مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ٢

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٧٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

على ذلك اختلاف الحد والمحدود فى الدلالة ، فإن دلالة الحد أخفى عند تعرف المحدود لاحتياجها إلى استخراج الأجزاء وتمييز ألفاظها الدالة عليها تفصيلا مع العلم بالوضع فى الكل ، وكون الدلالة فى الكل مطابقة. وأجيب بأن المعنى مختلف إجمالا وتفصيلا ، والكلام عند اتحاد المعنى من كل وجه ؛ حتى لا يبقى إلا نفس الدلالة ، فإذا اختلف حينئذ تحقق ما ذكر ، وذلك موجود هنا ، وورد أيضا أن المعنى قد يخفى لنقصان لفظ ويبدو لزيادته مع العلم بوضع جميع الألفاظ. وأجيب بأن المعنى مختلف إن دل المزيد على معنى زائد على ما صرح به ، وإن كان تفسيرا فلعدم العلم بالوضع حينئذ ، وورد أيضا أن ذلك الوضع لا يشترط فيه القطع ، بل الظن كاف ، وهو قابل للشدة والضعف ، فيتأتى الاختلاف فى الوضعية باعتبار ذلك. ويجاب بأن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة باعتبار ظنون المخاطب مما لا ينضبط ولا يرتكب أصلا على أن تصور المعنى الموضوع له اللفظ يحصل مع كل ظن ، ولو كان ضعيفا فلم يختلف الموضوع وضوحا وخفاء ، وإنما اختلف كون ما فهم هل هو كذلك فى الوضع العربى أو لا ، والكلام فى تصور المعنى لا فى تحقق كون ما تصور منه هو الموضوع له أو لا ، فليتأمل.

(ويتأتى) الإيراد المذكور ، وهو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة (ب) الدلالة (العقلية) من تلك الدلالات الثلاث ، وتقدم أن العقلية هى دلالة اللفظ على جزء معناه ، وهى التضمن أو على لازمه وهى الالتزام ، وإنما تأتى إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة بالعقلية (لجواز أن تختلف مراتب اللزوم) أى لزوم الجزء للكل فى التضمن ولزوم اللازم للمزوم فى الالتزام ؛ ولذلك عبر بالزوم ليشمل التضمن والالتزام معا ؛ لأن فى كل منهما لزوم الفهم للفهم ، ولو أراد خصوص دلالة الالتزام لعبر باللازم (فى الوضوح) أى : يجوز أن يكون اللزوم فى مرتبة ، أى فى مادة أوضح منه فى أخرى ، وذلك بسبب كون العلاقة والربط بين المنتقل منه الذى هو الكل أو الملزوم وبين المنتقل إليه الذى هو الجزء أو اللازم خفية ، فتخفى دلالة لفظ المنتقل منه على الجزء المنتقل إليه أو واضحة ، فتظهر ، وسبب الوضوح فى دلالة الالتزام إما كون اللزوم ذهنيا بينا ، تستوى فيه العقول ، وإما قلة الوسائط مع ضميمة الاستعمال العربى

٨١

أو مع ضميمة ظهور القرينة جدا ؛ حتى كأنها المشهود ، وقد يكون الوضوح مع كثرة الوسائط عند ضميمة كثرة الاستعمال وسبب الخفاء ما يوجب الحاجة إلى مزيد التأمل ، وأكثر ما يكون ذلك عند كثرة الوسائط ، أما اختلاف مراتب اللزوم فى دلالة الالتزام بما ذكر من السبب فواضح ؛ لأنه إن استعمل لفظ اللازم لينتقل منه إلى الملزوم فيجوز أن يكون ثم لازم آخر أو أكثر يكون الانتقال منه إلى ذلك الملزوم أخفى من غيره كالوصف بالوجود ، فإن له لوازم : كالوصف بهزال الفصيل ، والوصف بجبن الكلب ، والوصف بكثرة الرماد. وليس الانتقال من هذه اللوازم إلى الملزوم الذى هو الاتصاف بالوجود مستويا ، فإن الانتقال من كثرة الرماد إليه أوضحها لكثرة الاستعمال ، ولو كثرت وسائطه على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ وقد تقدم التمثيل بهذا وإنما صح الانتقال من اللازم إلى الملزوم مع أن اللازم قد يكون أعم من الملزوم ؛ لأن المراد باللازم هنا التابع الفرع ، والمراد بالملزوم المتبوع الذى هو الأصل ، فإن الوصف بالجود عنه تتفرع هذه الأشياء ، فيصح أن يكون هذا الذى سميناه لازما هنا ملزوما ، كما فى المثال ، لا اللازم الأعم ؛ إذ لا ينتقل منه ، وإن استعمل لفظ الملزوم لينتقل منه إلى اللازم فيجوز أن يكون ثم ملزوم آخر أو أكثر أيضا يكون الانتقال منه إلى ذلك اللازم أوضح ، فإن الحرارة لها ملزومات كالشمس والنار والحركة والانتقال من الملزوم ، الذى هو النار ، إليها أوضح ، كما لا يخفى. وأما اختلافها فى دلالة التضمن ؛ فلأن استعمال لفظ الكل لينتقل منه إلى الجزء أقرب من استعماله لينتقل منه إلى جزء جزئه فتكون دلالة اللفظ الموضوع للجزء الذى هو كل باعتبار جزء الجزء أقرب من دلالة لفظ الكل الأول عليه ، مثلا : دلالة الحيوان على الجسمية التى هى جزؤه أقرب من دلالة الإنسان عليه الذى معنى الجسمية جزء جزئه ؛ إذ هى جزء الحيوان والحيوان جزء الإنسان فتكون دلالة الإنسان على الجسمية أخفى من دلالة الحيوان عليه ، وكذا دلالة البيت على التراب أخفى من دلالة الجدار عليه ؛ لأن التراب جزء الجدار والجدار جزء البيت فتكون دلالة الجدار على التراب أوضح من دلالة البيت عليه وورد على ما تقرر فى التضمن من أن الانتقال من الكل إلى الجزء ، ثم إلى جزء الجزء فتكون دلالة لفظ الكل على الجزء

٨٢

أقرب من دلالته على جزء الجزء أن لفظ الكل كالإنسان مثلا إذا سمع وتوجه العقل إلى فهم المراد منه ، فأول ما يفهم منه الأجزاء الأصلية ، ومنها الجسمية ، ثم ينتقل إلى ما يجمع الجسمية مع سائر الأجزاء الأصلية ، وهو ما تكون الجسمية جزءا له ، الذى هو الحيوانية ، إلى ما يجمع تلك الحيوانية مع غيرها ، وهو ما تكون الحيوانية جزءا له ، وهو الإنسانية ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأنه إذا طلب فهم مدلول اللفظ وكان كلا وجب فهم أجزائه أولا ؛ لأن فهم الجزء سابق على فهم الكل ، فعلى هذا تكون دلالة لفظ الإنسان على الجسمية التى هى جزء الجزء أقرب من دلالته على الحيوانية التى هى جزؤه ؛ لأنها كل ، وفهم الجزء سابق على فهم الكل. وأجيب بأن الأمر عند قصدهم ما يراد من اللفظ كذلك ، لكن مقصود أهل الفن من دلالة التضمن أن يفهم الجزء على حدة ، ويلتفت إليه بخصوصه بعد فهم الكل لا فهمه فى ضمن الكل الذى يقتضيه كون الجزء سابقا على فهم الكل ، وإنما قلنا يقتضيه ؛ لأن إدراك الموضوع له أولا متوقف على تصور جميع أجزائه قبل تعريفه ، فإذا خوطب العارف بالوضع والفرض أنه سبق فهم جميع أجزاء الموضوع له فهم المجموع دفعة واحدة ، وفى ضمن ذلك فهم كل جزء ، والدليل على أنهم قصدوا أن يفهم الجزء بعد الكل بأن يلتفت إليه على حدة أنهم قالوا : دلالة التضمن تترتب على المطابقة ، وتنبنى عليها بأن ينتقل من المفهوم مطابقة إلى جزء من أجزائه ، وهذا لا يمكن إلا بما ذكر ، كما لا يخفى ، وغاية ما يعرض أن يقال : كيف يفهم الجزء ثانيا ، وقد فهم أولا فى ضمن الكل ، وأى ثمرة فى ذلك ، وأى انتقال هنالك.

