافأ أحدا على أمر ركبه فى دولة تمام.

وجاء إبراهيم بعد ذلك فدخل القيروان ، فبدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم طلع المنبر فخطب الناس وأخبرهم أن أميرهم محمد بن مقاتل. وكتب إليه يخبره بما فعل ، ويسأله الرجوع إلى القيروان. فأقبل راجعا حتى دخل ومن معه من أهل القيروان ، فلما صار بسوق اليهود ، وقد أشرف الناس عليه من دورهم نادته امرأة من جملة الناس : «اشكر إبراهيم ، فإنه الذى رد عليك ملكك بإفريقية!».

وأن تمام قال لخاصة من أصحابه ، منهم عيسى بن الجلودى وعباس الصليفى : «إن إبراهيم قد رد الثغر على العكى والذين مع العكى قد ملئوا رعبا من وقعاتنا بهم وقد بلغهم خروجى ، لقد أسلم العكى وساروا إلىّ ومع ذلك أنه حسود ، ومع ذلك أنه يخالف أمرهم فيما يشيرون به عليه ، فكاتب الناس فتسرع إليه منهم كثير ، فكان الرجل لا يزال يقوم فى الجماعة ، فيقول : قد كنا استرحنا من ابن العكى ، فجاء إبراهيم فغلب على الثغر ورده ، فالموت خير من الحياة فى سلطان بن العكى ، فنزع إلى تمام الناس ، فلما رأوا كثرة من معه ... نفسا بقتال ابن العكى ، وقال للناس : «إن إبراهيم لو أحيا لابن العكى أباه ما كان إلا متهما له».

وكتب تمام إلى محمد بن مقاتل العكى : «أما بعد ، فإن إبراهيم بن الأغلب لم يبعث إليك فيردك من كرامتك عليه ، ولا للطاعة التى يظهرها ، ولكنه كره أن يبلغك أحد البلاد فترجع إليه فإن منعك كان مخالفا ، وإن دفعها إليك كان كارها فى جعلها لغيره ، فبعث إليك لترجع ثم يسلّمك إلى القتل ، وغدا تعرف ما جربت من وقعتنا أمس.

«وفى آخره :»

وما كان إبراهيم من فضل طاعة

يرد عليك الثغر إلا لتقتلا

فلو كنت ذا عقل وعلم بكيده

لما كنت منه يا بن عك لتقبلا

١٢٥

فلما وصل كتابه إلى ابن العكى قرأه ودفعه إلى إبراهيم فلما قرأه ضحك ، وقال : «قاتله الله ، ضعف عقله زين له ما كتب به». فكتب إليه ابن العكى : «من محمد بن مقاتل إلى النّاكث تمام ، أما بعد : بلغنى كتابك ودلنى ما فيه على قلة رأيك ، وفهمت قولك فى إبراهيم ، فإن كنت كتبته نصيحة ، فليس من خان الله ورسوله وكان من المفسدين بمقبول منه ما يتنصح به ، وإن كانت خديعة فأقبح الخدائع ما فطن له ، وأمّا ما ذكرت من إسلام إبراهيم إذا التقينا فلعمر أبيك ما يلقاك غيره ، وأما قولك : إنا جربنا من وقعتك أمس ما سنعرفه غدا ، فإن الحرب سجال ، فلنا ، يا تمام عليك العقبى إن شاء الله.

«فى أسفله :»

وإنى لأرجو إن لقيت ابن الأغلب

غداة المنايا أن تفل وتقتلا

تلاقى فتى يستصحب الموت فى الوغى

ويحمى بصدر الرمح مجدا مؤثلا

فأقبل تمام من تونس فى عسكر عظيم ، وأمر ابن العكى من كان معه من أهل الطاعة بالخروج إلى تمام ، فعسكروا إلى تونس ثم أقبل على إبراهيم فقال : «ما ترى؟» فقال : «إن تماما طمع فيك ، وتصديق ذلك أنه هرب منى فيمن معه وأنا فى قلة ، ثم دعاه طمعه أن اجترأ على الإقدام عليك وأنا معك وعندى عصابة قد جربتهم ، فأقم حتى أكون أنا الذى أنتدب إلى قتالهم ، وأن أبيت إلا الخروج تقدمتك» فقال : «افعل ما رأيت». فبعث إبراهيم إلى أهل بيته ، وأصحابه ومعه عمران بن مخالد ، وعمرو بن معاوية وابن العكى ورائهم فى معظم العسكر ، ثم ساروا حتى نزلوا منية لخيل ، وأقبل تمام حتى صار بطساس وعبأ إبراهيم الخيل ، وزحفوا إليه فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم تمام وقتل جماعة من أصحابه ومضى إلى تونس ، وانصرف ابن العكى إلى القيروان. ثم أمر إبراهيم بالمسير إلى تمام بتونس وذلك مستهل المحرم سنة أربع وثمانين ومائة.

