الرسالة الثانية لأبى دُلَفْ رحالة القرن العاشر

المؤلف:

أبي دلف


المحقق: بطرس بولغاكوف وأنس خالدوف
المترجم: دكتور محمد منير مرسي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٠٥

١
٢

مقدمة المترجم

هذه هى الرسالة الثانية لأبى دلف عن رحلته فى وسط آسيا وهى تكملة لرسالته الأولى عن رحلته إلى الصين التى قام المستعرب الألمانى «رور صوير» بدراستها عام ١٩٣٩. وعن هذه الرسالة الثانية يقول أبو دلف نفسه :

«ورأيت الآن تجريد رسالة شافية تجمع عامة ما شاهدته وتحيط بأكثر ما عاينته لينتفع به المعتبرون ويتدرب به أولو العزة والطمأنينة ، ويثقف به رأى من عجز عن سياحة الأرض». وتبدأ وقائع الرحلة الثانية من مدينة «الشيز» فى جنوب أذربيجان ، وتمتد لتشمل أماكن كثيرة فى إيران والقوقاز وأرمينيا وخراسان. ومن هنا كانت هذه الرسالة الثانية من المصادر العربية القيمة للتاريخ العام والجغرافى لهذه البلاد. وهى إلى جانب هذا تحتوى على كثير من الأشياء الطريفة والمشاهدات العجيبة والنوادر الغريبة ، وبعضها مما يحير العقول لغرابته أو مما لا تصدقه للامعقوليته.

وقد اقتبس ياقوت فى معجم بلدانه كثيرا من نصوص هذه الرسالة ، وهناك أيضا بعض اقتباسات منها نقلها القزوينى فى «آثار البلاد» و «عجائب المخلوقات».

وقد أضفنا إلى هذه الترجمة العربية شيئين أساسيين ليسا موجودين فى الأصل الروسى المترجم عنه.

٣

أولهما : التوسع فى الكلام عن آل ساسان الذين ينتمى إليهم أبو دلف.

ثانيهما : تفسير بعض المصطلحات العربية الغامضة والتراكيب المعقدة

فى نص الرسالة وأوردناها فى هامش الصفحة.

وإلى جانب هذا أيضا أدخلنا تعديلا على هذه الترجمة فجعلنا الملاحظات الخاصة بالنص فى هامش الصفحة بدلا من وضعها فى آخر الكتاب ، وذلك تسهيلا على القارىء إذا أراد الرجوع إليها. والله ولى التوفيق.

مصر الجديدة فى ٢٦ مارس سنة ١٩٧٠

محمد منير مرسى

٤

كلمة المحرر

إن هذه الطبعة «للرسالة الثانية» لأبى دلف يجب أن تدخل فى نطاق المعلومات العربية عن تاريخ الشعوب السوفيتية وهى الطبعة التى يرجع فضل المبادرة إليها إلى كل من بارتولد وكراتشكوفسكى. وقد كانت هذه الرسالة فى فهرس مخطوطات «مشهد» مع أربعة مؤلفات جغرافية عربية فريدة. وكان كشفها موضع تقدير حقيقى من هذين العالمين عند ما نشرت أول معلومات عنها. ففى سنة ١٩٢٤ أعد بارتولد مقالة وليدوف عن «مخطوط» مشهد «لابن الفقيه» (١) للنشر فى «أخبار المجمع العلمى الروسى». وفى بداية الثلاثينيات بعد موت بارتولد حاول كراتشكوفسكى الحصول على صورة فوتو غرافية لهذا المخطوط الهام. لكن لم يتسن للعلماء السوفيت إمكانية التعرف بمضمون المخطوط مباشرة إلا سنة ١٩٣٥ عند ما انعقد فى ليننجراد المؤتمر الدولى عن الآثار والفنون الإيرانية. وعندها أحضرت صورة فوتو غرافية لمخطوط «مشهد» كهدية للمجمع العلمى السوفيتى من وزارة المعارف العمومية الإيرانية. وبمبادرة من كراتشكوفسكى بدأ العمل بطبع «رسالة ابن فضلان» والجزء التركى من كتاب البلدان لابن الفقيه لكن لم يمتد العمل إلى رحلة أبى دلف حتى حلول عام ١٩٣٦. وقد عبر كراتشكوفسكى عن رغبته فى دراسة وطبع كلتا رسالتى أبى دلف وكانت العلاقة بينهما آنذاك ما زالت غير واضحة.