ويجاب بأن هذا الاعتبار يظهر عند قصد إحضار الجزء على حدة لغرض من الأغراض ، فإن فهم الشيء على حدة خلاف فهمه مع الغير ، لا سيما وحضور الكل دون أجزائه ممكن ، كما نص عليه فى الشفاء ، وأنه يجوز أن يحضر النوع دون الجنس الذى هو جزؤه ، فيفتقر إلى الالتفات إليه فتظهر فائدة دلالة التضمن الكائنة بهذا الاعتبار.

وهكذا قررنا هذا المحل وبسطناه بهذا الإطناب ليتضح على عادتنا فى بسط مسائل الشرح والكتاب ، ويلزم عليه أن دلالة التضمن لا تلزم فى الألفاظ الموضوعة للمركبات ضرورة عدم لزوم الالتفات إلى جزء من الأجزاء على حدة لصحة الغفلة عن

٨٣

ذلك الجزء ، وقد نصوا على أن التضمن فى المركبات لازم للمطابقة ، وقد يجاب عن هذا بأن المراد بلزوم التضمن صلاحية اللزوم بمعنى أنه يمكن اللزوم بالالتفات إلى الأجزاء على حدة ، ويلزم عليه أيضا أن يكون ذلك قد يبنى على جواز حضور الكل ، كالنوع دون جزئه الذى هو الجنس ، فتصير دلالة التضمن التزاما ضرورة أن حضور الكل من جميع أوجهه مقتض لحضور جميع الأجزاء ، فإذا لم تحضر جميع الأجزاء فلم يحضر من الكل الأوجه من أوجهه ، فالانتقال منه إلى وجه آخر انتقال من ملزوم إلى لازم فى التحقيق ، وإن كان جزءا لموضوع اللفظ فى الأصل ، وقد تقدم الجواب عن هذا بأن المقصود من التضمن هو فهم الجزء من موضوع اللفظ ، ومما أطلق عليه بأى وجه ، وفيه ضعف ؛ إذ لا يصدق أنه انتقل من الكل إلى الجزء ، بل من جهة الكل فى الجملة إلى الجزء ، وهو خلاف ظاهر الاصطلاح ـ فافهم ـ ثم إن مما يجب أن يعلم هنا أن دلالة التضمن فى هذا الفن ودلالة الالتزام يتعين أن يكون كل منهما مقصودا من اللفظ ، أما فى المجاز فيتعين أن يراد باللفظ نفس الجزء أو اللازم فقط بأن توجد القرينة الصارفة عن إرادة المعنى المطابقى على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ وأما الكناية فيتعين أيضا أن يراد اللازم أو الجزء ، لكن مع صحة إرادة المعنى المطابقى بأن لا توجد قرينة مانعة من إرادته كما يأتى أيضا ، وأما إذا أطلق لفظ الكل أو الملزوم على معنى كل منها ، واتفق أن فهم من الأول جزؤه ومن الثانى لازمه فليس من المجاز ولا من الكناية المبنيين على التضمن والالتزام هنا ، فلا يكون ذلك من التضمن والالتزام المراد فى هذا الفن ، وإنما يكون كذلك عند المناطقة ، وحيث وجب فى التضمن والالتزام هنا قصد الدلالة على الجزء أو اللازم فعند قصد استعمال اللفظ فى أحدهما لا بد أن يلتفت المستعمل إلى التفصيل فى الأجزاء واللوازم ليستعمل فى أيها أراد.

ومعلوم أن أول ما يسبق إليه عند الالتفات إلى أحد أجزاء المعنى ولوازمه الأجزاء القريبة ، وهى الأجزاء الحقيقية دون أجزاء أجزائها واللوازم القريبة ، فإن استعمل اللفظ فى بعضها مع القرينة الصارفة أو مع القرينة المصححة لإرادة الأصل ، وكان ذلك البعض أو اللازم قريبا ، كان انتقال السامع من سماع اللفظ قريبا تبعا لقصد

٨٤

المستعمل ، وإنما قلنا بوجود الانتقال ؛ لأنه كما انتقل المستعمل عند قصد التفصيل وإخراج اللوازم إلى الأقرب فالأقرب بعد تصور الأصل ، كذلك السامع أول ما يحتاج له الأصل باعتبار الدلالة الظاهرية لنفس اللفظ ، ثم يلتفت إلى فهم المراد باعتبار القرينة فيقرب عليه الفهم بقرب المراد ، ويبعد ببعده. فعلى هذا يكون الجواب عما تقدم أن يقال إنما يرد أن فهم الجزء سابق على فهم الكل ، فتكون الدلالة على جزء الجزء أقرب منها على الجزء إن أريد باللفظ معناه فيكون فهمه موقوفا على فهم أجزائه ، وأما إن أريد نفس الأجزاء بعد تحويله من مجموعه فكون الجزء أقرب ما يستعمل فيه اللفظ ، ويفهم منه عند الاستعمال دون جزء الجزء ظاهر ؛ إذ ليس فيه بهذا الاعتبار إلا طلب أقرب الأجزاء وأقرب اللوازم ليستعمل له اللفظ ، ويتبع ذلك سهولة الفهم على السامع ، بمعنى أن انتقال السامع إلى فهم الجزء من لفظ الأصل تبعا لإرادة المستعمل قريب أو طلب أبعدها ، فيتبع ذلك صعوبته على السامع فيصعب ، فليتأمل. فإنه من نفائس هذا المحل ، ويمكن تأويل الجواب السابق بهذا المعنى ، ثم ما ذكرنا فيما تقدم مما يقتضى أن الانتقال فى المفردات فى قولنا : زيد كثير الرماد ، ومهزول الفصيل ، وجبان الكلب ؛ لا ينافى ما تقدم من أن الانتقال لا بد معه من المطابقة لمقتضى الحال التى لا تكون إلا فى النسب التامة ؛ لأن تلك المفردات لا بد معها من نسبة تامة تصح فيها المطابقة ، وينبغى أن يعلم أن من سمى المجاز مطابقة أو الكناية كذلك لا يريد بذلك المطابقة التى تمنع من الاختلاف فى الدلالة ، وهى الأصلية ، كما ذكر المصنف ، وإنما يعنى ما يصح معه ما قررناه من صحة الاختلاف ، ومما ينظر فيه دلالة التركيب على مناسبة الخواص للمقامات : كدلالة اللفظ المؤكد فى مقام الإنكار على مناسبة التأكيد هل هى عقلية أو لا ، والصواب أنها عقلية وإلا لم تفتقر إلى الذوق ، وأنها من باب الكناية ؛ لأن اللفظ لم ينتقل للمناسبة.

