تاريخ أفريقية والمغرب

رقيق القيرواني

تاريخ أفريقية والمغرب

المؤلف:

رقيق القيرواني


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفرجاني للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٢

فقيل له : «يأمير المؤمنين ، لقد باعدت بين قربهما» فتوفّى يزيد بالقيروان ودفن فى مقبرة باب سالم ، ثم وجّه هارون إلى إفريقية روح ، فمات ودفن إلى جانبه ، فقبرهما فى موضع واحد عليهما ساريّة مكتوبة فيها أسماؤهما ، وقد ذهب ما كان على قبرهما من بناء ، لأنّ بنى الأغلب هدموا ما كان على قبريهما ، ومنها الأعمدة التى تحت مصلىّ العيد ، وأكثر الناس يعرفون قبريهما ويقفون عليهما للعظة بما كانا فيه من السّلطان والقدرة. ولمّا أن هزم عبد الله ابن علىّ ، عمّ أبى جعفر ، صار إلى البصرة إلى أخيه سليمان بن على ، فأخفاه عنده ، فعزل أبو جعفر عمّه سليمان عن البصرة وولّى عليها سليمان بن يزيد بن المهلّب وصيّره مع روح بن حاتم فى سبعة آلاف ... البصرة حتى يظفر بعمّه عبد الله بن على ، وأمرهما أن يخ ... سفيان يلاطف آل سليمان ويدخل عليهم ويؤنسهم إلى أن دخل يوم ، فقالوا له : «سلّم على شيخ بنى هاشم» قال : «ومن هو؟» قالوا : «عبد الله بن على» فسلّم عليه وصافحه وأمسك بيده ، فقال له : «خلّ عن يدى» فقال : «ولا والله لا خلّيت عن يدك حتى ترى وجه أبى جعفر» فقالوا إليه ليخلّصوه منه ، واتّصل الخبر بروح فجاء بأصحابه وأحاط بالقصر وهو يقول : «لئن نال سفيان منكم مكروه لا يستقرّ بكم القصر». فوصل إلى أبى جعفر على يدى روح ، وتوفى عيسى ابن موسى ولىّ عهد المنصور بالكوفة سنة سبع وستين ومائة ، وعلى الكوفة روح بن حاتم ، فأشهد على وفاته القاضى والوجوه لمكانه من دولة المنصور ، ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفا فى الشمس عند باب المنصور ، فقال له : «لقد طال وقوفك فى الشمس!» فقال لى روح : «ليطول مقامى فى الظل».

ومات ابن الروح فدخل عليه أصحابه ، وهو ذكىّ البال ضاحك السنّ ، فتوقّفوا عن تعزيّته ، فعرف ذلك منهم ، فأنشأ يقول :

وإنّا أناس لا تفيض دموعنا

على هالك منّا ولو قصم الظهّرا

يروى عن عبد الرحمن القصير قال : رأيت أربعة ما رأيت فى الدّنيا مثلهم ، رأيت ابن عثمان بالبصرة فما رأيت فى الدّنيا مثله ، ورأيت الأوزاعى بالشّام فما رأيت فى الدنيا

١٠١

مثله ، ورأيت سفيان الثورى بالكوفة فما رأيت فى الدّنيا مثله ، ورأيت رباح بن يزيد بإفريقية فما رأيت فى الدّنيا مثله.