وقام كراتشكوفسكى بأول دراسة «للرسالة الثانية» لأبى دلف بمناسبة إعداد الإضافات اللازمة لنشر تراجم جوزى من المعجم الجغرافى لياقوت الذى ينسب إلى القوقاز. وأدى اهتمام كراتشكوفسكى إلى اجتذاب كمية هائلة من المعلومات عن

__________________

(١) أخبار المجمع العلمى الروسى «المسلسل السادس» سنة ١٩٢٤ ص ٢٣٧ ـ ٢٤٨.

٥

أذربيجان وأرمينيا وجورجيا أوردها ياقوت نقلا عن أبى دلف. وتتميز هذه المعلومات بالوضوح والتحديد بصورة أكثر من معلومات أبى دلف عن وسط آسيا والصين والهند. وبخظوات عادية طبيعية كبرت رسالتا أبى دلف الموجودتان فى مخطوط مشهد وذلك بمقارنة أحداهما بالأخرى وعلاقتها بالمعلومات فى معجم ياقوت.

وقد مكن وجود النص الكامل للرسالتين من التحقق من ٣٤ اقتباسا إلى جانب ٢٤ أخرى بدون إشارة إلى المصدر. وقد ظهر أن جزءا كبيرا من الرسالة الثانية قد أوردها ياقوت فى معجمه وعرض كراتشكوفسكى نتائج عمله عن الرسالة الثانية لأبى دلف فى مقالتين (١) حلل فيهما الرسالة بل وقوم طريقة استخدام ياقوت لهذه المعلومات. وقد أشار كراتشكوفسكى فى هذا الصدد بطريقة مباشرة إلى عمل مماثل لروزن (٢) بل وفى نفس الاتجاه. وتعرض هذه الأعمال النماذج الرائعة للنقاد اللغويين للمصادر العربية فى العصور الوسطى.

وهنا ينبغى الإشارة عند ذكر دراسة ياقوت إلى مقالة ثالثة لكراتشكوفسكى بعنوان «حول موضوع تحليل الاقتباسات الشعرية فى معجم ياقوت الجغرافى (٣)» وفى ثانى هذه المقالات الثلاثة عبر كراتشكوفسكى عن رأيه فى ضرورة طبع «الرسالة الثانية» وعن رغبته فى أن تكون هذه الطبعة من عمل علمائنا وأن تكون تقليدا للعلوم الروسية التى أعظت فى زمنها العمل القيم لمقالة لغريغوريف

__________________

(١) كراتشكوفسكى : الرسالة الثانية وكراتشكوفسكى : شهر زور.

(٢) و، روزن : عن الطبعة الجديدة لأبن فضلان (١٩٠٢ ـ ١٩٠٣ ، ١٩٠٤) ص ٣٩ ـ ٧٣.

(٣) كراتشكوفسكى : مؤلفات مختارة ج ١ ، ١٩٥٥ ص ٢٧٣ ـ ٧٩.

٦

عن «الرسالة الأولى» لأبى دلف ، مستأنفة أو مجددة بذلك تلك المادة التى تستحق جدير الاهتمام وهى رسالته الثانية (١).

وبدأ العمل لإعداد الرسالة الثانية للطبع سنة ١٩٥٠. وعند ما قارب العمل على الاكتمال علم المؤلفان أن هناك طبعة لهذا العمل صدرت فى انجلترا من إعداد مينورسكى. وبفضل تلطفه وصلت نسخة منها إلى ليننجراد. وعندها كان العمل على طبعتنا هذه قد انتهى وأعدته إدارة معهد الاستشراق للنشر. وبمقارنة الطبعتين وضح أنهما لا يزاوجان بعضهما وبالإضافة إلى هذا لم يكن هناك اتفاق تام فى كل الأحوال مع قراءة مؤلف الطبعة الإنجليزية وقد وجدت أيضا نقط اختلاف خطيرة لا سيما فيما يتعلق بطريقة تناول المخطوط. فمينورسكى يعتبر أن المخطوط يعكس رحلة واحدة لأبى دلف ، لكن مؤلفى هذه الطبعة محتذيين بكراتشكوفسكى يريان فى المخطوط أنه ذكريات عن عدة رحلات ويجدان تأكيدا لذلك فى المعلومات الفقيرة عن حياة أبى دلف. وقد ترتب على هذا اختلاف فى التعليقات : فمينورسكى يحاول على قدر الإمكان أن يصل بالضبط إلى خط سير رحلة أبى دلف ولهذا فإن تصوره وتحققه ظهر أنه مقنع بدرجة كافية ومؤلفا هذه الطبعة قد حددا أنفسهما بالتوضيحات والملاحظات والإضافات لطبعة مينورسكى. هذا مع التحفظ الشديد فى كل التعديلات التى أدخلت على طبعة مينورسكى. وكذلك نقط الخلاف مع قراءته وترجماته و. بلايوف.