(ثم اللفظ المراد به) أى : الذى أريد به (لازم ما) أى لازم المعنى الذى (وضع له) ذلك اللفظ ، وأراد باللازم هنا ما يلزم من وجود الشيء وجوده فى الجملة ليدخل

٨٥

الجزء ؛ لأنه لازم للكل ، كما فى دلالة التضمن ، وغير الجزء وهو اللازم الخارج عن المعنى كما فى دلالة الالتزام.

(إن قامت قرينة) أى : إن وجدت ثم قرينة دالة (على عدم إرادته) أى : على أن المعنى الذى وضع له ذلك اللفظ لم يرد بذلك اللفظ (ف) ذلك اللفظ الذى أريد به اللازم دون الملزم لصرف القرينة (مجاز) أى : يسمى مجازا أخذا من جاز يجوز من الشيء إلى الشيء ؛ لأن ذلك اللفظ جعل مجازا يتجاوز منه إلى ذلك اللازم ، وذلك كقولك : رأيت أسدا بيده سيف. فقولك : بيده سيف ، قرينة دالة على أن الأسد لم يرد به ما وضع له ، وإنما أريد به لازمه المشهور ، وهو الشجاع ، وظاهره أن المجاز يراد به اللازم دائما ، وفيه بحث ؛ لأنه قد يكون اسم الجزء ويراد به الكل على ما سيأتى ، فإن مجاز الاستعارة التحقيقية والمكنى عنها لا تردان إلى اللازم إلا بتكلف ، فإن الأسد أريد به الرجل الشجاع والمنية فى قول القائل : أنشبت المنية أظفارها بفلان ؛ أريد بها الأسد ادعاء ، وليس الرجل الشجاع لازما للأسد الحقيقى ، ولا الأسد الادعائى لازما لمدلول المنية ، وإنما يردان إلى اللازم باعتبار مطلق الجراءة فى الأول ومطلق اغتيال النفوس فى الثانى ، وهو تكلف مخرج للكلام عما تحقق فيه وتقرر من أن كلا من اللفظين له معنيان متعارف وغيره على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ ثم لا يخفى كما بيناه أن وجود دلالة التضمن والالتزام فى المجاز الذى تقرر فيه ما بنى عليهما من وجود الخفاء والوضوح ليستا على معناهما المعلوم ، وهو أن يفهم من اللفظ جزء معناه أو لازمه فى ضمن إرادة الكل أو الملزوم ، ولكن هما كانتا منشأ استعمال المجاز ؛ وإنما قلنا ليستا كذلك ؛ لأن اللفظ الآن أريد به نفس الجزء أو اللازم ، واختلاف الدلالة فيه تقدم وجهها ، حيث أشرنا لهذا المعنى فيما مر ليتقرر فى الأذهان (وإلا) تقم قرينة على عدم إرادة ما وضع له بأن صح إرادة ما وضع له مع إرادة اللازم (ف) ذلك اللفظ المراد به اللازم مع صحة إرادة بالملزوم الذى وضع له اللفظ (كناية) أى : يسمى كناية من كنى عنه بكذا إذا لم يصرح باسمه ؛ لأنه لم يصرح باسم اللازم مع إرادته وقد تقدم أن اللازم هنا يشمل الجزء واللازم الخارج ، وذلك كقولك : فلان طويل النجاد ، مرادا به لازم طول النجاد ، وهو

٨٦

طول القامة ، فإنه كناية ؛ إذ لا قرينة تمنع من إرادة طول النجاد مع طول القامة ، وقد تبين من كلام المصنف أنه سوى بين المجاز والكناية فى أن الانتقال فى كليهما فى الملزوم إلى اللازم وإنما فرق بينهما بوجود القرينة الصارفة فى المجاز عن إرادة الملزوم وعدم وجودها فى الكناية ، وعند السكاكى أن الانتقال فى الكناية من اللازم إلى الملزوم ، والمصنف يرى ـ كما يأتى ـ أن اللازم من حيث إنه لازم يجوز أن يكون أعم ، فلا ينتقل منه إلى الملزوم ، إذ لا إشعار للأعم بالأخص ، وقد تقدم ما يفيد الجواب عن السكاكى ، وأن اللازم إنما ينتقل منه لا من حيث إنه لازم ، بل من حيث إنه ملزوم ، وإنما سماه لازما من حيث إنه تابع مستند إلى الغير ، وإلا فهو ملزوم من جهة المعنى ، ومما يقع فيه الالتباس الفرق بين الكناية وبين اللفظ الذى أريد به معناه الأصلى ليفهم به بعض لوازم معناه تضمنا والتزاما ، فإنه حقيقة قطعا ، والكناية عند المصنف ليست حقيقة ولا مجازا ، وعلى تقدير كونها حقيقة فمن الجائز أن يراد باللفظ حقيقته ، ويقصد مع ذلك إفهام ما يفهم منه ، كما يقول المناطقة فى دلالة التضمن والالتزام على وجه الكناية. وقد أجيب بأن الفرق بينهما أن الكناية إنما المقصود بها بالذات اللازم وإرادة الملزوم تبع ، والحقيقة إنما المقصود بها الملزوم وإرادة اللازم تبع ، ولو قال قائل بأنه كلما أريد اللازم مع الملزوم كان كناية ، وإنما يكون حقيقة إذا لم يرد اللازم فهم اتفاقا ما بعد ، لكن يعكر عليه ما ذكر بعض الفضلاء من أنك إذا قلت : وجهه كالبدر مثلا : فمدلوله المطابقى أن الوجه يشبه البدر فى الاستدارة والاستنارة ، وهو المراد مع إرادة لازم ذلك ، وهو أنه نهاية فى الحسن ، وليس من الكناية فى شيء ، ولصحة أن يراد فى التشبيه المعنى المطابقى وهو اتصاف المشبه بوجه الشبه على وجه الكمال أو لازمه صح وجود الخفاء والوضوح فيه مع أنه ليس من الكناية ولا من المجاز ، بل من المطابقة اتفاقا ، وعلى هذا ينبغى أن يجعل من الحقيقة أيضا فهم خواص التراكيب ومناسبتها لمقتضى الحال الذى تقدم التنبيه عليه ، فلا يكون من المجاز ولا من الكناية أيضا ، وكل ذلك مما يقدح فى حصر وجود دلالة الخفاء والوضوح فى التضمن والالتزام اللتين هما العقليتان وأصل للمجاز والكناية دون المطابقة تأمل ، ثم لما أراد الشروع فى أبواب الفن وهى