فلما بلغ تمام إقباله كتب إليه فى الأمان ، فأمنه وأقبل به إلى القيروان يوم الجمعة لثمان

١٢٦

خلون من المحرم ، فلما صار الأمر إلى إبراهيم بعث تمّام بن تميم ، والجلودى والطيفى وغيرهم من وجوه الجند الذين من شأنهم الوثوب على الأمراء والخروج عليهم إلى بغداد ، فحبسوا فى الطبق ، فخرج سلمة بن تميم إلى بغداد ، وتلطف حتى دخل إلى أخيه فى السجن ، فنزل إليه وعانقه وسلّم عليه ، وخرج من عنده ، فلزم باب رجل من جلّة أصحاب السلطان فاستأذن عليه وسأله أن يرفع خبره إلى الرشيد أمير المؤمنين ، فاستأذن له عليه فدخل ، فأعلمه بنفسه وقال : «يا أمير المؤمنين كان أبى من وجوه القواد ، قواد جدك المنصور أمير المؤمنين ، فأمر له بصلة وكسوة وأن ينزل فى دار الضيافة ، ووعده بإطلاق أخيه تمام وأن يرجع إلى إفريقية ، فبلغ ذلك إبراهيم ، فبعث إلى امرأة كانت تعالج لتمام ما يشتهى أن تسمّه فيه ، قال : فاشتهى حوتا فسمته له ، فأكل فمات ، فلما كان بعد ذلك دعا هارون الرشيد بالسجّان فأمره بإحضار تمام فأعلمه بوفاته ، فأخرج صاحبيه الجلودى والطيفى فولى الجلودى الحرمين والطيفى بعض عمله ، ودخل سلمة إلى أمير المؤمنين فترحّم على تمام ، وأمر لسلمة بسجل إلى إبراهيم بن الأغلب ليعلم قدره وقدر أهل بيته ويجعلهم فى أوفر الصلاة ، ورفع عنهم الخراج فيما صار إليهم من الضيّاع ، وأن يستعين بهم فى الأعمال ، وأمر له بجائزة وصرفه إلى إفريقية. فلما وصل إلى إبراهيم أنزله معه فى القصر وأكرمه وولّاه ولايات كثيرة. وسنذكر ولاية إبراهيم من الرشيد أمير المؤمنين إن شاء الله تعالى.

ابتداء دولة بنى الأغلب

ولاية إبراهيم بن الأغلب بن سالم التميمى

كان إبراهيم بن الأغلب فقيها ديّنا ، عالما شاعرا خطيبا ، ذا رأى وبأس وحزم وعلم بالحروب ومكائدها ، جرىء الجنان طويل اللسان ، حسن السيرة. ولم يل إفريقية قبله أحد من الأمراء أعدل منه سيرة ولا أحسن سياسة ولا أرفق برعيّة ، ولا أضبط بأمر ، وكان كثير [الطلب] للعلم والاختلاف إلى الليث بن سعد الفقيه ، والليث وهب له جلاجل ،

١٢٧

أمّ زيادة الله ابنه ... إبراهيم خرج يوما من عند الليث ، فلقى غلمان الليث ... المائدة ، فرجع إبراهيم ودخل المجلس فأكل معه فأعجب ذلك الليث وسرّه ، وقال : «لتكوننّ لهذا نبأ وشأن» فلما أراد إبراهيم الخروج إلى المغرب أتى الليث ليودعه فقال له : «يا أبا إسحاق ، قد كنت رأيتك تطرب إلى هذه الجارية ـ يعنى جلاجل ـ وهى أديبة ذكية ، وأنت خارج وقد وهبتها لك ، فاقبلها» ، وكانت الجارية بكرا فافتضها من ليلتها وخرج بها حتى وصل إلى الزاب وعلى إفريقية الفضل بن روح ، فلقى من تعصبه وسوء مجاورته عظيما ، وأقام أخوه عبد الله بن الأغلب بمصر ، وكان ذا نعمة عظيمة ، وتوفى عبد الله بمصر فترحّل بنوه إلى إفريقية.

حكى أحمد بن ميسر ، قال : قرأت بمصر على قبر عبد الله بن الأغلب وعلى قبر من قد مات : «قف ثم ناده ، أيا من خلت فى الأرض منه المنازل ، بنيت فلم تسكن ولم تأكل الذى جمعت ولا أدركت ما كنت تأمل» ، وكانت ولايته الزاب من قبل هارون ، وابن العكى على إفريقية ، وذكرنا نصرته له ومعاونته إياه ومحاربته تمام.

قال محمد بن الوكيل ، قال : إنى سمعت إبراهيم بن الأغلب ونحن نريد إفريقية وقد خلف أهله بمصر ينشد :

ما سرت ميلا ولا جاوزت مرحلة

إلّا وذكرك يلوى دائما عنقى

ولا ذكرتك إلّا كنت مرتقبا

أرعى النّجوم كأنّ الليث معتنقى

وهو القائل :

ألم ترنى بالكيد أرديت راشدا

بأخرى وإنّى لابن إدريس راصد

تناوله عزمى على نأى داره

بمختومة فى طيّهن المكائد

فمات أخو عكّ بمهلك راشد

وقد كنت فيها شاهدا وهو شاهد

١٢٨

وكان راشد هذا قد علا أمره بالمغرب واستفحل. وهو مولى أدريس بن عبد الله بن حسن ، وكانت همّته غزو إفريقية لما هو فيه من القوّة والكثرة ، ولم يزل يكيده ويدسّ فى أصحابه ويبذل لهم الأموال إلى أن اغتالوه ، فقتلوه وبعثوا برأسه إليه ، فبعثه إلى محمد ابن مقاتل ، فبعثه محمد بن مقاتل إلى الرشيد ونسب الأمر كله إلى نفسه ، فبعث صاحب بريد المغرب إلى هارون بصنيع إبراهيم فى راشد. فلما قرأ هارون كتاب ابن العكى قال : «كذب صاحب البريد أصدق» وحسّن ذلك لإبراهيم عند الرشيد.