__________________

(١) كراتشكوفسكى : الرسالة الثانية ص ٢٩٢.

٧

أبو دلف الرحالة العربى فى القرن العاشر «ورسالته الثانية»

«مؤلف الرسالة الثانية»

إن المعلومات المتعلقة بحياة المؤلف شحيحة ونادرة تماما فى المصادر العربية وقد عرفها العلم من عهد بعيد وفى الفترة الأخيرة عرضت أكثر من مرة فى أعمال رور صوير وكراتشكوفسكى ومينوروسكى (١).

والإسم الكامل للمؤلف هو أبو دلف مسعر بن المهلهل الخزرجى الينبوعى وهو ما يشير إلى أصله العربى. فإذا كان نسبه الأول «الخزرجى» يمكننا من افتراض أنه كان ربيب قبيلة الخزرج فى المدينة وهى التى لعبت دورا كبيرا فى تنظيم الدولة العربية فإن اسمه الينبوعى يشير على ما يبدو إلى مكان مولده فى مدينة ينبع الميناء على ساحل البحر الأحمر.

ومن غير المعروف زمن ومكان مولد ووفاة أبى دلف لكنه عاش بدون شك فى القرن العاشر فى الجزء الشرقى من الخلافة. وقليل من المعلومات عن تاريخ حياته تجمعت من نتف أخبار قلما ترتبط ببعضها. ومن كلمات أبى دلف نفسه أمكن معرفة أنه أوقف نفسه على خدمة قصر حاكم «سمانيد» فى «بخارى» نصر الثانى أحمد (٣٠١ ه‍ / ٣٣١ / ٩١٤ / ٩٤٢) وقرب عام ٣٣١ / ٩٤٢ قام برحلة إلى الصمين والهند وفى ٣٣١ / ٣٤١ ـ ٩٤٢ / ٩٥٢) زار أماكن مختلفة فى إيران فى حماية الوالى على سيستان من قبل أبى جعفر محمد بن أحمد

__________________

(١) كراتشكوفسكى : الرسالة الثانية ص ٢٨٠ ـ ١٨١ ، I ـ Rohr ـ Sauer Des Abu Dul ـ af Bericht ومينورسكى : أبو دلف (EI.NE ,I)

٨

الذى حكم فى عام ٣٣١ / ٣٥٢ / ٩٤٢ ـ ٩٦٣). ويمكن أن يضاف إلى هذا دليل هام للنديم (قتل سنة ٣٨٥ / ٩٩٥) الذى أورده فى الفهرست (انتهى منه فى ٣٧٧ / ٩٨٧) ويتعلق بمعرفته الشخصية ومعلوماته عن أبى دلف (١).

وأخيرا فحسب معلومات وأخبار الثعالبى (٣٥٠ ـ ٤٢٩ / ١٠٣٦١) فى منتخبات أشعاره «يتيمة الدهر» نجد أبا دلف يتردد على قصر الوزير البويهى اسماعيل بن عباد الصاحب (قتل ٣٨٥ / ٩٩٥) (٢). وقد شهر أبو دلف كرحالة وجغرافى وشاعر. ويصفه ابن النديم (٣) «بالجوالة» أى الذى زار بلادا كثيرة. والثعالبى (٤) فى عبارات مشهورة يضفى على أبى دلف طابعا أو صفة مماثلة مؤكدا كلامه ببعض أشعار أبى دلف نفسه :

وقد صارت بلاد الل

ه فى ظعنى وفى حلى

تغايرن بلبثى و

تحاسدنى على رحلى

فما أنزلها إلا

على أنس من الأهل

وتوجد لدى القزوينى تعبيرات أخرى عنه مماثلة لذلك (٥) ويصفه بأنه كان جوالة مشهورا جاب فى مختلف البلاد وشاهد عجائبها.

__________________

(١) كتاب الفهرست hrsg.von G ,Flugel ,Leipzig.١٧٨١ ص ٣٤٦ س ٣٠.

(٢) الثعالبى : يتيمة الدهر ج ٣ ، دمشق ١٣٠٤ / ١٨٨٦ ص ١٧٤ ـ ١٧٥

(٣) الفهرست ج ١ ص ٣٤٦ / س ٣٠.

(٤) الثعالبى : يتيمه الدهر ج ٣ ص ١٧٤ / س ١٧ ـ ١٩.

(٥) القزوينى : آثار البلاد ج ٢ ص ٢٦٧ س ١٣ ـ ١٤.