٨٧

ثلاثة أراد أن يبين وجه ترتيبها وضعا ووجه كونها ثلاثة فقال : (و) لما تبين أن الإيراد المذكور الذى هو مرجع هذا الفن إنما يتأتى بالدلالة العقلية المنحصرة هنا فى دلالة المجاز والكناية انحصر المقصود من هذا الفن فى المجاز والكناية فهما مستويان فى الوصف بالقصد ، ولكن (قدم المجاز عليها) أى : على الكناية وضعا ؛ (لأن معناه) أى : لأن معنى المجاز (كجزء معناه) أى : كجزء معنى الكناية ؛ وذلك لأن معنى المجاز على ما تقدم هو اللازم فقط من حيث ذاته لا من حيث الإشعار بوصفه باللزوم ، وقد تقدم التمثيل له بما نبين به ما ذكر ، ومعنى الكناية يجوز أن يكون هو اللازم والملزوم معا من حيث ذاتهما أيضا ، ولو كان القصد الأصلى فيها اللازم على ما قررنا آنفا ، وإذا كان معناه كالجزء من معناها ، فالجزء مقدم طبعا على الكل لتوقف الكل على الجزء فى الوجود ، بمعنى أنه لا يوجد الكل إلا مع وجود طبيعة الجزء لا على وجه التأثير كتوقف المعلول على العلة ، والجزء يجوز أن يوجد بدون الكل لصحة كونه أعم ، ولما توقف الكل على الجزء بالوجه المذكور حكم العقل بأن الجزء من شأنه أن يتقدم فى نفس الأمر على الكل ، وذلك هو معنى التقدم الطبيعى ، أى من جهة الذات ونفس الحقيقية التى هى الطبيعة لتركب الكل من حقيقة الجزء وطبيعته بخلاف تقدم العلة بلا تأثير ؛ فلا يسمى تقدمها طبيعيا بهذا الاعتبار ناسب أن يقدم وضعا محاكاة للطبع بالوضع ، ولم يقل معناه نفس جزء معناها جزما ؛ لأن الكناية لا يراد بها اللازم والملزوم على وجه الجزم ، وإنما المجزوم به فيها إرادة اللازم ، وأما الملزوم فيجوز أن يراد لا أنه أريد قطعا ؛ ولذلك قلنا : يجوز أن يكون معناها اللازم والملزوم معا ، ولم يعتبر وقوع هذا الجائز فى بعض الأحيان حتى يكون جزء حقيقة ؛ لأن الكناية من حيث هى كناية لا تقتضى إرادتهما ؛ فلم يعتبر ما يعرض من وقوع ذلك الجائز ، ثم أشار إلى وجه زيادة باب آخر ثالث وإلى وجه تقديمه على البابين ، فقال : (ثم) لما انحصر المقصود من هذا الفن فى بابا المجاز والكناية ، قد استحق المجاز التقديم وضعا لما ذكر ، وكان (منه) أى : من المجاز (ما يبنى على التشبيه) وهو الاستعارة بقسميها ، أعنى

٨٨

التحقيقية والمكنى عنها ، ويأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ تفسيرهما ، وذلك لأن استعارة اللفظ إنما تكون بعد المبالغة فى التشبيه وإدخال المشبه فى جنس المشبه به.

وجب ضم التشبيه لهذا الفن لنوقف باب منه عليه ، (فتعين التعرض له) أى : للتشبيه المتوقف عليه على أنه باب زائد على البابين قبل التعرض للمجاز ؛ لأن المتوقف عليه متقدم على المتوقف طبعا إن لم يكن للتأثير كما تقدم فى توقف الكل على الجزء ، وإنما قدم على جميع المجاز مع أن المتوقف على التشبيه قسم منه ، وهو الاستعارة لينضم غير المتوقف ، وهو المجاز المرسل ، لما يشاكله فى المجاز ، ولما توقف قسم منه وهو ملابس للقسم الآخر صار توقفه كتوقف القسم الآخر ، نعم يرد أن يقال التشبيه على هذا ليس من مقاصد الفن بل من وسائله ؛ فكيف عد بابا ، ولم لم يجعل مقدمة للمجاز ، فإن التوقف عليه الموجب للتعرض له لا يوجب جعله بابا مستقلا.

والجواب أن كثرة أبحاثه وجموع فوائده أوجب جعله بابا مستقلا ، وعلى هذا فهو مقدمة فى المعنى ؛ وإنما جعل بابا تشبيها له بالمقصود فى كثرة الأبحاث ، وقيل : إنه باب مستقل لذاته ؛ لأن الاختلاف فى وضوح الدلالة وخفائها موجود فيه كما تقدم فهو من هذا الفن قصدا ، ولو توقف عليه بعض أبوابه ؛ لأن توقف بعض الأبواب على بعض لا يوجب كون المتوقف مقدمة للفن وعروض وجه تقديمه على المجاز بمثل ما قرر فى تقديم المجاز على الكناية ؛ لأن التشبيه مشتمل على الطرفين معا ، والاستعارة معناها أحد الطرفين فهى له كالجزء من الكل ، لكن رجحت فى التقديم علة التوقف ؛ لأنها أنفع فى الإدراك والتعليل الآخر مناسبة تمليحية فقط ، (فقد انحصر) علم البيان على ما ذكرنا (فى) الأبواب (الثلاثة) لانحصار المقصود منه على ما يتوقف عليه البعض منه فيها ، وهى : التشبيه ، والمجاز ، والكناية وقيل : إنها أربعة : الاستعارة ، والتشبيه الذى تتوقف هى عليه وجرت له كالجزء ، والمجاز المرسل ، والكناية التى جرت لها المرسل كالجزء من الكل ، والخطب فى مثل هذا سهل ، وبالله تعالى التوفيق.

٨٩

التشبيه

الخلاف فى الإظهار أقوى من إرادته فى الإضمار ؛ ولذلك أعاد التشبيه بلفظ الإظهار (الدلالة) أى : التشبيه هو الدلالة ، وهى فى الأصل مأخوذة من دللته على كذا إذا هديته له وأريته إياه ، ومنه الدلالة على الطريق ، والمراد به هنا أن يأتى المتكلم بما يدل (على مشاركة أمر لأمر فى معنى) ، الأمر الأول المشبه ، والأمر الثانى المشبه به ، والمعنى هو وجه الشبه ، كقولك : زيد كالأسد فى الشجاعة ، فقد دللت على مشاركة زيد للأسد فى الشجاعة ، وبهذا التفسير تكون وصفا للمتكلم ، وتطابق التشبيه الذى هو وصف المتكلم ، وهذا الذى فسر به التشبيه يشمل بظاهره ، مثل قول القائل : قاتل زيد عمرا ، وجاء زيد وعمرو ، فإن الأول يدل على مشاركة زيد عمرا فى المقاتلة ، والثانى يدل على مشاركته إياه فى المجيء ، ولكن إنما يشمل نحو المثالين إن لم نشترط فى الدلالة بالصراحة والقصد ، وهو الظاهر ؛ لأن دلالة اللزوم معتبرة والقصد غير مشروط على الأصح فى الدلالة مطلقا ، وإلا لم يشملها ؛ لأن مدلول الأول صراحة وجود المقاتلة من زيد وتعلقها بعمرو ، ويلزم من ذلك مشاركتهما فيها ، ومدلول الثانى صراحة وجود المجيء لزيد ووجوده لعمرو ، ويلزم من ذلك أيضا مشاركتهما فى المجيء ، والمتكلم قد يقصد وقوع المقاتلة من زيد وتعلقها بعمرو غافلا من مشاركتهما فيها ، وقد يقصد وقوع المجيء من كل واحد منهما غافلا عن المشاركة فيه أيضا ، ولو كانت المشاركة لازمة لكلا مدلولى التركيبين فعلى شرط كون الدلالة صريحة لا يشملها ، وكذا على شرط قصدنا ، والغرض غفلته عنها ، فإن قصدها على هذا التزمنا كونهما تشبيها فلا يرد الاعتراض ، ولأجل ورود الاعتراض بشمول نحو المثالين مع أنهما ليسا منه بناء على ما تقدم زاد فى التعريف لإخراج ذلك بكاف ونحوها ، إذ لم توجد فيهما ، وقد يدعى خروج نحو المثالين بما تقرر فيما يأتى من أن المعنى المشترك فيه فى التشبيه يجب أن يكون له نوع خصوصية ، والمجيء والتقاتل ليسا كذلك لعمومهما ، ولكن شرط الخصوصية فى الوجه إنما هو فى حسن التشبيه لا فى مطلقه ، على أن الاتكال فى التعريف على أمر خارج عنه ليس من دأب التعريف ، فالجواب هو ما تقدم ، ثم التشبيه المفسر بما ذكر هو