وكان رباح يقول : رضت نفسى عن المآثم حولا فبعد حول ضبطتها ، ورضت لسانى عن ترك ما لا يعنينى خمس عشرة سنة ، فبعد خمس عشرة سنة ضبطته. وهذه الرياضة كانت فيه لأنه مات وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، وكان قد حمل على نفسه الاجتهاد حتى قال : «كنت أحب الصحة فلمّا ضعفت عن العمل أحببت المرض. قال سليمان بن عمران : ولمّا توفى رباح بن يزيد حضر جنازته كافّة الناس ، وغلّقت الحوانيت ، وحضرها الأمير يزيد بن حاتم ، فلّما رأى من كثرة الناس ما رأى التفت إلى من يليه ، فقال : هذا والله عزّ الآخرة لا ما نحن فيه» وقال بعض شيوخ إفريقية : لمّا ولىّ روح بن حاتم أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن غانم القضاء بأفريقية ظهر من عدله فى قضائه ، وفهمه ما فضح به من كان قبله ، وولى فى رجب سنة إحدى وسبعين ومائة وهو يومئذ ابن أربعين سنة ، فأقام على قضاء إفريقية عشرين سنة أيام روح بن حاتم ، ونصر بن حبيب ، والفضل بن روح ، وهرثمة بن أعين ، ومحمد بن مقاتل العكى ، وبعض أيام إبراهيم بن الأغلب ، وسنذكر بعض أخباره معه. وكان ابن غانم إذا أشكلت عليه قصة أرجأ أمر الخصمين حتى يعود عليه جواب مالك بن أنس وأبى يوسف القاضى ، ونذكر بقيّة أخبار عبد الله بن فروخ ، وكان عظيم القدر عند العلماء قال ابن فروخ : كنت يوما عند ابن أبى جمعة فسقطت آجرة من أعلى داره على رأسى فأدمتنى فقال لى : «اخطر إن شئت أرش الجرح وإن شئت ثلاثمائة حديث» قلت : «الحديث» ، فحدّثنى ثلاثمائة حديث. قال : وقلت يوما لأبى حنيفة : «ما منعك أن تلى القضاء؟» فقال لى : «يا بن فرّوخ القضاء ثلاثة ، رجل يحسن العوم أخذ البحر طولا فما عسى أن يعوم يوشك أن يكلّ فيغرق ، ورجل لا بأس بعومه فعام يسيرا فغرق ، ورجل لا يحسن العوم فألقى بنفسه على الماء فغرق من ساعته ، فهذا منعنى من الدخول فى القضاء».

وقال ابن فرّوخ : أتيت الكوفة وأكثر أملى السماع من سليمان بن مهران الأعمش ، فسألت عنه فقيل لى : «إنه غضب على أهل الحديث وحلف ألا يسمعهم إلّا وقت ذكر

١٠٢

فكنت اختلف إلى داره طمعا أن أصل إليه ، فجلست يوما أتفكر فى تغربّى وما حرمته من السماع منه ، وقد أدركته إلى أن فتح الباب ، وإذا بجارية فقالت : «مالك»؟ فقلت : «أنا رجل غريب» ، واعلمتها بخبرى ، قالت : «وأين بلدك؟» قلت : «إفريقية» فاسترجعت وقالت : «أتعرف دار بنى فرّوخ؟» قلت : «أنا ابن فرّوخ» فقالت : «عبد الله!» قلت : «نعم» ، فإذا هى جارية كانت من بلادنا ، وكنت رضيعا لها فبعناها صغيرة ، فصارت إلى الأعمش وكانت لها دالّة عليه ، فدخلت عليه فقالت له : «إن ابن مولاى الذى كنت أخبرك به بالباب ، فأمرها بإدخالى ، وأسكننى فى بيت قبالته ، فكنت أسمع منه وحدى ، وقد حرم سائر الناس إلى أن قضيت أربا من سماعى منه. وكان مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ يكرمه ويعظّمه ، وكانت لمالك ـ رحمه الله ـ فراسة لا تكاد تخطىء ، نظر يوما إلى ابن فرّوخ فقال : «هذا فقيه بلده» ونظر إلى ابن غانم فقال : «وهذا قاضى بلده» ، ونظر إلى البهلول بن راشد فقال : «وهذا عابد بلده».

وقدم عبد الله بن فرّوخ المدينة حاجّا ، فلما نزل لبس ثيابه ثم توجّه إلى قبر النبى صلّى الله عليه وسلم فسلّم عليه ثم أتى مالك بن أنس مسلّما ، فلما رآه قام إليه وكان لا يكاد يفعل ذلك لكثير من الناس ، وأجلسه إلى جانبه وسأله عن أحواله وقدومه فأعلمه أن قدومه كان فى الوقت ، فقال : «صدقت لو كان قدومك تقدّم لعلمت ، ولو علمت لأتيتك» وجعل مالك لا ترد عليه مسألة وعبد الله حاضر إلّا قال له : «أجب يا أبا محمد ،» فيجيب ، فيقول مالك للسائل : «هو كما ذكر لك» قال : ثم التفت مالك إلى أصحابه فقال : «هذا فقيه المغرب» ، وكان على هديه وورعه يقول لتحليل النبيذ ويشربه ، ويروى أحاديث فى تحليله ، وكان يرى الخروج على أهل الجور والظلم ، وواعد أصحابه على الخروج ، وكان يتعاهد معهم أن يتوافوا بباب أصرم ، فما وافاه إلا أبو محرز وجم أصحابه ، واتصل ذلك بروح بن حاتم ، فقال له : «بلغنى أنك ترى الخروج علينا؟» قال : «نعم» فتعاظم ذلك روح من قوله وقال له : «فى كم؟» قال : «فى ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا عدة أهل بدر كلهم أفضل منى» ، فقال له روح : «قد أمنّا أن يخرج علينا أبدا لأنّه لا يجد أحدا