٩

وكل المصادر تقريبا التى تذكر أبا دلف تصفه بأنه شاعر وفى «يتيمة الدهر» وحدها توجد بعض نماذج أشعاره وهى عبارة عن عدة مقطوعات قصيرة وقصيدة واحدة كبيرة (١). وقد نقل الثعالبى هذه الأشعار عن معاصريه الشيوخ الذين أختلطوا بأبى دلف بصورة مباشرة.

ونفس الثعالبى وهو العلامة الخبير بالشعر يعتبر أبا دلف «شاعرا كثير الملح والظرف مشحوذ المدية فى الجدية» وهو يذكره فى عداد مشاهير عصره من الشعراء الذين اجتمعوا حول شرف ورعاية الصاحب الأديب المعروف (٢).

وقصيدته الرائعة بقافية الراء أتحف بها الصاحب فأعجب بها وأجزل صلته عليها (٣) وإلى جانب القيمة الفنية لهذه القصيدة فانها مهمة كمصدر للمعلومات عن الطابع الشخصى للمؤلف. وتمدح القصيدة نمط حياة «بنى ساسان» (٤) وهم على حد قول «ترويتسكى» قوم من الصعاليك المتسولين. (٥) ومن القصيدة نعرف أن التسول والصعلكة من السمات الأساسية لبنى ساسان ومن الضرورى لهؤلاء القوم أن يتصفوا بالخداع والحيلة والتظاهر وما شابه ذلك من أجل ابتزاز أموال الناس أيا كان وطن المرء أو دينه أو سنه أو جنسه أو حالته ، وفى أى مكان وفى أى ظرف. وهاك على سبيل المثال بعض حيل

__________________

(١) الثعالبى : يتيمة الدهر ج ٣ ص ص ١٧٤ ـ ١٩٤.

(٢) نفس المصدر ص ٣٢ / س ٢١ نفس المرجع ص ١٧٤ / س ١٦ ـ ١٧.

(٣) المرجع السابق ص ١٧٥ / س ٠٧.

(٤) هم قوم من العيارين والشطار لهم حيل ونوادر وقد وضعوا لهم اصطلاحات والفاظا منثورة فى القصيدة الساسانية لأبى دلف.

(٥) أ. ل : ترويتسكى : عن فنانى وموسيقى وسط آسيا (الاستشراق السوفيتى ج ٥ ١٩٤٨ ص ٢٦٠ ـ ٢٦١.

١٠

وأعمال هؤلاء القوم : (١) منهم «المصطبانيون» وهم قوم يزعمون أنهم خرجوا من الروم وتركوا أهاليهم رهائن عندهم فطافوا البلاد ليجمعوا ما يفسكونهم به. ومنهم كل «قنّاء» وهو الذى يقرأ التوراة والانجيل ويوهم أنه كان يهوديا أو نصرانيا فأسلم. ومنهم كل «اسطيل» وكل من سطل أى تعامى وهو بصير. ومنهم «منفذ الطين» وهم قوم يخضبون لحاهم بالحنا ويدعون أنهم شيعة ويحملون السبح والألواح من الطين ويزعمون أنها من قبر الحسين رضى الله عنه. ومنهم فاقة الرزق «وأهل الفال والزجر» أى يتعاطون التنجيم. ومنهم كل «دكاك السفوفات» أى الذى يرقى من القولنج ويكون معه حب مصنوع يحتال حتى يبلعه العليل فيزعم أنه انحل بالرقية. ومنهم من «قرمط» أى يكتب التعاويذ بالدقيق والجليل من الحظ ومن «سرمط» أى كتب ومنهم من حزر ، ومنهم «حافر الطرس» أى الذى يحفر القوالب للتعاويذ فيشتريها منه قوم أميون لا يكتبون. ومنهم «التركوش» أى الذى يتصامم ويقول للأنسان تكلم على هذا الخاتم باسمك واسم أبيك فيسمع ما يقول وينبئه : ومنهم «البركك» أى الذى يقلع الأضراس ويداوى منها. ومنهم معطى «هالك الجزر» أى دواء العين والبصر. ومنهم من يروى الأسانيد ومنهم من «يزرع فى الهادور» أى ينظر فى الفال والزجر والنجوم. ومنهم من بنون نسبة إلى «البانونية» وهم الشطار. ومنهم «الكباجة» أى اللصوص ومنهم من «زنكل» أى احتال فى السلب. ومنهم العشيريون بنو الحملة والكر أى الذين يتثاقفون على دوابهم كالغزاة يكدون ، ومنهم المناكذة أى

__________________

(١) توسعنا فى الكلام هنا عما هو موجود فى الأصل واعتمدنا فى ذلك على القصيدة الرائية لأبى دلف.