٩٠

مطلق التشبيه الشامل للاستعارة والتجريد ، كما تقدم ، وليس ذلك مرادا فى الاصطلاح ، (و) إنما (المراد) بالتشبيه فى الاصطلاح (ههنا) يعنى فى علم البيان (ما) أى : الدلالة على المشاركة المذكورة بشرط أن معنى تلك الدلالة المفادة بالكلام (لم تكن على وجه الاستعارة التحقيقية) ، فإن كان معنى تلك الدلالة على وجه الاستعارة المذكورة بأن يطوى ذكر المشبه ، ويذكر لفظ المشبه به مع قرينة دلت على إرادة المشبه بذلك اللفظ لم يكن تشبيها فى الاصطلاح ، وذلك كقولك : رأيت أسدا فى الحمام ، (ولا) كان (على وجه الاستعارة بالكناية) ، وهى عند المصنف إضمار التشبيه فى النفس ، وعند غيره نفس لفظ المشبه المستعمل فى المشبه به ادعاء ، وعلى الأول يكون التمثيل لها بقول القائل : أنشبت المنية أظفارها بفلان ، تمثيلا لما تستفاد منه ، وعلى الثانى يكون تمثيلا لما وجدت فيه ، (ولا) كان (على وجه التجريد) المذكور فى علم البديع ، وهو أن يبالغ فى تشبيه الشيء ، حتى يصير المشبه بحيث يكون أصلا تتفرع عنه وتنفصل عنه وبسببه أفراد المشبه به كقولك : لقيت بزيد أسدا ، ولقينى منه أسد ؛ وإنما خرجت هذه الثلاثة ، أعنى الاستعارة التحقيقية والمكنى عنها والتجريد مع اشتمالها كما يظهر من معناها ؛ نظرا لأصله على مشاركة أمر لأمر فى وجه ؛ لأنه لا يسمى تشبيها فى الاصطلاح إلا ما كان بالأداة لفظا أو تقديرا كما تقدم ، وسيشير إليه ، وقيد الاستعارة بالتحقيقية والمكنى عنها لنخرج التخييلية ؛ لأنها حقيقة عند المصنف ، فلفظ الأظفار مثلا عند المصنف التى أثبتها تخييل أريد به معناه حقيقة وليس مجازا أصلا ، وإنما التجوز فى نسبتها إلى المنية على ما يأتى ، ومثلنا للتجريد بما يكون فيه تجريد المشبه به من المشبه ليخرج ما فيه تجريد الشيء من نفسه كقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(١) فلا يقدر فيه التشبيه وإخراج التجريد إنما هو بناء على أنه لا يسمى تشبيها اصطلاحا ، وهو الأقرب ؛ إذ لم يذكر فيه الطرفان على وجه ينبئ عن التشبيه ، وقيل : إنه تشبيه حقيقة لذكر الطرفين ، فيمكن التحويل فيهما إلى هيئة التشبيه لو لا قصد التجريد ، وعليه فلا يحتاج لإخراجه ، فالتشبيه الاصطلاحى على هذا هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى لا على وجه

__________________

(١) فصلت : ٢٨.

٩١

الاستعارة التحقيقية والمكنى عنها والتجريد ، وذلك بأن يكون بالكاف ونحوها لفظا أو تقديرا ، (فدخل فيه) ما ذكرت فيه أداة التشبيه من الكاف ونحوها ، كقولك : زيد كالأسد ، أو مثله ، ودخل فيه ما لم تذكر فيه أداة التشبيه ، وذلك (نحو قولنا : زيد أسد) بخلاف تلك الأداة ، لكن مع ذكر الطرفين معا ، (و) دخل فيه ما حذف فيه الأداة والمشبه نحو : (قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)(١)) فقد حذفت فيه الأداة والمشبه معا ؛ إذ الأصل : هم كصم الخ ، فحذف" هم" الذى هو المشبه والكاف ، وهذا بناء على أن ما حذفت فيه الأداة من التشبيه البليغ ، وهو مذهب المحققين ؛ لأن التركيب يشعر بالتشبيه ، إذ لا يصح الحمل إلا بتقدير الأداة ؛ وأنه ليس من الاستعارة ؛ إذ الاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له بالكلية ، ويجعل الكلام الذى حذف فيه لفظ المستعار له خاليا عن ذكر المستعار له صالحا لأن يراد به المنقول عنه ، وهو المستعار منه ، دون المنقول إليه ، وهو المستعار له لو لا القرينة الحالية ، كقولنا : رأيت الأسد الآن فى موضع لا يرى فيه الأسد الحقيقى ، فإن هذا الكلام لو لا القرينة الحالية وجب حمل الأسد على ما تتعين إرادته على الراجح ، وهو الأسد الحقيقى أو قرينة الفحوى ، وهى القرينة اللفظية كقولنا : رأيت أسدا فى يده سيف ، فلو لا فى يده سيف تعينت إرادة ما يحمل عليه اللفظ وهو الأسد الحقيقى ؛ وإنما سميت فحوى ؛ لأن الفحوى فى الأصل ما يفهم من الكلام على وجه القوة ، والذى يفهم من القرينة اللفظية فهم من بعض أجزاء الكلام على وجه القوة ؛ وإنما قلنا : صالحا لأن يراد المنقول عنه دون المنقول له ، ولم نقل : صالحا لأن يراد هذا أو هذا ؛ لأن إرادة المنقول له ـ ولو صح عقلا أو نقلا باعتبار قصد الإفهام بناء على جواز المجاز بلا قرينة ـ خارجة عن الإرادة المعتبرة على الراجح ، فبنينا الكلام على الراجح ، وأما إذا بنينا على أن ما حذفت فيه الأداة كقولك : زيد أسد من الاستعارة بناء على أن حمل الأسدية على زيد لا يصح إلا بإدخاله فى جنس الأسد المعلوم ، كما فى الاستعارة ، فلا يدخل فى التشبيه وهو ظاهر.

__________________

(١) البقرة : ١٨.