١٠٣

مثله ، فكيف هذه العدّة؟» ، وبعث إليه روح يسأله عن دم البراغيث يصيب الثّوب هل ينجّسه؟ فقال : «يا عجبا ، يسألون عن دم البراغيث ولا يسألون عن دماء المسلمين» ، والرسول يسمعه.

قال عبد الله بن وهب المصرى : قدم علينا ابن فرّوخ فى سنة ست وسبعين ومائة بعد أن مات الليث بن سعد ، فرجونا أن يكون لنا عبد الله بن فرّوخ خلفا منه ، فما لبث إلّا يسيرا حتى مات ، فدفنّاه فى مقبرتنا هذه ، وجعلت على نفسى ألا أحضر جنازة إلّا وقفت على قبره ودعوت له ورحمت عليه.

ولاية نصر بن حبيب المهلبى

يقال إن روح بن حاتم كان قى أسن وكبر ، وإذا جلس للناس كثيرا ما يغلبه النّوم من الضّعف ، فكتب أبو العنبر القائد وصاحب البريد إلى هارون الرشيد بضعف روح وكبره ، وإنهما لا يأمنان عليه أن يموت (وإفريقية) ثغر ولا يصلح بغير سلطان ، وقبلنا نصر ابن حبيب وكان على شرطة يزيد بن حاتم ولايته كلها مصر وإفريقية ، وهو محمود السيرة محبّب إلى الناس ، وله سن ومعرفة ، فإن رأى أمير المؤمنين ولايته فى السرّ إن حدث بروح حدث حتى يرى أمير المؤمنين رأيه. فكتب هارون له عهده سرّا ، فلما مات روح فرش لابنه قبيصة الجامع ، فجلس واجتمع الناس للبيعة له ، وكان الفضل بن روح عاملا على الزّاب ، فركب أبو العنبر وصاحب البريد بعهد هارون إلى نصر بن حبيب ، فأوصلاه إليه وسلما عليه ، وركبا إلى المسجد فيمن معهما حتى أتيا قبيصة ، وهو جالس على الفرش ، فأقاماه واقعدا نصرا وأعلما النّاس بأمر نصر ، وقرىء كتاب هارون عليهم فسمعوا وأطاعوا.

فولى نصر سنتين وثلاثة أشهر فعدل وحسنت سيرته ، وكان لم يعد أحد قبله بمثل

١٠٤

عدله ، وكانت ولايته لعشر باقين من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة ، وولىّ أعماله أهل البلد ، وعزل العلاء بن سعيد عن طرابلس بعد أن أقام عليها عشر سنين وتسعة أشهر ، واستعمله على الزّاب ، واستعمل على طرابلس النصر بن سدوس المرادى ، وكان الفضل بن روح لما مات أبوه وصار الأمر إلى نصر خرج إلى هارون فولّاه إفريقية ، فرجع إليها.

ولاية الفضل بن روح بن حاتم

لنا ولّاه الرشيد كتب بعزل نصر إلى إفريقية وأن يقوم بأمر إفريقية المهّلب بن يزيد إلى أن يقدم ، وكان قدوم الفضل فى المحرم سنة سبع وسبعين ومائة ، ويقال إنّه لم يل إفريقية أجمل منه ومن أبى العبّاس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب. وروى عمرو بن قدومة قال : ما رأيت مثل ما صنع الناس فى تلقىّ الفضل بن روح واستبشارهم به ، وسرورهم بقدومه ، نصبت له القباب من مسجد أم الأمير إلى دار الإمارة فى رحبة التمر ، فزعموا أن قسطاس النصرانى نصب له قربة ريحان فى طريقه ، وعليها طومار قد كتب فيه بخط غليظ : «إنّا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر» فنظر إليه الفضل فقال : «من فعل هذا؟!» قالوا : قسطاس ، قال : «أحسن والله النصرانى» فلمّا انتهى إلى مسجد أبى فهر نظر إلى زير زجاج معلق ، وفيه ماء وفى الماء حيتان تعوم ، فقال : «من فعل هذا؟!» قالوا : قسطاس ، فقال : «أحسن والله».