١١

الذين يتقاسمون ما يأخذونه من الثياب والسلاح بعلة الغزو ومنهم من «أشرك بالهبر» أى قاسم شركاءه ما يأخذه وهكذا (١).

ومؤلف القصيدة استجاب فى بعض الأحيان لمنقصة «بنى ساسان» وعدم احترامهم عن قصد للدين وطقوسه ورجاله.

وقد استخدم أبو دلف بكثرة فى القصيدة كلمات غامضة من اللغة السرية لآل ساسان وتولى تفسيرها عند ورودها. وكان هو نفسه يجيد هذه اللغة تماما وعلم الصاحب إياها بنجاح (٢). وتجدر الإشارة إلى أن أبا دلف قد أعلن نفسه عضوا فى زمرة هؤلاء القوم (٣) :

وشاهدت أعاجيبا

وألوانا من الدهر

فطابت بالغوى نفسى

على الامساك والفطر

على أنى من القوم ال

بها ليل بنى الغر

بنى ساسان والحامى ال

حمى فى سالف العصر

ولكن بأى درجة من التأكيد يمكن القول بانتساب أبى دلف إلى

__________________

(١) من الممتع أيضا الإشارة إلى التشابه فى الحيل والطرق وعدم الاكتراث والتشاؤم نحو الحياة والناس عند أبى زيد السروجى بطل مقامات بديع الزمان الهمزانى وعند بنى ساسان فى تصور أبى دلف وليس من قبيل الصدقة أن بديع الزمان وهو المعاصر الأصغر منشد أشعار أبى دلف قد أورد بعض هذه الأشعار على لسان بطله وأيضا ألف مقامة خصيصا لآل ساسان ـ الثعالبى يتيمة الدهر ج ٣ ص ١٧٦ / س ٦ ـ ١٠

(٢) المرجع السابق ص ١٧٥ / س ٣ ـ ٤

(٣) المرجع السابق ص ١٧٦ / س ١٨ ـ ٢١

١٢

بنى ساسان؟ فكثير مما فى القصيدة يمكن أن يعزى أو يفسر على أساس التعميمات الفنية والخيال الابتكارى للشاعر. لكن من الصعب أن نرى فى ذلك مجرد طريقة أو أسلوب أدبى. فما تكشفه القصيدة عن الشاعر من معلوماته الرائعة عن حياة ولغة بنى ساسان السرية يشهد على معيشته الطويلة الملتصقة بهؤلاء القوم.

وصلة أبى دلف بمئل هذا الوسط الاجتماعى الخاص الذى تولد عن أقطاع المدن فى العصور الوسطى فى الشرق الأدنى يلقى ضوءا ساطعا على حياة وأعمال هذا الشاعر ويجعل منه أحد الشخصيات الحية لهذه الفترة.

المصنفات الجغرافية «لأبى دلف ودراساتها»

فى كتب الجغرافيا العربية فى العصور الوسطى يمكن بوضوح تتبع انجاهين رئيسين : أحدهما رياضى أو فلكى والثانى وصفى. وأدى تطور هذين الاتجاهين فى الفترة من القرن الثانى عشر إلى الرابع عشر ، إلى ظهور مؤلفات تجميعية ذات طابع موسوعى أو معجمى ومن أشهرها معجم ياقوت الجغرافى (معجم البلدان).

وإلى جانب الأعمال الجغرافية المتخصصة التى ألفها أو جمعها العلماء الجغرافيون توجد مؤلفات ذات طابع وصفى وإليها تنتسب مختلف الرسائل والذكريات للرحالة ، وفيها يتحدثون عن حياة البلاد والمدن التى صادفوها على طريقهم. وفى المؤلفات التى من هذا النوع يغيب عادة الأسلوب المتبع فى كتب الجغرافيا وطرق تأليفها. وكثيرا ما يصادف فيها موضوعات خيالية ومعلومات جمعت بالسماع. لكن إلى جانب هذا تعطى هذه الكتب بعض المعلومات الهامة الصادقة والملاحظات الحية المضبوطة. وأصالة محتوى هذه المؤلفات عزز دورها

١٣

كمصارر للأعمال الجغرافية المتخصصة على غرار معجم ياقوت الجغرافى.

وكثيرا ما نجد تراجم حياة مفقودة وكذلك بعض المؤلفات الأخرى من هذا النوع من المصادر الأولية إلا أنها استمرت تحيا فى نطاق الاقتباسات الكثيرة فى الكتب الأخرى وأحيانا أخرى ظلت فى صورة مجهولة. وفى مثل هذه الحالة الأخيرة تختلط معلومات هذه المصادر بطريقة غير ملحوظة بمواد مؤلف الكتاب وتحت أسماء غريبة غير أسماء أصحابها الأصليين. وفى فترة زمنية أخرى تصبح هذه المواد معروفة للباحتين ، وباكتشاف المؤلفات المفقودة يتضح ذلك الدور الهام الذى لعبته فى العلم.