٩٢

أركان التشبيه

(والنظر) أى : البحث (ههنا) أعنى فى هذا الباب الذى هو باب التشبيه المصطلح عليه (فى أركانه) أى : فى أركان التشبيه المصطلح عليه ، إذ هو له كما تقدم ، وإطلاق النظر على البحث توسعا واضح ؛ لأن البحث إنما يقع عن النظر والتأمل فى أحوال المنظور فيه ، ويحتمل أن يراد بالنظر معناه لاستلزامه البحث فى المنظور فيه إذا أريد بالنظر توجيه العقل لأحوال المنظور ، وأريد بالبحث إثبات ما اقتضى النظر إثباته ، ونفى ما اقتضى نفيه ، وأما إن أريد بالبحث التأمل فى أحواله اتحد هو والنظر حينئذ ، (و) الأركان هى المقصود بالتأمل هنا (هى) أربعة : اثنان من تلك الأربعة (طرفاه) وهما المشبه والمتشبه به ، (و) ثالثها (وجهه) وهو المشترك الجامع بين الطرفين ، (و) رابعها (أداته) الدالة على التشبيه كالكاف وشبهه ، (و) النظر أيضا إنما هو زيادة على النظر فى الأركان (فى الغرض منه) الحامل على إيجاده ، (وفى أقسامه) أى أقسام التشبيه الحاصلة بكونه تشبيه مفرد بمفرد أو مركب بمفرد أو مركب بمركب ، وبكونه ملفوفا أو مجموعا أو مفروقا أو بغير ذلك ، والأقرب أن المراد بالطرفين وبالوجه معنى كل واحد منهما لا اللفظ الدال عليه ؛ لأن المشترك فيه فى الحقيقة هو معنى الجامع لا لفظه والمشتركان فيه هما معنيا الطرفين لا لفظهما ، وأما الأداة فالأقرب أن المراد بها اللفظ بدليل التمثيل بالكاف وشبهها ، ويردها هنا أن يقال : لم سمى هذه الأربعة أركانا للتشبيه ، وركن الشيء جزء حقيقته ، وليست هذه الأشياء أجزاء حقيقة التشبيه ضرورة أن معنى المشبه والمشبه به اللذين هما مثلا ذات زيد والأسد فى قولنا : زيد كالأسد فى الشجاعة ليس نفس التشبيه ، بل متعلقان له ؛ لأن الجزء الداخل فى الماهية لا بد أن يصدق عليها ، وكذا الوجه الذى هو الشجاعة فى المثال والأداة التى هى الكاف ؛ إذ لا يخفى أن واحدا لا يصدق على التشبيه ، وأما ذكر هذه الأشياء فى تعريفه فليس على وجه كونها أجزاء المعرف ، بل ذكرها لتقييد المعرف به بها ، نظير ذلك البصر فى تعريف العمى ؛ حيث يقال : هو عدم البصر عما من شأنه الإبصار ، فالبصر للتقييد لا جزء للعمى ؛ إذ ليس هو عدم وبصر ، ونظيره قولهم فى البيع : هو نقل ملك المعقود عليه لأحد المتعاقدين عوضا

٩٣

عن نقل ملك مقابله للآخر ، فليست هذه أجزاء حقيقة البيع ، ولو كانت تسمى أركانا تجوزا أيضا ، فيرد عليها ما ورد على هذا ، ولا يقال : لم لا تكون أجزاء مادية كاليد والرجل من الإنسان فتكون أركانا باعتبار أنها أجزاء أفراد الحقيقة ، وذلك أن الأفراد الخارجية للتشبيه لا تخلو من هذه الأجزاء كما لا تخلو أفراد حقيقة الإنسان من الأجزاء المادية من يد ورجل ورأس وغير ذلك من مشخصات حقيقة الإنسان ؛ لأنا نقول : فرد التشبيه الخارجى الذى هو الدلالة الواقعة من هذا الشخص الخاص مثلا ليست هذه أجزاءه المادية ، بل متعلقاته كحقيقته ، وعلى تقدير تسليمه ، فالذى توقف عليه الوقوع الخارجى هو الألفاظ ، وقد تقدم أن المراد بالأركان المعانى إلا فى الأداة نعم يمكن جعلها أجزاء مادية إن أطلق التشبيه على نفس الكلام ، وأريد بالأركان الألفاظ ، ولكن المعرف هو المعنى كما دل عليه ما تقدم.

وأجيب عن هذا البحث بتسليمه وأن تسميتها أركانا توسع باعتبار ذكرها فى تعريفه وإن لم تذكر على أنها أجزاء المعرف ، بل على أنها متعلقة له لتقييده بها ، فأشبهت حيث توقف التعريف عليها أجزاء المحدود الصادقة عليه أو باعتبار أن التشبيه قد يطلق على نفس الكلام المشتمل على ألفاظ هذه الأركان ، فلما كانت تلك الألفاظ أجزاء الكلام المادية له فصارت لتوقف المفرد عليها فى الوجود كما توقف الفهم عليها باعتبار التعلق كالأركان للحقيقة العقلية التى تصدق عليها سميت أركانا للتشبيه الصادق على الكلام فى الجملة ، وقد تقدمت الإشارة إلى معنى هذا الوجه فى أثناء البحث فليتأمل.

طرفا التشبيه

ولما كان الطرفان من هذه الأركان هما الأصل والعمدة لقوتهما فى التركيب وفى الخارج ، أما قوتهما على الوجه فلأنهما معروضان للوجه القائم بهما ، والمعروض أقوى من العارض ؛ لأنه موصوف والوصف تابعه ؛ ولأنه لا بد من ذكرهما أو أحدهما بخلاف الوجه ، وأما قوتهما على الأداة فظاهر لأنها آلة لبيان التشبيه ، وكثيرا ما يستغنى عنها فى التركيب ، قدم البحث عنهما فقال : (طرفاه) اللذان هما المشبه والمشبه به ينقسمان إلى أقسام ؛ لأنهما :

٩٤

طرفا التشبيه حسيان

(إما حسيان) كأن يدركا بإحدى الحواس الخمس ، وهى : البصر ، والسمع ، والشم ، والذوق ، واللمس ، وسيأتى مقابل هذا ، ثم شرع فى تقسيم الحسيين فقال : فالمحسوسات بحاسة البصر (كالخد والورد) ؛ حيث شبه الأول بالثانى فى الحمرة ، والمراد بكون حقيقة الخد وحقيقة الورد حسيين أن جزئيات كل منهما محسوسة ، وكذا ما سواهما ، وهذا على مذهب المتكلمين من أن الأجرام تدرك بحاسة البصر ، وادعى فيه بعض المحققين الضرورة ، وأما على مذهب الحكماء من أن المدرك هو اللون فكونهما حسيين باعتبار ما جرى عليه اللسان عرفا ؛ حيث يقال : أبصرت الخد والورد ، فبذلك العرف أطلق عليهما أنهما حسيان ، وعلى كل حال فلا حاجة إلى تقدير اللون لكون محل التشبيه فيهما لحظة تشبيه نفس كل منهما بالآخر ، وانصراف النفس إلى ذلك عند السماع مع إطلاق اللفظ عرفا ، فلا يفتقر إلى التأويل ، (و) المحسوسات بحاسة السمع ك (لصوت الضعيف والهمس) حيث يشبه الأول بالثانى منهما ، والمراد بالضعيف ضعيف مخصوص ، وهو الذى لا يبلغ إلى حد الهمس ، والهمس هو الصوت الذى أخفى حتى لا يكاد يسمع ، فكأنه لم يخرج عن فضاء الفم أى : سعة الفم ووسطه ؛ وإنما قلنا المراد بالضعيف إلخ ؛ لأنه لو أريد مطلق الضعيف الصادق بالهمس لكان من تشبيه الأعم بالأخص ، ولا يصح بدون التعسف ، (و) المحسوسات بحاسة الشم ك (النكهة) ، وهى ريح الفم ، (و) ريح (العنبر) ؛ حيث شبه الأول بالثانى منهما ، وإنما قدرنا ريح العنبر ؛ لأن المشبه به ريح الفم الذى هو النكهة إنما هو ريح العنبر قطعا فى الاستطابة لا نفسه ، كما لا يخفى إذ لو شبه بالعنبر لم يتم إلا باعتبار ريحه جزما ، فيعود إلى ذلك المقدر ، (و) المحسوسات بحاسة الذوق ك (الريق) ، وهو ماء الفم ، (والخمر) حيث شبه الأول بالثانى منهما ، وهو أيضا بناء على أن الجرم المدرك طعمه بالذوق أدركت جرميته وخاصتها بالذوق أيضا ، وإلا فالمدرك بحاسة الذوق إنما هو الطعم ، فإطلاق كون الريق والخمر حسيين مراعاة لما جرى به عرف التخاطب ، ولا حاجة أيضا إلى جعل التشبيه بطعميهما ، فيقدر مضاف إليهما لتمام التشبيه فى أنفسهما مع صحة إطلاق الإحساس