وأما حديث إدريس مولاه ، فإن الحسن بن على بن الحسن بن على بن أبى طالب ـ رضوان الله عليه ـ كان قدم قام بالمدينة سبعة أيام ... موسى الهادى ، ثم خرج إلى مكة فى ذى القعدة سنة سبع وستين ومائة ، وخرج معه جماعة من أخوته ... منهم يحيى وإدريس بنى عبد الله بن الحسين بن على ، وبلغ ذلك الهادى فولّى حربه محمد بن سليمان ابن على ، وكانت الوقعة بفخّ ، فقتل الحسن بن على وأكثر أصحابه ، وأفلت أدريس بن عبد الله بن حسن بن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنهم ـ فوقع إلى مصر وكان على بريدها واضح مولى صالح بن منصور ، وكان رافضيا فحمّله على البريد إلى أن صار إلى المغرب ، فوقع بمدينة مليلة من طنجة ، فاستخلف له من بها وبأعراضها من البربر ، وولى الرشيد فبلغه أمره ، فبعث إلى واضح فضرب عنقه ودس إلى إدريس الشماخ التميمى مولى ... وكتب له كتابا إلى إبراهيم بن الأغلب ، فخرج حتى وصل إلى مليلة ، فذكر أنه متطبب وأنه من شيعته ، ووصل إلى إدريس فوصله واطمأن إليه ، ثم إنه شكا إليه علة فى أسنانه ، فأعطاه سنونا مسموما قاتلا ، وأمره أن يستنّ به عند طلوع الفجر ، فأخذه منه وهرب الشماخ من تحت ليلته. فلما طلع الفجر استن منه إدريس ، فسقطت أسنانه ومات من وقته ، وطلب الشمّاخ فلم يظفر به ، وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه.

قال وجاءته قبل مقدمه الأخبار بموت إدريس ، فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك ، فولى الشمّاخ بريد مصر ، وأحسن إليه.

وولد لإدريس ولد فسمى باسم أبيه ، ونشأ فيهم فعظّموه ، فعامة من بالمغرب من

١٢٩

الإدريسية من ولده ، وهم إلى اليوم فى تلك الناحية مالكين أمرها ما ... وكانت جارية إدريس التى ولدت ابنه تسمى كثيرة البربرية.

وكان إبراهيم لما عزم على النهوض من الزاب لنصرة ابن العكى على تمام لم يجد مالا يقوى به ، فسأل التّجار أن يقرضوه مالا ، فتكلم رجلا منهم فقال : «أصلح الله الأمير ، والله لو قمت وسألتنا أن نخرج من أموالنا لفعلنا ذلك لك ، ولكنك تريد أن تخرج بعدة قليلة إلى أكثر من خمسين ألفا ، فإن أغناك عن الخروج فنحن أعدى الناس لك ، والذى منع الناس عن إجابتك إلى هذا ، أنهم يقولون إنّك مقتول». واستقر عند إبراهيم أن أمهات أولاده وخاصته أرسلوا إلى التجار يسألونهم ألّا يعينوه على الخروج خوفا عليه ، فلما علم ذلك احتال على أهله وولده ، بأن جمعهم وقال : «لقد كنا بهذا الرجل فى واد وهو لنا فى آخر ، أنا بالأمس أطلب العرض لأستعين به فى قتاله ، وقد جاءنى اليوم كتابه : يسألنى أن أقدم عليه حتى أمد له الأمان وأصلح أمر الناس فقد اجتمعوا على الرضا بما حكمت بينهم وبين ابن العكى ، فسرّوا بذلك ، فقال : «كيف أرحل بغير مال وقد حلفت ألا اقترض من التجار فى سفرى هذا شيئا ، فأتاه أهله وولده بما كان عندهم من مال وحلى وطمأنوه ، وجمع إبراهيم أهل بيته وبنى عمه وخاصته وكانوا سبعين فارسا ، ففى ذلك يقول بعض الشعراء :

هاتوا لنا رجلا أردى بنجدته

سبعين ألفا بسبعين من النّاس

ما مرّ يوم لإبراهيم يعلمه

إلّا وشيمته للجود والبأس

قال : فأقبل إبراهيم ، فوافاه عدّة من أهل خراسان وعدّة من عامة الجنود إليه من كل بلد ، ومعه عمرو بن معاوية ، وعمران بن مخالد ، وحماد بن أبى حماد ، فقام إبراهيم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه وتكلم بكلام كثير حرّضهم به على قتال تمام ، وكان فيما قال لهم : «والله ما لكم من شام تلجأون إليه ولا عراق تستمدون منه ، ما لنا ملجأ إلا السيوف ، ولا تذرع إلا الصبر ، فمن عزم على غير هذا فقد أذنا له فى الانصراف» فقام