وإلى عداد هذا النوع من المؤلفات ينتسب وصف رحلة أبى دلف وهى الرحلة التى حفظت بعض قطعها فى معجم ياقوت وكتاب القزوينى «آثار البلاد». وأخبار أبى دلف عن البلاد والشعوب غير الإسلاميه وعن القبائل التركية فى وسط آسيا وعن الصين والهند اقتطعت من تلك الأعمال وأخضعت للبحث والدراسة وكنتيجة لذلك وصل العلماء إلى نتائج عكسية ووضعوا موضوع الشك حقيقة الرحلة نفسها بل وكون مؤلفها أبى دلف (١)

وفى سنة ١٩٢٣ اكتشف فى مدينة مشهد المخطوط الفريد للمؤلفات الجغرافية وأصبح فى متناول العلماء الوصف الأصلى لرحلة أبى دلف. واتضح أن المخطوط عبارة عن مؤلفين اثنين مستقلين إلا أن كلا منهما يرتبط بالآخر (٢)

__________________

(١) مسح الكتب الذى قام به رور ـ صوير وكراتشكوفسكى الرسالة الثانية ص ٢٨١ ـ ٢٨٣.

) Rohr ـ Sauer, Des Abu Dulaf Bericht, S. ٩ ـ ٤١ (

(٢) برو كلمان (GAL Bd I ,S.٦٢٢)

وعلى العموم فإن كل المعلومات الجغرافية عن أبى دلف ترجع إلى مؤلف واحد يعرف لدى برو كلمان باسم «عجائب البلدان» إلا أن فى الجزء الإضافى ـ ـ Erster Supplementband Leiden ,٧٣٦١ ,S.٧٠٤ هذه التسمية لا ترد ولا تذكر

١٤

وعلى ما يبدو يرجع العنوان «رسالة» إلى المؤلف نفسه مع ترتيب رقمى الأولى والثانية.

وفى سنة ١٩٣٩ قام المستعرب الألمانى رور ـ صوير من جديد بترجمة وتحليل «الرسالة الأولى» لأبى دلف عن رحلته فى الصين (١). ووضع موضع الشك ما ذهب إليه بعض العلماء من النفى البات لحقيقة رحلة أبى دلف والمادة الحقيقية فى رسالته وقد سانده كراتشكوفسكى فى ذلك مستعينا ببعض التصورات الاضافية (٢). وبصفة عامة اجمالية فان «الرسالة الأولى» ساد عنها فى العلم فكرة أنها ليست رحلة يومية وأنها جمعت على أغلب الظن فيما بعد بناء على الذاكرة وتضمنت إلى جانب صدقها كثيرا من المعلومات التقريبية غير الواضحة بل وأشياء من صنع الخيال.

أما الرسالة الثانية فقد أصبحت معروفة فى العلم بمقدار ما طبعت به تلك المؤلفات الكبيرة التى احتوت قطعا منها مع الإشارة إلى اسم أبى دلف أو بدون ذكره. وفى سنة ١٨٤٨ قام ويستنفيلد بطبع الجزء الثانى من كتاب القزوينى (٦٠٠ ـ ٦٨٢ / ١٢٠٣ ـ ١٢٨٣) «آثار البلاد» حيث يوجد ٢٤ اقتباسا من «الرسالة الثانية» لكن مع الإشارة إلى أبى دلف فى ٧ حالات فقط (٣). وفى كتاب «عجائب المخلوقات» الذى ظهر بعد عام من ذلك توجد أربعة اقتباسات بدون الاشارة إلى الاسم.

__________________

(١) Rohr ـ Sauer ,Des Abu Dulaf Bericht.

(٢) كراتشكوفسكى : الرسالة الثانية ص ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٣) القزوينى : آثار البلاد ج ٢ اقتباسات مع الاشارة إلى الاسم :

ص ١٣٠ / س ١٣ ـ ١٥. ، ص ١٨٦ / س ١٤ ـ ١٧

١٥

وفى المعجم الجغرافى لياقوت الذى طبعه ف. ويستنفيلد فى ١٨٦٦ ـ ١٨٧٣ أمكن تحديد ٣٤ اقتباسا من «الرسالة الثانية» (١) ، ودراسة كراتشكوفسكى (٢) التى حددت أيضا ٢٤ اقتباسا لا يذكر فيها الاسم قد أوضحت الحجم الكامل لاستخدام ياقوت لهذا المؤلف. وفى ملخص المعجم الجغرافى لياقوت الذى أعده عبد المنعم بن عبد الحكم (مات ١٣٣٩) والذى طبعه «يينبول» فى ١٨٥٢ ـ ١٨٦٤ حفظت هناك أيضا مقتطفات من الرسالة الثانية لكن اسم مؤلفها يذكر أكثر من مرة. (٣)