وكان قد أمر بعض كتّابه أن يكتب كلّما هيأ له ويلقاه به ، فلمّا نزل عرضت عليه الكتب ، وأتى قسطاس فقال له : «تمنّ» فقال : «يأذن لى فى بناء كنيسة» فأذن له ، فبنى الكنيسة التى يقال لها كنيسة قسطاس. فإن يكن ذلك كما قيل فقد أتى عظيما.

ولما ولى الفضل عزل عمال نصر بن حبيب إلّا أنه أقرّ العلاء بن سعيد على الزّاب ، وولى على طرابلس أبا عيينة الشاعر بن محمد بن أبى عيينة بن المهلّب إلى المشرق ، وكان قدم زائر الابن عمه يزيد بن حاتم ، فولّاه قفصة وقصطيلية ، فيقال إنه جلس يوما مع

١٠٥

أصحابه إذ سقطت من يده جوهرة ، فأخذ بعض جلسائه وأبو عيينة يراه فقال : «يا غلمان ، لا تطلبوها ولا يبيعنّها آخذها بخسا ، فإنّ شراءها عشرون ألف درهم» ، وكان نازلا بالحارثّيين ، فلمّا أراد الخروج إلى طرابلس جاءته جيرته مودّعين ، فقال لهم : «ما معنا دينار ولا درهم ، ولكن ما فى الدّار من طعام وشراب وأثاث ومتاع فهو لكم» ، قال بعضهم : فقمنا فوجدنا خزائن مملوءة من كل شىء فاقتسمناها ، وجاءه وهو على تلك الحال المعروف بأبى حسان الإسكاف فأهدى إليه خفّين ، فقال له : «ما حملك على أن تهدى إلينا ونحن على ما ترى من الحال؟!» فقال : «المودّة لك والأمل فيك بعد اليوم» قال : «ليس يغنى عنك هذا ، ولكن هل لك فى شىء؟» ، ونزع عن نفسه ثوب وشى فدفعه إليه ، فباعه أبو حسان بمائة دينار. قال أبو مالك بن الطّرمّاح بن حكيم ، وكان مقيما بالقيروان : «بعث إلى أبو عيينة المهّلبىّ أن جئنى بديوان الطّرمّاح لأقرأه عليك ، ففعلت فأمر بانتساخه وقرأه علىّ ، وكنت أحضر طعامه وكسانى كسوة نفيسة وأعطانى ثلاثين دينار ، فكان أبو مالك يقول : «والله ما رأيت المال أرقّ ولا أذل مما هو بأيديهم» ، وكانت تونس تعدل بالقيروان فى كثرة العرب والجند الذين كانوا فيها.

وكان أبو جعفر إذا قدم عليه رسول صاحب المغرب يقول : «ما فعلت إحدى القيروانين ـ يريد تونس ـ فلمّا قدم الفضل ولىّ عليها ابن أخيه المغيرة بن بشر بن روح ، وكان غرّا لا تجربة له بالأمور ، فاستخفّ بالجند وسار فيهم بغير سيرة من تقدّمهم ووثق أن عمّه لا يعزله ، هذا مع ما فى قلوبهم على الفضل من أشياء قد أنكروها ، أقلّها استبداده برأيه دونهم ، فاجتمعوا وكتبوا كتابا إلى الفضل يخبرونه بسوء صنيع المغيرة لهم وقبح سيرته فيهم ، فتثاقل الفضل عن جوابهم ، فاجتمعوا وتكلّم ابن الفارسىّ وقال : «إنّ كلّ جماعة ليس لها رئيس يدبّر أمرها ، فهى على شفا جرف مما تطلب ، فانظروا رجلا يدبّر أمركم» قالوا : «صدقت ، فأشر علينا» قال : «فإنى أشير عليكم بالبصير بن الحرب المعروف بالنّجدة ، ولعلّه مع هذا .. ماله ، فإنّه ذو مال» ، قالوا : «من هو (» قال : «عبد الله ابن الجارود ، وهو المعروف بعبدويه ، فأتوا ابن الجارود فقالوا : «قد علمت ما صنع بنا المغيرة وقد كتبنا إلى صاحبه فلم يزل خاذلنا وقد رأينا إخراجه ، وأنت شيخنا وفارسنا