١٣٠

عمرو بن معاوية فقال : «أصلح الله الأمير ، ما نشك فى طاعتك وخلافه ، ولا فى حقك وباطله ، وإنك إذا نهضت فى قلة من المال والفرسان بنفسك وأهل بيتك ، لواثق بأن ينصرك الله نصرا يكون مثلا فى الناس ، لأنك أهل لذلك بحسن نيتك وخلوص سريرتك ، وإنك بقية أبرار وخلف أخيار ، ونحن نبلغ مبلغ الجهد فى مناصحتك وإيثار هواك فى الحق على هوانا ، ولك الإجابة منا إلى الدّعوة إليه إن شاء الله. فقام عمران بن مخالد ، فقال : «أصلح الله الأمير ، فو الله ما أحصى ما شهدت من العساكر ما منها عسكر ، إلا وطلائعه أكثر من عسكره والله لا يأتيك أمر من الموت بين تلك الجماعة ، ولكأنى بك غدا على منبر القيروان ، وإن نفسى لتحدثنى من نصر الله عز وجل ما لو أرسلت رجلا واحدا لأخذها لك إن شاء الله».

وأقبل إبراهيم يريد القيروان وعلى مقدمته عمران بن مخالد ، فلما علم بذلك تمام خرج هاربا إلى تونس ، ولما وصل إبراهيم دخل المسجد ، فصعد المنبر واجتمع إليه الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أيها الناس ، اذكروا ما كنتم فيه من الضر ، وتتابع عفوان البلايا إذا الدولة عليكم لا لكم ، واستقر قلوبكم خشية الاتباع لا تطمعون فى إنصاف ولا يتجاوز همّتكم الكفاف لا تنتصرون من عدوكم إلا بالدعاء ، فى كل يوم دولة وسراد وعصبية وتحرق ولا يغير صاحب ذى خلاف ولا يرعوى ذو خلاف إلى طاعة ، فقد عادت عليكم ... يأمن بها خوفكم ويعز بها ذلّكم ، ولست أميركم ولكنى أخذت ثغر أمير المؤمنين ممن أخذه بالخلاف ، وأميرهم محمد بن مقاتل ، وأنا مكاتبه ثم مسلمه إليه إن شاء الله. ثم أنشد يقول :

لو كنت لاقى تمام لسار به

ضرب يفرق بين الروح والجسد

ولكنه حين سام الموت يقدمنى

ولىّ فرارا وخلى لى عن البلد

إن يستقم نعف عما كان قدمه

وإن يعد بعدها فى غيه نعد

١٣١

ثم نزل وكتب إلى محمد بن مقاتل فى ذلك بقدومه عليه ، وقال :

ألم ترنى رددت طريد عنكم

وقد نزحت به أيدى الركاب

أخذت الثغر فى سبعين مما

وقد وافى على شرف الذهاب

هزمت بهم بعدتهم ألوفا

كأن عليهم قطع السحاب

وأقبل العكى حتى وصل القيروان ، ولما بلغ تمام رجوعه جمع له وأتاه ، فخرج إليه العكى وإبراهيم على مقدمته ، على فرس أشقر مخذرف ، ثم دعا بحمزة الحرون فقال له : «قف فى موضعى وإياك أن تتحرك إلا أن تعلم أنى قد أصبت» ثم رجع إلى ميمنة تمام وهو يقول :

متى أرى كما أريد عفوا

أو أحسون كأس المنايا حسوا

قال : فكسر الميمنة ثم رجع إلى الميسرة فشد عليها وهو يقول :

قد علم ابن سعد وأفتى مضر

أنّ مغيب عزّها أن ننتصر

ففضها ثم رجع إلى القلب من عسكره وحمزة فى الموضع الذى أمره أن يقف فيه ، ثم أرسل إلى صاحب ميمنته وميسرته : «إذا رأيتما القلب من عسكرهم قد تضعضع ، فليركب كل واحد منكما ما قبله». ثم شد على القلب وجعل أصحابه يفعلون ما أمرهم فكانت الهزيمة. فكتب يحيى بن الفضل صاحب البريد إلى هارون بخبر ابن العكى وتمام ، وما كان من أمورهم وشرح الأمر على حسبه. فلما قرأ الكتاب على أصحابه وعرفهم ما فعل إبراهيم شاورهم وقال : «ما ترون فى أمر إبراهيم؟» وقال لهرثمة بن أعين : «أنت قريب العهد» فقال أمير المؤمنين : «أنت سألتنى فى مقدمى منها عن طاعة أهلها وأخبرتك أنه