٩٥

عليهما عرفا ، كما تقدم فى الخد والورد ، (و) المحسوسات بحاسة اللمس ك (الجلد الناعم والحرير) ؛ حيث شبه الأول بالثانى ، وهذا بناء أيضا على إدراكهما مع إدراك لينهما باللمس ، وإلا فعند الحكماء إنما يدرك اللين ، فإطلاق الإحساس عليهما نظرا للعرف ، ولا حاجة أيضا إلى تقدير اللين ليقع التشبيه فيه لتمامه فيهما مع صحة الإطلاق عليهما عرفا ، وقد علم مما قررنا أن كون الطرفين حسيين فى غير النكهة على مذهب الحكماء إنما هو على وجه التوسع والإطلاق العرفى ، حيث يقال : أبصرت الورد ، وشممت العنبر ، وذقت الخمر ، ولمست الحرير. وأما على مذهب غيرهم وإياه اعتمد المصنف فالكلام على ظاهره من غير توسع ، وذلك واضح.

طرفا التشبيه عقليان

(أو عقليان) هذا مقابل قوله : إما حسيان يعنى أن الطرفين إما أن يكونا حسيين ، ـ كما تقدم ـ وإما أن يكونا عقليين بأن لا تدرك مفرداتهما بالحس ، بل بالعقل ، وذلك (كالعلم) ، فإنهما ليسا حسيين وإنما يدركان بالعقل ، فإذا قيل العلم كالحياة والجهل كالموت فقد شبه معقول بمعقول ، ووجه الشبه بين الأولين كون كل منهما جهتى إدراك ، وبين الثانيين كونهما ليسا جهة إدراك ، ولا يقال : العلم نفس الإدراك ، فكيف يجعل جهته لأنا نقول المراد بالعلم هنا الملكة وهى حالة بسيطة ، أعنى قوة تحصل من ممارسة فن من الفنون بحيث يكون صاحبها يمكنه إدراك أحكام جزئيات ذلك الفن ، وإحضار أحكامها عند ورودها كالملكة الفقهية فإنها قوة يمكن لعارف أصوله ودلائله أن يعرف حكم أى جزء من جزئياته فيعرف حكم هذا الفعل المخصوص مثلا عند إرادة ذلك الحكم ، وأنه حرام أو مكروه أو مباح أو مندوب ؛ وإنما قلنا : بسيطة ؛ لأنها ليست هيئة حاصلة من عدة أمور لا تتصور إلا باعتبارها ، ولا نسبية يتوقف تعقلها على تعقل غيرها ، ولا شك أن العلم إذا أريد به هذا المعنى كان جهة للإدراك لا نفسه وقد تقدمت الإشارة لهذا المعنى ، وكذلك الجهل هو ملكة مانعة من الإدراك ، ولو جعل وجه الشبه بين العلم والحياة حصول الانتفاع والآثار والمآثر الحسية والمعنوية كان صحيحا أيضا ، وكذا إذا جعل الوجه بين الجهل والموت عكس ذلك وأما

٩٦

جعل وجه الشبه بين العلم والحياة كون العلم إدراكا وكون الحياة معها إدراك فيكون الوجه على هذا داخلا فى حقيقة العلم ، فلا يتم بل لا يصح لوجهين أحدهما أن وجه الشبه لا بد أن يقوم بالطرفين معا والحال القائم بالعلم ، وهو كونه إدراكا لم يقم بالحياة ، وإنما وجد معها فى محل واحد ، والثانى أنه على تقدير التأويل وجعل المشترك فيه ملابسة الإدراك فى الجملة يكون المعنى أن العلم ملابس لمطلق الإدراك كما أن الحياة ملابسة لمطلق الإدراك فيكون التشبيه على هذا عديم الفائدة المقصودة ، وهى إظهار شرف العلم ؛ لأن وجود مطلق الإدراك لا شرف فيه قطعا ، إذ مطلق التمييز لا يمدح به جزما فإنا لو قلنا العلم كالإحساس فى مطلق الإدراك كان حطا لمرتبة العلم وغضا لمعناه ، وإنما قلنا : مقتضى التشبيه على هذا وجود مطلق الإدراك ؛ لأن الحياة إنما مقتضاها مطلق الإحساس ، فإن أريد ما يأتى من قبلها من حيث إنها شرط فيه وهو الإدراك التام عاد إلى الأول ، فإن قيل : فعلى الأول المختار يكون المعنى أن العلم الذى هو ملكة هو جهة الإدراك كالحياة فى كونها جهة له ، وليس فى ذلك ما يدل على الإدراك التام العام الذى يتحقق به الشرف. قلنا : المقام يقتضى قصر الإدراك العام التام والحياة جهة له ، فألحق بها العلم الذى هو الملكة ، فإن قيل : إلحاق العلم بالحياة فى ذلك إلحاق للأكمل بالأنقص ، فلا يفيد الغرض من مدحه ، بل العكس ، وبيانه أن الحياة شرط فى الإدراك ، والملكة سبب أو كالسبب المحصل له ؛ فالإدراك أقرب للعلم منه للحياة ، فالواجب أن يكون الوجه الانتفاع التام والشرف لا كون كل جهة إدراك ، قلنا : كون الحياة جهة الإدراك أشهر عند النفوس ؛ لأنها أشد ما يحتاج إليه فيه ؛ لأن بانتفائها ينعدم رأسا ، وبتلك الشهرة والحاجة إليها عدت أقوى من غيرها فى ملابسة الإدراك من جهة كونها جهة له ، وهذا أمر ذوقى ، والحق أن جعل الوجه حصول الآثار والانتفاع أولى. من هذا لا يقال : الآثار فى العالم أقوى ، والانتفاعات منه أكثر من مطلق الحى ، فيعود التشبيه معكوسا ؛ لأنا نقول : آثار الحى وانتفاعه أول ما يسبق إلى البديهة لعمومها وظهورها فى مقابلة الميت بخلاف العالم ففيها باعتباره خفاء ما ، وإن كانت فيه أتم باعتبار الحى

٩٧

الجاهل ، وهذا أمر ذوقى ، ثم ظهور الآثار فى الحى أقوى من ظهور الإدراك فيه ، ولذلك اخترنا كون الوجه الآثار والانتفاع ، فليتأمل.