ونص هذه التصنيفات السابقة للمؤلفين الثلاثة وبالتالى نص أبى دلف استخدم فى عدة ابحاث تتعلق بالجغرافيا التاريخية بصفة رئيسية. أما «الرسالة الثانية» فقد ظلت مدة طويلة بدون أن تلقى اهتماما جديا.

فى بداية الأربعينات أعدت ترجمة مقتطفات من المعجم الجغرافى لياقوت تحتوى على معلومات عن أذربيجان والقوقاز بصفة عامة. وعند تحرير هذه الترجمة استخدم كراتشكوفسكى مخطوط مشهد وتوصل إلى أن جزءا كبيرا من معلومات ياقوت عن القوقاز مقتبسة أو مستعارة من «الرسالة الثانية» لأبى دلف. وقد مكن ذلك كراتشكوفسكى من الفهم الواضح للأماكن الصعبة الغامضة فى نص ياقوت وبالتالى مكنه من تصحيح الترجمة. وبتعمقه فى البحث تمكن

__________________

(١) فى عمل :

F. J. Heer : Die historischen und geographischen Quellen in Jacut, s.

(٢) كراتشكوفسكى : الرسالة الثانية ص ٢٨٧ وملاحظة منقولة على ما يبدو عن ياقوت ج ١ ص ٧٨٤ / س ٢٢ وأيضا ج ٤ ص ٨٥٨ / س ١ ـ ٢.

(٣) Lexicon Geographicum ,ed.T.G.J.Juynboll.I ـ YI

١٦

من تحليل جزء كبير من مضمون «الرسالة الثانية» والمعلومات المتعلقة بمؤلفها وعرض لنتائجه فى المقالة التى أشرنا إليها أكثر من مرة والتى وضعت البداية لدراسة وبحث «الرسالة الثانية» لأبى دلف سواء كان ذلك البحث فى داخل بلادنا أو فى خارجها. وفى سنة ١٩٥٠ أظهر كراتشكوفسكى مرة أخرى فى مقالة له الأهمية الكبرى لمخطوط مشهد بالنسبة لنقد نص ياقوت (١). وفى ١٩٥٠ ـ ١٩٥١ عملت أولى الخطوات لطبع «الرسالة الثانية» : فقد أعدت الصورة الأولية للنص مع ترجمة له وتعليق عليه وقد أكمل هذا العمل فى صورة عمل دبلومى لطلاب شعبة اللغة العربية بكلية الدراسات الشرقية بجامعة ليننجراد كل من بولغا كوف وعبيد اللين وخاليدوف تحت إشراف بلايوف الاستاذ المساعد.

وقد سبق لمينورسكى وهو عالم مشهور أن نشر بعض المؤلفات الأدبية العربية والفارسية وقام بإستخراج ما فى معجم ياقوت الجغرافى من مواد لأبى دلف وذلك من أجل بعض الأبحاث الفرادية والمقالات لدائرة المعارف الإسلامية (٢) وإليه أيضا ترجع مقالتان خاصتان «بالرسالة الثانية» لأبى دلف (٣).

وفى القاهرة عام ١٩٥٥ خرجت إلى النور الطبعة التى أعدها (٤). وقد نفذت

__________________

(١) كراتشكوفسكى : شهر زور

(٢) الجزء الأكبر منها مشار إليه فى الملاحظات.

(٣) و، مينورسكى : الرسالة الثانية لأبى دلف. واسطورتان إيرانيتان

(٤) مينورسكى : أبو دلف (٣١ صفحة نص عربى ١٣٦ صفحة). وقد بعث المؤلف كتابه بناء على طلبنا كهدية لمكتبة شعبة ليننجراد لمعهد الإستشراق السوفيتى وعبر فى خطابه عن اعتذاره لعدم تبادل الاتصال بشأن العمل الآخر المناظر.

١٧

هذه الطبعة بكل الدقة والترتيب التى تتسم بها أعمال مينورسكى العديدة. وإن معرفته الواسعة وخبرة عمله الطويل فى ميدان الجغرافيا التاريخية لقارة آسيا قد مكنه من عمل تعليق قيم. ويتكون هذا العمل ـ على حسب الطريقة العامة المتبعة فى طبع أو نشر الآثار المكتوبة ـ من مقدمة والنص العربى والترجمة والتعليق ثم الدليل. والنص بأكمله والترجمة والتعليق مقسمة إلى ٧٢ فقرة. وهناك كثير من الأخطاء فى النص الإنجليزى وكذلك بعض الأخطاء والكلمات الساقطة فى النص العربى بما يخرج عن الحدود المرعية فى الطباعة.