١٠٦

والمنظور إليه ، ونحن نصيّر هذا الأمر إليك قال لهم : «ليس يمنعنى من إجابتكم إلى ما سألتم تقصير فى النّصيحة لكم ، ولكنى أكره أن أعقد فى أعناقكم عقدة ترجعون عنها ، فأكون أنا الدّاعى إلى هلاك نفسه ، ولكنّى أقنع بالعافيّة ما وسعتنى ، فإن وقع أمر كنت فيه كأحدكم ، فقال له محمد بن الفارسى «ما لنا من هذا الأمر بدّ» ، فلمّا رأى القوم فى جدّها قال لهم : «أعطونى من بيعتكم ما أثق به» فقالوا له : «أنفسنا دون نفسك» فأخذ بيعتهم على ما أراد ، ثم انصرفوا إلى المغيرة وهو بدار الإمارة فحصروه بها فبعث إليهم فسألهم : ما الّذى يريدون؟ قالوا : «ترحل عنا وتلحق بصاحبك أنت ومن معك.

وكتب عبدويه : إلى الأمير الفضل من عبد الله بن الجارود ، أما بعد : فإنّا لم نخرج المغيرة إخراج خلاف عن الطاعة ، ولكن لأحداث فيها فساد الدّولة ، فولّ علينا من ترضاه ولا طاعة لك علينا ، والسّلام. «فكتب إليه الفضل بن روح» ، من الفضل بن روح إلى عبدويه بن الجارود ، أما بعد : فإن الله عز وجل يجرى قضاياه فيما أحب الناس أو كرهوا وليس اختيار واليا لو اخترته لكم أو اخترتموه بحائل دون شىء أراد الله عز وجل بلوغه فيكم ، وقد ولّيت عليكم عاملا فإن دفعتموه فهو آية النّكث منكم ، والسلام» وبعث عبد الله بن يزيد المهّلبى عاملا على تونس ، وضم إليه النضر بن حفص وأبا ... والجنيد بن سيّار.

فروى مسعدة بن أبى قديك قال : خرجت مع عبد الله بن محمد بشيعة حتى انتهينا إلى باب المدينة نصب روح اللّواء فاندقّت القناة ، فتطيّر الناس ، ومضى حتى إذا كان مرحلة من تونس تخيّر ابن الجارود عدّة من أصحابه منهم وصّاف ومنصور بن هميان فى جماعة وقال لهم : «اذهبوا حتى تعلموا ما قدم به هذا الرجل وتبعثوا إلىّ بخبره ، ولا تتعرضوا للحرب ما وجدتم سبيلا إلى العافّية» ، فلقوه بالزيتون الذى بالقرب من سبخة تونس فلقوه فقال ابن هميان لأصحابه : «قد علمتم أن الفضل كان يأخذ الرجل منكم فى الأمر الذى ليس عليه فيه مؤنة ، فيقطع يديه ورجليه ، فكيف وقد أخرجتم ابن أخيه وكاشفتموه ، والله ما بعث عاملة ومن بعث معه من القوّاد إلا ليتلطّف بكم لترجعوا عن رأيكم ، فإذا اطمأنت به الدّار مرّ عليكم فلا يبقى منكم أحدا» ، قال وصّاف : «فما رأيك» ، فكأنى انظر إلى ما