١٣٢

ليس بها أحد أفضل طاعة ولا أبعد صيتا ولا أرضى عند الناس من إبراهيم ، ثم صدق فولى قيامه بطاعتك» قال : «أصبت وأرجوا أن أكون قد رميتها بحجرها ، اكتبوا له عهده على إفريقية. فلما وصل الكتاب إلى يحيى بن زياد صاحب البريد ، انطلق إلى إبراهيم بن الأغلب ، فقال إنى أريد أن أدخل عليك ولا يكون عندك أحد. فأخرج من كان عنده ، فدخل عليه فسلم بالأمرة ودفع إليه عهده. فأرسل إبراهيم إلى ابن العكى : «اقم ما شئت حتى تتجهز» ، فأقام أياما ثم رحل إلى طرابلس. فوافاه حماد السعودى بكتابين قدم بهما إلى ثغر إفريقية حسبما كانت تجرى به إلى أصحاب الثغور ، فافترى ابن العكى كتابا ثالثا بعزل إبراهيم وبعث به مع الكتابين إلى القيروان فلما قرأ الكتاب على الناس مع الكتابين اجتمع الناس إلى إبراهيم ، فقالوا : «أقم ـ أصلح الله الأمير ـ بمكانك ، واكتب إلى أمير المؤمنين فإن ابن العكى اختلق هذا الكتاب زورا ولم يكافئك على نصرتك له وحقنك دمه» فقال إبراهيم : «والله لقد ظننت ظنكم وهممت أن أسير إليه حتى أطعمه هذه الكتب ، وإنما اجترأ ابن العكى على ثغرنا لموضعه من جعفر بن يحيى».

ثم عسكر إبراهيم يريد الخروج إلى الزاب ، فأتى كتاب ابن العكى إلى سهل ابن حجاب يستحلفه إلى قدومه ، فكتب صاحب البريد بالخبر كله إلى هارون الرشيد ، فغضب وكتب إلى ابن العكى : «أما بعد فلم يكن آخر أمرك يشبهه إلا أوله فلأى مناقبك أو برك على إبراهيم بولاية الثغر ، أم لفرارك وإقدامه ، أو لجزعك وصبره ، أم لخلافك وطاعته. فإذا نظرت فى كتابى فأقدم غير محمود الفعال». وكتب إلى إبراهيم بتجديد ولايته ، فوصل الرسول بالكتاب إلى القيروان ، وإبراهيم بالزاب ، فمضى بالكتاب إليه فكانت ولايته الأخرى التى استقر بها ملكه وملك ولده لاثنتى عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين ومائة. وقفل ابن العكى إلى المشرق.

فلما ولى إبراهيم انقمع الشر بإفريقية ، وضبط أمرها وأحسن إلى من بها من أهل الخير ، ثم ولى تمام طرابلس ، فلما استقر البلد وجه إليه جعفر بن سعيد وجوين بن السماك. فأخذ تماما وشده وثاقا وبعث به إلى هارون ، وبعث بعباس الطيفى وأبى الميل

١٣٣

وعيسى الجلى ، وغيرهم ممن كان يتوثب على الأمراء ؛ لأن كل عامل من عمال إفريقية كان من وجوه الجند على خوف من قيامهم ؛ لأن أكثرهم يرى أنه أحق بالأمر منه ، فلما ولى إبراهيم علم أنه لا سلطان له عليهم مادام بين أظهرهم ، فصرف من صرف إلى المشرق منهم ، واشترى موضع القصر القديم من ابن طالوت او شى ، وابتنى به قصرا فجعله متنزها ، ثم جعل ينقل إليه السلاح والأموال سرا وهو فى خلال ذلك يراعى أمور أجناده ويصلح طاعتهم ، ويتفقد أمورهم ، ويصبر على جفائهم ، وأخذ فى شراء العبيد ، وأظهر أنه يريد أن يتخذ من كل صناعة صنعة تغنيه عن استعمال الرعية فى كل شىء من أمورهم ، ثم اشترى عبيدا لحمل سلاحه ، وأظهر للجند أنه أراد بذلك إكرامهم عن حمل سلاحه. ولما تهيأ له من ذلك ما أراد انتقل من دار الإمارة ، وصار إلى قصره بعبيدة وأهله وحشمه وأهل بيته ، وكان انتقاله ليلا ، وأسكن معه من يثق به من الجند ، وكان يتولى الصلاة بنفسه فى المسجد الجامع الذى فى القيروان والمسجد الذى بناه وشاده بالقصر القديم.

فذكر أنه صلى يوما ، فلما قضى الصلاة عثر ببعض الحصر ، فأمر أن يؤتى بمن حضر الصلاة من وجوه الناس ، فلما أتوا قال لهم : «استكهنونى» فأبوا فقال : «لا بد» فقال : «إنى خفت أن يقول إنى خرجت أصلى وأنا سكران ، فأحببت أن تعلموا مرادى» وكان حافظا للقرآن عالما به.

وكان أبو عبد الرحمن النفزى الكوفى يقول : قال لى الأمير إبراهيم : «أحب أن أقرأ عليك القرأن ولك بكل حرف اخطئه مائة درهم» فقلت : «إذا تقلّ درهمى ـ أصلح الله الأمير ـ» فقرأ علىّ فما أخطأ غير حرف واحد نقله من موضع إلى موضع ، وذلك قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فى سورة المؤمنين ، قرأ هو : بأنه كانت تأتيهم. وهو «بأنهم ـ ها هنا ـ كانت تأتيهم». فى التغابن «ذلك بأنه».