(أو مختلفان) هذا مقابل كل من القسمين السابقين ، يعنى أن الطرفين إما حسيان معا وإما عقليان معا ، وإما مختلفان بأن يكون أحدهما حسيا ويكون الآخر عقليا ، وتقدم معنى الحسى والعقلى هنا ، وأن الأول هو ما تدرك جزئياته بإحدى الحواس الخمس ، والثانى ما يدرك بمجرد العقل ، وإذا اختلف الطرفان فالعقلى إما أن يكون هو المشبه ، والحسى هو المشبه به (كالمنية والسبع) ، حيث شبهت به ، فإن المنية وهى الموت عقلية ؛ إذ هى عدم الحياة عمن اتصف بها وأما نفيها عما من شأنه أن يتصف بها ولو لم يتصف بها بالفعل كنفيها عن الحيوان قبل وجوده ، فالأقرب أن تسمية ذلك النفى موتا توسع ، ولو كان شائعا كوصف الأرض بالموت عند ذهاب خضرتها ، ولا شك أن هذا العدم أمر عقلى لا يدرك بالحواس ، والسبع حسى لشهوده بالعين ، فالمشبه حينئذ ـ وهو المنية ـ عقلى ، والمشبه به حسى ، وإما أن يكون العقلى هو المشبه به والحسى هو المشبه ، (و) ذلك (كالعطر وخلق) رجل (كريم) ؛ حيث شبه الأول بالثانى ، فإن العطر وهو ما يتعطر به من كل طيب الرائحة كالمسك والعود الهندى لا شك أنه حسى لشهوده إن قصد كون ذاته مشبهة وإن قصد كون رائحته مشبهة فهى محسوسة بالشم أيضا ، وخلق الرجل الكريم ، وهى كيفية نفسانية ، أى : راسخة فى النفس ، تصدر عنها الأفعال الاختيارية الممدوح بها بسهولة بحيث لا يتكلف فى إيجاد تلك الأفعال كالإعطاء والصفح عن الزلة ومقابلة الإساءة بالإحسان عقلى ضرورة عدم إدراكه بغير العقل ، فأما تشبيه العقلى بالحسى كما فى المثال الأول فواضح ؛ لأن الحسى أقرب إلى الإدراك وأحق بظهور الوجه فيه وشهرته به ، فهو الأحق أن يشبه به العقلى الذى ليس فى تلك المنزلة فى وجه الشبه ، وأما تشبيه الحسى بالعقلى فلا يتم حيث يجرى التشبيه على أصله من كون الملحق به ـ وهو المشبه به ـ أقوى فى الوجه ، وكون الملحق ـ وهو المشبه ـ أضعف ، وذلك لما أشرنا إليه من أن إدراك الحسى أقرب ؛ لأن علم المحسوس وعلم أحواله أقرب من علم المعقول ، وإدراك أحواله ضرورة ، بل أصل

٩٨

العلم العقلى هو العلم الحسى غالبا ، ولهذا يقال : من فاته حس فإنه علم ، ويعنى علم ذلك الحس الفائت ، اللهم إلا أن يكون من عكس التشبيه مبالغة ، كما سيأتى ، بأن يجعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا بادعاء أن الفرع أقوى مبالغة والأصل أضعف ، وهذا المعنى موجود فى التشبيه كثيرا ، كما فى قوله فيما يأتى :

وبدا الصباح كأن غرته

وجه الخليفة حين يمتدح (١)

فإن وجه الخليفة أضعف فى نفس الأمر فى الضياء من الصباح ، ولكن جعل أقوى ادعاء مبالغة فى مدحه ، فجعل مشبها به.

قيل : ولقائل أن يقول : لا شك أن الإدراك العقلى مستند للإدراك الحسى فى غالب الأمر ، ولكن لا يلزم من ذلك كون المحسوس أقوى أبدا فى وجه الشبه ، وأشهر به ، وإنما يكون كذلك حيث يكون الوجه أصله الحسى ، ونحن نجوز أن يكون أصله العقلى فيكون العقلى به أشهر وأظهر ، فتشبيه العطر بالخلق مثلا فى استطابة النفس يكون من عكس التشبيه كما قيل لأن استطابة النفس للمشموم المحسوس أقرب من استطابة المعقول ؛ وإنما نثبت له الاستطابة من طريق التوهم والقياس على الحس ، وإنما تشبيهه به فى الشرف عند العقول وفى الارتفاع والتلذذ الروحانى فالخلق به أظهر وعلى هذا فلا حاجة إلى جعل تشبيه الحسى بالعقلى من عكس التشبيه دائما ، وهو ظاهر ، ولما جعل المشبهين محصورين فى العقلى والحسى حيث لم يذكر غيرهما أراد أن يبين أن ما يدرك بغير القوة العاقلة وبغير الحواس الخمس داخل فيهما كالخياليات والوهميات والوجدانيات ، ويأتى الآن ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان المراد بالخيالى والوهمى هنا لئلا يتوهم عدم الحصر فى التقسيم ، وأن يبين أن هذه لم تجعل أقساما على حدة ، بل أدخلت فى العقلى والحسى ؛ تقليلا للتقسيم ، وتسهيلا للضبط ، فقال :

__________________

(١) البيت لمحمد بن وهيب فى الإشارات ص (١٩١) ، والطيى فى شرح المشكاة (١ / ١٠٨) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي.

٩٩

المراد بالحسى

(والمراد بالحسى) هنا (المدرك هو) بنفسه كالخد والورد فيما تقدم (أو) لم يدرك هو بحالته المخصوصة ، ولكن أدركت (مادته) أى : أصله الذى يحصل منه ، وتحققت به حقيقته التركيبية ، كما سيأتى فى المثال.

(بإحدى الحواس الخمس الظاهرة) متعلق بقوله المدرك يعنى أن المدرك بإحدى الحواس بنفسه أو بمادته هو المراد بالحسى ، والحواس الخمس هى البصر والشم والسمع والذوق واللمس ، ويأتى تفسيرها ـ إن شاء الله تعالى.

(فدخل فيه) أى : فى الحسى (الخيالى) ، وإنما دخل حيث لم يشترط كونه مدركا بالحواس الخمس بنفسه ، بل الشرط أن يدرك هو أو تدرك مادته ولو لم يدرك هو بها قط فبسبب زيادته أو مادته دخل الخيالى وهو المركب من أمور وهى مادته كل واحد على حدة موجود يدرك بالحواس ، لكن هيئته التركيبية لم توجد وذلك (كما فى قوله) كالمشبه به الموجود فى قول الشاعر (وكأن محمر الشقيق) (١) المحمر وصف الشقيق فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف والأصل : وكأن الشقيق المحمر على حد قولهم جرد قطيفة أى : القطيفة الجرداء ، وهى التى ذهب خملها من طول البلى أو صنعت كذلك من أصلها ، والشقيق نور ينفتح كالورد أوراقه حمر ، وفيما بين تلك الأوراق وهو وسطه سواد ، وكثيرا ما ينبت فى الأراضى الجبلية ، وإضافته إلى النعمان فى قولهم شقائق النعمان ؛ لأنه كان كثيرا فى أرض كان يحميها النعمان وهو ملك من ملوك الحيرة ، وقيل : والنعمان يسمى به كل ملك فى ذلك البلد ، وأشهرهم النعمان بن المنذر.

(إذا تصوب) متعلق بمقتضى كأن أى : يشبه الشقائق حين تصوب أى مال إلى أسفل (أو تصعد) أى مال إلى أعلى ، وميله إلى العلو والسفل بتحريك الريح له (أعلام) خبر كأن (ياقوت) وعنى بالياقوت الحجر النفيس المعلوم بشرط أن يكون أحمر وهو أغلب الياقوت (نشرن على رماح من زبرجد) الرماح معلوم والزبرجد حجر نفيس

__________________

(١) البيت للصنوبرى ، فى المصباح ص (١١٦) ، وأسرار البلاغة ص (١٥٨) ، والطراز (١ / ٢٧٥) ، وهو فى شرح عقود الجمان بلا نسبة (٢ / ١٥) ، وفي الإشارات والتنبيهات (١٧٥) ، وبلا نسبة كذلك.

١٠٠