١٠٧

تريد ، وإن شئت أعلمتك به» قال : «فخبرنى» قال : «نكون على عدة ثم نلقى القوم كأنّا نسألهم عمّا جاءوا إليه حتى إذا غشيناهم صببنا عيلهم ، فإن أرادوا قتالنا كنّا قد شغلناهم عن كثير من ذلك ، وإن لم يقاتلوا أخذنا عبد الله والقواد الذين معه فصاروا رهائن بأيدينا ، فكنا المخيّرين على الفضل ، فإمّا أجاب إلى ما نحبّ وإما أخرجناه ومن معه وقاتلناهم إن أبوا الخروج فقال له منصور : «والله ما أخطأت ما أردت» فأجمع رأيهم على ذلك ، فأقبل عبد الله بن محمد حتى التقوا بالزيتون ، فلمّا قربوا منه حملوا عليه وعلى أصحابه ، فقتلوه عبد الله وأخذوا القوّاد أسارى ، فلمّا رجعوا إلى ابن الجارود ، فأخبروه بما صنعوا فقال لهم : «ما لهذا بعثتكم ، فأمّا إذ وقع فما رأيكم؟» فأشار بعض أصحابه بما عنده من الرأى ، وقال : «إنّه لم تسأل الفضل واليا ، وأنت تريد قتله قبل أن تعرف رأيه وأنت غائب عن قتل عبد الله ، فأقم وكاتبه ، فإنه يحثّه على موادعتك طلب العافيّة ... الولاية» ، فضحك محمد بن الفارسى فقال له عبدويه : «لم ضحكت ، كأنك لم ترض رأيه؟» ، قال : «أما هو فقد أجهد لك نفسه فى الرأى» قال : «فما ترى أنت؟» قال : «إذا والله أعطيتك الوجه الذى إن ارتكبته ظفرت وإن تركته نكبت» قال : «وما هو؟» قال : «اعلم أن الفضل لن يسلم لك صدره أبدا بعد إخراج ابن أخيه وقتل ابن عمه ، وليس اعتذارك للفضل أنك غبت عن قتل ابن عمّه بالذى يقيم لك العذر عنده ، ولا راحة لك فى سلمه ، وقد قيل فى أمثال كليلة ودمنة : إن الضرس المأكول الفاسد لا راحة لصاحبه دون قلعه ، وكذلك نحن وآل المهّلب ، لا راحة لنا فيهم إلّا بقتلهم أو إخراجهم بالمكائد والحيل» ، فقال له عبدويه : «فتولّ أنت تدبير الرأى ومكالمة الناس ، واكفنى ذلك وأنا أكفيك تدبير الحرب ـ إن شاء الله ـ» فجعل محمد بن الفارسى يكتب إلى كل رجل من وجوه القوّاد يوهمه أنهم يؤمّرونه عليهم وكان فى كتبه : «أما بعد» فإنا نظرنا إلى ما صنع الفضل فى ثغر أمير المؤمنين فى تهاونه بجنده ، واستئثاره عليهم بما لم تكن الولاة تصنعه قبله مع وعورة لفظه لهم وتركه لكتاب أمير المؤمنين فى أرزاقهم وسوء سيرته فيهم ، فيما عهد إليه ، ولم ينفعنا إلّا الخروج عليه لنخرجه عنا ، ونظرنا فلم نجد أحدا هو أولى بنصيحة أمير

١٠٨

١٠٩
١١٠

١١١
١١٢

١١٣
١١٤

١١٥
١١٦

المؤمنين لبعد صيته وعطفه على جنده منك ، فرأينا أن نجعل أنفسنا دونك فإن ظفرنا جعلناك لنا واليا ، وكتبنا إلى أمير المؤمنين نسأله ولايتك ، وإن تكن الأخرى لم يعلم الفضل أنا أردناك ، والسلام.

فكان الكتاب إذا جاء أحدهم قال : «وما علىّ أن اكتفى هذا الأمر» ويطمع فيما كتب إليه به ، فأفسد الكتاب جماعة ، ولم يعالجهم الفضل وأمهلهم إلى أن دبّروا لأنفسهم ، وكتب ابن الجارود وأصحابه إلى باجة ، وبها جند من أهل خراسان يخبرونهم بالأمر الذى دخلوا فيه ، ويزينون لهم الخروج معهم ، فتسرعّ الناس إليه من كل ناحية ، وبلغ ذلك الفضل فكتب إلى عمّاله بالقدوم عليه ، ما خلا صاحب الزاب وهو العلاء بن سعيد ، وصاحب طرابلس ، وهو أبو عيينة ، ونادى فى الجند قال من شهد الأمر : فجعلت ـ يعلم الله ـ أنظر إلى العدّة منهم يأتون فيأخذون أعطيتهم ثم ينشرون السلاح ، ويخرجون إلى ابن الجارود.

وقدم على الفضل سمدون ، وأبو المغيرة ، وأبو عميلة ، فلما دخلوا عليه أمر لكل واحد منهم بخمسمائة درهم ، فبلغ ذلك من بالقيروان من أبناء خراسان فقال بعضهم لبعض : «ويحكم ، كيف ترضون بهذا أن يقوّى الفضل أهل الشام على أبنائنا .. يفعل ذلك بمن هو عبدة منا» ، وكان عمّاله أهل خراسان يقولون : «لا نقاتل معه» ، وولى الفضل محاربة ابن الجارود عبد الله بن يزيد بن حاتم.