ووفد عليه رجل من المشرق ، وكان أديبا ، وقد سخط إبراهيم على رجال من الجند خالفوا عليه فاستشفعوا بهذا الرجل ، فقال : مثلى ومثلهم كما قال الشاعر :

كأنى سلبت القوم نور عيونهم وقد

فلا العذر مقبول ولا الذنب يغفر

كان وقد كان إحسانى لهم غير مرة

ولكن إحسان البغيض يكفر

١٣٤

فقال : بل مثلك ومثلهم أيها الأمير ، كما قال مروان بن أبى حفصة :

فما أحجم الأعداء عنك تقية

عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا

فضحك وسر بقوله وعفا له عن القوم.

وثار رجل من أبناء العرب ، يقال له حمد يس بن عبد الرحمن الكندى ، فخلع السواد وجمع جموعا كثيرة ، وأتى بعرب أهل البلاد وبربرها ، فلما كثرت جموعه بمدينة تونس بعث إبراهيم عمران بن مخالد إلى تونس ، وبعث معه عسكرا فيه وجوه القواد ، وأمره أن يحث السير إليه ، وكان فيما أوصاه به أن قال : «يا عمران ، إن أعظم الناس خطرا وأفلحهم حجة الحازم المعدّ لأمره ، وأعلم أن العرب لم يخرج بها مخالف قط منذ جاءت دولة بنى العباس وهو أعظم كفرا من هذا الفاسق ولا أبين بالخلافة ، ولا أشك أن الله سيقطع دابره ، فإن ظفر الله تعالى به فاقطع أثره وأثر من يتابعه ، وأعلم أنك إن أبقيت منهم رجلا ممن يرى رأيه لم تعدم أن ترى كل يوم قرن فتنة نجم ، وعقال خلاف انطلق ، فانهدّ لما أمرتك به ، ولست أدع أن أمدك بالخيل إن شاء الله» ، فسار عمران بن مخالد حتى لقيهم بسبخة تونس فاقتتلوا قتالا شديدا ، وكثر بينهم القتل حتى جعل ناس من أصحاب حمد يس يقولون «بغداد بغداد ، فلا والله لا اتخذت لكم طاعة بعد اليوم أبدا».

وأبلى حمزة بن الشباك ذلك اليوم بلاء عظيما ، ونادى عمران فى أصحابه «يا أبناء الدعوة وأهل الطاعة لابد من الموت ، فهبوا إلى الله ساعة من الصبر والحفيظة» وما زال يحرضهم ، فما زال حمد يس وأصحابه إلى أن انكشفوا وقتلوا مقتلة عظيمة ، وقتل حمد يس فدخل عمران تونس فجعل يتبعهم ويقتلهم حتى أفناهم. وكان خروجه فى سنة ست وثمانين ومائة.

وكتب إبراهيم بأمر حمد يس إلى الرشيد برسالة كبيرة ، وصف فيها ابتداء خروجه وحروبه إلى مقتله ، وأعلمه أنه قتل من أصحابه عشرة آلاف ، فلما استقامت الأمور

١٣٥

لإبراهيم بن الأغلب ، واشتدت لظاته بلغه ما اجتمع لإدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ من الجموع وأطاعه من حوله من القبائل ، فدعا يحيى بن الفضل صاحب البريد وابن غانم القاضى وابن عوانة الكلبى ، فشاورهم فى أمر إدريس ، وتكلم بكلام كثير ، فقالوا : «أصلح الله الأمير ، قد علم من حضر وغاب من أمر المغرب إنه لم يظفر بمثل ظفرك ، ولا كان له ما كان لك ، فدع ابن إدريس ما وادعك ، وأرض لك وله بالسلامة ...

قال بعضهم : إن ابن إدريس لم يجتمع إليه إلا ... [فقال ابن] غانم : «وما هو هذا؟» قال : «السم القاتل من ساعته!» قال : «أرنيه» فدفعها إليه ، فضرب بها ابن غانم عمودا كان فى المجلس ، فكسرها وأراق ما فيها ، فقال له : «ما صنعت ويحك؟!» قال : «أو أترك معك ما يقتل الناس اغتيالا»

وشق إبراهيم بن الأغلب يوما سماط القيروان ومعه ابن غانم من باب أبى الربيع ، فلما صار إلى موضع البزازين ، وزادت دابته فى المشى ، فجازت دابة ابن غانم ، فجازه فى المشى ، فلما رأى ذلك وجه دابته إلى داره ، فأرسل إليه إبراهيم وقال له : «ما حملك على أن عطفت حتى فارقتنى؟» فقال : «أصلح الله الأمير ، إنما القاضى بحرمته وإنما تنفذ أحكامه بقدر نفوذ جأشه وتحركت دابتك فلو ساعدتك وحركت دابتى سقطت قلنسوتى ، وإذا سقطت قلنسوة القاضى لعب بها الصبيان!».