١٨

الرسالة الثانية لأبى دلف ومكانتها

فى الأدب الجغرافى العربى

إذا كانت «الرسالة الأولى» تتضمن وصف رحلة واحدة معينة فإن الرسالة الثانية على حد تأكيد مؤلفها يجب أن تكون تكملة للأولى «وتجمع عامة ما شاهدته وتحيط بأكثر ما عاينته». (١)

ويرى المؤلف أن الغرض من تأليفه العلم والمنفعة «لينتفع به المعتبرون ويتدرب به أولو العزة والطمأنينة ويثقف به رأى من عجز عن سياحة الأرض» (٢).

والطابع الخلقى أو الروحى هو ما يتميز به كثير من مؤلفات العصور الوسطى لا سيما فى الأدب. وما فى الرسالة الثانية من ترويح فى موضوعها وحيوية فى عرضها وتلون أسلوبها قد قربها إلى الأدب الفنى بمقدار ما كان مؤلفها شاعرا وهذا شىء غير مستغرب.

ويبدو تكوين الرسالة كأنه طريق عدة رحلات يبدأ من مدينة «الشيز» فى جنوب اذربيجان ويمتد فى البداية إلى الشمال حتى مدينة «باكو» ثم إلى «تفليس» ومن هناك عبر «أردبيل» فى شهر زور وفى النهاية يسير بدرجة تقل أو تكبر إلى الشرق عبر كرمسين ـ همدان ـ رى ـ طبرستان ـ قومس ـ طوس ـ ينسابور إلى هيرات ثم بعد وصفها ينتقل أبو دلف إلى معالم أصفهان ومدن خوزستان وعندها ينتهى الكتاب. ومرارا ما يستدعى وصف أبى دلف تعبيرات مثل «ووصلت أو سرت ..» وتسير إلى ... وهكذا.

__________________

(١) انظر نص الرسالة ص ٦

(٢) نفس الصفحة.

١٩

ومن الواضح أن طريقة ترتيب أحداث الرحلة وسرد وقائعها وكذلك تلك التعبيرات الوصفية تبدو كلها أنها مجرد طريقة المؤلف فى الكتابة وعلى حد افتراض كراتشكوفسكى فإنه من الصعب أن نرى فى هذا الترتيب طريقا واضحا محددا للرحلة (١).

وفى نفس الوقت يجب الإشارة إلى أن بعض الأماكن الموصوفة فى «الرسالة» يشك فى أن أبا دلف قد زارها. ومن المحتمل أنه قلما عرف شيئا عن ديلم وخوارزم فهو لم يذكر عنهما معلومات كثيرة تفصيلية واكتقى بذكر وصف عام قصير وهو أمر يتناقض تماما مع حالات وصفه للأماكن التى يعرفها جيدا. وإن الشك فى زيارة أبى دلف شخصيا لبعض المدن والبلاد تستدعيه كلماته التى يعبر بها عن وصف معالم هذه الأمكنة مثل : «يقولون هناك يوجد ..» وبهذا الشكل يمكن استخلاص أن أبا دلف كان يستخدم أحيانا معلومات منقولة عن مصادر ثانوية من مختلف ناقلى الأخبار وبناء على «رسالته الأولى» فإن مثل هذا الأمر ليس بغريب عنه.

وفى الرسالة لا يذكر أحيانا بداية أو نهاية لنقط أو مراكز الرحلة فى الطريق الذى سلكه فيها وإنما مجرد انتقالات ترتبط فيما بينها ارتباطا ضعيفا. فهناك انتقال غير متوقع من معالم ارمينيا العامة الذى سبق وصف مدينة «ارارات» إلى شهر زور بل وأكثر من هذا من نيسابور إلى اصفهان. وهنا يجب أن نضيف أيضا عدم وجود الترتيب الزمنى. فعند وصف حوادث شهر زور يذكر أبو دلف تاريخ ٣٤١ / ٩٥٢ ـ ٥٣ ، ثم بعد ذلك يذكر أنه كان فى «كرمسين» فى عام ٣٤٠ / ٩٥١ ـ ٥٢. وهذا يعزز القول بأن هذا الكتاب

__________________

(١) كراتشكوفسكى : الرسالة الثانية ص ٢٩٢.

٢٠