وأقبل ابن الجارود على طلائعه فتح ، ووصّاف ، وابن الدّويدى ، وأقبل عبد الله بن يزيد وعلى مقدّمته شبيبة بن حسان وعلى طلائعه فلاح ، فنزلوا قرب طساس ، وجعل عبد الله يتنقّل حتى صار إليهم. ثم التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، فولّت طلائع عبد الله بن الجارود وركبهم الآخرون فقتلوا منهم عدّة ، وكان على ميمنة عبد الله بن يزيد علّى بن هارون الأنصارى وسهل بن حاجب وعامر بن نافع ، وعلى المسيرة الميسرة عمر بن ... ، وشراحيل الأزدى ، فلما رأى سهل بن حاجب غريمه عبد الله بن يزيد فى قتالهم دنا منه ، ثم قال له : «والله إن زلنا نظن أنك سندا لهم وإنك تصانع عبدوية حتى

١١٧

رأينا منك ما دفع الشك عنا فيك ، وليس كلامى لك كلام حقد ولكن نصرة للطّاعة وكراهّية للخلاف ، وهو الذى دعانى إلى قتال من ترى من أهل خراسان ، فلمّا انهزم أصحاب عبدوية ولحقوا به قال لابن الفارسى : «ما هكذا كتب إلينا من كتب من إخواننا!» قال ابن الفارسى : «إنما قاتلك أصحابنا أهل الشام وإنما لقوا طلائعنا بعساكرهم لا تعلم إذا التقينا كيف يصنع الناس».

كان هذا يوم الجمعة ، فلمّا كان يوم الأحد عبأ عبدوية جنده ، وزحف وعبد الله بن يزيد بطساس ، فلمّا تواقفوا ، قال عبدوية لأصحابه : «تهيأوا لحملة واحدة تصدقوا فيها ، فإنّ فى عسكر عبد الله بن يزيد من لو قد نظر إلينا لانهزم باليأس» وهو على ثقة بما قال لهم فانهزم أصحاب عبد الله بن يزيد ، وصبر ناس فأخذ الطاعة من أهل خراسان وأهل الشام ، فلما رأوا أنه لا يثوب إليهم أحد انصرفوا إلى الخندق ، وجعل عبد الله بن يزيد ينادى : «إلىّ إلىّ!» فما أحد رجع إليه ، قال له بعض أصحابه : «إنك والله لو قتلت ها هنا وثب الناس على الفضل فيقتل» ولكن سر على طاويّة بمن معك حتى تسير إلى القيروان ، فتستأنف القتال ، فإن الحرب سجال وقد كانت أول وقعة فانصرف. وقتل هارون الأنصارى فى المعركة وأدركوا أبا الأسود الحمصى فى بعض الطريق ، وقد نزل عن فرسه ، فقتلوه. وسار الناس إلى القيروان وأتبعهم أصحاب عبدوية ، فأقاموا على القيروان إلى المغرب ، ثم انصرفوا إلى منية اخيل.

واجتمع إلى الفضل بنوا عمه وأصحابه فقالوا له : «ما رأيك؟» فقال لهم : «أشيروا علىّ فاختلفوا فى رأيهم ، فمنهم من أشار بالخروج إلى طرابلس والرحيل عن القيروان ، ومنهم من أشار بالقعود واضطرب على الفضل أمره ولم يصح له رأى ، فلمّا أصبح بعث المهلب بن يزيد إلى باب سالم ، وفرّق الناس على ما بقى من الأبواب ، وأقبل عبدوية والفضل فى دار الإمارة مع خالد بن يزيد ، من ولد أبى صفرة ، وعبد الله بن يزيد وجنى بن خداش وجماعة من أهل بيته ، فلما قرب عبدوية من الأبواب سد من كان فى المدينة من

١١٨

الأبناء على من بباب سالم من داخل ، فدفعوهم عنهم ، وفتحوا الباب ، وفتح أيضا باب أبى الربيع ، ودخل أصحاب عبدوية ما يدافعهم أحد ، ونزل عبدوية خارجا من المدينة وبدأ أصحابه بدار عبد الله بن يزيد.