قال : وكان إبراهيم بن الأغلب جالسا يوما وعنده ابن غانم فدخل عليه صاحب بريد إفريقية ، وقد وردت عليه كتب من هارون الرشيد فدفع الرسول إلى إبراهيم كتابه وإلى ابن غانم كتابه ، فقرأ إبراهيم كتابه ودفعه إلى ابن غانم ، فقرأه ورده على إبراهيم ، فقال له إبراهيم : «هات كتابك اقرأه ... من ذلك» فقال له : «فلم قرأت كتابى؟!» قال : «أنت دفعته إلى ومددت به يدك ، وكرهت أن أردها ، وأما أنا فلست أطلعك عليه فإن أمير المؤمنين أسر إلى فيه شيئا لا أطلع عليه أحدا» فقال له إبراهيم : «أما علمت أنه يقال إن أمير إفريقية يقتل قاضيها؟!» قال : «أعلم أن قد ذكر ذلك ، ولكن لست ذلك

١٣٦

الأمير ولا أنا ذلك القاضى» ، وإنما تهيأ لابن غانم هذا لكتابة هارون إليه وكان من قبله ، ولا أطلق لإبراهيم عزله. فلما مات ابن غانم صلى عليه إبراهيم بن الأغلب ، ثم جلس على كرسى ينتظر دفنه ، فوقف على قبره معد بن عقال خال إبراهيم وكان عامله على القيروان ، فجعل يجزع ويبكى على ابن غانم فلما فرغوا من دفنه دعا إبراهيم بمعد فقال له : «لم بكيت على ابن غانم؟» قال : «كان لى صديقا أبر كابن غانم» فقال له إبراهيم : «والله ما ملكنا إفريقية ولا أمنا إذا مات ابن غانم». وتوفى ابن غانم من فالج أصابه فى شهر ربيع الآخر سنة تسعين ومائة أيام إبراهيم بن الأغلب. وولى إبراهيم القضاء أبا محرز ، واسمه محمد بن عبد الله ، وذلك فى سنة إحدى وتسعين ومائة بعد موت ابن غانم.

قال سليمان بن عمران : لما ما ابن غانم أراد إبراهيم أن يولى القضاء رجلا فقال له رجل من أكابر أصحابه أن قال سليمان بن عمران : وكان مالك بن أنس يجل عبد الله بن غانم ، فإذا جاءه أقعده إلى جانبه ، وأقبل إليه يسأله عن المغرب وأخباره ، فكان إذا رآه ابن القاسم وطلبة العلم معه قالوا : «شغله المغربى عنا». فلما بلغ مالكا ولاية ابن غانم القضاء قال لأصحابه : «علمتم أن الفتى الحميرى الذى كان يجالسنا قد استقضى على إفريقية. وكان مالك قد عرض عليه أن يزوجه ابنته ويقيم عنده ، فامتنع وقال. إن أخرجتها إلى إفريقية تزوجتها.

وعن عبد الله بن أبى حسان قال : مضيت على عبد الله بن عمر بن غانم بعد ولايته القضاء إلى ضيعة بالديدان فقال لى فى الطريق : «ما يقول الناس يا بن حسان فى ولايتى» قلت : «ولاك ابن فروخ» قال : «على ذلك ، لقد قال لى الأمير روح بن حاتم ، والله ما خرجت إلى إفريقية إلا وأنت قاضى» قال : «قلت كيف ذلك؟» قال : «لما أردت الخروج إلى إفريقية دخلت على أبى يوسف القاضى ، وهو إذ ذاك قاضى القضاة ، فقلت يا أبا يوسف ، قد ولانى أمير المؤمنين إفريقية ، وأنا خارج فما كانت لك من حاجة

١٣٧

فأذكرها» قال «أوصيك بتقوى الله ، وبمدينة القيروان فتى يقال له عبد الله بن غانم قد فقه ، فوله قضاء إفريقية» فقلت له : «نعم» ثم ودعته ، فذلك الوقت وليت.

وكان هارون الرشيد يكاتب ابن غانم وكان بعد ذلك قضاؤه من قبله لا من قبل ولاته على إفريقية. وكان يكتب فى عنوانه : من هارون أمير المؤمنين إلى قاضى إفريقية عبد الله ابن عمر بن غانم.