ابن عبدوية قريش القشيرى ، وابن الرّبوذى والهيثم بن الرّبيع وغيرهم ، ثم رحل ابن عبدوية من تونس ودخل مالك بن المنذر ، فأقام بها عشرين يوما ، وكان كثير من أصحاب عبدوية المهزومين قد نصبوا بها ، فقال له أصحابه : «دعنا نتّبعهم» فقال لهم : «إنهم وإن خالفوا فإنهم جند أمير المؤمنين» وأبى أن يأذن لهم ، فلما عرفوا ذلك من رأيه انصرفوا عنه وأغاروا على القرى ، فبقى فى أقل من العّدة التى جاء بها من ميلة وقيل لابن الجارود : إن شئت أن تأخذ ملكا أسيرا فأخرج إليه وقد تفرق الناس عنه ، فخرج إليه وعسكر بطساس ، فلما بلغ الناس أن ابن الجارود عسكر ثابوا ورجعوا إلى مالك حتى صاروا فى ألفى فارس ، وسار ابن الجارود حتى نزل بقربة ، وأقبل مالك بن المنذر فالتقوا واقتتلوا ، فانهزم أصحاب مالك ، فلما رأى ذلك حمل فى نفر من أصحابه ، وهو يقول :

يا موت إنّى مالك بن المنذر

أمسك حسن البيض والسنّور

أقتل من صابر ومن لم يصبر

فقام إليه عبد الله بن الجارود ، وهو يقول :

 .. مالك بن المنذر

إنّى أنا قتلت ربّ المنبر

جرعته كأس حمام أحمر

فاصبر ستلقاه وإن لم تصبر

فلما همّ كلّ واحد منهما أن يلقى صاحبه اعترض رجل من أصحاب الجارود مالك ابن المنذر فصرعه وركبه الناس فقتل ، وقتل معه عدة من أهل بيته ، وانهزم أصحابه حتى صاروا إلى الأربس ، ووجه ابن الجارود حمّاد بن حماد واليا على الأربس فبيّته سمدون

١١٩

وأصحابه فهرب ، ثم كتبوا إلى العلاء بن سعيد ، وهو بالزاب أن يقدم عليهم ، وتهيأوا إلى قتال ابن الجارود ، فأقبل العلاء حتى وصل إلى الأربس واجتمع مع المغيرة وأبى عميلة وسمدون وفلاح فى أهل الشام ، فلمّا بلغ ابن الجارود قدوم علاء قال عند ذلك :

أفى كل يوم ثائر قد قتلته

بفضل ما ينفكّ بالفضل طائر

قضيت لنفسى الّنذر فى قتل مالك

وإنّى لها قتل العلاء بناذر

قال : وجرت بينهما مكاتبات فقال العلاء فى آخر جوابه :

نذرت دمى فانظر إذا ما لقيتنى

على من بكاسيها تدور الدّوائر

ستعلم إن أنشبت فيك مخالبى

إلى أىّ قرن أسلمتك المقادر

قال : وأقبل العلاء إلى القيروان ، فصادف ابن الجارود وقد خرج منها يريد يحيى بن عيسى خليفة هرثمة بن أعين ، وذلك أن الرشيد لما اتصل به وثوب ابن الجارود على الفضل ... إفريقية ، وجّه يقطين بن موسى لمحلة من دعوتهم ومكانه فى دولته ، وكبر سنه وحاله عند أهل خراسان ، وأمره بالتلطّف بابن الجارود وإخراجه من البلاد ، ووجه معه المهلب بن رافع ثم وجه منصور بن زياد ومعه هرثمة بن أعين أميرا ، فأقام ببرقة وقدم يقطين القيروان ، فجرى بينه وبين ابن الجارود كلام كثير ، ودفع إليه كتاب هارون الرشيد فقال ليقطين : قد قرأت كتاب أمير المؤمنين ، وأنا له على السّمع والطاعة ، وليس لأمره دفع ولا بعد أمانه خوف ، وقد أظلنى العلاء بن سعيد وفى كتاب أمير المؤمنين أنه ولى هرثمة بن أعين وهو ببرقة بعدكم يصل ومع العلاء ... الثغر ، وثب البربر فأخذوه ، ثم أخرجوا العلاء منه أو قتلوه ، ولا يدخله وال لأمير المؤمنين أبدا ، فأكون إمام الخلق على هذا الثغر ، ولكن أخرج إلى العلاء فإن ظفر بى فشأنكم بالثغر ، وإن ظفرت به انتظرت قدوم هرثمة بن أعين ، ثم أخرج إلى أمير المؤمنين فاجتمع يقطين مع محمد بن يزيد

١٢٠