وحكى سحنون قال : شهد قوم من أهل البادية عند عبد الله بن غانم ، فلم يحسنوا الشهادة ، فقال : «كل من بالبادية طريف إلا الرجال». وكان ابن غانم يكتب إلى مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ وإلى أبى يوسف القاضى فيما ينزل من نوازل الخصوم. فحكى عن هشام بن معدان كاتب أبى يوسف القاضى : قال : كنت إلى جانب أبى يوسف فى مجلس قضائه إذ ورد عليه رجل معتم فى زى أهل إفريقية فصاح : كتاب أبى عبد الرحمن عبد الله بن غانم قاضى إفريقية ، فدعا به فلما صار بين يديه دفع الكتاب إليه ، فسأله من أنت قال : «أنا أبو التمام عبد الوهاب بن محمد خرجت حاجا ، فكتب معى ابن غانم هذا الكتاب إليك وأمرنى بإيصاله بنفسى وأخذ الجواب» ، فقال هاشم : فدفعه إلى ، وقال «فضه واقرأه وارفع صوتك يا هشام وأعلن بقراءته» ففعلت وقرأته عليه وأصاخ نحوه فإذا فيه مسائل مما نزل به يشاوره فيها ويستقضيه فى جوابها ، فلما فرغت من قراءته أمر بدرجة ، ثم التفت إلى أبى التمام وقال : «احضر سفرك؟» قال : «نعم» قال : «قد ترى ما نحن فيه ولعله لا يتهيأ لك الوصول إلينا ، فخذ جوابك فى مقامك ، يا هشام ، اكتب له فى ظهره : «من يعقوب بن إبراهيم إلى عبد الله بن غانم قاضى إفريقية» ثم دعا له وشكره على تثبته فيما ينزل به وأعلمه أن ذلك كان صدر السلف الماضين ، ثم تابع إملاء المسائل على نحوها فى كتابه ، كل مسألة وجوابها ، وما أعاد نظرا فى الكتاب ، وأمرنى فختمته وعنونته ، وألقاه إلى أبى التمام وقال له : «هذا جواب صاحبك ، فإن أمكنك الوصول إلينا جددت معك كتابا» قال هشام : هذا بعض ما يذكر من حفظ أبى يوسف رحمه الله.

قال ابن عبدون القاضى : كان ابن غانم أحكم الناس ، خاصم عنده ابن زرعة أختا

١٣٨

له ، فحكم لها عليه ، فبلغ ذلك من ابن زرعة كل مبلغ ، فوافاه فى طريق الديدان ، فقال له : «يا بن الفاعلة!» وأغرق فى سبه ، فلم يرد عليه جوابا ، فلما كان بعد ذلك خرج أيضا إلى الديدان فلقيه ابن زرعة فسلم عليه ابن غانم وبره ، وقال له : «امض بنا» فمضى معه إلى متنزهه ، فأحضر طعاما فأكل معه ثم انصرف ، فلما أراد مفارقته قال له : «يا أبا عبد الرحمن ، اغفر لى ، فقد كان من يخطأ إليك» فقال : «أما هذا فلست أفعله حتى أخاصمك بين يدى الله تعالى ، وأما أن ينالك منى فى الدنيا مكروه أو عقوبة فأنت آمن من هذا».

يروى أن عبد الله بن غانم : جاءه ابنه من عند المعلم فسأله عن سورته وحفظه فقرأ عليه أم القرآن ، فأحسن فى قراءته ، فدفع له عشرين دينارا ، فلما جاء بها الصبى إلى المؤدب أنكر ذلك وظن بالصبى ظنا فأخذها وجاء بها إلى ابن غانم ، فقال له : «لم رددتها ، هل استقللتها؟» فقال المعلم : «ما أتيت لهذا ، إنما ظننت بالصبى ظنا» فقال له : «لحرف واحد مما علمته يعدل الدنيا وما فيها.»

وكان ابن غانم حسن اللباس ، يلبس من الثياب رقيقها ، وقد جعل للنساء يوما يجلس فيه للنظر فيهن ، فكان يلبس القرق الدنىّ والثياب الخلقة ، ثم يضرب ببصره إلى الأرض ، فمن كان لم يره قل ذلك لم يشك أنه مكفوف. وكان له حظ من الصلاة فى ليله ، فإذا انقضت صلاته وقعد فى آخرها للتشهد ...

[ولما توفى ابن غانم قال ابن الأغلب : «يا أبا محرز ، إنى عزمت على توليتك القضاء» فقال له أبو محرز : «لست [أصلحه لهذا الأمر ، ولست أطيقه» ، فقال له إبراهيم بن الأغلب] : لو كان لأغلب بن سالم ويزيد بن حاتم باقيين [لم أكن أنا أميرا] ولو كان عبد الرحمن بن أنعم وعبد الله بن فروخ باقيين [لم تكن أنت قاضيا ، ولكل زمان رجال وعلى الأمير الاختيار : ، فقال أبو محرز [متمثلا] :

[خلت الديار فسدت] غير مسوّد

ومن الشّقاء تفردى بالسؤدد

١٣٩

(فقال له «قد وليتك القضاء» فامتنع فأمر) به فأبى ، فأمر إبراهيم عامر بن المعتمر القائد وكان (صاحب الشرطة ليأخذ بضبه ويخرجه من باب مقصورة الجامع فيقعد (للنظر بين الخصوم. فلما قدموا إليه نظر أبو محرز فيما بينهم فكبّروا فسمع إبراهيم بن الأغلب التكبير فقال لأصحابه : (قد قبل أبو محرز القضاء.) ... وأربعة أشهر وعشرة أيام.

ولاية أبى العباس عبد الله.

ابن إبراهيم بن الأغلب التميمى

لما مات إبراهيم بن الأغلب [انتقلت الولاية من] بعده لابنه أبى العباس عبد الله ، وكان غائبا [بمدينة طرابلس فقام] أخوه زيادة الله بالأمر ، وأخذ له البيعة [على نفسه وعلى أهل بيته] وجميع رجاله ، وقدم أبو العباس [عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من طرابلس ، فتلقاه أخوه زيادة الله وسلم الأمر إليه.

تم بحمد الله

١٤٠